الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

لأنها تمام المعنى ، وهي عن ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب : لعل ناسا منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ، ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله ، فنهوا عن هذه الواسطة ، وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله تعالى خالصا ، إن كانوا إياه يعبدون وكانوا موحدين غير مشركين (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) ولم يمتثلوا ما أمروا به وأبوا إلا الواسطة ، فدعهم وشأنهم فإنّ الله عز سلطانه لا يعدم عابدا ولا ساجدا بالإخلاص ، وله العباد المقربون الذين ينزهونه بالليل والنهار عن الأنداد ، وقوله (عِنْدَ رَبِّكَ) عبارة عن الزلفى والمكانة والكرامة. وقرئ : لا يسأمون ، بكسر الياء.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٣٩)

الخشوع : التذلل والتقاصر ، فاستعير لحال الأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها ، كما وصفها بالهمود في قوله تعالى (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) وهو خلاف وصفها بالاهتزاز والربق وهو الانتفاخ : إذا أخصبت وتزخرفت بالنبات كأنها بمنزلة المختال في زيه ، وهي قبل ذلك كالذليل الكاسف البال في الأطمار الرثة (١). وقرئ : وربأت ، أى ارتفعت لأن النبت إذا همّ أن يظهر : ارتفعت له الأرض.

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٤٠)

يقال : ألحد الحافر ولحد ، إذا مال عن الاستقامة ، فحفر في شق ، فاستعير للانحراف في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة. وقرئ : يلحدون ويلحدون ، على اللغتين. وقوله (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) وعيد لهم على التحريف.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(٤٢)

فإن قلت : بم اتصل قوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ)؟ قلت : هو بدل من قوله (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) والذكر : القرآن ، لأنهم لكفرهم به طعنوا فيه وحرّفوا تأويله (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) أى منيع محمى بحماية الله تعالى (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ

__________________

(١) قوله «في الأطمار الرثة» في الصحاح «الطمر» الثوب الخرق ، والجمع : الأطمار. (ع)

٢٠١

خَلْفِهِ) مثل كأن الباطل لا يتطرّق إليه ولا يجد إليه سبيلا من جهة من الجهات حتى يصل إليه ويتعلق به. فإن قلت : أما طعن فيه الطاعنون ، وتأوّله المبطلون؟ قلت : بلى ، ولكن الله قد تقدّم في حمايته عن تعلق الباطل به : بأن قيض قوما عارضوهم بإبطال تأويلهم وإفساد أقاويلهم ، فلم يخلوا طعن طاعن إلا ممحوقا ، ولا قول مبطل إلا مضمحلا. ونحوه قوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

(ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ)(٤٣)

ما يقال لك أى : ما يقول لك كفار قومك إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب المنزلة (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) ورحمة لأنبيائه (وَذُو عِقابٍ) لأعدائهم. ويجوز أن يكون : ما يقول لك الله إلا مثل ما قال للرسل من قبلك ، والمقول : هو قوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) فمن حقه أن يرجوه أهل طاعته ويخافه أهل معصيته ، والغرض : تخويف العصاة.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ)(٤٤)

كانوا لتعنتهم يقولون : هلا نزل القرآن بلغة العجم «فقيل : لو كان كما يقترحون لم يتركوا الاعتراض والتعنت وقالوا (لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) أى بينت ولخصت بلسان نفقهه (ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) الهمزة همزة الإنكار ، يعنى : لأنكروا وقالوا : أقرآن أعجمى ورسول عربى ، أو مرسل إليه عربى ، وقرئ : أعجمى ، والأعجمى : الذي لا يفصح ولا يفهم كلامه من أى جنس كان ، والعجمي : منسوب إلى أمّة العجم. وفي قراءة الحسن : أعجمى بغير همزة الاستفهام على الإخبار بأن القرآن أعجمى ، والمرسل أو المرسل إليه عربى. والمعنى : أنّ آيات الله على أى طريقة جاءتهم وجدوا فيها متعنتا ، لأنّ القوم غير طالبين للحق وإنما يتبعون أهواءهم. ويجوز في قراءة الحسن : هلا فصلت آياته تفصيلا ، فجعل بعضها بيانا للعجم ، وبعضها بيانا للعرب. فإن قلت : كيف يصح أن يراد بالعربي المرسل إليهم وهم أمّة العرب؟ قلت : هو على ما يجب أن يقع في إنكار المنكر لو رأى كتابا أعجميا كتب إلى قوم من العرب يقول : كتاب أعجمى ومكتوب

٢٠٢

إليه عربى ، وذلك لأن مبنى الإنكار على تنافر حالتي الكتاب والمكتوب إليه ، لا على أن المكتوب إليه واحد أو جماعة ، فوجب أن يجرّد لما سيق إليه من الغرض ، ولا يوصل به ما يخل غرضا آخر. ألا تراك تقول ـ وقد رأيت لباسا طويلا على امرأة قصيرة : ـ اللباس طويل واللابس قصير. ولو قلت : واللابسة قصيرة ، جئت بما هو لكنة وفضول قول ، لأنّ الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته ، إنما وقع في غرض وراءهما (هُوَ) أى القرآن (هُدىً وَشِفاءٌ) إرشاد إلى الحق وشفاء (لِما فِي الصُّدُورِ) من الظن والشك. فإن قلت : (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) منقطع عن ذكر القرآن ، فما وجه اتصاله به؟ قلت : لا يخلو إما أن يكون (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) في موضع الجر معطوفا على قوله تعالى (لِلَّذِينَ آمَنُوا) على معنى قولك : هو للذين آمنوا هدى وشفاء ، وهو للذين لا يؤمنون في آذانهم وقر ، إلا أنّ فيه عطفا على عاملين وإن كان الأخفش يجيزه. وإمّا أن يكون مرفوعا على تقدير : والذين لا يؤمنون هو في آذانهم وقر (١) على حذف المبتدإ. أو في آذانهم منه وقر. وقرئ : وهو عليهم عم. وعمى ، كقوله تعالى (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ). (يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) يعنى : أنهم لا يقبلونه ولا يرعونه أسماعهم ، فمثلهم في ذلك مثل من يصيح به من مسافة شاطة لا يسمع من مثلها الصوت فلا يسمع النداء.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)(٤٥)

(فَاخْتُلِفَ فِيهِ) فقال بعضهم : هو حق ، وقال بعضهم : هو باطل. والكلمة السابقة : هي العدة بالقيامة ، وأنّ الخصومات تفصل في ذلك اليوم ، ولو لا ذلك لقضى بينهم في الدنيا. قال الله تعالى (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)(٤٦)

(فَلِنَفْسِهِ) فنفسه نفع (فَعَلَيْها) فنفسه ضرّ (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ) فيعذب غير المسيء.

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ

__________________

(١) أجاز الزمخشري في الواو في هذه الآية وجهين ، أحدهما : أن تكون الواو لعطف الذين على الذين ، ووقر على هدى وشفاء ، ويكون من العطف على عاملين. قال : وإما أن يكون (الَّذِينَ) مرفوعا على تقدير : والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر ، على حذف المبتدإ. أو في آذانهم منه وقر اه قال أحمد : أى وبتقدير الرابط يستغنى عن تقدير المبتدإ.

.

٢٠٣

أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ)(٤٨)

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) أى إذا سئل عنها قيل : الله يعلم. أو لا يعلمها إلا الله. وقرئ : من ثمرات من أكمامهن (١). والكم ـ بكسر الكاف وعاء الثمرة ، كجف الطلعة ، أى : وما يحدث شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع واضع إلا وهو عالم به ، يعلم عدد أيام الحمل وساعاته وأحواله : من الخداج (٢) والتمام ، والذكورة والأنوثة ، والحسن والقبح وغير ذلك (أَيْنَ شُرَكائِي) أضافهم إليه تعالى على زعمهم ، وبيانه في قوله تعالى (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) وفيه تهكم وتقريع (آذَنَّاكَ) أعلمناك (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) أى ما منا أحد اليوم ـ وقد أبصرنا وسمعنا ـ يشهد بأنهم شركاؤك ، أى : ما منا إلا من هو موحد لك : أو ما منا من أحد يشاهدهم ، لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم ، لا يبصرونها في ساعة التوبيخ وقيل : هو كلام الشركاء ، أى : ما منا من شهيد يشهد بما أضافوا إلينا من الشركة. ومعنى ضلالهم عنهم على هذا التفسير : أنهم لا ينفعونهم ، فكأنهم ضلوا عنهم (وَظَنُّوا) وأيقنوا. والمحيص : المهرب. فإن قلت : (آذَنَّاكَ) إخبار بإيذان كان منهم ، فإذ قد آذنوا فلم سئلوا؟ قلت : يجوز أن يعاد عليهم (أَيْنَ شُرَكائِي)؟ إعادة للتوبيخ ، وإعادته في القرآن على سبيل الحكاية : دليل على إعادة المحكي. ويجوز أن يكون المعنى : أنك علمت من قلوبنا وعقائدنا الآن أنا لا نشهد تلك الشهادة الباطلة ، لأنه إذا علمه من نفوسهم فكأنهم أعلموه. ويجوز أن يكون إنشاء للإيذان ولا يكون إخبارا بإيذان قد كان ، كما تقول : أعلم الملك أنه كان من الأمر كيت وكيت.

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ)(٥٠)

__________________

(١) قوله «وقرئ من ثمرات من أكمامهن» يفيد أن القراءة المشهورة : من ثمرة من أكمامها. والذي في النسفي : من ثمرات من أكمامها. ومن ثمرة من أكمامها. وأما : من ثمرات من أكمامهن. فهي المزيدة هنا ، فحرر. (ع)

(٢) قوله «من الخداج» أى النقصان ، كما في الصحاح. (ع)

٢٠٤

(مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) من طلب السعة في المال والنعمة. وقرأ ابن مسعود : من دعاء بالخير (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ) أى الضيقة والفقر (فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) بولغ فيه من طريقين : من طريق بناء فعول ، ومن طريق التكرير والقنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر ، أى : يقطع الرجاء من فضل الله وروحه ، وهذه صفة الكافر بدليل قوله تعالى (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) وإذا فرجنا عنه بصحة بعد مرض أو سعة بعد ضيق قال (هذا لِي) أى هذا حقي وصل إلىّ ، لأنى استوجبته بما عندي من خير وفضل وأعمال برّ. أو هذا لي لا يزول عنى ، ونحوه قوله تعالى (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ) ونحوه قوله تعالى (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً)(إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) يريد : وما أظنها تكون ، فإن كانت على طريق التوهم (إِنَّ لِي) عند الله الحالة الحسنى من للكرامة والنعمة ، قائسا أمر الاخرة على أمر الدنيا. وعن بعضهم : للكافر أمنيتان ، يقول في الدنيا : ولئن رجعت إلى ربى إنّ لي عنده للحسنى. ويقول في الآخرة : يا ليتني كنت ترابا. وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة. فلنخبرنهم بحقيقة ما عملوا من الأعمال الموجبة للعذاب. ولنبصرنهم عكس ما اعتقدوا فيها أنهم يستوجبون عليها كرامة وقربة عند الله (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) وذلك أنهم كانوا ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلبا للافتخار والاستكبار لا غير ، وكانوا يحسبون أنّ ما هم عليه سبب الغنى والصحة ، وأنهم محقوقون بذلك.

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ)(٥١)

هذا أيضا ضرب آخر من طغيان الإنسان إذا أصابه الله بنعمة أبطرته النعمة ، وكأنه لم يلق بؤسا قط فنسي المنعم وأعرض عن شكره (وَنَأى بِجانِبِهِ) أى ذهب بنفسه وتكبر وتعظم. وإن مسه الضرّ والفقر : أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع. وقد استعير العرض لكثرة الدعاء ودوامه وهو من صفة الأجرام ، ويستعار له الطول أيضا كما استعير الغلظ بشدّة العذاب. وقرئ : ونأى بجانبه ، بإمالة الألف وكسر النون للإتباع. وناء على القلب ، كما قالوا : راء في رأى. فإن قلت : حقق لي معنى قوله تعالى (وَنَأى بِجانِبِهِ) قلت : فيه وجهان : أن يوضع جانبه موضع نفسه كما ذكرنا في قوله تعالى (عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) أن مكان الشيء وجهته ينزل منزلة الشيء نفسه ، ومنه قوله :

 ......... ونفيت عنه

مقام الذئب ...... (١) ..

__________________

(١) وماء قد وردت لأجل أروى

عليه الطير كالورق اللجين

ذعرت به القطا ونفيت عنه

مقام الذيب كالرجل اللعين

٢٠٥

يريد : ونفيت عنه الذئب. ومنه : ولمن خاف مقام ربه. ومنه قول الكتاب : حضرت فلان ومجلسه ، وكتبت إلى جهته وإلى جانبه العزيز ، يريدون نفسه وذاته ، فكأنه قال : ونأى بنفسه ، كقولهم في المتكبر : ذهب بنفسه ، وذهبت به الخيلاء كل مذهب ، وعصفت به الخيلاء ، وأن يراد بجانبه : عطفه ، ويكون عبارة عن الانحراف والازورار ، كما قالوا : ثنى عطفه ، وتولى بركنه.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) (٥٢)

(أَرَأَيْتُمْ) أخبرونى (إِنْ كانَ) القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ) يعنى أن ما أنتم عليه من إنكار القرآن وتكذيبه ليس بأمر صادر عن حجة قاطعة حصلتم منها على اليقين وثلج الصدور ، وإنما هو قبل النظر واتباع الدليل أمر محتمل ، يجوز أن يكون من عند الله وأن لا يكون من عنده ، وأنتم لم تنظروا ولم تفحصوا ، فما أنكرتم أن يكون حقا وقد كفرتم به ، فأخبرونى من أضلّ منكم وأنتم أبعدتم الشوط في مشاقته ومناصبته ولعله حق فأهلكتم أنفسكم؟ وقوله تعالى (مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) موضوع موضع منكم ، بيانا لحالهم وصفتهم.

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)(٥٤)

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) يعنى ما يسر الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم وللخلفاء من بعده ونصار دينه في آفاق الدنيا وبلاد المشرق والمغرب عموما وفي باحة العرب (١)

__________________

ـ للشماخ : وأروى ، اسم محبوبته. واللجين ـ بفتح اللام وكسر الجيم ـ : ما يتساقط من الورق من اللجن وهو الدق ، لأنه يضربه الهوى أو الراعي ، فيسقط من الشجر. وذعرت ـ بفتحتين» أى : أخفت فيه القطا ، وخصها لأنها أسبق الطير إلى الماء. ومقام الذيب : إقامته أو محلها ، وعبر به كناية عن ذاته ، وخصه لأن غالب وروده الماء ليلا. والرجل اللعين : هو الصورة التي تنصب وسط الزرع على شكل الرجل تطرد عنه الهوام ، يقول : ورب ماء قد وردته لأجل محبوبتى ، عسى أن تجيء عنده فأراها. ويروى : لوصل أروى ، فلعله كان موعدا بينهما. وشبه الطير حول الماء بورق الشجر المتساقط في الكدرة والكثرة والانتشار ، وهذا يدل على أنه لا يكثر وروده ، فيصلح موعدا للوصل. وذعرت ـ إلى آخره : كناية عن وروده ليلا ، وكالرجل اللعين : حال من ضمير الشاعر ، فيفيد أنه سبق القطا والذيب وقعد هناك ، أو حال من الذيب ، أى : على هيئة مفزعة. وفيه دليل على شجاعة الشاعر وجرأته

(١) قوله «وفي باحة العرب» أى ساحتهم. أفاده الصحاح. (ع)

٢٠٦

خصوصا : من الفتوح التي لم يتيسر أمثالها لأحد من خلفاء الأرض قبلهم ، ومن الإظهار على الجبابرة والأكاسرة ، وتغليب قليلهم على كثيرهم ، وتسليط ضعافهم على أقويائهم ، وإجرائه على أيديهم أمورا خارجة من المعهود خارقة للعادات ، ؛ ونشر دعوة الإسلام في أقطار المعمورة ، وبسط دولته في أقاصيها ، والاستقراء يطلعك في التواريخ والكتب المدوّنة في مشاهد أهله وأيامهم : على عجائب لا ترى وقعة من وقائعهم إلا علما من أعلام الله وآية من آياته ، يقوى معها اليقين ، ويزداد بها الإيمان ، ويتبين أن دين الإسلام هو دين الحق الذي لا يحيد عنه إلا مكابر حسه مغالط نفسه ، وما الثبات والاستقامة إلا صفة الحق والصدق ، كما أن الاضطراب والتزلزل صفة الفرية والزور ، وأن للباطل ريحا تخفق ثم تسكن ، ودولة تظهر ثم تضمحل (بِرَبِّكَ) في موضع الرفع على أنه فاعل كفى. و (أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) بدل منه ، تقديره. أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد. ومعناه : أن هذا الموعود من إظهار آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم سيرونه ويشاهدونه ، فيتبينون عند ذلك أن القرآن تنزيل عالم الغيب الذي هو على كل شيء شهيد ، أى : مطلع مهيمن يستوي عنده غيبه وشهادته ، فيكفيهم ذلك دليلا على أنه حق وأنه من عنده ، ولو لم يكن كذلك لما قوى هذه القوة ولما نصر حاملوه هذه النصرة. وقرئ : في مرية ، بالضم وهي الشك (مُحِيطٌ) عالم يجمل الأشياء وتفاصيلها وظواهرها وبواطنها ، فلا تخفى عليه خافية منهم ، وهو مجازيهم على كفرهم ومريتهم في لقاء ربهم. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة السجدة أعطاه الله بكل حرف عشر حسنات» (١).

__________________

(١) أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى.

٢٠٧

سورة الشورى

مكية [إلا الآيات ٢٣ و ٢٤ و ٢٥ و ٢٧ فمدنية]

وآياتها ٥٣ [نزلت بعد سورة فصلت]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)(٤)

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(٥)

قرأ ابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهما : حم سق (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ) أى مثل ذلك الوحى. أو مثل ذلك الوحى. أو مثل ذلك الكتاب يوحى إليك وإلى الرسل (مِنْ قَبْلِكَ اللهُ) يعنى أن ما تضمنته هذه السورة من المعاني قد أوحى الله إليك مثله في غيرها من السور ، وأوحاه من قبلك إلى رسله ، على معنى : أن الله تعالى كرر هذه المعاني في القرآن في جميع الكتب السماوية ، لما فيها من التنبيه البليغ واللطف العظيم لعباده من الأوّلين والآخرين ، ولم يقل : أوحى إليك ، ولكن على لفظ المضارع ، ليدل على أن إيحاء مثله عادته. وقرئ : يوحى إليك ، على البناء للمفعول. فإن قلت : فما رافع اسم الله على هذه القراءة؟ قلت : ما دلّ عليه يوحى ، كأن قائلا قال : من الموحى؟ فقيل : الله ، كقراءة السلمى : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم على البناء للمفعول ورفع شركائهم ، على معنى : زينه لهم شركاؤهم. فإن قلت : فما رافعه فيمن قرأ نوحى بالنون؟ قلت : يرتفع بالابتداء. والعزيز وما بعده : أخبار ، أو العزيز الحكيم : صفتان ، والظرف خبر. قرئ : تكاد ، بالتاء والياء. وينفطرن ، ويتفطرن. وروى يونس عن أبى عمرو قراءة غريبة : تتفطرن بتاءين مع النون ، ونظيرها حرف نادر ، روى في نوادر ابن الأعرابى : الإبل تشممن. ومعناه : يكدن ينفطرن من علو شأن الله وعظمته ، يدل عليه مجيئه بعد العلى العظيم. وقيل : من دعائهم له ولدا ، كقوله تعالى (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْه).

٢٠٨

فإن قلت : لم قال (مِنْ فَوْقِهِنَ)؟ قلت : لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة : فوق السماوات ، وهي : العرش ، والكرسي ، وصفوف الملائكة المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش ، وما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى من آثار ملكوته العظمى ، فلذلك قال (يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) أى يبتدئ الانفطار من جهتهنّ الفوقانية. أو : لأن كلمة الكفر جاءت من الذين تحت السماوات ، فكان القياس أن يقال : ينفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة ، ولكنه بولغ في ذلك ، فجعلت مؤثرة في جهة الفوق ، كأنه قيل : يكدن ينفطرن من الجهة التي فوقهن دع الجهة التي تحتهنّ ، ونظيره في المبالغة قوله عزّ وعلا (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ) فجعل الحميم مؤثرا في أجزائهم الباطنة. وقيل : من فوقهنّ : من فوق الأرضين. فإن قلت : كيف صح أن يستغفروا لمن في الأرض وفيهم الكفار أعداء الله؟ وقد قال الله تعالى (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ) فكيف يكونون لاعنين مستغفرين لهم؟ قلت : قوله (لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) يدل على جنس أهل الأرض ، وهذه الجنسية قائمة في كلهم وفي بعضهم ، فيجوز أن يراد به هذا وهذا. وقد دل الدليل على أن الملائكة لا يستغفرون إلا لأولياء الله وهم المؤمنون ، فما أراد الله إلا إياهم. ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة المؤمن (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) وحكايته عنهم (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) كيف وصفوا المستغفر لهم بما يستوجب به الاستغفار فما تركوا للذين لم يتوبوا من المصدقين طمعا في استغفارهم ، فكيف للكفرة. ويحتمل أن يقصدوا بالاستغفار : طلب الحلم والغفران في قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) إلى أن قال (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) وقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) والمراد : الحلم عنهم وأن لا يعاجلهم بالانتقام فيكون عاما. فإن قلت : قد فسرت قوله تعالى (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) بتفسيرين ، فما وجه طباق ما بعده لهما؟ قلت : أما على أحدهما فكأنه قيل : تكاد السماوات ينفط في هيبة من جلاله واحتشاما من كبريائه ، والملائكة الذين هم ملء السبع الطباق وحافون حول العرش صفوفا بعد صفوف يداومون ـ خضوعا لعظمته ـ على عبادته وتسبيحه وتحميده ، ويستغفرون لمن في الأرض خوفا عليهم من سطواته. وأما على الثاني فكأنه قيل : يكدن ينفطرن من إقدام أهل الشرك على تلك الكلمة الشنعاء ، والملائكة يوحدون الله وينزهونه عما لا يجوز عليه من الصفات التي يضيفها إليه الجاهلون به ، حامدين له على ما أولاهم من ألطافه التي علم أنهم عندها يستعصمون ، مختارين غير ملجئين ، ويستغفرون لمؤمنى أهل الأرض الذين تبرؤا من تلك الكلمة ومن أهلها. أو يطلبون إلى ربهم أن يحلم عن أهل الأرض ولا يعاجلهم بالعقاب مع وجود ذلك فيهم ، لما عرفوا في ذلك من المصالح ، وحرصا على نجاة الخلق ، وطمعا في توبة الكفار والفساق منهم.

٢٠٩

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)(٦)

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) جعلوا له شركاء وأندادا (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) رقيب على أحوالهم وأعمالهم لا يفوته منها شيء ، وهو محاسبهم عليها ومعاقبهم ، لا رقيب عليهم إلا هو وحده (وَما أَنْتَ) يا محمد بموكل بهم ولا مفوض إليك أمرهم ولا قسرهم على الإيمان ، إنما أنت منذر فحسب.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)(٧)

ومثل ذلك (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) وذلك إشارة إلى معنى الآية قبلها : من أنّ الله تعالى هو الرقيب عليهم ، وما أنت برقيب عليهم ، ولكن نذير لهم ، لأنّ هذا المعنى كرره الله في كتابه في مواضع جمة ، والكاف مفعول به لأوحينا. و (قُرْآناً عَرَبِيًّا) حال من المفعول به ، أى أوحيناه إليك وهو قرآن عربى بين ، لا لبس فيه عليك ، لتفهم ما يقال لك ، ولا تتجاوز حدّ الإنذار. ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى مصدر أوحينا ، أى : ومثل ذلك الإيحاء البين المفهم أوحينا إليك قرآنا عربيا بلسانك (لِتُنْذِرَ) يقال أنذرته كذا وأنذرته بكذا. وقد عدى الأوّل ، أعنى : لتنذر أمّ القرى إلى المفعول الأوّل والثاني ، وهو قوله وتنذر يوم الجمع إلى المفعول الثاني (أُمَّ الْقُرى) أهل أمّ القرى ، كقوله تعالى (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ). (وَمَنْ حَوْلَها) من العرب. وقرئ : لينذر بالياء والفعل للقرآن (يَوْمَ الْجَمْعِ) يوم القيامة ، لأنّ الخلائق تجمع فيه. قال الله تعالى (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) وقيل : يجمع بين الأرواح والأجساد. وقيل : يجمع بين كل عامل وعمله. و (لا رَيْبَ فِيهِ) اعتراض لا محل له (١). قرئ : فريق وفريق ، بالرفع والنصب ، فالرفع على : منهم فريق ، ومنهم فريق. والضمير للمجموعين ، لأن المعنى : يوم جمع الخلائق. والنصب على الحال منهم ، أى : متفرّقين ، كقوله تعالى (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ). فإن قلت : كيف يكونون مجموعين متفرّقين في حالة واحدة؟ قلت : هم مجموعون في ذلك اليوم ، مع افتراقهم في دارى البؤس والنعيم ، كما يجتمع الناس يوم الجمعة متفرّقين في مسجدين. وإن أريد بالجمع : جمعهم في الموقف ، فالتفرّق على معنى مشارفتهم للتفرّق.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(٨)

__________________

(١) قوله «لا محل له» لعله. لا محل له من الاعراب. (ع)

٢١٠

(لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أى مؤمنين كلهم على القسر والإكراه ، كقوله تعالى (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) وقوله تعالى (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) والدليل على أنّ المعنى هو الإلجاء إلى الإيمان : قوله (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وقوله تعالى (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ) بإدخال همزة الإنكار على المكره دون فعله. دليل على أنّ الله وحده هو القادر على هذا الإكراه دون غيره. والمعنى : ولو شاء ربك مشيئة قدرة لقسرهم جميعا على الإيمان (١) ، ولكنه شاء مشيئة حكمة ، فكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون ، ليدخل المؤمنين في رحمته وهم المرادون بمن يشاء. ألا ترى إلى وضعهم في مقابلة الظالمين ويترك الظالمين بغير ولى ولا نصير في عذابه.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٩)

معنى الهمزة في (أَمِ) الإنكار (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) هو الذي يجب أن يتولى وحده ويعتقد أنه المولى والسيد ، فالفاء في قوله (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) جواب شرط مقدّر ، كأنه قيل بعد إنكار كل ولى سواه : إن أرادوا وليا بحق ، فالله هو الولي بالحق ، لا ولىّ سواه (وَهُوَ يُحْيِ) أى : ومن شأن هذا الولي أنه يحيى (الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو الحقيق بأن يتخذ وليا دون من لا يقدر على شيء.

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)(١٠)

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين. أى : ما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين ، فاختلفتم أنتم وهم فيه من أمر من أمور الدين ، فحكم ذلك المختلف فيه مفوّض إلى الله تعالى ، وهو إثابة المحقين فيه من المؤمنين ومعاقبة المبطلين (ذلِكُمُ) الحاكم بينكم هو (اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في ردّ كيد أعداء الدين (وَإِلَيْهِ)

__________________

(١) قوله «لقسرهم جميعا على الإيمان» هذا عند المعتزلة : أما عند أهل السنة ، فالارادة تستلزم وجود المراد ، لكن لا تستلزم القسر والجبر للعباد ، لأنها لا تنافى الاختيار ، لما لهم في أعمالهم من الكسب. وإن كانت مخلوقة له تعالى. وأما التي لا تستلزم المراد وهي التي سماها مشيئة الحكمة ، فهي التي بمعنى الأمر عند المعتزلة ، ولا يثبتها أهل السنة ، كما تقرر في التوحيد ، فمعنى الآية : ولو شاء ربك إيمان الكل لآمن الكل ، ولكن شاء إيمان البعض ، فآمن من شاء إيمانه. (ع)

٢١١

أرجع في كفاية شرهم. وقيل : وما اختلفتم فيه وتنازعتم من شيء من الخصومات فتحاكموا فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تؤثروا على حكومته حكومته غيره ، كقوله تعالى (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) وقيل : وما اختلفتم فيه من تأويل آية واشتبه عليكم ، فارجعوا في بيانه إلى المحكم من كتاب الله والظاهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل : وما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بتكليفكم ولا طريق لكم إلى علمه ، فقولوا : الله أعلم ، كمعرفة الروح. قال الله تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) : فإن قلت : هل يجوز حمله على اختلاف المجتهدين في أحكام الشريعة؟ قلت : لا ، لأنّ الاجتهاد لا يجوز بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(١١)

(فاطِرُ السَّماواتِ) قرئ بالرفع والجر ، فالرفع على أنه أحد أخبار ذلكم. أو خبر مبتدإ محذوف ، والجرّ على : فحكمه إلى الله فاطر السماوات ، و (ذلِكُمُ) إلى (أُنِيبُ) اعتراض بين الصفة والموصوف (جَعَلَ لَكُمْ) خلق لكم (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) من جنسكم من الناس (أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) أى : خلق من الأنعام أزواجا. ومعناه : وخلق للأنعام أيضا من أنفسها أزواجا (يَذْرَؤُكُمْ) يكثركم ، يقال : ذرأ الله الخلق : بثهم وكثرهم. والذر ، والذرو ، والذرء : أخوات (فِيهِ) في هذا التدبير ، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجا ، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل. والضمير في (يَذْرَؤُكُمْ) يرجع إلى المخاطبين والأنعام ، مغلبا فيه المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل ، وهي من الأحكام ذات العلتين (١). فإن قلت : ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير؟ وهلا قيل : يذرؤكم به؟ قلت : جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير ، ألا تراك تقول. للحيوان في خلق الأزواج تكثير ، كما قال تعالى (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) قالوا : مثلك لا يبخل ، فنفوا البخل عن مثله ، وهم يريدون نفيه عن ذاته ، قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية ، لأنهم إذا نفوه عمن يسدّ مسدّه وعمن هو على أخص أوصافه ، فقد نفوه عنه. ونظيره قولك للعربي : العرب لا تخفر الذمم : كان أبلغ (٢) من قولك :

__________________

(١) قال محمود : «إن الضمير المتصل بيذرؤ عائد على الأنفس وعلى الأنعام مغلبا فيه المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل ، وهي من الأحكام ذات العلتين» قال أحمد : الصحيح أنهما حكمان متباينان غير متداخلين ، أحدهما : مجيئه على نعت ضمير العقلاء أعم من كونه مخاطبا أو غائبا. والثاني : مجيئه بعد ذلك على نعت الخطاب ، فالأول لتغليب العقل. والثاني لتغليب الخطاب.

(٢) قوله «لا تخفر الذمم كان أبلغ» في الصحاح : أخفرته ، إذا نقضت عهده وغدرت به. وفيه : «أيقع ـ

٢١٢

أنت لا تخفر. ومنه قولهم : قد أيفعت لداته وبلغت أترابه ، يريدون : إيفاعه وبلوغه. وفي حديث رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب : «ألا وفيهم الطيب الطاهر (١) لداته» والقصد إلى طهارته وطيبه ، فإذا علم أنه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله : ليس كالله شيء ، وبين قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها ، وكأنهما عبارتان معتقبتان على معنى واحد : وهو نفى المماثلة عن ذاته ، ونحوه قوله عز وجل (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) فإنّ معناه : بل هو جواد من غير تصوّر يد ولا بسط لها : لأنها وقعت عبارة عن الجود لا يقصدون شيئا آخر ، حتى أنهم استعملوا فيمن لا يد له ، فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل ومن لا مثل (٢) له ، ولك أن تزعم أنّ كلمة التشبيه كرّرت للتأكيد ، كما كرّرها من قال :

وصاليات ككما يؤثفين (٣)

__________________

ـ الغلام» أى : ارتفع : وهو يافع ، ولا تقول : موقع. وقوله «كان أبلغ» لعل تقديره : فان قلت له ذلك كان أبلغ. (ع)

(١) قال محمود : «تقول العرب : مثلك لا يبخل ، فينفون البخل عن مثله ، والمراد نفسه. ونظيره قولك للعربي : العرب لا تخفر الذمم. ومنه قولهم : قد أيفعت لداته وبلغت أترابه. وفي حديث رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب : ألا وفيهم الطيب الطاهر لداته ، تريد طهارته وطيبه ، فإذا علم أنه من باب الكناية : لم يكن فرق بين قولك ليس كالله شيء وبين قوله ليس كمثله شيء ، إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها. ونحوه قوله تعالى (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) فان معناه بل هو جواد من غير تصور يد ولا بسط ، لأنها وقعت عبارة عن الجود لا يقصدون بها شيئا آخر ، حتى أنهم يستعملونها فيمن لا يد له ، فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل ، وفيمن لا مثل له ، ثم قال: ولك أن تزعم أن كلمة التشبيه كررت للتأكيد كما كررت في قوله من قال : وصاليات ككما يؤثفين ومن قال : فأصبحت مثل كعصف مأكول انتهى كلامه. قال أحمد : هذا الوجه الثاني مردود على ما فيه من الإخلال بالمعنى ، وذلك أن الذي يليق هنا تأكيد نفى المماثلة ، والكاف على هذا الوجه إنما تؤكد المماثلة وفرق بين تأكيد المماثلة المنفية ، وبين تأكيد نفى المماثلة ، فان نفى المماثلة المهملة عن التأكيد أبلغ وآكد في المعنى من نفى المماثلة المقترنة بالتأكيد ، إذ يلزم من نفى المماثلة الغير المؤكدة نفى كل مماثلة. ولا يلزم من نفى مماثلة محققة متأكدة بالغة نفى مماثلة دونها في التحقيق والتأكيد. وحيث وردت الكاف مؤكدة للمماثلة وردت في الإثبات فأكدته ، فليس النظر في الآية بهذين النظرين مستقيما والله أعلم. ومما يرشد إلى صحة ما ذكرته أن للقائل أن يقول : ليس زيد شبيها بعمرو ، لكن مشبها له ، ولو عكس هذا لم يكن صحيحا ، وما ذاك إلا أنه يلزم من نفى أدنى المشابهة نفى أعلاها ، ولا يلزم من نفى أعلاها نفى أدناها ، فمتى أكد التشبيه قصر عن المبالغة. والوجه الأول الذي ذكره هو الوجه في الآية عنده ، وأتى بمطية الضعف في هذا الوجه الثاني بقوله : ولك أن تزعم ، فافهم.

(٢) رواه ابن عبد الرحمن بن موهب حليف بنى زهرة عن أبيه : حدثني مخرمة بن نوفل بحديث سقيا عبد المطلب لكن ليس فيه الطيب الطاهر لداته ورواه الطبراني وأبو نعيم في الدلائل من حديث عروة بن مصرف عن مخرمة ابن نوفل عن أمه رقيقة بنت أبى صيفي بن هاشم ، وكانت لدة عبد المطلب. قالت «تتابعت على قريش سنون ـ الحديث بطوله» ورويناه في جزء أبى السكين. «تنبيه» وقع رقيقة بنت صيفي والصواب بنت أبى صيفي.

(٣)

لم يبق من آي بها يحلين

غير رماد وعظام كثفين

وغير ود جازل أو ودين

وصاليات ككما يؤثفين

٢١٣

ومن قال :

فأصبحت مثل كعصف مأكول (١)

__________________

لخطام المجاشعي. والآي : واحده آية ، أى : علامة. ويحلين : مضارع مبنى للمجهول ، من حليته تحلية : إذا وصفت حليته وصفته. يقول : لم يبق من آثار هذه الديار علامات فيها تذكر صفتها غير رماد وعظام متكاثفين متراكمين. والكشف ـ بالتحريك ـ : كسبب : المجتمع ، فلعله سكنه للوزن. وروى : غير رماد وخطام كثفين. والخطام : الزمام. ويروى بالمهملة ، وهو ما تحطم وتكسر من الحطب اليابس. والكثف ـ كحمل ـ : وعاء الرعي فكثفين على حذف العاطف. وقيل بدل مما قبله. والأوجه روايته وخطام كثفين بالاضافة ، لأجل موافقة القوافي أى : ورباط وعاءين ، وكرر أداة الاستثناء للتوكيد. والود : أصله وتد ، فقلبت التاء دالا وأدغمت في الأخرى عند تميم شذوذا. والجادل : المنتصب والغليظ ، أى : لم يق غير وتد منتصب بها أو وتدين لا غير ، حيث لم يشك إلا في ذلك. والصاليات صفة للاثافى. وقيل : صفة للنساء الموقدات للنار : وقيل : صفة للخيل الصاليات للحرب كالأثافى الصاليات للنار ، لكنهما لا يناسبان وصف الدار بالخلو. والأثفية : حجر الكانون ، وزنها : أفعولة في الأصل ، وجمعها أثافى. وأثفيت للقدر : وضعت الأثافى لها. وثفيتها تثفية : وضعتها على الأثافى. وقوله : يؤثفين مضارع مبنى للمجهول ، جاء على الأصل مهموزا ، كيؤكر من بالهمزة ، وهذا يدل على أن الصاليات صفة للأحجار الملازمات للنار المحترقات بها ، فلعله شبه النساء بالأثافى لدمامتهن وسوادهن ، بكثرة الدخان وملازمتهن النار. وعليه فالمعنى : ونساء صاليات كالأحجار تثفى وتوضع للقدر ، فما موصولة واقعة على الأحجار لا مصدرية ولا كافة ، وكرر كاف التشبيه للتوكيد ، لكن الثانية اسم بمعنى مثل ، لأن حرف الجر لا يدخل على مثله. ويمكن أنه كرر الحرف من غير إعادة المجرور شذوذا. ويروى بعد قوله وصاليات ... الخ

لا يشتكين عملا ما أنقين

ما دام مخ في سلامى أو عين

وهو يناسب القول بأنها صفة للنساء أو الخيل على التشبيه السابق. والانقاء : كثرة النقي بالكسر وهو المخ. يقال:أنقت الإبل إذا سمنت وكثر مخها ، أى : لا يشتكين عملا مدة إنقائهن وسمنهن ، وفسر ذلك بقوله : ما دام مخ ... الخ والسلاميات : عظام الأصابع وهي والعين آخر ما يبقى فيه المخ. ويروى أيضا هكذا :

أهل عرفت الدار بالغريين

وصاليات ككما يؤثفين

والغريان : بناء ان طويلان ، يقال : هما قبرا مالك وعقيل : نديمى جذيمة الأبرش ، سميا بذلك لأن النعمان كان يغريهما يمن يريد قتله إذا خرج يوم بؤسه. والأشبه أن ذلك من تخليط الراوي ، وأن الصاليات : الأحجار. وقوله «لا يشتكين ... الخ» ليس من هذا الرجز ، فلا ينبغي روايته معه ، وهو الذي من صفة الخيل ، أو أصل النساء لا الصاليات. ويجوز أن الرجز هكذا :

أهل عرفت الدار بالغريين

لم يبق من آي بها يحلين

وأن قوله «لا يشتكين ... الخ» من موضع آخر من ذلك الرجز في صفة الخيل ، كما رواه صاحب الكافي شاهدا على الأكفاء في القافية هكذا :

بنات وطاء على خد الليل

لا يشتكين عملا ما أنقين

لاختلاف حرفى الروى. والوطاء ـ بالضم والتشديد ـ : من الوطء على الأرض. وخد الليل : طريقه الذي لا يسلك إلا فيه. وقال بعضهم : إن هذا في صفة الخيل ، وأنه من مشطور المنسرح الموقوف. وعلى أنه في صفة أجل ، أى : فلك المطايا بنات نوق أو فحول ، وطاء : جمع واطئ أو واطئة ، على خد الليل : كناية عن قوتهن في السير ، حتى كأنهن يغلبن الليل ، فيصر عنه ويطأن على خده ، فهن لا يبالين به.

(١) بالأمس كانت في رخاء مأمول

فأصبحت مثل كعصف مأكول

يروى لرؤية بدله :

٢١٤

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(١٢)

وقرئ : ويقدّره. (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فإذا علم أنّ الغنى خير للعبد أغناه ، وإلا أفقره.

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ)(١٣)

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) دين نوح ومحمد ومن بينهما من الأنبياء ، ثم فسر المشروع الذي اشترك هؤلاء الأعلام من رسله فيه بقوله (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) والمراد : إقامة دين الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته ، والإيمان برسله وكتبه ، وبيوم الجزاء ، وسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلما ، ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسب أحوالها ، فإنها مختلفة متفاوتة. قال الله تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) ومحل (أَنْ أَقِيمُوا) إما نصب بدل من مفعول شرع والمعطوفين عليه ، وإما رفع على الاستئناف ، كأنه قيل : وما ذلك المشروع؟ فقيل : هو إقامة الدين. ونحوه قوله تعالى (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً). (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) عظم عليهم وشق عليهم (ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) من إقامة دين الله والتوحيد (يَجْتَبِي إِلَيْهِ) يجتلب إليه ويجمع. والضمير للدين بالتوفيق والتسديد (مَنْ يَشاءُ) من ينفع فيهم توفيقه ويجرى عليهم لطفا.

(وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)(١٤)

__________________

ولعبت طير بهم أبابيل

فصيروا مثل كعصف مأكول

يقول : بالأمس ، أى : في الزمن الماضي القريب ، كانت تلك الديار مثلا في رخاء ، أى : خصب وسعة من الثروة والغنى ، مأمول ذلك ، أى : متمنى للناس ، وكرر كلمة التشبيه للتوكيد ، والعصف : ما على الحب وعلى ساق الزرع من التين والورق اليابس ، مأكول : أى أصابه الأكال ، وهو الدود. وأكلته الدواب ثم راثته. وأبابيل ، بمعنى جماعات متفرقة ، صفة طير ، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه. وقيل : واحده أبول كعجول. وقيل : إبال كمفتاح. وقيل إبيل كمسكين. وقول رؤية «صيروا» بالتشديد والبناء للمجهول ، ولعل هذا رجز غيره ذاك.

٢١٥

(وَما تَفَرَّقُوا) يعنى أهل الكتاب بعد أنبيائهم (إِلَّا مِنْ بَعْدِ) أن علموا أنّ الفرقة ضلال وفساد ، وأمر متوعد عليه على ألسنة الأنبياء (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) وهي عدة التأخير إلى يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) حين افترقوا لعظم ما اقترفوا (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) وهم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (لَفِي شَكٍ) من كتابهم لا يؤمنون به حق الإيمان. وقيل : كان الناس أمّة واحدة مؤمنين بعد أن أهلك الله أهل الأرض أجمعين بالطوفان ، فلما مات الاباء اختلف الأبناء فيما بينهم ، وذلك حين بعث الله إليهم النبيين مبشرين ومنذرين وجاءهم العلم. وإنما اختلفوا للبغي بينهم. وقيل : وما تفرّق أهل الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كقوله تعالى (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) وإنّ الذين أورثوا الكتاب من من بعدهم هم المشركون : أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل. وقرئ : ورّثوا ، وورثوا.

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)(١٥)

(فَلِذلِكَ) فلأجل التفرق ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعبا (فَادْعُ) إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية القديمة (وَاسْتَقِمْ) عليها وعلى الدعوة إليها كما أمرك الله (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) المختلفة الباطلة بما أنزل الله من كتاب ، أىّ كتاب صحّ أنّ الله أنزله ، يعنى الإيمان بجميع الكتب المنزلة ، لأنّ المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، كقوله تعالى (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) إلى قوله (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا)(لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إلىّ (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) أى لا خصومة ؛ لأنّ الحق قد ظهر وصرتم محجوجين به فلا حاجة إلى المحاجة. ومعناه : لا إيراد حجة بيننا ، لأنّ المتحاجين : يورد هذا حجته وهذا حجته (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) يوم القيامة فيفصل بيننا وينتقم لنا منكم ، وهذه محاجزة ومتاركة بعد ظهور الحق وقيام الحجة والإلزام. فإن قلت : كيف حوجزوا وقد فعل بهم بعد ذلك ما فعل من القتل وتخريب البيوت وقطع النخيل والإجلاء؟ قلت : المراد محاجزتهم في مواقف المقاولة لا المقاتلة.

٢١٦

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ)(١٦)

(يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) يخاصمون في دينه (مِنْ بَعْدِ) ما استجاب له الناس ودخلوا في الإسلام ، ليردّوهم إلى دين الجاهلية ، كقوله تعالى (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً) كان اليهود والنصارى يقولون للمؤمنين : كتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، ونحن خير منكم (١) وأولى بالحق. وقيل : من بعد ما استجاب الله لرسوله ونصره يوم بدر وأظهر دين الإسلام (داحِضَةٌ) باطلة زالة.

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)(١٨)

(أَنْزَلَ الْكِتابَ) أى جنس الكتاب (وَالْمِيزانَ) والعدل والتسوية. ومعنى إنزال العدل ، أنه أنزله في كتبه المنزلة. وقيل : الذي يوزن به. بالحق : ملتبسا بالحق ، مقترنا به ، بعيدا من الباطل أو بالغرض الصحيح كما اقتضته الحكمة. أو بالواجب من التحليل والتحريم وغير ذلك (السَّاعَةَ) في تأويل البعث ، فلذلك قيل (قَرِيبٌ) أو لعل مجيء الساعة قريب. فإن قلت : كيف يوفق ذكر اقتراب الساعة مع إنزال الكتاب والميزان؟ قلت : لأنّ الساعة يوم الحساب ووضع الموازين للقسط ، فكأنه قيل : أمركم الله بالعدل والتسوية والعمل بالشرائع قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه ويزن أعمالكم ، ويوفى لمن أوفى ويطفف لمن طفف. المماراة : الملاجة (٢) لأنّ كل واحد منهما يمرى ما عند صاحبه (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) من الحق : لأنّ قيام الساعة غير مستبعد من قدرة الله ، ولدلالة الكتاب المعجز على أنها آتية لا ريب فيها ، ولشهادة العقول على أنه لا بدّ من دار الجزاء.

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ)(١٩)

(لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) برّ بليغ البرّ بهم ، قد توصل برّه إلى جميعهم ، وتوصل من كل واحد منهم إلى حيث لا يبلغه ، وهم أحد من كلياته وجزئياته. فإن قلت : فما معنى قوله (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ)

__________________

(١) قوله «ونحن خير منكم» لعله : «فنحن» كعبارة النسفي. (ع)

(٢) قوله «الملاجة» بالجيم : التمادي في الخصومة ، ويمرى : أى يستخرج ، كذا في الصحاح. (ع)

٢١٧

بعد توصل برّه إلى جميعهم؟ قلت : كلهم مبرورون لا يخلو أحد من برّه ، إلا أنّ البرّ أصناف ، وله أوصاف. والقسمة بين العباد تتفاوت على حسب تفاوت قضايا الحكمة والتدبير ، فيطير لبعض العباد صنف من البر لم يطر مثله لآخر ، ويصيب هذا حظ له وصف ليس ذلك الوصف لحظ صاحبه ، فمن قسم له منهم ما لا يقسم للآخر فقد رزقه ، وهو الذي أراد بقوله تعالى (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) كما يرزق أحد الأخوين ولدا دون الآخر ، على أنه أصابه بنعمة أخرى لم يرزقها صاحب الولد (وَهُوَ الْقَوِيُ) الباهر القدرة ، الغالب على كل شيء (الْعَزِيزُ) المنيع الذي لا يغلب.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) (٢٠)

سمى ما يعمله العامل مما يبغى به الفائدة والزكاء حرثا على المجاز. وفرق بين عملى العاملين : بأن من عمل للآخرة وفق في عمله وضوعفت حسناته ، ومن كان عمله للدنيا أعطى شيئا منها لا ما بريده ويبتغيه. وهو رزقه الذي قسم له وفرغ منه وماله نصيب قط في الآخرة ، ولم يذكر في معنى عامل الآخرة وله في الدنيا نصيب ، على أن رزقه المقسوم له واصل إليه لا محالة ، للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده من زكاء عمله وفوزه في المآب.

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٢١)

معنى الهمزة في (أَمْ) التقرير والتقريع. وشركاؤهم : شياطينهم الذين زينوا لهم الشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا ، لأنهم لا يعلمون غيرها وهو الدين الذي شرعت لهم الشياطين ، وتعالى الله عن الإذن فيه والأمر به وقيل شركاؤهم : أوثانهم. وإنما أضيفت إليهم لأنهم متخذوها شركاء لله ، فتارة تضاف إليهم لهذه الملابسة. وتارة إلى الله ، ولما كانت سببا لضلالتهم وافتتانهم : جعلت شارعة لدين الكفر ، كما قال إبراهيم صلوات الله عليه (إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ). (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) أى القضاء السابق بتأجيل الجزاء. أى : ولو لا العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أى بين الكافرين والمؤمنين. أو بين المشركين وشركائهم. وقرأ مسلم بن جندب : وأنّ الظالمين ، بالفتح عطفا له على كلمة الفصل ، يعنى : ولو لا كلمة الفصل وتقدير تعذيب الظالمين في الآخرة ، لقضى بينهم في الدنيا.

٢١٨

(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)(٢٣)

(تَرَى الظَّالِمِينَ) في الآخرة (مُشْفِقِينَ) خائفين خوفا شديدا أرق قلوبهم (مِمَّا كَسَبُوا) من السيئات (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) يريد : ووباله واقع بهم وواصل إليهم لا بدّ لهم منه ، أشفقوا أو لم يشفقوا. كأن روضة جنة المؤمن أطيب بقعة فيها وأنزهها (عِنْدَ رَبِّهِمْ) منصوب بالظرف لا بيشاءون قرئ : يبشر ، من بشره. ويبشر من أبشره. ويبشر ، من بشره. والأصل : ذلك الثواب الذي يبشر الله به عباده ، فحذف الجار ، كقوله تعالى (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) ثم حذف الراجع إلى الموصول ، كقوله تعالى (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) أو ذلك التبشير الذي يبشره الله عباده. روى أنه اجتمع المشركون في مجمع لهم فقال بعضهم لبعض : أترون محمدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا؟ فنزلت الآية (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) يجوز أن يكون استثناء متصلا ، أى : لا أسألكم أجرا إلا هذا ، وهو أن تودوا أهل قرابتي ، ولم يكن هذا أجرا في الحقيقة ، لأنّ قرابته قرابتهم ، فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة. ويجوز أن يكون منقطعا ، أى : لا أسألكم أجرا قط ولكنني أسألكم أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم. فإن قلت : هلا قيل : إلا مودّة القربى : أو إلا المودة للقربى. وما معنى قوله (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)؟ قلت : جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها ، كقولك : لي في آل فلان مودّة. ولى فيهم هوى وحب شديد ، تريد : أحبهم وهم مكان حبى ومحله ، وليست (فِي) بصلة للمودّة ، كاللام إذا قلت : إلا المودّة للقربى ، إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك : المال في الكيس. وتقديره : إلا المودّة ثابتة في القربى ومتمكنة (١) فيها. والقربى : مصدر كالزلفى والبشرى ، بمعنى : قرابة. والمراد في أهل القربى. وروى أنها لما نزلت قيل : يا رسول الله ، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت هلا قيل : إلا مودة القربى. أو : إلا المودة للقربى. وأجاب بأنهم جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها ، كقولك : لي في آل فلان هوى وحب شديد ، وليس (فِي) صلة للمودة ، كاللام إذا قلت : إلا المودة للقربى ، وإنما هي متعلقة بمحذوف تقديره : إلا المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها» قال أحمد : وهذا المعنى هو الذي قصد بقوله في الآية التي تقدمت : إن قوله يذرؤكم فيه ، إنما جاء عوضا من قوله : يذرؤكم به ، فافهمه.

٢١٩

مودّتهم؟ قال : «علىّ وفاطمة وابناهما (١)» ويدل عليه ما روى عن على رضى الله عنه : شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حسد الناس لي. فقال «أما ترضى أن تكون رابع أربعة : أوّل من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين ، وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا ، وذريتنا خلف أزواجنا» (٢) وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي. ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غدا إذا لقيني يوم القيامة» (٣) وروى. أنّ الأنصار قالوا : فعلنا وفعلنا ، كأنهم افتخروا ، فقال عباس أو ابن عباس رضى الله عنهما : لنا الفضل عليكم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاهم في مجالسهم فقال : «يا معشر الأنصار ، ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بى»؟ قالوا بلى يا رسول الله. قال : «ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بى»؟ قالوا : بلى يا رسول الله. قال : «أفلا تجيبونني» (٤)؟ قالوا : ما نقول يا رسول الله؟ قال : «ألا تقولون : ألم يخرجك قومك فآويناك ، أو لم يكذبوك فصدقناك ، أو لم يخذلوك فنصرناك» قال : فما زال يقول حتى جثوا على الركب وقالوا : أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله. فنزلت الآية. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من مات على حب آل محمد مات شهيدا (٥) ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفورا له ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائبا ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ، ثم منكر ونكير ، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها ، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة ، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله

__________________

(١) أخرجه الطبراني وابن أبى حاتم والحاكم في مناقب الشافعي من رواية حسين الأشقر عن قيس بن الربيع عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وحسين ضعيف ساقط. وقد عارضه ما هو أولى منه. ففي البخاري من رواية طاوس عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية. فقال سعيد بن جبير قربى آل محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال ابن عباس : عجلت. إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة ـ الحديث» قلت وأخرج سعيد بن منصور من طريق الشعبي قال «أكثروا علينا في هذه الآية. فكتبنا إلى ابن عباس فكتب ـ فذكر نحوه ، وابن طاوس أتم منه.

(٢) أخرجه الكريمي عن ابن عائشة بسنده عن على رضى الله عنه ورواه الطبراني من حديث أبى رافع «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلى «إن أول أربعة يدخلون الجنة ـ فذكره» وسنده واه.

(٣) أخرجه الثعلبي من حديث على رضى الله عنه. وفيه عبد الله بن أحمد بن عامر الطائي عن أبيه. وهو كذاب

(٤) أخرجه الطبري وابن أبى حاتم وابن مردويه والطبراني في الأوسط ، كلهم من حديث ابن عباس. وفيه يزيد بن زياد وهو ضعيف

(٥) أخرجه الثعلبي : أخبرنا عبد الله بن محمد بن على البلخي حدثنا يعقوب بن يوسف بن إسحاق حدثنا محمد بن أسلم حدثنا يعلى بن عبيد عن إسماعيل بن قيس عن جرير ـ بطوله. وآثار الوضع عليه لائحة. ومحمد ومن فوقه أثبات. والآفة فيه ما بين الثعلبي ومحمد.

٢٢٠