الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

تستأثروا بها عليها (فَكَذَّبُوهُ) فيما حذرهم منه من نزول العذاب إن فعلوا (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ) فأطلق عليهم العذاب ، وهو من تكرير قولهم : ناقة مدمومة : إذا ألبسها الشجم (بِذَنْبِهِمْ) بسبب ذنبهم. وفيه إنذار عظيم بعاقبة الذنب ، فعلى كل مذنب أن يعتبر ويحذر (فَسَوَّاها) الضمير للدمدمة ، أى : فسوّاها ببنهم لم يفلت منها صغيرهم ولا كبيرهم (وَلا يَخافُ عُقْباها) أى عاقبتها وتبعتها ، كما يخاف كل معاقب من الملوك فيبقى بعض الإبقاء. ويجوز أن يكون الضمير لثمود على معنى : فسواها بالأرض. أو في الهلاك ، ولا يخاف عقبى هلاكها. وفي مصاحف أهل المدينة والشأم : فلا يخاف. وفي قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ولم يخف. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة الشمس ، فكأنما تصدق بكل شيء طلعت عليه الشمس والقمر» (١).

سورة الليل

مكية ، وآياتها ٢١ «نزلت بعد الأعلى»

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤)

المغشى : إما الشمس من قوله (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) وإما النهار من قوله (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) وإما كل شيء يواريه بظلامه من قوله (إِذا وَقَبَ). (تَجَلَّى) ظهر بزوال ظلمة الليل. أو تبين وتكشف بطلوع الشمس (وَما خَلَقَ) والقادر العظيم القدرة الذي قدر على خلق الذكر والأنثى من ماء واحد. وقبل : هما آدم عليه السلام وحواء. وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم : والذكر والأنثى. وقرأ ابن مسعود : والذي خلق الذكر والأنثى.

__________________

(١) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.

٧٦١

وعن الكسائي : وما خلق الذكر والأنثى بالجر على أنه بدل من محل (ما خَلَقَ) بمعنى : وما خلقه الله ، أى : ومخلوق الله الذكر والأنثى. وجاز إضمار اسم الله لأنه معلوم لانفراده بالخلق. إذ لا خالق سواه. وقيل : إنّ الله لم يخلق خلقا من ذوى الأرواح ليس بذكر ولا أنثى. والخنثى ، وإن أشكل أمره عندنا فهو عند الله غير مشكل ، معلوم بالذكورة أو الأنوثة ، فلو حلف بالطلاق أنه لم يلق يومه ذكرا ولا أنثى ، ولقد لقى خنثى مشكلا : كان حانثا ، لأنه في الحقيقة إمّا ذكرا أو أنثى ، وإن كان مشكلا عندنا (لَشَتَّى) جمع شتيت ، أى : إنّ مساعيكم أشتات مختلفة ، وبيان اختلافها فيما فصل على أثره.

(فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى)(٧)

(أَعْطى) يعنى حقوق ماله (وَاتَّقى) الله فلم يعصه (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) بالخصلة الحسنى : وهي الإيمان. أو بالملة الحسنى : وهي ملة الإسلام ، أو بالمثوبة الحسنى : وهي الجنة (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) فسنهيؤه لها من يسر الفرس للركوب إذا أسرجها وألجمها. ومنه قوله عليه السلام : «كل ميسر لما خلق (١) له» والمعنى : فسنلطف به ونوفقه حتى تكون الطاعة أيسر الأمور عليه وأهونها (٢) ، من قوله (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ).

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى)(١١)

(وَاسْتَغْنى) وزهد فيما عند الله كأنه مستغن عنه فلم يتقه. أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الجنة ، لأنه في مقابلة (وَاتَّقى). (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) فسنخذله ونمنعه الألطاف ، حتى تكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشدّه ، من قوله (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) أو سمى طريقة الخير باليسرى ، لأنّ عاقبتها اليسر ، وطريقة الشر العسرى ، لأن عاقبتها العسر. أو أراد بهما طريقى الجنة والنار ، أى : فسنهديهما في الآخرة للطريقين. وقيل : نزلتا في أبى بكر رضى الله عنه ، وفي أبى سفيان بن حرب (وَما يُغْنِي عَنْهُ) استفهام في معنى الإنكار ، أو نفى (تَرَدَّى) تفعل من الردى وهو الهلاك ، يريد : الموت. أو تردّى في الحفرة إذا قبر. أو تردى في قعر جهنم.

__________________

(١) متفق عليه من حديث عمران بن حصين ، ومن حديث على رضى الله عنه.

(٢) قال محمود : «التيسير لليسرى خلق الألطاف ... الخ» قال أحمد : ألا يطيل لسانه هاهنا على أهل السنة ولكن قصره الحق فتراه يؤول الكلام بل يعطله ، لأنه يحمله مالا يحتمله ، وعلى كلامه في أمثالها روعة السارق الخائف.

٧٦٢

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى)(١٣)

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) إن الإرشاد إلى الحق واجب علينا بنصب الدلائل (١) وبيان الشرائع (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) أى ثواب الدّارين للمهتدى ، كقوله (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).

(فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى)(٢١)

وقرأ أبو الزبير : تتلظى. فإن قلت : كيف قال (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى ...... وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) وقد علم أن كل شقىّ يصلاها (٢) ، وكل تقىّ يجنبها ، لا يختص بالصلى أشقى الأشقياء ، ولا بالنجاة

__________________

(١) قوله «له واجب علينا بنصب الدلائل» وجوب شيء على الله تعالى : مذهب المعتزلة. ولا يجب عليه شيء عند أهل السنة ، ولكن شأن الكريم تأكيد الوعد. (ع)

(٢) قال محمود : «فان قلت : كيف قال لا يصلاها إلا الأشقى وسيجنبها الأتقى ، وقد علم أن كل شقى يصلاها ... الخ» قال أحمد : لا شك أن السائل بنى سؤاله على التمسك بمفهوم الآية لورودها بصيغة التخصيص ، فحاصل جواب الزمخشري أن التخصيص هاهنا لفائدة أخرى غير النفي عما عدا المخصص ، وتلك الفائدة المقابلة ، وحيث تمحض لك السؤال والجواب ، فهو يلاحظ نظر الشافعي رحمه الله في قوله تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) فانه لم يقل بمفهوم حصرها ، وحملها على أن الحصر لفائدة المقابلة بالرد لأحكام الجاهلية ، لا لنفى ما عدا المحصور. على أن الزمخشري إنما ضيق عليه الخناق في هذه الآية حتى التزم ورود السؤال المذكور ، التفاته إلى قاعدته الفاسدة وحذره أن تنقض ، ويأبى الله إلا نقضها ورفضها ، وإذا نزلت الآية على قواعد أهل السنة وضع لك ما قلته ، فنقول : المصلى في اللغة أن يحفروا حفيرا فيجمعوا فيه جمرا كثيرا ، ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه بين أطباقه ، فأما ما يشوى فوق الجمر أو على المقلى أو على التنور فليس بمصلى ، وهذا التفسير بعينه نص عليه الزمخشري ونقطة عن أهل اللغة في سورة الغاشية أيضا ، وأنا وقفت عليه في كتبهم ، فإذا عرفت معنى التصلية لغة وأنها أشد أنواع الإحراق بالنار ، وفي علمك أن الناس عند أهل السنة ثلاثة أصناف : مؤمن صالح فائز ، ومؤمن عاص ، وكافر ، وأن المؤمن الفائز يمر على النار فيطفئ نوره لهبها ولا يؤلم بمسها البتة ، وإنما يردها تحلة القسم ، والعاصي إن شاء الله تعذيبه ومجازاته فإنما يعذب على وجه النار في الطبقة الأولى باتفاق ، حتى أن منهم من تبلغ النار إلى كعبه : وأشدهم من تبلغ النار إلى موضع سجوده فيحسه ، ولا يعذب أحد من المؤمنين بين أطباقها ألبتة بوعد الله تعالى ، والكافر هو المعذب بين أطباقها : تبين لك أن النار لا يصلاها أى يعذب بين أطباقها ـ كما علمت تفسيره في اللغة ـ إلا الكافر : وهو الأشقى ، لأن المؤمن العاصي

٧٦٣

أتقى الأتقياء ، وإن زعمت أنه نكر النار فأراد نارا بعينها مخصوصة بالأشقى ، فما تصنع بقوله (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) فقد علم أن أفسق المسلمين (١) يجنب تلك النار المخصوصة ، لا الأتقى منهم خاصة؟ قلت : الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين فقيل : الأشقى ، وجعل مختصا بالصلى ، كأن النار لم تخلق إلا له. وقيل : الأتقى ، وجعل مختصا بالنجاة ، كأن الجنة لم تخلق إلا له. وقيل : هما أبو جهل أو أمية بن خلف ، وأبو بكر رضى الله عنه (يَتَزَكَّى) من الزكاء. أى : يطلب أن يكون عند الله زاكيا ، لا يريد به رياء ولا سمعة. أو يتفعل من الزكاة. فإن قلت : ما محل يتزكى؟ قلت : هو على وجهين : إن جعلته بدلا من (يُؤْتِي) فلا محل له ؛ لأنه داخل في حكم الصلة ، والصلات لا محل لها وإن جعلته حالا من الضمير في (يُؤْتِي) فمحله النصب (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ) مستثنى من غير جنسه وهو النعمة أى : ما لأحد عنده نعمة إلا ابتغاء وجه ربه ، كقولك : ما في الدار أحد إلا حمارا وقرأ يحيى بن وثاب ، إلا ابتغاء وجه ربه بالرفع : على لغة من يقول : ما في الدار أحد إلا حمار وأنشد في اللغتين قول بشر بن أبى حازم :

أضحت خلاء قفارا لا أنيس بها

إلا الجآذر والظّلمان تختلف (٢)

وقول القائل :

وبلدة ليس بها أنيس

إلّا اليعافير وإلّا العيس (٣)

__________________

ـ لا يبلغ مبلغه في الشقاء ، وأن المؤمن الفائز وهو الأتقى بالنسبة إلى المؤمن العاصي بجنب النار بالكلية ، لأن وروده تحلة القسم لا يصل إليه مسها ولا ألمها ، وأن المؤمن العاصي الذي ليس بالأتقى ولا بالأشقى لا يصلاها ولا يجنبها بالكلية ، لأن وروده تحلة القسم بل يعذب فيها لا بالصلى ، فهذا أحسن ما حملت الآية عليه ، لكن إنما ينزل على جادة السنة. وأما الزمخشري فينحرف عنها ، فلا جرم أنه في عهدة الجواب يفكر ويقدر. والله أعلم.

(١) قوله «فقد علم أن أفسق المسلمين» لعله : وقد. (ع)

(٢) أضحت خلايا قفارا لا أنيس بها

إلا الجاذر والظلمان تختلف

رقفت فيها قلوصي كى تجاوبنى

أو بخبر الرسم عنهم أية انصرفوا

لبشر بن أبى خازم. وخلايا : جمع خلية أى خالية ، والجآذر والظلمان. استثناء منقطع ، لأنها لا تدخل في الأنيس. ورويا بالنصب على الاستثناء ، وبالرفع على الابدال من الضمير المستكن في الخير ، كما هو لغة عند تميم. والجآذر : أولاد بقر الوحش. وروى : الجوازئ ، رهى الظباء التي اجتزأت بأكل الربيع عن شرب الماء. والظلمان : أولاد النعام. أو النعام نفسه. والقلوص. الفتية من الإبل المكتنزة اللحم ، والضمير فيها عائد للديار. وضمير «تجاوبنى» لها أيضا. والرسم : آثار الديار. وأية : اسم استفهام منصوب بما بعده على الظرفية ، لقطعه عن الاضافة ، أى : صرفهم عزمهم ونيتهم. وشبه الرسم بعاقل على طريق المكنية فأسند له الاخبار تخييلا ، وكذلك الدار ومجاوبتها.

(٣) قد ندع المنزل يا لميس

يعيش فيه السبع الجروس

وبلدة ليس بها أنيس

إلا اليعافير وإلا العيس

٧٦٤

ويجوز أن يكون (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ) مفعولا له على المعنى ، لأنّ معنى الكلام : لا يؤتى ماله إلا ابتغاء وجه ربه ، لا لمكافأة نعمة (وَلَسَوْفَ يَرْضى) موعد بالثواب الذي يرضيه ويقرّ عينه. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة والليل ، أعطاه الله حتى يرضى ، وعافاه من العسر ويسر له اليسر» (١).

سورة الضحى

مكية ، وآياتها ١١ «نزلت بعد الفجر»

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى)(٣)

المراد بالضحى : وقت الضحى ، وهو صدر النهار حتى ترتفع الشمس وتلقى شعاعها. وقيل :

إنما خص وقت الضحى بالقسم ، لأنها الساعة التي كلم فيها موسى عليه السلام ، وألقى فيها السحرة سجدا ، لقوله (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) وقيل : أريد بالضحى : النهار ، بيانه قوله (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى) في مقابلة (بَياتاً). (سَجى) سكن وركد ظلامه. وقيل : ليلة ساجية ساكنة الريح. وقيل معناه : سكون الناس والأصوات فيه. وسجا البحر : سكنت أمواجه. وطرف ساج : ساكن فاتر (ما وَدَّعَكَ) جواب القسم. ومعناه : ما قطعك قطع المودع. وقرئ بالتخفيف ، يعنى : ما تركك. قال :

__________________

ـ لعامر بن الحرث المشهور بجران العود. ولميس : امرأة. والجروس : كثير الصوت ، وبلدة ـ بالجر برب المقدرة بعد الواو ، أى : قد نترك المنزل خاليا من أهله بقتلنا إياهم ، أو لارتحالنا عنهم. واليعافير ـ بالرفع ـ : بدل من أنيس على لغة تميم في الاستثناء المنقطع بعد النفي ، وإلا الثانية توكيد للأولى. واليعافير ـ جمع يعفور ـ : دابة قدر السخلة على لون الرماد. وقيل : غزال كذلك. وقيل : ولد البقرة الوحشية. والعيس : البيض من الظباء أو الإبل : جمع أعيس أو عيساء. والعيساء أيضا : أنثى الجراد ، يخالط بياضها شقرة.

(١) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.

٧٦٥

وثمّ ودعنا آل عمرو وعامر

فرائس أطراف المثقّفة السّمر (١)

والتوديع : مبالغة في الودع ، لأنّ من ودّعك مفارقا فقد بالغ في تركك. روى أنّ الوحى قد تأخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما. فقال المشركون : إنّ محمدا ودعه ربه وقلاه (٢). وقيل : إنّ أم جميل امرأة أبى لهب قالت له : يا محمد ، ما أرى شيطانك إلا قد تركك (٣) ، فنزلت. حذف الضمير من (قَلى) كحذفه من (الذَّاكِراتِ) في قوله (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) يريد : والذاكراته ونحوه : (فَآوى ... فَهَدى ... فَأَغْنى) وهو اختصار لفظي لظهور المحذوف.

(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى)(٥)

فإن قلت : كيف اتصل قوله (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) بما قبله؟ قلت : لما كان في ضمن نفى التوديع والقلى : أنّ الله مواصلك بالوحي إليك (٤) ، وأنك حبيب الله ولا ترى كرامة أعظم من ذلك ولا نعمة أجل منه : أخبره أن حاله في الآخرة أعظم من ذلك وأجل ، وهو السبق والتقدّم على جميع أنبياء الله ورسله ، وشهادة أمته على سائر الأمم ، ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته ، وغير ذلك من الكرامات السنية (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) موعد شامل لما أعطاه في الدنيا من الفلج والظفر (٥) بأعدائه يوم بدر ويوم فتح

__________________

(١) ثم إشارة لمكان الحرب أو زمانها ، واختلف في «دع» بمعنى اترك ، هل ينصرف فيأتى منه الماضي والمصدر ، واسم الفاعل والمفعول. قال الجوهري : أميت ماضيه وغيره ، وربما جاء في الضرورة اه ، وهو المشهور ، ولكن حيث جاء في القرآن (ما وَدَّعَكَ) بالتخفيف. وفي الحديث «لينتهين قوم عن ودعهم الجماعات» أى تركهم. وجاء اسم المفعول وغيره في الشعر ، فيجوز القول بقلة الاستعمال لا بالاماتة ، كما قاله بعض المتقدمين. والفرائس : مفعول ثان ، وهو جمع فريسة : وهي صيد الأسد المفترس. والمثقفة : المقومة بالثقاف ، وهو آلة تقويم الرماح. والسمرة : لون بين البياض والأدمة. وشبه الرماح بالأسود على طريق المكنية ، والفرائس تخييل ، والأقرب تشبيه آل عمر وآل عامر بالفرائس تشبيها بليغا لذكر الأطراف ، إلا أن يقال : إنها تجريد للمكنية ، لأنها تلائم الرماح.

(٢) أخرجه ابن مردويه من رواية العوفى عن ابن عباس في قوله (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) قال أبطأ عليه جبريل ـ الحديث».

(٣) متفق عليه من حديث جندب بن عبد الله البجلي بلفظ «فجاءت امرأة فقالت يا محمد إنى لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك. فأنزل الله (وَالضُّحى) وفي المستدرك من حديث زيد بن أرقم «أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث أياما لا ينزل عليه. فأتته امرأة أبى لهب فقالت : يا محمد ـ فذكره نحوه.

(٤) قال محمود : «إن قلت : كيف اتصل بما قبله؟ وأجاب بأنه لما كان في ضمن التوديع وأقلى أن الله مواصلك بالوحي إليك ... الخ» قال أحمد : وإخراج أهل الكبائر من النار بشفاعته مضاف إلى ذلك.

(٥) قوله «من الفلج والظفر» الفلج : أى الظهور والفوز والقهر ، كما بقيده الصحاح. (ع)

٧٦٦

مكة ، ودخول الناس في الدين أفواجا ، والغلبة على قريظة والنضير وإجلائهم ، وبث عساكره وسراياه في بلاد العرب ، وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن وهدم بأيديهم من ممالك الجبابرة وأنهبهم من كنوز الأكاسرة ، وما قذف في قلوب أهل الشرق والغرب من الرعب وتهيب الإسلام (١) ، وفشوّ الدعوة واستيلاء المسلمين ، ولما ادّخر له من الثواب الذي لا يعلم كنهه إلا الله. قال ابن عباس رضى الله عنهما : له في الجنة ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك. فإن قلت : ما هذه اللام الداخلة على سوف؟ قلت: هي لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة ، والمبتدأ محذوف. تقديره : ولأنت سوف يعطيك ، كما ذكرنا في : لا أقسم ، أن المعنى : لأنا أقسم ، وذلك أنها لا تخلو من أن تكون لام قسم أو ابتداء ، فلام القسم لا تدخل على المضارع إلا مع نون التأكيد ، فبقى أن تكون لام ابتداء ، ولام الابتداء لا تدخل إلا على الجملة من المبتدإ والخبر ، فلا بد من تقدير مبتدإ وخبر ، وأن يكون أصله : ولأنت سوف يعطيك. فإن قلت : ما معنى الجمع بين حرفى التوكيد والتأخير؟ قلت : معناه أن العطاء كائن لا محالة وإن تأخر ، لما في التأخير من المصلحة.

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى)(٨)

عدّد عليه نعمه وأياديه ، وأنه لم يخله متها من أول تربيه وابتداء نشئه ، ترشيحا لما أراد به ، ليقيس المترقب من فضل الله على ما سلف منه ، لئلا يتوقع إلا الحسنى وزيادة الخير والكرامة : ولا يضيق صدره ولا يقل صبره. و (أَلَمْ يَجِدْكَ) من الوجود الذي بمعنى العلم : والمنصوبان مفعولا وجد. والمعنى : ألم تكن يتيما ، وذلك أنّ أباه مات وهو جنين قد أتت عليه ستة أشهر وماتت أمّه ، وهو ابن ثمان سنين ، فكفله عمه أبو طالب ، وعطفه الله عليه فأحسن تربيته (٢). ومن بدع التفاسير : أنه من قولهم «درّة يتيمة» وأن المعنى : ألم يجدك واحدا في قريش عديم

__________________

(١) قوله «وتهيب الإسلام» أى : تخوف ، كما في الصحاح ، أى : تخوف الناس من أهل الإسلام. (ع)

(٢) لم أجد هذا. وقال السهيلي في الروض : أكثر العلماء على أنه عليه الصلاة والسلام توفى أبوه وهو في المهد ، كما ذكره الدولابى وغيره. وقال ابن سعد : لا يثبت أنه مات أبوه وهو حمل. ورواه الحاكم من طريق ابن إسحاق: حدثني مطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن أبيه عن جده أنه ذكر ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال «توفى أبوه وأمه حلى به» وبذلك جزم ابن إسحاق. وأما سنه عند ما ماتت أمه. فجزم ابن إسحاق أنها ماتت وهو ابن ست سنين. وقال ابن حبيب : وهو ابن ثمان سنين. وأما كفالة عمه له فذكرها ابن إسحاق وغيره.

٧٦٧

النظير فآواك. وقرئ : فأوى ، وهو على معنيين : إما من أواه بمعنى آواه. سمع بعض الرعاة يقول : أين آوى هذه الموقسة (١) وإما من أوى له : إذا رحمه (ضَالًّا) معناه الضلال عن علم الشرائع وما طريقه السمع ، كقوله (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ). وقيل : ضل في صباه في بعض شعاب مكة ، فردّه أبو جهل إلى عبد المطلب. وقيل : أضلته حليمة عند باب مكة حين فطمته وجاءت به لتردّه على عبد المطلب. وقيل : ضل في طريق الشام حين خرج به أبو طالب ، فهداك : فعرفك القرآن والشرائع. أو فأزال ضلالك عن جدك وعمك. ومن قال : كان على أمر قومه أربعين سنة ، فإن أراد أنه كان على خلوهم عن العلوم السعية ، لنعم ، وإن أراد أنه كان على دينهم وكفرهم ، فمعاذ الله ، والأنبياء يجب أن يكونوا معصومين قبل النبوّة وبعدها من الكبائر والصغائر الشائنة ، فما بال الكفر والجهل بالصانع (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) وكفى بالنبي نقيصة عند الكفار أن يسبق له كفر (عائِلاً) فقيرا. وقرئ : عيلا ، كما قرئ : سيحات. وعديما (فَأَغْنى) فأغناك بمال خديجة. أو بما أفاء عليك من الغنائم. قال عليه السلام : «جعل رزقي تحت ظل رمحي (٢)» وقيل : قنعك وأغنى قلبك.

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)(١١)

(فَلا تَقْهَرْ) فلا تغلبه على ماله وحقه لضعفه. وفي قراءة ابن مسعود : فلا تكبر : وهو أن يعبس في وجهه. وفلان ذو كهرورة : عابس الوجه. ومنه الحديث : فبأبى وأمى هو ، ما كهرنى (٣). النهر ، والنهم : الزجر. عن النبي صلى الله عليه وسلم (٤) «إذا رددت السائل ثلاثا فلم يرجع ،

__________________

(١) قوله «يقول أين آوى هذه الموقسة» الموقسة : الإبل الجربي ، من الوقس : وهو ابتداء الجرب اه من هامش ، والذي في الصحاح : يقال وقسه وقسا ، أى : قرفه ، وإن بالبعير لوقسا : إذا قارفه شيء من الجرب ، فهو موقوس. (ع)

(٢) هذا طرف من حديث. وأخرجه البخاري تعليقا وأحمد وأبو داود وابن أبى شيبة وعبد بن حميد. وأبو يعلى والطبراني والبيهقي في الشعب من حديث. عبد الله بن عمر. وفي النسائي عن أبى هريرة أخرجه البزار من رواية صدقة ابن عبد الله عن الأوزاعى عن يحيى عن أبى سلمة عن أبى هريرة. وقال : لم يتابع صدقة على هذا. وغيره يرويه عن الأوزاعى مرسلا. وله طريق أخرى في ترجمة أحمد بن محمود في تاريخ أصبهان لأبى نعيم بسنده إلى أنس.

وإسناده ساتط.

(٣) أخرجه مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمى في أثناء حديث.

(٤) أخرجه الدارقطني في الافراد من رواية الوليد بن الفضل عن عبد الله بن أبى حسين عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس به لكن قال «تزبره ـ بدل ـ وتنهره» والوليد اتهمه ابن حبان بالوضع لكن تابعه طلحة ابن عمرو عن عطاء أخرجه الثعلبي من طريق عقبة بن مجالد عن حبان بن على عن طلحة وهذا إسناد ضعيف.

٧٦٨

فلا عليك أن تزبره» (١) وقيل : أما إنه ليس بالسائل المستجدي ، ولكن طالب العلم : إذا جاء فلا تنهره. التحديث بنعمة الله : شكرها وإشاعتها. يريد : ما ذكره من نعمة الإيواء والهداية والإغناء وما عدا ذلك. وعن مجاهد : بالقرآن ، فحدث : أقرئه ، وبلغ ما أرسلت به. وعن عبد الله بن غالب أنه كان إذا أصبح يقول : رزقني الله البارحة خيرا : قرأت كذا وصليت كذا ، فإذا قيل له : يا أبا فراس مثلك يقول مثل هذا؟ قال : يقول الله تعالى (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) وأنتم تقولون : لا تحدث بنعمة الله. وإنما يجوز مثل هذا إذا قصد به اللطف ، وأن يقتدى به غيره ، وأمن على نفسه الفتنة. والستر أفضل. ولو لم يكن فيه إلا التشبه بأهل الرياء والسمعة : لكفى به. وفي قراءة على رضى الله عنه : فخبر. والمعنى : أنك كنت يتيما ، وضالا ، وعائلا ، فآواك الله ، وهداك : وأغناك ، فمهما يكن من شيء وعلى ما خيلت فلا تنس نعمة الله عليك في هذه الثلاث. واقتد بالله ، فتعطف على اليتيم وآوه ، فقد ذقت اليتم وهو انه ، ورأيت كيف فعل الله بك ، وترحم على السائل وتفقده بمعروفك ولا تزجره عن بابك ، كما رحمك ربك فأغناك بعد الفقر ، وحدّث بنعمة الله كلها ، ويدخل تحته هدايته الضلال ، وتعليمه الشرائع والقرآن ، مقتديا بالله في أن هداه من الضلال.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة والضحى جعله الله فيمن يرضى لمحمد أن يشفع له وعشر حسنات يكتبها الله له بعدد كل يتيم وسائل» (٢).

__________________

ـ وأخرجه ابن مردويه من رواية أحمد بن أبى طيبة عن حيان فقال : عن أبى هريرة ـ بدل ابن عباس. وله طريق أخرى. أخرجها عبد الغنى بن سعيد في إيضاح الاشكال من رواية وهب بن زمعة عن هشام بن وهب أبى البختري القاضي. وهو كذاب.

(١) قوله «فلا عليك أن تزبره» تزبره : أى تزجره وتمنعه. أفاده الصحاح. (ع)

(٢) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.

٧٦٩

سورة الشرح

مكية ، وآياتها ٨ «نزلت بعد الضحى»

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ)(٤)

استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار ، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه ، فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك ، ولذلك عطف عليه : وضعنا : اعتبارا للمعنى. ومعنى : شرحنا صدرك : فسحناه حتى وسع عموم النبوّة ودعوة الثقلين جميعا. أو حتى احتمل المكاره التي يتعرض (١) لك بها كفار قومك وغيرهم : أو فسحناه بما أودعناه من العلوم والحكم ، وأزلنا عنه الضيق والحرج الذي يكون مع العمى والجهل. وعن الحسن : مليء حكمة وعلما. وعن أبى جعفر المنصور أنه قرأ : ألم نشرح لك ، بفتح الحاء. وقالوا : لعله بين الحاء وأشبعها في مخرجها ، فظنّ السامع أنه فتحها ، والوزر الذي أنقض ظهره ـ أى حمله على النقيض وهو صوت الانتقاض والانفكاك لثقله ـ مثل لما كان يثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغمه من فرطاته قبل النبوّة. أو من جهله بالأحكام والشرائع. أو من تهالكه على إسلام أولى العناد من قومه وتلهفه. ووضعه عنه : أن غفر له ، أو علم الشرائع ، أو مهد عذره بعد ما بلغ وبلغ. وقرأ أنس : وحللنا ، وحططنا. وقرأ ابن مسعود : وحللنا عنك وقرك. ورفع ذكره : أن قرن بذكر الله في كلمة الشهادة والأذان والإقامة والتشهد والخطب ، وفي غير موضع من القرآن (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ، (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) ، (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وفي تسميته رسول الله ونبى الله ، ومنه ذكره في كتب الأولين ، والأخذ على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا به. فإن قلت : أى فائدة في زيادة لك ، والمعنى مستقل بدونه (٢)؟ قلت : في زيادة لك ما في طريقة

__________________

(١) قوله «المكاره التي يتعرض لك» لعله تعرض بصيغة الماضي. (ع)

(٢) قال محمود : «إن قلت ما قائدة لك مع أن الاضافة تغنى عنها ... الخ»؟ قال أحمد : وقد تقدم عند الكلام على نظيرها في قوله : «قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمرى» قريب من هذا المعنى ، والله أعلم.

٧٧٠

الإبهام والإيضاح ، كأنه قيل : ألم نشرح لك ، ففهم أن ثم مشروحا ، ثم قيل : صدرك ، فأوضح ما علم مبهما ، وكذلك (لَكَ ذِكْرَكَ) و (عَنْكَ وِزْرَكَ).

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)(٦)

فإن قلت : كيف تعلق قوله (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) بما قبله؟ قلت : كان المشركون يعيرون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالفقر والضيقة ، حتى سبق إلى وهمه أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله واحتقارهم ، فذكره ما أنعم به عليه من جلائل النعم ثم قال : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) كأنه قال : خوّلناك ما خولناك فلا تيأس من فضل الله ، فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسرا. فإن قلت : (إِنَّ مَعَ) للصحبة ، فما معنى اصطحاب اليسر والعسر؟ قلت : أراد أن الله يصيبهم بيسر بعد العسر الذي كانوا فيه بزمان قريب ، فقرّب اليسر المترقب حتى جعله كالمقارن للعسر ، زيادة في التسلية وتقوية القلوب. فإن قلت : ما معنى قول ابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهما : لن يغلب عسر يسرين (١) وقد روى مرفوعا أنه خرج صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو يضحك ويقول «لن يغلب عسر يسرين» (٢)؟ قلت : هذا عمل على الظاهر ، وبناء على قوّة الرجاء ، وأن موعد الله لا يحمل إلا على أو في ما يحتمله اللفظ وأبلغه ، والقول في أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تكريرا للأولى كما كرر قوله (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) لتقرير معناها في النفوس وتمكينها في القلوب ، وكما يكرر المفرد في قولك : جاءني زيد زيد ، وأن تكون الأولى عدة بأنّ العسر مردوف بيسر لا محالة ، والثانية عدة مستأنفة بأنّ العسر متبوع بيسر ، فهما يسران على تقدير الاستئناف ، وإنما كان العسر واحدا لأنه لا يخلو ، إما أن يكون تعريفه للعهد وهو العسر الذي كانوا فيه ، فهو هو ، لأنّ حكمه حكم زيد في قولك : إن مع زيد مالا ، إن مع زيد مالا. وإما أن يكون للجنس الذي يعلمه كل أحد فهو هو أيضا. وأما اليسر فمنكر متناول لبعض الجنس ، فإذا كان الكلام الثاني متأنفا غير مكرر فقد تناول بعضا غير البعض الأوّل بغير إشكال. فإن قلت : فما المراد باليسرين؟ قلت : يجوز أن يراد بهما

__________________

(١) حديث ابن عباس : لم أجده. قلت : ذكره الفراء عن الكلبي عن ابن صالح عنه.

(٢) أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن الحسن به مرسلا. ومن طريقه أخرجه الحاكم والبيهقي في الشعب. ورواه الطبري من طريق أبى ثور عن معمر. وله طريق أخرى أخرجها ابن مردويه من رواية عطية عن جابر موصولا. وإسناده ضعيف. وفي الباب عن عمر رضى الله عنه ذكره مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن أبيه «أن عمر بن الخطاب بلغه أن أبا عبيدة حضر بالشام فذكر القصة. وقال في الكتاب إليه : ولن يغلب عسر يسرين» ومن طريقه رواه الحاكم. وهذا أصح طرقه.

٧٧١

ما تيسر لهم من الفتوح في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تيسر لهم في أيام الخلفاء (١) ، وأن يراد يسر الدنيا ويسر الآخرة ، كقوله تعالى (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) وهما حسنى الظفر وحسنى الثواب. فإن قلت ؛ فما معنى هذا التنكير؟ قلت : التفخيم ، كأنه قيل إن مع العسر يسرا عظيما وأىّ يسر ، وهو في مصحف ابن مسعود مرة واحدة. فإن قلت : فإذا ثبت في قراءته غير مكرر ، فلم قال : والذي نفسي بيده ، لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه ، إنه لن يغلب عسر يسرين (٢)؟ قلت : كأنه قصد باليسرين : ما في قوله (يُسْراً) من معنى التفخيم ، فتأوله بيسر الدارين ، وذلك يسران في الحقيقة.

(فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ)(٨)

فإن قلت : فكيف تعلق قوله (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) بما قبله؟ قلت : لما عدد عليه نعمه السالفة ووعده الآنفة ، بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة والنصب فيها ، وأن يواصل بين بعضها وبعض ، ويتابع ويحرص على أن لا يخلى وقتا من أوقاته منها. فإذا فرغ من عبادة ذنبها بأخرى. وعن ابن عباس : فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء. وعن الحسن : فإذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة. وعن مجاهد : فإذا فرغت من دنياك فانصب في صلاتك. وعن الشعبي : أنه رأى رجلا يشيل حجرا فقال : ليس بهذا أمر الفارغ ، وقعود الرجل فارغا من غير شغل أو اشتغاله بما لا يعنيه في دينه أو دنياه : من سفه الرأى وسخافة العقل واستيلاء الغفلة ، ولقد قال عمر رضى الله عنه : إنى لأكره أن أرى أحدكم فارغا سهلا لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة (٣). وقرأ أبو السمال : فرغت ـ بكسر الراء ـ وليست بفصيحة. ومن البدع : ما روى عن بعض الرافضة أنه قرأ فانصب بكسر الصاد ، أى فانصب عليا للإمامة ، ولو صح هذا للرافضى لصح الناصبي أن يقرأ هكذا ، ويجعله أمرا بالنصب (٤) الذي هو بغض علىّ وعداوته (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) واجعل رغبتك إليه خصوصا ، ولا تسأل إلا فضله متوكلا عليه. وقرئ : فرغب أى : رغب الناس إلى طلب ما عنده.

عن النبي صلى الله عليه وسلم : «من قرأ ألم نشرح ، فكأنما جاءني وأنا مغتم ففرج عنى» (٥)

__________________

(١) قوله «وما تيسر لهم في أيام الخلفاء» لعله : وما يتيسر ، بصيغة المضارع. (ع)

(٢) حديث ابن مسعود : أخرجه عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان عن ميمون أبى حمزة عن ابراهيم عن ابن مسعود قال : «لو كان العسر في جحر ضب لتبعه اليسر حتى يستخرجه : لن يغلب عسر يسرين».

(٣) لم أجده ، وقد روى أحمد وابن المبارك والبيهقي كلهم في الزهد وابن أبى شيبة من طريق المسيب بن رافع قال قال عبد الله بن مسعود «إنى لأمقت الرجل أراه فارغا ليس في شيء من عمل دنيا ولا آخرة».

(٤) قوله «بالنصب» في الصحاح : نصبت لفلان نصبا : إذا عاديته. (ع)

(٥) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بأسانيدهم إلى أبى بن كعب. ورواه سليم الزهري في البر عنه مرسلا.

٧٧٢

سورة التين

مكية ، وآياتها ٨ [نزلت بعد البروج]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) (٨)

أقسم بهما لأنهما عجيبان من بين أصناف الأشجار المثمرة ، وروى أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه : «كلوا ، فلو قلت إنّ فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه ، لأنّ فاكهة الجنة بلا عجم ، فكلوها. فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس» (١) ومرّ معاذ بن جبل بشجرة الزيتون فأخذ منها قضيبا واستاك به وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب بالحفرة (٢)» وسمعته يقول «هي سواكي وسواك الأنبياء قبلي» وعن ابن عباس رضى الله عنه : هو تينكم هذا وزيتونكم. وقيل : جبلان من الأرض المقدّسة يقال لهما بالسريانية : طور تينا وطور زيتا ، لأنهما منبتا التين والزيتون. وقيل «التين» جبال ما بين حلوان وهمدان. و «الزيتون» جبال الشام ، لأنها منابتهما ، كأنه قيل : ومنابت التين والزيتون. وأضيف الطور : وهو الجبل ، إلى سينين : وهي البقعة. ونحو سينون : يبرون ، في جواز الإعراب بالواو والياء ، والإقرار على الياء ، وتحريك النون بحركات الإعراب. وللبلد : مكة حماها الله. والأمين : من أمن الرجل أمانة فهو أمين. وقيل : أمان ، كما قيل : كرام في كريم. وأمانته : أن يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه. ويجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول ، من أمنه لأنه مأمون الغوائل ،

__________________

(١) أخرجه أبو نعيم في الطب. والثعلبي من حديث أبى ذر. وفي إسناده من لا يعرف.

(٢) أخرجه الطبراني في الأوسط والثعلبي من حديث معاذ بن جبل ، وإسناده واه.

٧٧٣

كما وصف بالأمن في قوله تعالى (حَرَماً آمِناً) بمعنى : ذى أمن. ومعى القسم بهذه الأشياء. الإبانة عن شرف البقاع المباركة وما ظهر فيها من الخير والبركة بسكنى الأنبياء والصالحين ، فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم ومولد عيسى ومنشؤه. والطور : المكان الذي نودي منه موسى. ومكة : مكان البيت الذي هو هدى للعالمين ، ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) في أحسن تعديل لشكله وصورته وتسوية لأعضائه. ثم كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة تلك الخلقة الحسنة القويمة السوية : أن رددناه أسفل من سفل خلقا وتركيبا ، يعنى : أقبح من قبح صورة وأشوهه خلقة ، وهم أصحاب النار أو أسفل من سفل من أهل الدركات. أو ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل : حيث نكسناه في خلقه ، فقوّس ظهره بعد اعتداله ، وابيض شعره بعد سواده ، وتشنن (١) جلده وكان بضا ، وكلّ سمعه وبصره وكانا حديدين ، وتغير كل شيء منه : فمشيه دليف (٢) ، وصوته خفات ، وقوته ضعف ، وشهامته خرف (٣) وقرأ عبد الله : أسفل السافلين. فإن قلت : فكيف الاستثناء على المذهبين؟ قلت : هو على الأول متصل ظاهر الاتصال ، وعلى الثاني منقطع. يعنى : ولكن الذين كانوا صالحين من الهرمى فلهم ثواب دائم غير منقطع على طاعتهم وصبرهم على ابتلاء الله بالشيخوخة والهرم ، وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة على تخاذل نهوضهم. فإن قلت : (فَما يُكَذِّبُكَ) من المخاطب به؟ قلت : هو خطاب للإنسان على طريقة الالتفات ، أى : فما يجعلك كاذبا بسبب الدين وإنكاره بعد هذا الدليل ، يعنى أنك تكذب إذا كذبت بالجزاء ، لأنّ كل مكذب بالحق فهو كاذب ، فأىّ شيء يضطرك إلى أن تكون كاذبا بسبب تكذيب الجزاء. والباء مثلها في قوله تعالى (الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) والمعنى : أنّ خلق الإنسان من نطفة ، وتقويمه بشرا سويا وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي ، ثم تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر : لا ترى دليلا أوضح منه على قدرة الخالق ، وأن من قدر من الإنسان على هذا كله : لم يعجز عن إعادته ، فما سبب تكذيبك أيها الإنسان بالجزاء بعد هذا الدليل القاطع. وقيل : الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) وعيد للكفار ، وأنه يحكم عليهم بما هم

__________________

(١) قوله «وتشنن جلده» في الصحاح التشنن : التشيخ واليبس في جلد الإنسان ، والضاضة : رقة الجلد ورخوصته. (ع)

(٢) قوله «فمشبه دليف» أى مشى رويد متقارب الخطو. (ع)

(٣) قوله «وشهامته خوف» لعله : خوف. (ع)

٧٧٤

أهله. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان إذا قرأها قال : «بلى وأنا على ذلك من الشاهدين» (١). عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة والتين أعطاه الله خصلتين : العافية واليقين ما دام في دار الدنيا ، وإذا مات أعطاه الله من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة» (٢).

سورة العلق

مكية ، وآياتها ١٩ [وهي أول ما نزل من القرآن]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ)(٥)

عن ابن عباس ومجاهد : هي أول سورة نزلت «وأكثر المفسرين على أن الفاتحة أول ما نزل ثم سورة القلم. محل (بِاسْمِ رَبِّكَ) النصب على الحال ، أى : اقرأ مفتتحا باسم ربك قل بسم الله ، ثم اقرأ. فإن قلت : كيف قال (خَلَقَ) فلم يذكر له مفعولا ، ثم قال (خَلَقَ الْإِنْسانَ)؟ قلت : هو على وجهين : إما أن لا يقدر له مفعول وأن يراد أنه الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه. وإما أن يقدر ويراد خلق كل شيء ، فيتناول كل مخلوق ، لأنه مطلق ، فليس بعض المخلوقات أولى بتقديره من بعض. وقوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ) تخصيص للإنسان بالذكر من بين ما يتناوله الخلق ، لأن التنزيل إليه وهو أشرف ما على الأرض. ويجوز أن يراد : الذي خلق الإنسان ، كما قال (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ) فقيل : (الَّذِي خَلَقَ) مبهما ، ثم فسره بقوله (خَلَقَ الْإِنْسانَ) تفخيما لخلق الإنسان. ودلالة على عجيب فطرته. فإن قلت : لم قال (مِنْ عَلَقٍ) على الجمع ، وإنما خلق من علقة ، كقوله (مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ)؟ قلت : لأن

__________________

(١) أخرجه الحاكم عن أبى هريرة بالإسناد المتقدم في القيامة ورواه الطبري من رواية سعيد عن قتادة قال : ذكر لنا ـ فذكره.

(٢) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بأسانيدهم إلى أبى بن كعب.

٧٧٥

الإنسان في معنى الجمع ، كقوله (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ). (الْأَكْرَمُ) الذي له الكمال في زيادة كرمه على كل كرم ، ينعم على عباده النعم التي لا تحصى ، ويحلم عنهم فلا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وجحودهم لنعمه وركوبهم المناهي وإطراحهم الأوامر ، ويقبل توبتهم ويتجاوز عنهم بعد اقتراف العظائم ، فما لكرمه غاية ولا أمد ، وكأنه ليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم ، حيث قال : الأكرم (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) فدلّ على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو ، وما دونت العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم ، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة ، ولو لا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا ، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله ولطيف تدبيره ودليل إلا أمر القلم والخط ، لكفى به. ولبعضهم في صفة القلم :

ورواقم رقش كمثل أراقم

قطف الخطا نيّالة أقصى المدى

سود القوائم ما يجدّ مسيرها

إلّا إذا لعبت بها بيض المدى (١)

__________________

(١) للزمخشري رحمه الله تعالى في صفة الأقلام ، وكان حقه أن يذكر في حرف الدال ، لأن حروف الإطلاق وهي الألف والواو والياء الساكنات غير معتبرة في هذه الأبواب ، وإنما أخرناه ليكون جزاء للأقلام على عملها كما أن الأجير يوفى أجره بعد تمام عمله. والرواقم : جمع راقمة صفة للأقلام ، وهو مجرور برب المقدرة. وخبره قوله : كمثل أراقم. أو قطف الخطى ، والأظهر أن الخبر قوله : ما يجد مسيرها. وإسناد الرقم إليها مجاز عقلى ، لأنها آلته. والرقش : جمع أرقش. أو رقشاء : الحية المنقوشة الظهر. والأراقم ـ جمع أرقم الشعبان الذي فيه سواد وبياض. والقطف : جمع أقطف : وهو الذي يقارب بين خطاه. والخطى : جمع خطوة بالضم. والمدى ، بالفتح : يطلق على المسافة وعلى غايتها. والسود : جمع أسود أو سوداء. والقوائم : الأرجل. والجد بمعنى الاجتهاد أو ضد الهزل. والبيض : جمع بيضاء. والمدى ، بالضم : جمع مدية ، وهي الشفرة ، ثم إنه شبه انتقاش الأقلام بانتقاش الحيات ، فاستعار له الرقش على سبيل الاستعارة التصريحية ، وشبهها بالأراقم بجامع التلون والامتداد يمينا وشمالا وانشقاق لسان كل شعبتين وإلقائه اللعاب ، فالجامع مركب حسى. وقيل : إنه من قبيل تشبيه المركب المحسوس بالمركب المحسوس بجامع الهيئات التي تقع عليها الحركة. وكرر أداة التشبيه التوكيد ، ثم شبهها بالدواب السائرة على طريق المكنية ، بجامع التلون والتردد ، والذهاب والإياب ، والتوصل بكل إلى المراد ، وإثبات القطف والخطو والقوائم : تخييل. وقيل : يجوز أن هذا من قبيل تشبيه المركب بالمركب أيضا ، وهي وإن كان سيرها قليلا : تبلغ صاحبها مراده ، وإن كان بعيدا فنسبة النيل إليها مجاز عقلى ، لأنها آلته. وشبه المراد المعقول بالمقصد المحسوس ، وهو آخر المسافة بجامع الاحتياج في إدراك كل إلى أسباب ، فأقصى المدى : استعارة تصريحية : وهي ترشيح لتلك المكفية ، وقوائم الأقلام : ما دق وطال من أطرافها ، وهي سود دائما ، وإثبات الجد للمسير مبالغة كجد جده. وشبه المدى بما يصح منه اللعب على سبيل المكنية ، وإثبات اللعب تخييل هذا بيانه. وفيه من البديع بين الرواقم والأراقم شبه الاشتقاق ، وبين «قطف الخطى» «ونيالة أقصى المدى» شبه التضاد ، وبين السود والبيض ، وبين الجد واللعب : طباق التضاد ، وبين المسير ولعب المدى : شبه التضاد بحسب الظاهر ، ـ

٧٧٦

وقرأ ابن الزبير : علم الخط بالقلم.

(كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)(١٩)

(كَلَّا) ردع لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه ، وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه (أَنْ رَآهُ) أن رأى نفسه. يقال في أفعال القلوب : رأيتنى وعلمتني ، وذلك بعض خصائصها. ومعنى الرؤية : العلم ، ولو كانت بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين. و (اسْتَغْنى) هو المفعول الثاني (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) واقع على طريقة الالتفات إلى الإنسان ، تهديدا له وتحذيرا من عاقبة الطغيان. والرجعى : مصدر كالبشرى بمعنى الرجوع. وقيل : نزلت في أبى جهل ، وكذلك (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى) وروى أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتزعم أن من استغنى طغى ، فاجعل لنا جبال مكة فضة وذهبا ، لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك ، فنزل جبريل فقال : إن شئت فعلنا ذلك ، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة ، فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاة إبقاء عليهم (١). وروى عنه لعنه الله أنه قال : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا : نعم. قال : فو الذي يحلف به ، لئن رأيته توطأت عنقه ، فجاءه ثم نكص على عقبيه ، فقالوا له : مالك يا أبا الحكم ، فقال : إن بيني وبينه لخندقا من نار وهو لا وأجنحة ، فنزلت (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى) ومعناه : أخبرنى عمن ينهى بعض عباد الله عن صلاته إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله. أو كان آمرا بالمعروف والتقوى فيما بأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد ، وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدين الصحيح ، كما نقول نحن (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى)

__________________

ـ لأن المدى تبطل سير الحيوان إذا لعبت بقوائمه ، لكنه مناسب للأقلام. وبين المدى والمدى : الجناس المحرق ، وهذا مما يدل على أن المصنف رحمه الله وعمه برضاه : كان من مفلقى سحرة البيان ، الحائزين قصيات السبقى في هذا الميدان.

(١) لم أجده. قلت : وآخره تقدم في الاسراء بغير هذا السياق.

٧٧٧

ويطلع على أحواله من هداه وضلاله ، فيجازيه على حسب ذلك. وهذا وعيد. فإن قلت : ما متعلق أرأيت؟ قلت : الذي ينهى مع الجملة الشرطية ، وهما في موضع المفعولين. فإن قلت : فأين جواب الشرط؟ قلت : هو محذوف ، تقديره : إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ، ألم يعلم بأن الله يرى. وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني. فإن قلت : فكيف صح أن يكون (أَلَمْ يَعْلَمْ) جوابا للشرط؟ قلت : كما صح في قولك : إن أكرمتك أتكرمني؟ وإن أحسن إليك زيد هل تحسن إليه؟ فإن قلت : فما أرأيت الثانية وتوسطها بين مفعول أرأيت؟ قلت : هي زائدة مكرّرة للتوكيد. وعن الحسن أنه أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة (كَلَّا) ردع لأبى جهل وخسوء له عن نهيه عن عبادة الله تعالى وأمره بعبادة اللات ، ثم قال (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) عما هو فيه (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار. والسفع : القبض على الشيء وجذبه بشدّة. قال عمرو بن معديكرب :

قوم إذا يقع الصّريخ رأيتهم

من بين ملجم مهره أو سافع (١)

وقرئ : لنسفعنّ ، بالنون المشدّدة. وقرأ ابن مسعود ، لأسفعا. وكتبتها في المصحف بالألف على حكم الوقف ، ولما علم أنها ناصية المذكور : اكتفى بلام العهد عن الإضافة (ناصِيَةٍ) بدل من الناصية ، وجاز بدلها عن المعرفة ، وهي نكرة ، لأنها وصفت فاستقلت بفائدة. وقرئ : ناصية ، على : هي ناصية. وناصية بالنصب. وكلاهما على الشتم. ووصفها بالكذب والخطأ على الإسناد المجازى. وهما في الحقيقة لصاحبها. وفيه من الحسن والجزالة ما ليس في قولك : ناصية كاذب خاطئ. والنادي : المجلس الذي ينتدى فيه القوم. أى يجتمعون. والمراد : أهل النادي. كما قال جرير :

لهم مجلس صهب السّبال أذلّة (٢)

__________________

(١) لحميد بن ثور الهلالي الصحابي ، أى : هم قوم إذا نفع الصريخ ، أى : ارتفع الصياح للحرب أسرعوا إليها فتراهم دائرين بين ملجم مهره وسافع ، أى : قابض بناصية مهره ، ويجذبه إليه بسرعة. ومن زائدة ، ولو كانت في الإثبات. وأو بمعنى الواو. ويروى : إذا يقع بالياء ، أى : يحصل. ويروى : إذا هتف ، أى : صاح ، فيكون كجد جده. ويجوز أن الصريخ بمعنى الصارخ. ويروى : إذا سمعوا الصريخ فهو مفعول. ويروى : ما بين ملجم. وهذا مما يؤيد أن «من» في تلك الرواية زائدة.

(٢) لهم مجلس صهب السبال أذلة

على من يعاديهم أشداء فاعلم

يقول : لهم مجلس يجتمعون فيه. أو لهم قوم مجتمعون جالسون ، ولا ترى ذلك إلا في الرؤساء الأشراف. وصهب للسبال : صفة لمرجع الضمير في لهم على الأول ، وصفة لمجلس على الثاني ، لأنه بمعنى الجالسين. والصهبة : حمرة ترهق السواد. والصهب : جمع أصهب. والسال : طرف الشارب جانب الفم ، وتلك الصهبة من خواص الروم ، ـ

٧٧٨

وقال زهير :

وفيهم مقامات حسان وجوههم

والمقامة : المجلس. روى أن أبا جهل من برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى فقال : ألم أنهك؟ فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أتهدّدنى وأنا أكثر أهل الوادي ناديا (١) ، فنزلت. وقرأ ابن أبى عبلة : سيدعى الزبانية ، على البغاء للمفعول ، والزبانية في كلام العرب : الشرط ، الواحد : زبنية ، كعفرية ، من الزبن : وهو الدفع. وقيل : زبنى ، وكأنه نسب إلى الزبن ، ثم غير للنسب ، كقولهم أمسى ، وأصله : زبانى ، فقيل. زبانية على التعويض ، والمراد : ملائكة العذاب. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانا (٢)» (كَلَّا) ردع لأبى جهل (لا تُطِعْهُ) أى اثبت على ما أنت عليه من عصيانه ، كقوله (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ). (وَاسْجُدْ) ودم على سجودك ، يريد : الصلاة (وَاقْتَرِبْ) وتقرّب إلى ربك. وفي الحديث : «أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد» (٣).

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، «من قرأ سورة العلق أعطى من الأجر كأنما قرأ المفصل كله (٤)»

__________________

ـ وهو كناية عن الغلظة والشدة ، وأذلة : أى فيما بينهم أشداء على من يعاديهم. وقدم المعمول للحصر ، فاعلم ذلك وتيقنه فهو حق. ويروى بدل الشطر الثاني :

سواسية أحرارها وعبيدها

وسواسية كطواعية جمع سواء على غير قياس. وقيل : اسم جمع بمعنى مستوين. يعنى : أنهم مستوون في الشرف وكمال الأخلاق ، ولو لا مقام المدح لكان من قبيل التوجيه ، لاحتماله لوجه الذم أيضا. وأما إن قرئ بالكسر والتشديد ، فهو منسوب السواس وهو التمرين على حسن السير ، يعنى أن جميعهم رؤساء ، ولكن الأول أوجه. ومنه الحديث : «الناس سواسية لا فضل لعربي على عجمى إلا بالتقوى» كما في ترجمة شرح القاموس.

(١) أخرجه الطبري وابن مردويه بهذا وأتم منه. وهو عند الترمذي والنسائي والحاكم وأحمد وابن أبى شيبة والبزار كلهم من رواية أبى خالد الأحمر عن داود بن أبى هند عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما. قلت : وأصله في صحيح البخاري.

(٢) أخرجه البخاري والنسائي من رواية معمر عن عبد الكريم الحريري عن عكرمة عن ابن عباس به. وهو الذي قبله من قول ابن عباس رضى الله عنهما.

(٣) أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة بلفظ «وهو ساجد».

(٤) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بأسانيدهم إلى أبى بن كعب.

٧٧٩

سورة القدر

مكية ، وقيل مدنية ، وآياتها ٥ [نزلت بعد عبس]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)(٥)

عظم القرآن من ثلاثة أوجه : أحدها : أن أسند إنزاله إليه وجعله مختصا به دون غيره: والثاني. أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه ، والثالث : الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه. روى أنه أنزل جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا. وأملاه جبريل على السفرة ، ثم كان ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوما في ثلاث وعشرين سنة. وعن الشعبي : المعنى إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر واختلفوا في وقتها فأكثرهم على أنها في شهر رمضان في العشر الأواخر في أوتارها ، وأكثر القول أنها السابعة منها ، ولعل الداعي إلى إخفائها أن يحيى من يريدها الليالي الكثيرة : طلبا لموافقتها ، فتكثر عبادته ويتضاعف ثوابه ، وأن لا يتكل الناس عند إظهارها على إصابة الفضل فيها فيفرطوا في غيرها. ومعنى ليلة القدر : ليلة تقدير الأمور وقضائها ، من قوله تعالى (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) وقيل سميت بذلك لخطرها وشرفها على سائر الليالي (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) يعنى : ولم تبلغ درايتك غاية فضلها ومنتهى علو قدرها ، ثم بين ذلك بأنها خير من ألف شهر ، وسبب ارتقاء فضلها إلى هذه الغاية ما يوجد فيها من المصالح الدينية التي ذكرها : من تنزل الملائكة والروح ، وفصل كل أمر حكيم ، وذكر في تخصيص هذه المدّة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بنى إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر ، فعجب المؤمنون من ذلك ، وتقاصرت إليهم أعمالهم ، فأعطوا ليلة هي خير من مدّة ذلك الغازي (١). وقيل : إنّ الرجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتى يعبد الله ألف شهر ، فأعطوا

__________________

(١) أخرجه ابن أبى حاتم وغيره من طريق ابن خالد عن ابن أبى نجيح عن مجاهد به مرسلا دون قوله «وتقاصرت إليهم أعمالهم».

٧٨٠