الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

(هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ)(٦١)

(هذا) أى الأمر هذا : أو هذا كما ذكر (فَبِئْسَ الْمِهادُ) كقوله (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) شبه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم ، أى : هذا حميم فليذوقوه. أو العذاب هذا فليذوقوه ، ثم ابتدأ فقال : هو (حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) أو : هذا فليذوقوه بمنزلة (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أى ليذوقوا هذا فليذوقوه ، والغساق ـ بالتخفيف والتشديد ـ : ما يغسق من صديد أهل النار ، يقال : غسقت العين ، إذا سال دمعها. وقيل : الحميم يحرق بحرّه ، والغساق يحرق ببرده. وقيل : لو قطرت منه قطرة في المشرق لنتنت أهل المغرب ، ولو قطرت منه قطرة في المغرب لنتنت أهل المشرق. وعن الحسن رضى الله عنه. الغساق : عذاب لا يعلمه إلا الله تعالى. إن الناس أخفوا لله طاعة فأخفى لهم ثوابا في قوله (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) وأخفوا معصية فأخفى لهم عقوبة (وَآخَرُ) ومذوقات أخر من شكل هذا المذوق من مثله في الشدة والفظاعة (أَزْواجٌ) أجناس. وقرئ : وآخر ، أى : وعذاب آخر. أو مذوق آخر. وأزواج : صفة لآخر ، لأنه يجوز أن يكون ضروبا. أو صفة للثلاثة وهي حميم وغساق وآخر من شكله. وقرئ : من شكله ، بالكسر (١) وهي لغة. وأما الغنج (٢) فبالكسر لا غير (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار ، أى دخل النار في صحبتكم وقرانكم ، والاقتحام : ركوب الشدة والدخول فيها. والقحمة : الشدة. وهذه حكاية كلام الطاغين بعضهم مع بعض ، أى : يقولون هذا. والمراد بالفوج : أتباعهم الذين اقتحموا معهم الضلالة ، فيقتحمون معهم العذاب (لا مَرْحَباً بِهِمْ) دعاء منهم على أتباعهم. تقول لمن تدعو له : مرحبا ، أى : أتيت رحبا من البلاد لا ضيقا : أو رحبت بلادك رحبا ، ثم تدخل عليه «لا» في دعاء السوء.

__________________

(١) قوله وقرئ «من شكله بالكسر وهي لغة» أى في الشكل بمعنى المثل. (ع)

(٢) «وأما الغنج فبالكسر لا غير» في الصحاح : الغنج والغنج : الشكل ، وقد غنجت الجارية وتغنجت ، فهي غنجة. وفيه : الشكل ـ بالفتح ـ : المثل ، وبالكسر : الدل ، يقال : امرأة ذات شكل. (ع)

١٠١

و (بِهِمْ) بيان للمدعو عليهم (إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) تعليل لاستيجابهم للدعاء عليهم. ونحوه قوله تعالى (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) وقيل : هذا فوج مقتحم معكم : كلام الخزنة لرؤساء الكفرة في أتباعهم. و (لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) كلام الرؤساء. وقيل : هذا كله كلام الخزنة (قالُوا) أى الأتباع (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) يريدون الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحق به ، وعللوا ذلك بقولهم (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) والضمير للعذاب أو لصلبهم. فإن قلت : ما معنى تقديمهم العذاب لهم؟ قلت : المقدم هو عمل السوء. قال الله تعالى (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) ولكن الرؤساء لما كانوا السبب فيه بإغوائهم وكان العذاب جزاءهم عليه : قيل أنتم قدمتموه لنا ، فجعل الرؤساء هم المقدمين وجعل الجزاء هو المقدّم ، فجمع بين مجازين ، لأن العاملين هم المقدمون في الحقيقة لا رؤساؤهم ، والعمل هو المقدم لاجزاؤه. فإن قلت : فالذي جعل قوله (لا مَرْحَباً بِهِمْ) من كلام الخزنة ما يصنع بقوله (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) والمخاطبون ـ أعنى رؤساءهم ـ لم يتكلموا بما يكون هذا جوابا لهم؟ قلت : كأنه قيل : هذا الذي دعا به علينا الخزنة أنتم يا رؤساء أحق به منا لإغوائكم إيانا ونسببكم فيما نحن فيه من العذاب ، وهذا صحيح كما لو زين قوم لقوم بعض المساوى فارتكبوه فقيل للمزينين : أخزى الله هؤلاء ما أسوأ فعلهم؟ فقال المزين لهم للمزينين : بل أنتم أولى بالخزي منا ، فلو لا أنتم لم نرتكب ذلك (قالُوا) هم الأتباع أيضا (فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً) أى مضاعفا ، ومعناه : ذا ضعف : ونحوه قوله تعالى (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً) وهو أن يزيد على عذابه مثله فيصير ضعفين ، كقوله عز وجل (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) (١) وجاء في التفسير (عَذاباً ضِعْفاً) : حيات وأفاعى (٢).

(وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ)(٦٣)

(وَقالُوا) الضمير للطاغين (رِجالاً) يعنون فقراء المسلمين الذين لا يؤبه لهم (مِنَ الْأَشْرارِ) من الأراذل الذين لا خير فيهم ولا جدوى ، ولأنهم كانوا على خلاف دينهم ، فكانوا عندهم أشرارا (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) قرئ بلفظ الإخبار على أنه صفة لرجالا ، مثل قوله (كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ

__________________

(١) قوله تعالى (قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً) وقال في موضع آخر (آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) والقصة واحدة. قال أحمد : وفيه دليل على أن الضعفين اثنان من شيء واحد ، خلافا لمن قال غير ذلك ، لأنه في موضع قال (فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً) والمراد : مثل عذابه ، فيكونا عذابين. وقال في موضعين (ضِعْفَيْنِ) والمراد : ذا عذابين.

(٢) قوله «وجاء في التفسير ... الخ» عبارة الخازن : قال ابن عباس : حيات وأفاعى (ع)

١٠٢

الْأَشْرارِ) وبهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم وتأنيب لها (١) في الاستسخار منهم. وقوله (أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) له وجهان من الاتصال ، أحدهما : أن يتصل بقوله (ما لَنا) أى : مالنا لا نراهم في النار؟ كأنهم ليسوا فيها بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها : قسموا أمرهم بين أن يكونوا من أهل الجنة ، وبين أن يكونوا من أهل النار. إلا أنه خفى عليهم مكانهم. والوجه الثاني : أن يتصل باتخذناهم سخريا ، إما أن تكون أم متصلة على معنى : أى الفعلين فعلنا بهم الاستسخار منهم ، أم الازدراء بهم والتحقير ، وأن أبصارنا كانت تعلو عنهم وتقتحمهم ، على معنى إنكار الأمرين جميعا على أنفسهم ، وعن الحسن : كل ذلك قد فعلوا ، اتخذوهم سخريا وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم. وإما أن تكون منقطعة بعد مضى اتخذناهم سخريا على الخبر أو الاستفهام ، كقولك : إنها إبل أم شاء ، وأزيد عندك أم عندك عمرو : ولك أن تقدّر همزة الاستفهام محذوفة فيمن قرأ بغير همزته ، لأنّ «أم» تدل عليها ، فلا تفترق القراءتان : إثبات همزة الاستفهام وحذفها. وقيل : الضمير في (وَقالُوا) لصناديد قريش كأبى جهل والوليد وأضرابهما ، والرجال : عمار وصهيب وبلال وأشباههم. وقرئ : سخريا ، بالضم والكسر.

(إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)(٦٤)

(إِنَّ ذلِكَ) أى الذي حكينا عنهم (لَحَقٌ) لا بد أن يتكلموا به ، ثم بين ما هو فقال هو (تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) وقرئ بالنصب على أنه صفة لذلك ، لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس. فإن قلت : لم سمى ذلك تخاصما؟ قلت : شبه تقاولهم وما يجرى بينهم من السؤال والجواب بما يجرى بين المتخاصمين من نحو ذلك (٢) ولأنّ قول الرؤساء : لا مرحبا بهم ، وقول أتباعهم : بل أنتم لا مرحبا بكم ، من باب الخصومة ، فسمى التقاول كله تخاصما لأجل اشتماله على ذلك.

(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ)(٦٦)

__________________

(١) قوله «وتأنيب لها» أى : تعنيف ولوم. أفاده الصحاح. (ع)

(٢) قال محمود : «إن قلت لم سمي ذلك تخاصما؟ قلت : شبه تقاولهم وما يجرى بينهم من السؤال والجواب بما يجرى بين المتخاصمين من نحو ذلك ، ولأن قول الرؤساء : لا مرحبا بهم ، وقول أتباعهم : بل أنتم لا مرحبا بكم ، من باب الخصومة» قال أحمد : هذا يحقق أن ما تقدم من قوله (لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) من قول المتكبرين الكفار ، وقوله تعالى (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) من قول الأتباع ، فالخصومة على هذا التأويل حصلت من الجهتين ، فيتحقق التخاصم ، خلافا لمن قال : إن الأول من كلام خزنة جهنم ، والثاني : من كلام الأتباع ، فانه على هذا التقدير إنما تكون الخصومة من أحد الفريقين فالتفسير الأول أمكن وأثبت.

١٠٣

(قُلْ) يا محمد لمشركي مكة : ما أنا إلا رسول (مُنْذِرٌ) أنذركم عذاب الله للمشركين ، وأقول لكم : إنّ دين الحق توحيد الله ، وأن يعتقد أن لا إله إلا الله (الْواحِدُ) بلا ندّ ولا شريك (الْقَهَّارُ) لكل شيء ، وأنّ الملك والربوبية له في العالم كله وهو (الْعَزِيزُ) الذي لا يغلب إذا عاقب العصاة ، وهو مع ذلك (الْغَفَّارُ) لذنوب من التجأ إليه. أو قل لهم ما أنا إلا منذر لكم ما أعلم ، وأنا أنذركم عقوبة من هذه صفته ، فإنّ مثله حقيق بأن يخاف عقابه كما هو حقيق بأن يرجى ثوابه.

(قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ)(٧٠)

(قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) أى هذا الذي أنبأتكم به من كوني رسولا منذرا وأن الله واحد لا شريك له : نبأ عظيم لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة. ثم احتج لصحة نبوّته بأنّ ما ينبئ به عن الملإ الأعلى واختصامهم أمر ما كان له به من علم قط ، ثم علمه ولم يسلك الطريق الذي يسلكه الناس في علم ما لم يعلموا ، وهو الأخذ من أهل العلم وقراءة الكتب ، فعلم أنّ ذلك لم يحصل إلا بالوحي من الله (إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ) أى لأنما أنا نذير. ومعناه : ما يوحى إلىّ إلا للإنذار ، فحذف اللام وانتصب بإفضاء الفعل إليه. ويجوز أن يرتفع على معنى : ما يوحى إلىّ إلا هذا ، وهو أن أنذر وأبلغ ولا أفرط في ذلك ، أى ما أو مر إلا بهذا الأمر وحده ، وليس إلىّ غير ذلك. وقرئ إنما بالكسر على الحكاية ، أى : إلا هذا القول ، وهو أن أقول لكم : إنما أنا نذير مبين ولا أدعى شيئا آخر. وقيل : النبأ العظيم : قصص آدم عليه السلام والإنباء به من غير سماع من أحد. وعن ابن عباس : القرآن. وعن الحسن : يوم القيامة. فإن قلت : بم يتعلق (إِذْ يَخْتَصِمُونَ)؟ قلت : بمحذوف ، لأن المعنى : ما كان لي من علم بكلام الملإ الأعلى وقت اختصامهم ، و (إِذْ قالَ) بدل من (إِذْ يَخْتَصِمُونَ). فإن قلت : ما المراد بالملإ الأعلى؟ قلت : أصحاب القصة الملائكة وآدم وإبليس ، لأنهم كانوا في السماء وكان التقاول بينهم : فإن قلت : ما كان التقاول بينهم إنما كان بين الله تعالى وبينهم ، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي قال لهم وقالوا له ، فأنت بين أمرين : إما أن تقول الملأ الأعلى هؤلاء ، وكان التقاول بينهم ولم يكن التفاؤل بينهم وإما أن تقول : التقاول كان بين الله وبينهم ، فقد جعلته من الملإ الأعلى. قلت : كانت مقاولة الله سبحانه بواسطة ملك ، فكان المقاول في الحقيقة هو الملك المتوسط ، فصح أن التقاول كان

١٠٤

بين الملائكة وآدم وإبليس ، وهم الملأ الأعلى. والمراد بالاختصام : التقاول على ما سبق.

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ)(٧٤)

فإن قلت : كيف صح أن يقول لهم (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً) وما عرفوا ما البشر ولا عهدوا به قبل؟ قلت : وجهه أن يكون قد قال لهم : إنى خالق خلقا من صفته كيت وكيت ، ولكنه حين حكاه اقتصر على الاسم (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) فإذا أتممت خلقه وعدلته (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) وأحييته وجعلته حساسا متنفسا (فَقَعُوا) فخروا ، كل : للإحاطة. وأجمعون : للاجتماع ، فأفادا معا أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا سجد ، وأنهم سجدوا جميعا في وقت واحد غير متفرّقين في أوقات. فإن قلت : كيف ساغ السجود لغير الله؟ قلت : الذي لا يسوغ هو السجود لغير الله على وجه العبادة ، فأما على وجه التكرمة والتبجيل فلا يأباه العقل ، إلا أن يعلم الله فيه مفسدة فينهى عنه. فإن قلت : كيف استثنى إبليس من الملائكة وهو من الجنّ؟ قلت : قد أمر بالسجود معهم فغلبوا عليه في قوله (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ) ثم استثنى كما يستثنى الواحد منهم استثناء متصلا (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أريد وجود كفره ذلك الوقت وإن لم يكن قبله كافرا ، لأن (كانَ) مطلق في جنس الأوقات الماضية ، فهو صالح لأيها شئت. ويجوز أن يراد : وكان من الكافرين في الأزمنة الماضية في علم الله.

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(٧٦)

فإن قلت : ما وجه قوله (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) : قلت : قد سبق لنا أنّ ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه ، فغلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغيرهما ، حتى قيل في عمل القلب : هو مما عملت يداك ، وحتى قيل ممن لا يدي له : يداك أوكتا (١) وفوك نفخ ، وحتى لم يبق فرق بين قولك : هذا مما عملته ، وهذا مما عملته يداك. ومنه قوله تعالى (مِمَّا عَمِلَتْ

__________________

(١) قوله «يداك أوكتا» في الصحاح : أوكى على ما في سقائه : إذا شده بالوكاء. (ع)

١٠٥

أَيْدِينا) و (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ). فإن قلت : فما معنى قوله (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ)؟ قلت : الوجه الذي استنكر له إبليس السجود لآدم ، واستنكف منه أنه سجود لمخلوق ، فذهب بنفسه ، وتكبر أن يكون سجوده لغير الخالق ، وانضم إلى ذلك أنّ آدم مخلوق من طين وهو مخلوق من نار. ورأى للنار فضلا على الطين فاستعظم أن يسجد لمخلوق مع فضله عليه في المنصب ، وزلّ عنه أنّ الله سبحانه حين أمر به أعزّ عباده عليه (١) وأقربهم منه زلفى وهم الملائكة ، وهم أحق بأن يذهبوا بأنفسهم عن التواضع للبشر الضئيل ، ويستنكفوا من السجود له من غيرهم ، ثم لم يفعلوا وتبعوا امر الله وجعلوه قدّام أعينهم ، ولم يلتفتوا إلى التفاوت بين الساجد والمسجود له ، تعظيما لأمر ربهم وإجلالا لخطابه : كان هو مع انحطاطه عن مراتبهم حرى بأن يقتدى بهم ويقتفى أثرهم ، ويعلم أنهم في السجود لمن هو دونهم بأمر الله ، أو غل في عبادته منهم في السجود له ، لما فيه من طرح الكبرياء وخفض الجناح ، فقيل له : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدىّ ، أى : ما منعك من السجود لشيء هو كما تقول مخلوق خلفته بيدي ـ لا شكّ في كونه مخلوقا ـ امتثالا لأمرى وإعظاما لخطابى كما فعلت الملائكة ، فذكر له ما تركه من السجود مع ذكر العلة التي تشبث بها في تركه ، وقيل له : لم تركته مع وجود هذه العلة ، وقد أمرك الله به ، يعنى : كان عليك أن تعتبر أمر الله ولا تعتبر هذه العلة ، ومثاله : أن يأمر الملك وزيره أن يزور بعض سقاط الحشم فيمتنع اعتبارا لسقوطه ، فيقول له : ما منعك أن تتواضع لمن لا يخفى علىّ سقوطه (٢) ، يريد : هلا اعتبرت أمرى وخطابي وتركت

__________________

(١) قوله «حين أمر به أعز عباده» مبنى على مذهب المعتزلة : أن الملك أفضل من البشر. وعند أهل السنة : البشر أفضل من الملك. (ع)

(٢) قال محمود : «لما كان ذو اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه : غلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغير اليدين ، حتى قيل في عمل القلب : هذا مما عملت يداك. قال ومعناه أن الوجه الذي استنكر له إبليس السجود لآدم واستنكف بسببه : أنه سجود لمخلوق ، مع أنه دون الساجد ، لأن آدم من طين ، وإبليس من نار ، فرأى للنار فضلا على الطين ، وزل عنه أن الله سبحانه حين أمر أعز عباده عليه وأقربهم منه وهم الملائكة أن يسجدوا لهذا البشر : لم يمتنعوا ولم يذهبوا بأنفسهم إلى التكبر ، مع انحطاطه عن مراتبهم ، فقيل له : ما منعك أن تسجد لهذا الذي هو مخلوق بيدي كما وقع لك ، مع أنه لا شك أن في ذلك امتثالا لأمرى وإعظاما لخطابى كما فعلت الملائكة ، فذكر له العلة التي منعته من السجود ، وقيل له : ما حملك على اعتبار هذه العلة دون اعتبار أمرى ، ومثاله : أن يأمر الملك وزيره أن يزور بعض سقاط الحشم ، فيمتنع اعتبارا لسقوطه. فيقول له : ما منعك أن تتواضع لمن لا يخفى على سقوطه ، يريد : علا اعتبرت أمرى وخطابي وتركت اعتبار سقوطه ، انتهى المقصود من الآية بعد تطويل وإطناب وإكثار وإسهاب. قال أحمد : إنما أطال القول هنا ليفر من معتقدين لأهل السنة تشتمل عليهما هذه الآية : أحدهما : أن اليدين من صفات الذات أثبتهما السمع ، هذا مذهب أبى الحسن والقاضي ، بعد إبطالهما حمل اليدين على القدرة ، فان قدرة الله تعالى واحدة ، واليدان مذكورتان بصيغة التثنية ، وأبطلا حملهما على النعمة بأن نعم الله

١٠٦

اعتبار سقوطه ، وفيه : أنى خلقته بيدي ، فأنا أعلم بحاله ، ومع ذلك أمرت الملائكة بأن يسجدوا له لداعي حكمة دعاني إليه : من إنعام عليه بالتكرمة السنية وابتلاء للملائكة ، فمن أنت حتى يصرفك عن السجود له ، ما لم يصرفني عن الأمر بالسجود له. وقيل : معنى (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) لما خلقت بغير واسطة. وقرئ : بيدىّ ، كما قرئ : بمصرخىّ. وقرئ: بيدي ، على التوحيد (مِنَ الْعالِينَ) ممن علوت وفقت ، فأجاب بأنه من العالين حيث (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) وقيل : استكبرت الآن ، أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين. ومعنى الهمزة : التقرير. وقرئ : استكبرت بحذف حرف الاستفهام ، لأنّ أم تدل عليه. أو بمعنى الإخبار. هذا على سبيل الأولى ، أى : لو كان مخلوقا من نار لما سجدت له ، لأنه مخلوق مثلي ، فكيف أسجد لمن هو دوني لأنه من طين والنار تغلب الطين وتأكله ، وقد جرت الجملة الثانية من الأولى وهي (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ) مجرى المعطوف عطف البيان من المعطوف عليه في البيان والإيضاح.

(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ)(٧٨)

(مِنْها) من الجنة ، وقيل : من السماوات. وقيل : من الخلقة التي أنت فيها ، لأنه كان يفتخر بخلقته فغير الله خلقته ، فاسودّ بعد ما كان أبيض وقبح بعد ما كان حسنا ، وأظلم بعد ما كان نورانيا. والرجيم : المرجوم. ومعناه : المطرود ، كما قيل له : المدحور والملعون ، لأنّ من طرد رمى بالحجارة على أثره. والرجم : الرمي بالحجارة. أو لأنّ الشياطين يرجمون بالشهب.

__________________

لا تحصى ، فكيف تحصر بالتثنية. وغيرهما من أهل السنة كامام الحرمين وغيره يجوز حملهما على القدرة والنعمة ، ويجيب عما ذكراه بأن المراد نعمة الدنيا والآخرة ، وهذا مما يحقق تفضيله على إبليس ، إذ لم يخلق إبليس لنعمة الآخرة ، وعلى أن المراد القدرة ، فالتثنية تعظيم ، ومثل ذلك يوجد في اللغة كثيرا. المعتقد الثاني : أن النبي أفضل من الملك ، والزمخشري شديد العصبية في هذه المسألة والإنكار على من قال بذلك من أهل السنة ، لا جرم أنه أجرم في بسط كلامه على آدم عليه السلام ، فمثل قصته في انحطاط مرتبته على زعمه عن مرتبة الملائكة بقول الملك لوزيره. زر بعض سقاط الحشم ، فجعل سقاط حشم الملك مثالا لآدم الذي هو عنصر الأنبياء عليهم السلام ، وأقام لإبليس عذره وصوب اعتقاده. أنه أفضل من آدم لكونه من نار وآدم من طين ، وإنما غلطه من جهة أخرى. وهو أنه لم يقس نفسه على الملائكة إذ سجدوا له ، على علمهم أنه بالنسبة إليهم محطوط الرتبة ساقط المنزلة ، وجعل قوله تعالى (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) إنما ذكر تقريرا للعلة التي منعت إبليس من السجود ، وهو كونه دونه ، وهذا ـ نسأل الله العصمة ـ المراد منه ضد ما فهم الزمخشري ، وإنما ذكر ذلك تعظيما لمعصية إبليس ، إذ امتنع من تعظيم من عظمه الله إذ خلقه بيده ، وذلك تعظيم لآدم لا تحقير منه. ويدل عليه الحديث الوارد في الشفاعة ، إذ يقول له الناس عند ما يقصدونه فيها : أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وأسكنك جنته ، فإنما يذكرون ذلك في سياق تعديد كراماته وخصائصه ، لا فيما يحط منه ، معاذ الله وإياه نسأل أن يعصمنا من مهاوي الهوى ومهالكه ، وأن يرشدنا إلى سبيل الحق ومسالكه ، إنه ولى التوفيق ، وبالاجابة حقيق.

١٠٧

فإن قلت : قوله (لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) كأن لعنة إبليس غايتها يوم الدين ثم تنقطع؟ قلت : كيف تنقطع وقد قال الله تعالى (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) ولكن المعنى : أن عليه اللعنة في الدنيا ، فإذا كان يوم الدين اقترن له باللعنة ما ينسى عنده اللعنة ، فكأنها انقطعت.

(قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)(٨١)

فإن قلت : ما الوقت المعلوم الذي أضيف إليه اليوم؟ قلت : الوقت الذي تقع فيه النفخة الأولى. ويومه : اليوم الذي وقت النفخة جزء من أجزائه. ومعنى المعلوم : أنه معلوم عند الله معين ، لا يستقدم ولا يستأخر.

(قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(٨٣)

(فَبِعِزَّتِكَ) إقسام بعزة الله تعالى وهي سلطانه وقهره.

(قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (٨٥)

قرئ : فالحق والحق ، منصوبين على أن الأول مقسم به كالله في

إن عليك الله أن تبايعا

وجوابه (لَأَمْلَأَنَ) والحق أقول : اعتراض بين المقسم به والمقسم عليه ، ومعناه : ولا أقول إلا الحق. والمراد بالحق : إمّا اسمه عزّ وعلا الذي في قوله (أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) أو الحق الذي هو نقيض الباطل : عظمه الله بإقسامه به. ومرفوعين على أن الأوّل مبتدأ محذوف الخبر ، كقوله (لَعَمْرُكَ) أى : فالحق قسمي لأملأنّ. والحق أقول ، أى : أقوله كقوله كله لم أصنع ، ومجرورين : على أن الأوّل مقسم به قد أضمر حرف قسمه ، كقولك : الله لأفعلنّ. والحق أقول ، أى : ولا أقول إلا الحق على حكاية لفظ المقسم به. ومعناه : التوكيد والتشديد. وهذا الوجه جائز في المنصوب والمرفوع أيضا. وهو وجه دقيق حسن. وقرئ يرفع الأوّل وجرّه مع نصب الثاني ، وتخريجه على ما ذكرنا (مِنْكَ) من جنسك وهم الشياطين (وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) من ذرّية آدم. فإن قلت : (أَجْمَعِينَ) تأكيد لما ذا؟ قلت : لا يخلو أن يؤكد به الضمير في منهم ، أو الكاف في منك مع من تبعك. ومعناه : لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين ، لا أترك منهم أحدا. أو لأملأنها من الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس ، لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس بعد وجود الأتباع منهم من أولاد الأنبياء وغيرهم.

١٠٨

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ)(٨٨)

(عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) الضمير للقرآن أو للوحى (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) من الذين يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله ، وما عرفتموني قط متصنعا ولا مدّعيا ما ليس عندي ، حتى أنتحل النبوّة وأتقوّل القرآن (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) من الله (لِلْعالَمِينَ) للثقلين. أوحى إلىّ فأنا أبلغه. وعن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «للمتكلف ثلاث علامات : ينازع من فوقه ، ويتعاطى ما لا ينال ، ويقول ما لا يعلم (١)» (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ) أى ما يأتيكم عند الموت ، أو يوم القيامة ، أو عند ظهور الإسلام وفشوه ، من صحة خبره ، وأنه الحق والصدق. وفيه تهديد. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة ص كان له بوزن كل جبل سخره الله لداود عشر حسنات وعصمه أن يصرّ على ذنب صغير أو كبير»(٢).

__________________

(١) أخرجه الثعلبي من طريق محمد بن عون حدثنا محمد بن المصلى حدثنا حيوة بن شريح عن أرطاة بن المنذر عن ضمرة بن حبيب عن سلمة بن نفيل مرفوعا به. ورواه البيهقي في الشعب في الثالث والثلاثين من رواية بقية عن أرطاة قوله ورواه أبو نعيم عن وهب بن منبه قوله.

(٢) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من حديث أبى رضى الله عنه.

١٠٩

سورة الزمر

مكية ، إلا قوله (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا ...) الآية وتسمى سورة الغرف وهي خمس وسبعون آية. وقيل ثنتان وسبعون آية [نزلت بعد سورة سبإ] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ)(٤)

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ) قرئ بالرفع على أنه مبتدأ أخبر عنه بالظرف. أو خبر مبتدإ محذوف والجار صلة التنزيل ، كما تقول : نزل من عند الله. أو غير صلة ، كقولك : هذا الكتاب من فلان إلى فلان ، فهو على هذا خبر بعد خبر. أو خبر مبتدإ محذوف ، تقديره :

هذا تنزيل الكتاب ، هذا من الله ، أو حال من التنزيل عمل فيها معنى الإشارة ، وبالنصب على إضمار فعل ، نحو : اقرأ ، والزم. فإن قلت : ما المراد بالكتاب؟ قلت : الظاهر على الوجه الأول أنه القرآن ، وعلى الثاني : أنه السورة (مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) ممحضا له الدين من الشرك والرياء بالتوحيد وتصفية السر. وقرئ : الدين ، بالرفع. وحق من رفعه أن يقرأ مخلصا ـ بفتح اللام ـ كقوله تعالى (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) حتى يطابق قوله (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) والخالص والمخلص : واحد ، إلا أن يصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازى ، كقولهم :

١١٠

شعر شاعر. وأما من جعل (مُخْلِصاً) حالا من العابد ، و (لَهُ الدِّينَ) مبتدأ وخبرا ، فقد جاء بإعراب رجع به الكلام إلى قولك : لله الدين (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) أى : هو الذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة من كل شائبة كدر ، لاطلاعه على الغيوب والأسرار ، ولأنه الحقيق بذلك ، لخلوص نعمته عن استجرار المنفعة بها. وعن قتادة : الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله. وعن الحسن : الإسلام (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) يحتمل المتخذين وهم الكفرة ، والمتخذين وهم الملائكة وعيسى واللات والعزى : عن ابن عباس رضى الله عنهما ، فالضمير في (اتَّخَذُوا) على الأوّل راجع إلى الذين ، وعلى الثاني إلى المشركين ، ولم يجر ذكرهم لكونه مفهوما ، والراجع إلى الذين محذوف والمعنى : والذين اتخذهم المشركون أولياء ، (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) في موضع الرفع على الابتداء. فإن قلت : فالخبر ما هو؟ قلت : هو على الأوّل إما (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أو ما أضمر من القول قبل قوله (ما نَعْبُدُهُمْ). وعلى الثاني : أن الله يحكم بينهم. فإن قلت : فإذا كان (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) الخبر ، فما موضع القول المضمر؟ قلت : يجوز أن يكون في موضع الحال ، أى : قائلين ذلك. ويجوز أن يكون بدلا من الصلة فلا يكون له محل ، كما أنّ المبدل منه كذلك. وقرأ ابن مسعود بإظهار القول قالوا (ما نَعْبُدُهُمْ) وفي قراءة أبىّ : ما نعبدكم إلا لتقربونا على الخطاب ، حكاية لما خاطبوا به آلهتهم. وقرئ : نعبدهم ، بضم النون اتباعا للعين كما تتبعها الهمزة في الأمر ، والتنوين في (عَذابٍ ارْكُضْ) والضمير في (بَيْنَهُمْ) لهم ولأوليائهم. والمعنى : أن الله يحكم بينهم بأنه يدخل الملائكة وعيسى الجنة ، ويدخلهم النار مع الحجارة التي نحتوها وعبدوها من دون الله يعذبهم بها حيث يجعلهم وإياها حصب جهنم ، واختلافهم : أن الذين يعبدون موحدون وهم مشركون ، وأولئك يعادونهم ويلعنونهم ، وهم يرجون شفاعتهم وتقريبهم إلى الله زلفى. وقيل : كان المسلمون إذا قالوا لهم : من خلق السماوات والأرض ، أقروا وقالوا : الله ، فإذا قالوا لهم : فما لكم تعبدون الأصنام؟ قالوا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، فالضمير في (بَيْنَهُمْ) عائد إليهم وإلى المسلمين. والمعنى : أن الله يحكم يوم القيامة بين المتنازعين من الفريقين. والمراد بمنع الهداية : منع اللطف تسجيلا عليهم بأن لا لطف لهم ، وأنهم في علم الله من الهالكين (١). وقرئ : كذاب وكذوب. وكذبهم : قولهم في بعض من اتخذوا من دون الله أولياء : بنات الله ، ولذلك عقبه محتجا عليهم بقوله (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا

__________________

(١) قال محمود : «المراد بمنع الهدآية منع اللطف تسجيلا عليهم بأن لا يلطف بهم ، وأنه في علمه من الهالكين» قال أحمد : مذهب أهل السنة حمل هذه الآية وأمثالها على الظاهر ، فان معتقدهم أن معنى هداية الله تعالى للمؤمن خلق الهدى فيه ، ومعنى إضلاله للكافر إزاحته عن الهدى وخلق الكفر له ، ومع ذلك فيجوز عند أهل السنة أن يخلق الله تعالى للكافر لطفا يؤمن عنده طائعا ، خلافا للقدرية ، وغرضنا التنبيه على مذهب أهل الحق لا غيره.

١١١

يَخْلُقُ ما يَشاءُ) يعنى : لو أراد اتخاذ الولد لامتنع ولم يصح ، لكونه محالا ، ولم يتأت إلا أن يصطفى من خلقه بعضه ويختصهم ويقربهم ، كما يختص الرجل ولده ويقربه. وقد فعل ذلك بالملائكة فافتتنتم به وغركم اختصاصه إياهم ، فزعمتم أنهم أولاده ، جهلا منكم به وبحقيقته المخالفة لحقائق الأجسام والأعراض ، كأنه قال : لو أراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما يشاء من خلقه وهم الملائكة ، إلا أنكم لجهلكم به حسبتم اصطفاءهم اتخاذهم أولادا ، ثم تماديتم في جهلكم وسفهكم فجعلتموهم بنات ، فكنتم كذابين كفارين متبالغين في الافتراء (١) على الله وملائكته ، غالبين (٢) في الكفر ، ثم قال (سُبْحانَهُ) فنزه ذاته عن أن يكون له أحد ما نسبوا إليه من الأولاد والأولياء. ودلّ على ذلك بما ينافيه ، وهو أنه واحد ، فلا يجوز أن يكون له صاحبة ، لأنه لو كانت له صاحبة لكانت من جنسه ولا جنس له : وإذا لم يتأت أن يكون له صاحبة لم يتأت أن يكون له ولد ، وهو معنى قوله (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ). وقهار غلاب لكل شيء ، ومن الأشياء آلهتهم ، فهو يغلبهم ، فكيف يكونون له أولياء وشركاء؟

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ)(٥)

ثم دلّ بخلق السماوات والأرض ، وتكوير كل واحد من الملوين على الآخر ، وتسخير النيرين ، وجريهما لأجل مسمى ، وبث الناس على كثرة عددهم من نفس واحدة ، وخلق الأنعام على أنه واحد لا يشارك ، قهار لا يغالب. والتكوير : اللف واللىّ ، يقال : كار العمامة على رأسه وكوّرها. وفيه أوجه ، منها : أن الليل والنهار خلفة يذهب هذا ويغشى مكانه هذا ، وإذا غشى مكانه فكأنما ألبسه والف عليه كما يلف اللباس على اللابس. ومنه قول ذى الرمة في وصف السراب :

تلوى الثّنايا بأحقيها حواشيه

لىّ الملاء بأبواب التّفاريج (٣)

__________________

(١) قوله «متبالغين في الافتراء» لعله : مبالغين. (ع)

(٢) قوله «غالبين في الكفر» لعله : غالين. (ع)

(٣) وراكد الشمس أجاج نصب له

قواضب القوم بالمهرية العوج

إذا تنازع حالا مجهل قذف

أطراف مطره بالخز منسوج

تلوى الثنايا بحقويها حواشيه

لي الملاء بأبواب التفاريج

كأنه والرهاة الموت يركضه

أعراف أزهر تحت الريخ منتوج

لذي الرمة يصف السراب. وراكد الشمس : ما يتساقط منها على الأرض. والأجاج : صفة مبالغة ، أى : كثير الأجيج ، يقال : أجت النار أجيجا : اشتعلت ، والحر : اشتد. وأج الظليم أجا : أسرع وله حفيف. وأج الأمر : اختلط. والأج : طير أبيض سريع الطيران يشبه النعام. ويرى السراب عند شدة الحر أبيض كأنه يسير ، فيجوز ـ

١١٢

ومنها أنّ كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه ، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار. ومنها : أن هذا يكر على هذا كرورا متتابعا ، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ) الغالب القادر على عقاب المصرين (الْغَفَّارُ) لذنوب التائبين (١). أو الغالب الذي يقدر على أن يعاجلهم بالعقوبة وهو يحلم عنهم ويؤخرهم إلى أجل مسمى ، فسمى الحلم عنهم : مغفرة.

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)(٦)

فإن قلت : ما وجه قوله (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) وما يعطيه من معنى التراخي؟ قلت : هما آيتان (٢) من جملة الآيات التي عدّدها دالا على وحدانيته وقدرته : تشعيب هذا الخلق الفائت

__________________

ـ أنه من الأولين. ويجوز أنه منسوب للأخير ، لأنه يشبهه ، وللام للتوقيت ، وللقواضب : السيوف النواطع. والمهرية : الخيل المنسوبة لمهر بن حيدان أبى قبيلة من اليمن ، خيلها أنجب الخيل. والعوج : جمع عوجاء نوع جيد منها أيضا. والحالان : ارتفاع الأرض وانخفاضها. والمجهل : الموضع الذي يجهله المسافر. والقذف ـ كسبب ـ : الذي يقذف ما فيه فلا أحد فيه. والمطرد : السراب المستوى ، شبه بالخز المنسوج في الاستواء والبياض. والثنايا : العقبات. والحقو : الخصر والإزار ، وشده عليه استعارة لجانب العقبة ، وحواشي السراب : جوانبه. والملاء بالضم والمد : اسم جمع ملاءة وهي الجلباب. والتفراج : الباب الصغير والثوب من الديباج. والرهاة ـ جمع رهو ـ : المكان المرتفع ، ويطلق على المنخفض أيضا. وقيل : اسم موضع. والموت : القفر. والركض : ضرب الدابة بالرجل والضرب مطلقا ، وهو هنا مجاز على طريق التصريحية. والأعراف : جمع عرف. وعرف الديك والفرس : أعلى شعر العنق وأعرف البحر والسيل : إذا تراكم موجه وارتفع كالأعراف ، والأزهر : السحاب الأبيض والماء الأبيض ، وهو الأنسب بكونه تحت الريح ، لأن ظاهر الأول يخالف قوله تعالى (أَقَلَّتْ سَحاباً) والمنتوج : الذي تنتجه الريح وتسوقه حتى يقطر ، يقول : ورب راكد من الشمس ، يعنى السراب شديد الحر أو السير ، نصبت مستقبلا لوقته سيوف قومي مع الخيل الجياد إذا تجاذب المنخفض والمرتفع من الأرض القفرة أطراف الآل وهو السراب ، وشبه إحاطة جوانبه وتراكمه في جوانب العقبة بلىّ الجلباب في أبواب التفاريج ، وتلوى : يحتمل أنه جواب ذا وأنه صفة لمطرد وجوابها ، دل عليه ما قبلها وأسند اللى للثنايا لأنها سبب الالتواء ، ولى الملا : مفعول مطلق ، وأعراف : خبر كأنه ، والرهاة : جملة حالية ، وفاعل يركض إما ضمير الآل ، أو ضمير الرهاة ، لأنهما كأنهما يتضاربان. وروى : تطرده ، وفاعله ضمير الرهاة جزما ، لأن الآل هو المطرود ، وبيت الكشاف : يلوى الثنايا بأحقيها. والحقو : جمعه أحق ، وأصل وزنه : أفعل.

(١) قال محمود : «أى لذنوب التائبين» قال أحمد : الحق أنه تعالى غفار للتائبين ولمن يشاء من المصرين على ما دون الشرك وقنوطهم من رحمة الله تعالى. ولقد قيد الزمخشري الآية بما ترى.

(٢) قال محمود : «فان قلت : ما وجه العطف بثم في قوله (ثُمَّ جَعَلَ) وأجاب بأتهما آيتان ... الخ» قال أحمد إنما منعه من حمل ثم على التراخي في الوجود أنها وقعت بين خلق الذرية من آدم ، وخلق حواء منه ، وهو متقدم ـ

١١٣

للحصر من نفس آدم ، وخلق حواء من قصيراه ، إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرّة ، والأخرى لم تجربها العادة ، ولم تخلق أنثى غير حواء من قصيرى رجل ، فكانت أدخل في كونها آية ، وأجلب لعجب السامع ، فعطفها بثم على الآية الأولى ، للدلالة على مباينتها لها فضلا ومزية ، وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية ، فهو من التراخي في الحال والمنزلة ، لا من التراخي في الوجود. وقيل : ثم متعلق بمعنى واحدة ، كأنه قيل : خلقكم من نفس وحدت ، ثم شفعها الله بزوج. وقيل : أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر ، ثم خلق بعد ذلك حواء (وَأَنْزَلَ لَكُمْ) وقضى لكم وقسم ، لأنّ قضاياه وقسمه موصوفة بالنزول (١) من السماء ، حيث كتب في اللوح : كل كائن يكون. وقيل : لا تعيش الأنعام إلا بالنبات ، والنبات لا يقوم إلا بالماء. وقد أنزل الماء ، فكأنه أنزلها. وقيل : خلقها في الجنة ثم أنزلها. (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) ذكرا وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز. والزوج : اسم لواحد معه آخر ، فإذا انفرد فهو فرد ووتر. قال الله تعالى : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى). (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) حيوانا سويا ، من بعد عظام مكسوة لحما ، من بعد عظام عارية ، من بعد مضغ ، من بعد علق ، من بعد نطف. والظلمات الثلاث : البطن والرحم والمشيمة. وقيل :

الصلب والرحم والبطن (ذلِكُمُ) الذي هذه أفعاله هو (اللهُ رَبُّكُمْ ...... فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) فكيف يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره؟

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٧)

(فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) عن إيمانكم وإنكم المحتاجون إليه ، لاسضراركم بالكفر واستنفاعكم بالإيمان (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) رحمة لهم ، لأنه يوقعهم في الهلكة (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) أى يرض الشكر لكم ، لأنه سبب فوزكم وفلاحكم ، فإذن ما كره كفركم ولا رضى شكركم

__________________

ـ على الذرية فضلا عن كونه متراخيا عن خلق الذرية ، فلم يستقم حملها على تراخى الوجود لما جعلها في الوجه الآخر متعلقة بمعنى واحدة ، على تقدير : خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها ، يعنى : شفعها بزوجها ، فكانت هاهنا على بابها لتراخى الوجود ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(١) قال محمود : «إنما جعلها منزلة لأن قضاياه تعالى وقسمه موصوفة بالنزول ... الخ» قال أحمد : ومن هذا النمط بعينه قول الراجز :

أسنمة الآبال في سحابة

.

١١٤

إلا لكم ولصلاحكم (١) ، لا لأنّ منفعة ترجع إليه ، لأنه الغنى الذي لا يجوز عليه الحاجة. ولقد نمحل بعض الغواة ليثبت لله تعالى (٢) ما نفاه عن ذاته من الرضا لعباده الكفر فقال : هذا من العام الذي أريد به الخاص ، وما أراد إلا عباده الذين عناهم في قوله (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) يريد المعصومين ، كقوله تعالى (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) ، تعالى الله عما يقول الظالمون وقرئ «برضه» بضم الهاء بوصل وبغير وصل ، وبسكونها (خَوَّلَهُ) أعطاه. قال أبو النجم :

أعطى فلم يبخل ولم يبخّل

كوم الذّرى من خول المخول (٣)

وفي حقيقته وجهان ، أحدهما : جعله خائل مال ، من قولهم : هو خائل مال ، وخال مال : إذا كان متعهدا له حسن القيام به. ومنه : ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه كان

__________________

(١) حمل الزمخشري الرضا على الارادة ، والعباد على العموم ... الخ» قال أحمد : إن المصر على هذا المعتقد على قلبه رين ، أو في ميزان عقله غين ، أليس يدعى أو يدعى له أنه الخريت في مغاثر العبارات ، وبديع الزمان في صناعة البديع ، فكيف نبا عن جادة الا جادة فهما ، وأعار منادى الحذاقة أذنا صما ، اللهم إلا أن يكون الهوى إذا تمكن أرى الباطل حقا ، وغطى سنى مكشوف العبارة فسحقا سحقا ، أليس مقتضى العربية فضلا عن القوانين العقلية أن المشروط مرتب على الشرط ، لا يتصور وجود المشروط قبل الشرط عقلا ، ولا مضيه واستقبال الشرط لغة وعقلا ، واستقر باتفاق الفريقين أهل السنة وشيعة البدعة : أن إرادة الله تعالى لشكر عباده مثلا مقدمة على وجود الشكر منهم ، فحينئذ كيف ساغ حمل الرضا على الارادة ، وقد جعل في الآية مشروطا وجزاء ، وجعل وقوع الشكر شرطا ومجزيا ، واللازم من ذلك عقلا : تقدم المراد وهو الشكر ، على الارادة وهي الرضا ، ولغة : تقدم المشروط على الشرط. والزمخشري أخص من قال : إن المشروط متى كان ماضيا محضا لزمته ألفا. وقد ، كقولك : إن تكر منى فقد أكرمتك قبل ، وقد عريت الآية عن الحرفين المذكورين ، على أنه لا بد من تأويل يصحح الشرطية مع ذلك فإذا ثبت بطلان حمل الرضا على الارادة عقلا ونقلا ، تعين التماس المحمل الصحيح له ، وهو المجازاة على الشكر بما عهد أن يجازى به المرضى عنه من الثواب والكرامة ، فيكون معنى الآية ـ والله أعلم ـ : وإن تشكروا يجازكم على شكركم جزاء المرضى عنه ، ولا شك أن المجازاة مستقبلة بالنسبة إلى الشكر ، فجرى الشرط والجزاء على مقتضاهما لغة ، وانتظم ذلك بمقتضى الأدلة العقلية على بطلان تقدم المراد على الارادة عقلا ، ومثل هذا يقدر في قوله (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) أى لا يجازى غير الكافر مجازاة المغضوب عليه من النكال والعقوبة.

(٢) قوله «لينبت لله تعالى ... الخ» إنما يتم لو كان الرضاء بمعنى الارادة ، وهو مذهب المعتزلة. وعند أهل السنة : هو غيرها ، فكفر الكافر مراد غير مرضى ، وعند المعتزلة : غير مراد ولا مرضى. (ع)

(٣) الحمد لله الوهوب المجزل

أعطى فلم يبخل ولم يبخل

كوم الذرى من خول المخول

الوهوب : الوهاب. والمجزل : المكثر العطاء ، وبينه بقوله : أعطى السائلين فلم يبخل عليهم ، ولم يبخل : مشدد مبنى للمجهول ، أى : لم يتهم بالبخل. وقيل : هو توكيد. ويروى بناؤه للفاعل ، أى لم يجعل من أعطاهم بخلاء ، بل جعلهم كرماء. وكوم الذرى : نصب بأعطى ، أى : نوقا عظيمات السنام. والكوم : جمع كوماء. والذرى :

جمع ذروة. والمخول بالتشديد المعطي ، وهو الله عز وجل.

١١٥

يتخول أصحابه بالموعظة (١) والثاني : جعله يخول من خال يخول إذا اختال وافتخر ، وفي معناه قول العرب :

إنّ الغنىّ طويل الذّيل ميّاس

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ)(٨)

(ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ) أى نسى الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه. وقيل : نسى ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل إليه ، وما بمعنى من ، كقوله تعالى (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) وقرئ : ليضل ، بفتح الباء وضمها ، بمعنى أنّ نتيجة جعله لله أندادا ضلاله عن سبيل الله أو إضلاله. والنتيجة : قد تكون غرضا في الفعل ، وقد تكون غير غرض. وقوله (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ) من باب الخذلان والتخلية ، كأنه قليل له : إذ قد أبيت قبول ما أمرت به من الإيمان والطاعة ، فمن حقك ألا تؤمر به بعد ذلك ، وتؤمر بتركه : مبالغة في خذلانه وتخليته وشأنه. لأنه لا مبالغة في الخذلان ، لأن أشدّ من أن يبعث على عكس ما أمر به. ونظيره في المعنى قوله (مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ).

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٩)

قرئ. أمن هو قانت بالتخفيف على إدخال همزة الاستفهام على من ، وبالتشديد على إدخال «أم» عليه. ومن مبتدأ خبره محذوف ، تقديره : أمن هو قانت كغيره ، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه ، وهو جرى ذكر الكافر قبله. وقوله بعده (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) وقيل : معناه أمن هو قانت أفضل أمن هو كافر. أو أهذا أفضل أمن هو قانت على الاستفهام المتصل. والقانت : القائم بما يجب عليه من الطاعة. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «أفضل الصلاة طول القنوت» (٢) وهو القيام فيها. ومنه القنوت في الوتر ، لأنه دعاء المصلى

__________________

(١) متفق عليه من حديث ابن مسعود وأتم منه.

(٢) أخرجه مسلم من طريق أبى الزبير عن جابر. ورواه الطحاوي من هذا الوجه بلفظ «طول القيام» وكذا هو في حديث عبد الله بن جعفر بلفظ «سئل أى الصلاة أفضل؟ قال : طول القيام».

١١٦

قائما (ساجِداً) حال. وقرئ : ساجد وقائم ، على أنه خبر بعد خبر ، والواو للجمع بين الصفتين. وقرئ : ويحذر عذاب الآخرة. وأراد بالذين يعلمون : العاملين من علماء الديانة ، كأنه جعل من لا يعمل غير عالم. وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ، ثم لا يقتنون ويفتنون ، ثم يفتنون بالدنيا ، فهم عند الله جهلة ، حيث جعل القانتين هم العلماء ، ويجوز أن يرد على سبيل التشبيه ، أى : كما لا يستوي العالمون والجاهلون ، كذلك لا يستوي القانتون والعاصون. وقيل نزلت في عمار بن ياسر رضى الله عنه وأبى حذيفة بن المغيرة المخزومي. وعن الحسن أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو (١) ، فقال : هذا تمنّ ، وإنما الرجاء قوله : وتلا هذه الاية. وقرى : إنما يذكر ، بالإدغام.

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ)(١٠)

(فِي هذِهِ الدُّنْيا) متعلق بأحسنوا لا بحسنة ، معناه : الذين أحسنوا في هذه الدنيا فلهم حسنة في الآخرة. وهي دخول الجنة ، أى : حسنة غير مكتنهة بالوصف. وقد علقه السدى بحسنة ، ففسر الحسنة بالصحة والعافية. فإن قلت : إذا علق الظرف بأحسنوا فإعرابه ظاهر ، فما معنى تعليقه بحسنة؟ ولا يصح أن يقع صفة لها لتقدمه. قلت : هو صفة لها إذا تأخر ، فإذا تقدم كان بيانا لمكانها فلم يخل التقدم بالتعلق ، وإن لم يكن التعلق وصفا ومعنى (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) أن لا عذر للمفرطين في الإحسان البتة ، حتى إن اعتلوا بأوطانهم وبلادهم ، وأنهم لا يتمكنون فيها من التوفر على الإحسان ، وصرف الهمم إليه قيل لهم : فإن أرض الله واسعة وبلاده كثيرة ، فلا تجتمعوا مع العجز ، وتحوّلوا إلى بلاد أخر ، واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحسانا إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم. وقيل : هو الذين كانوا في بلد المشركين فأمروا بالمهاجرة عنه ، كقوله تعالى (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) وقيل : هي أرض الجنة. و (الصَّابِرُونَ) الذين صبروا على مفارقة

__________________

(١) قال محمود : «سئل الحسن عمن يتمادى على المعاصي ويرجو ... الخ» قال أحمد : كلام الحسن رضى الله عنه صحيح غير منزل على كلام الزمخشري بقرينة حاله ، فان الحسن أراد أن المتمادى على المعصية مصرا عليها غير تائب إذا غلب رجاؤه خوفه كان متمنيا ، لأن اللائق بهذا أن يغلب خوفه رجاؤه ، ولم يرد الحسن إقناط هذا من رحمة الله تعالى وحاشاه ، وأما قرينة حال الزمخشري فإنها تم على ما أضمره من إيراد هذه المقالة ، فان معتقده أن مثل هذا العاصي وإن كان موحدا يجب خلوده في نار جهنم ، ولا معنى لرجائه ، ولتنميته صحة هذا المعتقد أورد مقالة الحسن كالتزام إلى تتميم هذه النزعة ، وعما قليل يقرع سمعه ما في أنباء هذه السورة.

١١٧

أوطانهم وعشائرهم ، وعلى غيرها. من تجرّع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله وازدياد الخير (بِغَيْرِ حِسابٍ) لا يحاسبون عليه. وقيل : بغير مكيال وغير ميزان يغرف لهم غرفا ، وهو تمثيل للتكثير. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : لا يهتدى إليه حساب الحساب ولا يعرف. وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم : «ينصب الله الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين ، ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين. ويؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين ، ويؤتى بأهل البلاء ، فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ، ويصب عليهم الأجر صبا ، قال الله تعالى (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أنّ أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل» (١).

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) (١٥)

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ) بإخلاص الدين (وَأُمِرْتُ) بذلك لأجل (لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) أى مقدمهم وسابقهم في الدنيا والآخرة. ولمعنى : أنّ الإخلاص له السبقة في الدين ، فمن أخلص كان سابقا. فإن قلت : كيف عطف (أُمِرْتُ) على (أُمِرْتُ) وهما واحد (٢)؟ قلت : ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما ، وذلك أنّ الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء ، والأمر به ليحرز القائم به قصب السبق في الدين شيء ، وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين

__________________

(١) أخرجه الثعلبي وابن مردويه ، من حديث أنس رضى الله عنه. وإسناده ضعيف جدا. وأورده أبو نعيم في الحلية في ترجمة جابر بن زيد عن الطبراني. وهو في معجمه بإسناده إلى قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس رضى الله عنهما مختصرا.

(٢) قال محمود : «فان قلت : كيف عطف أمرت على أمرت وهما واحد ، وأجاب بأنه ليس بتكرير ... الخ» قال أحمد : ولقد أحسن في تقوية هذا المعنى في هذه الآية بقوله (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ) دونه فان مقابلته بعدم الحصر توجب كونه للحصر ، والله أعلم. وما أحسن ما بين وجوه المبالغة في وصف الله تعالى لفظاعة خسرانهم فقال : استأنف الجملة وصدرها بحرف التنبيه ، ووسط الفصل بين المبتدإ والخبر ، وعرف الخسران ونعته بالمبين ، وبين في تسمية الشيطان طاغوتا وجوها ثلاثة من المبالغة ، أحدها : تسمينه بالمصدر كأنه نفس الطغيان ، الثاني : بناؤه على فعلوت وهي صيغة مبالغة كالرحموت ، وهي الرحمة الواسعة والملكوت وشبهه. الثالث : تقديم لامه على عينه ليفيد اختصاص الشيطان بهذه التسمية.

١١٨

ولك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في أردت لأن أفعل ، ولا تزاد إلا مع أن خاصة دون الاسم الصريح ، كأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه ، كما عوّض السين في اسطاع عوضا من ترك الأصل الذي هو أطوع ، والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) و (أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، و (أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) وفي معناه أوجه : أن أكون أوّل من أسلم في زماني ومن قومي ، لأنه أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام وحطمها. وأن أكون أوّل الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاما. وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره ، لأكون مقتدى بى في قولي وفعلى جميعا ، ولا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون ، وأن أفعل ما أستحق به الأوّلية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب يعنى : أن الله أمرنى أن أخلص له الدين من الشرك والرياء وكلّ شوب ، بدليل العقل والوحى. فإن عصيت ربى بمخالفة الدليلين ، استوجبت عذابه فلا أعصيه ولا أتابع أمركم ، وذلك حين دعوه إلى دين آبائه. فإن قلت : ما معنى التكرير في قوله (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) وقوله (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) قلت : ليس بتكرير ، لأنّ الأوّل إخبار بأنه مأمور من جهة الله بإحداث العبادة والإخلاص. والثاني : إخبار بأنه يختص الله وحده دون غيره بعبادته مخلصا له دينه ، ولدلالته على ذلك قدّم المعبود على فعل العبادة وأخره في الأوّل فالكلام أوّلا واقع في الفعل نفسه وإيجاده ، وثانيا فيمن يفعل الفعل لأجله ، ولذلك رتب عليه قوله (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) والمراد بهذا الأمر الوارد على وجه التخيير : المبالغة في الخذلان والتخلية ، على ما حققت فيه القول مرتين. قل إنّ الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه وأسبابه : هم (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) لوقوعها في هلكة لا هلكة بعدها (وَ) خسروا (أَهْلِيهِمْ) لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم ، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده إليهم. وقيل : وخسروهم (١) لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة ، يعنى : وخسروا أهليهم الذين كانوا يكونون لهم لو آمنوا ، ولقد وصف خسرانهم بغاية الفظاعة في قوله (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) حيث استأنف الجملة وصدرها بحرف التنبيه ، ووسط الفصل بين المبتدأ والخبر ، وعرف الخسران ونعته بالمبين.

(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ)(١٦)

__________________

(١) قوله «وخسروهم» لعله «خسروهم» بدون واو. (ع)

١١٩

(وَمِنْ تَحْتِهِمْ) أطباق من النار هي (ظُلَلٌ) لآخرين (ذلِكَ) العذاب هو الذي يتوعد الله (بِهِ عِبادَهُ) ويخوّفهم ، ليجتنبوا ما يوقعهم فيه (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) ولا تتعرّضوا لما يوجب سخطى ، وهذه عظة من الله تعالى ونصيحة بالغة. وقرئ : يا عبادي.

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ)(١٨)

(الطَّاغُوتَ) فعلوت من الطغيان كالملكوت والرحموت ، إلا أن فيها قلبا بتقديم اللام على العين ، أطلقت على الشيطان أو الشياطين ، لكونها مصدرا وفيها مبالغات ، وهي التسمية بالمصدر ، كأن عين الشيطان طغيان ، وأنّ البناء بناء مبالغة ، فإنّ الرحموت : الرحمة الواسعة ، والملكوت : الملك المبسوط ، والقلب وهو للاختصاص ، إذ لا تطلق على غير الشيطان ، والمراد بها هاهنا الجمع. وقرئ : الطواغيت (أَنْ يَعْبُدُوها) بدل من الطاغوت بدل الاشتمال (لَهُمُ الْبُشْرى) هي البشارة بالثواب ، كقوله تعالى (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) الله عزّ وجل يبشرهم بذلك في وحيه على ألسنة رسله ، وتتلقاهم الملائكة عند حضور الموت مبشرين ، وحين يحشرون. قال الله تعالى (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ) وأراد بعباده (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم ، وإنما أراد بهم أن يكونوا مع الاجتناب والإنابة على هذه الصفة ، فوضع الظاهر موضع الضمير ، وأراد أن يكونوا نقادا في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل ، فإذا اعترضهم أمران : واجب وندب ، اختاروا الواجب ، وكذلك المباح والندب ، حرّاصا على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثوابا ، ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك وأقواها عند السبر (١) ، وأبينها دليلا أو أمارة ، وأن لا تكون في مذهبك ، كما قال القائل :

ولا تكن مثل عير قيد فانقادا (٢)

__________________

(١) قال محمود : «يدخل تحت هذا المذاهب واختيار أثبتها على السبك وأقواها عند السبر ... الخ» قال أحمد : لقد كنت أطمع لعله رجع عما ضمن هذا الكتاب من المذاهب الرديئة والمعتقدات الفاسدة ، حتى حققت من كلامه هذا أن ذلك التصميم كان متمكنا من فؤاده الصميم ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

(٢) شمر وكن في أمور الدين مجتهدا

ولا تكن مثل عير قيد فانقادا

للزمخشري. تشمير الثياب عن الساعد : كناية عن ترك الكسل ، ثم قال : واجتهد في أحكام الدين ولا تقلد غيرك ، فتكون مثل حمار قاده الشخص فانقاد وطاوعه أينما يوجهه. ويحتمل أن المعنى : اجتهد في العمل ولا تطع الشيطان.

١٢٠