الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

وأنه ضامن نصرهم والفتح عليهم. وقيل : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة في منامه ، ورؤيا الأنبياء صلوات الله عليهم وحى ، فتأخر ذلك إلى السنة القابلة ، فجعل فتح خيبر علامة وعنوانا لفتح مكة (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) ويزيدكم بصيرة ويقينا ، وثقة بفضل الله.

(وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً)(٢١)

(وَأُخْرى) معطوفة على هذه ، أى : فعجل لكم هذه المغانم ومغانم أخرى (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) وهي مغانم هوازن في غزوة حنين ، وقال : لم تقدروا عليها لما كان فيها من الجولة (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) أى قدر عليها واستولى وأظهركم عليها وغنمكموها. ويجوز في (أُخْرى) النصب بفعل مضمر ، يفسره (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) تقديره : وقضى الله أخرى قد أحاط بها. وأما (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) فصفة لأخرى ، والرفع على الابتداء لكونها موصوفة بلم تقدروا ، وقد أحاط الله بها : خبر المبتدإ ، والجرّ بإضمار رب. فإن قلت : قوله تعالى (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) كيف موقعه؟ قلت : هو كلام معترض. ومعناه : ولتكون الكفة آية للمؤمنين فعل ذلك. ويجوز أن يكون المعنى : وعدكم المغانم ، فعجل هذه الغنيمة وكف الأعداء لينفعكم بها ، ولتكون آية للمؤمنين إذا وجدوا وعد الله بها صادقا ، لأنّ صدق الإخبار عن الغيوب معجزة وآية ، ويزيدكم بذلك هداية وإيقانا.

(وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً)(٢٣)

(وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة ولم يصالحوا. وقيل : من حلفاء أهل خيبر لغلبوا وانهزموا (سُنَّةَ اللهِ) في موضع المصدر المؤكد ، أى : سن الله غلبة أنبيائه سنه ، وهو قوله تعالى (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي).

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً)(٢٤)

(أَيْدِيَهُمْ) أيدى أهل مكة ، أى : قضى بينهم وبينكم المكافة والمحاجزة بعد ما خولكم الظفر عليهم والغلبة ، وذلك يوم الفتح. وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله ، على أنّ مكة فتحت عنوة لا صلحا. وقيل : كان ذلك في غزوة الحديبية لما روى أنّ عكرمة بن أبى جهل خرج في خمسمائة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من هزمه وأدخله حيطان (١) مكة. وعن ابن

__________________

(١) أخرجه الطبري عن شيخه محمد بن حميد عن يعقوب القمي عن جعفر هو ابن أبى المغيرة عن ابن أبزى.

٣٤١

عباس رضى الله عنه : أظهر الله المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت. وقرئ : تعملون ، بالتاء والياء.

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً)(٢٥)

وقرئ : والهدى ، والهدى : بتخفيف الياء وتشديدها ، وهو ما يهدى إلى الكعبة : بالنصب عطفا على الضمير المنصوب في صدّوكم. أى : صدّوكم وصدّوا الهدى وبالجر عطفا على المسجد الحرام. بمعنى : وصدّوكم عن نحر الهدى (مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) محبوسا عن أن يباع ، وبالرفع على : وصدّ الهدى. ومحله : مكانه الذي يحل فيه نحره ، أى يجب. وهذا دليل لأبى حنيفة على أن المحصر محل هديه الحرم. فإن قلت : فكيف حل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه وإنما نحر هديهم بالحديبية؟ قلت : بعض الحديبية من الحرم (١). وروى أن مضارب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في الحل ، ومصلاه في الحرم (٢). فإن قلت : فإذن قد نحر في الحرم ، فلم قيل : (مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ)؟ قلت : المراد المحل المعهود وهو منى (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) صفة الرجال والنساء جميعا. و (أَنْ تَطَؤُهُمْ) بدل اشتمال منهم أو من الضمير

__________________

ـ قال «لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالهدى وانتهي إلى ذى الحليفة : قال له نمر : يا نبى الله تدخل على حرب قوم حرب لك بغير سلاح ولا كراع. قال : فبعث إلى المدينة فلم يدع فيها كراعا ولا سلاحا إلا حمله. فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل فسار حتى أتى منى فنزل بها. فأتاه عتبة بن عكرمة بن أبى جهل ، قد خرج عليه في خمسمائة. فقال لخالد بن الوليد : يا خالد هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل. فقال خالد : أنا سيف الله ورسوله فيومئذ سمى سيف الله ، يا رسول الله ارم بن أين شئت ، فبعثه على خيل ، فلقى عكرمة في الشعب ، فهزمه ، حتى أدخله حيطان مكة ـ الحديث» وأخرجه ابن أبى حاتم من هذا الوجه وفي صحته نظر ، لأن خالدا لم يكن أسلم في الحديبية وظاهر السياق أن هذه القصة كانت في الحديبية. فلو كانت في عمرة القضية لأمكن ، مع أن المشهور أنهم فيها لم يمانعوه ولم يقاتلوه.

(١) أخرجه البخاري من حديث ابن عمر قال : «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرا فحال كفار قريش بينه وبين البيت ، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية» وفيه من رواية المسور ومروان «أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : قوموا فانحروا ثم احلقوا» قال البخاري : والحديبية خارج الحرم.

(٢) أخرجه أحمد من رواية المسور ومروان. في أثناء الحديث الطويل. قال «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى في الحرم. وهو مضطرب في الحل»

٣٤٢

المنصوب في تعلموهم. والمعرة : مفعلة ، من عره بمعنى عراه إذا دهاه (١) ما يكره ويشق عليه. و (بِغَيْرِ عِلْمٍ) متعلق بأن تطؤهم ، يعنى : أن تطئوهم غير عالمين بهم. والوطء والدوس : عبارة عن الإيقاع والإبادة. قال :

ووطئتنا وطأ على حنق

وطأ المقيّد نابت الهرم (٢)

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وأن آخر وطأة وطئها الله بوج» (٣) والمعنى: أنه كان بمكة قوم من المسلمين مختلطون بالمشركين غير متميزين منهم ولا معروفى الأماكن ؛ فقيل : ولو لا كراهة أن تهلكوا ناسا مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين بهم ، فتصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة : لما كف أيديكم عنهم ، وحذف جواب «لو لا» لدلالة الكلام عليه (٤). ويجوز أن يكون (لَوْ تَزَيَّلُوا) كالتكرير للولا رجال مؤمنون ، لمرجعهما إلى معنى واحد ، ويكون (لَعَذَّبْنَا) هو الجواب. فإن قلت : أى معرة تصيبهم إذا قتلوهم وهم لا يعلمون. قلت : يصيبهم وجوب الدية والكفارة ، وسوء قالة المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا من غير تمييز ، والمأثم إذا جرى منهم بعض التقصير. فإن قلت : قوله تعالى (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) تعليل لما ذا؟ قلت : لما دلت عليه الآية وسيقت له :

__________________

(١) قوله «بمعنى عراه إذا دهاه» عبارة الصحاح بلفظها : هو يعر قومه : أى يدخل عليهم مكروها يلطخهم به.

والمعرة : الإثم. (ع)

(٢) ووطئتنا وطأ على حنق

وطأ المقيد نابت الهرم

وتركتنا لحما على وضم

لو كنت تستبقى من اللحم

للحرث بن وعلة الذهلي. والوطء : وضع القدم فوق الشيء بشدة. وهو كناية عن الإهلال. والحنق ـ كسبب ، الحقد والغيظ. والهرم ـ بالسكون ـ : ضرب من الحمض ترعاه الإبل ، وبعير هارم : يرعى الهرم. يقول : أتيتنا مرتفعا علينا بقوتك وشدة بطشك كوطء الجمل المقيد للهرم النابت : أى الحديث النبات. ويروى : يابس الهرم فيهلكه لعظمه وقوته ، مع رطوبة ذلك النبات وضعفه ، أو مع يبسه فيتفتت ، فجعله مقيدا لتكون بطشته قوية ، حيث يرفع رجليه معا ويضربها عند الوثوب. أو جعله مقيدا ، لأن الذليل إذا قدر لا يعفو. والوضم : خوان الجزار الذي يقطع عليه اللحم. و «لو» شرطية ، جوابها دل عليه قوله «تركتنا» أى : على فرض أنك تركت هنا بقية تركتنا كهذا اللحم الذي يهيأ للأكل. وفي التعبير بلو : دلالة على أنه لم يستبق منهم.

(٣) تقدم في آخر براءة.

(٤) قال محمود : «يجوز أن يكون جواب لو لا محذوفا ... الخ» قال أحمد : وإنما كان مرجعهما هاهنا واحدا وإن كانت لو لا تدل على امتناع لوجود ، و «لو» تدل على امتناع لامتناع ، وبين هذين تناف ظاهر ، لأن لو لا هاهنا دخلت على وجود ، ولو دخلت على قوله تزيلوا وهو راجع إلى عدم وجودهم وامتناع عدم الوجود وجود ، فآلا إلى أمر واحد من هذا الوجه. وكان جدي رحمه الله يختار هذا الوجه الثاني ويسميه تطرية ، وأكثر ما تكون إذا تطاول الكلام وبعد عهد أوله واحتيج إلى رد الآخر على الأول ، فمرة يطرى بلفظه ، ومرة بلفظ آخر يؤدى مؤداه. وقد تقدمت لها أمثال ، والله أعلم. وهو الموفق.

٣٤٣

من كف الأيدى عن أهل مكة ، والمنع من قتلهم ، صونا لمن بين أظهرهم من المؤمنين ، كأنه قال : كان الكف ومنع التعذيب ليدخل الله في رحمته ، أى : في توفيقه لزيادة الخير والطاعة مؤمنيهم. أو ليدخل في الإسلام من رغب فيه من مشركيهم (لَوْ تَزَيَّلُوا) لو تفرقوا وتميز بعضهم من بعض : من زاله يزيله. وقرئ : لو تزايلوا.

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(٢٦)

(إِذْ) يجوز أن يعمل فيه ما قبله. أى : لعذبناهم أو صدوهم عن المسجد الحرام في ذلك الوقت ، وأن ينتصب بإضمار اذكر. والمراد بحمية الذين كفروا وسكينة المؤمنين ـ والحمية الأنفة والسكينة الوقار ـ ما روى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بالحديبية بعثت قريش سهيل بن عمرو القرشي وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص بن الأخيف ، على أن يعرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع من عامه ذلك على أن تخلى له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام ، ففعل ذلك ، (١) وكتبوا بينهم كتابا ، فقال عليه الصلاة والسلام لعلى رضى الله عنه : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال سهيل وأصحابه : ما نعرف هذا ، ولكن اكتب : باسمك اللهم ، ثم قال : اكتب «هذا ما صالح عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة» فقالوا : لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة ، فقال عليه الصلاة والسلام : اكتب ما يريدون ، فأنا أشهد أنى رسول الله وأنا محمد بن عبد الله ، فهمّ المسلمون أن يأبوا ذلك ويشمئزوا منه ، فأنزل الله على رسوله السكينة فتوقروا وحلموا. و (كَلِمَةَ التَّقْوى) بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله : قد اختارها الله لنبيه وللذين معه أهل الخير ومستحقيه ومن هم أولى بالهداية من غيرهم. وقيل : هي كلمة الشهادة. وعن الحسن رضى الله عنه : كلمة التقوى هي الوفاء بالعهد. ومعنى إضافتها إلى التقوى : أنها سبب التقوى وأساسها. وقيل : كلمة أهل التقوى. وفي مصحف الحرث بن سويد صاحب عبد الله : وكانوا أهلها وأحق بها ، وهو الذي دفن مصحفه أيام الحجاج.

__________________

(١) أخرجه البيهقي في الدلائل من رواية عروة في قصة الحديبية. وفيه ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو الخ مطولا. والقصة في الصحيح من رواية البراء بن عازب ومن رواية مروان والمسور. وفي النسائي مختصرة من رواية ثابت اليماني عن عبد الله بن مغفل.

٣٤٤

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً)(٢٧)

رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى الحديبية كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا ، فقصّ الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم ، وقالوا : إن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق ، فلما تأخر ذلك قال عبد الله بن أبىّ وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن الحرث : والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام (١) فنزلت. ومعنى (صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) صدقه في رؤياه ولم يكذبه ـ تعالى الله عن الكذب وعن كل قبيح علوا كبيرا ـ فحذف الجارّ وأوصل الفعل ، كقوله تعالى : صدقوا ما عاهدوا الله عليه. فإن قلت : بم تعلق (بِالْحَقِ)؟ قلت : إمّا بصدق ، أى : صدقه فيما رأى ، وفي كونه وحصوله صدقا ملتبسا بالحق : أى بالغرض الصحيح والحكمة البالغة ، وذلك ما فيه من الابتلاء والتمييز بين المؤمن المخلص ، وبين من في قلبه مرض. ويجوز أن يتعلق بالرؤيا حالا منها أى : صدقه الرؤيا ملتبسا (٢) بالحق ، على معنى أنها لم تكن من أضغاث الأحلام. ويجوز أن يكون (بِالْحَقِ) قسما : إمّا بالحق الذي هو نقيض الباطل. أو بالحق الذي هو من أسمائه. و (لَتَدْخُلُنَ) جوابه. وعلى الأوّل هو جواب قسم محذوف. فإن قلت : ما وجه دخول (إِنْ شاءَ اللهُ) في أخبار الله عز وجل؟ قلت : فيه وجوه : أن يعلق عدته بالمشيئة تعليما لعباده أن يقولوا في عداتهم مثل ذلك ، متأدّبين بأدب الله ، ومقتدين بسنته ، وأن يريد : لتدخلنّ جميعا إن شاء الله ولم يمت منكم أحدا ، أو كان ذلك على لسان ملك ، فأدخل الملك إن شاء الله. أو هي حكاية ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقصّ عليهم. وقيل : هو متعلق بآمنين (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) من الحكمة والصواب في تأخير فتح مكة إلى العام القابل (فَجَعَلَ مِنْ

__________________

(١) لم أجده هكذا مفسرا وروى الطبري من روآية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ ـ) الآية فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم «إنى قد رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رؤسكم ومقصرين. فلما ترك الحديبية ولم يدخل ذلك العام طعن المنافقون في ذلك. فقالوا : أين رؤياه ، فقال الله (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا ـ) الآية وروى الطبري من طريق ابن أبى نجيح عن مجاهد قال «أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحديبية أنه يدخل في أهل مكة هو وأصحابه محلقين فلما نحر الهدى وهو بالحديبية قال أصحابه : أين رؤياك يا رسول الله؟ فنزلت» وبه قال وقوله (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) قال : النحر بالحديبية ، فرجعوا ففتحوا خيبرا. وقال : ثم اعتمر بعد ذلك فكان تصديق رؤياه في السنة المقبلة».

(٢) قوله «أى صدقه الرؤيا ملتبسا» لعله : ملتبسة. (ع)

٣٤٥

دُونِ ذلِكَ) أى من دون فتح مكة (فَتْحاً قَرِيباً) وهو فتح خيبر ، لتستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر الفتح الموعود.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً)(٢٨)

(بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) بدين الإسلام (لِيُظْهِرَهُ) ليعليه (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) على جنس الدين كله ، يريد : الأديان المختلفة من أديان المشركين والجاحدين من أهل الكتاب : ولقد حقق ذلك سبحانه ، فإنك لا ترى دينا قط إلا وللإسلام دونه العز والغلبة. وقيل : هو عند نزول عيسى حين لا يبقى على وجه الأرض كافر. وقيل : هو إظهاره بالحجج والآيات. وفي هذه الآية تأكيد لما وعد من الفتح وتوطين لنفوس المؤمنين على أنّ الله تعالى سيفتح لهم من البلاد ويقيض لهم من الغلبة على الأقاليم ما يستقلون إليه فتح مكة (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على أنّ ما وعده كائن. وعن الحسن رضى الله عنه : شهد على نفسه أنه سيظهر دينك (١)

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)(٢٩)

(مُحَمَّدٌ) إما خبر مبتدإ ، أى : هو محمد لتقدّم قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) وإما مبتدأ ، ورسول الله : عطف بيان. وعن ابن عامر أنه قرأ : رسول الله ، بالنصب على المدح (وَالَّذِينَ مَعَهُ) أصحابه (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) جمع شديد ورحيم. ونحوه (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) ، (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ). (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) وعن الحسن رضى الله عنه : بلغ من تشدّدهم على الكفار : أنهم كانوا يتحرّزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم ، وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه وعانقه ، والمصافحة لم تختلف فيها الفقهاء. وأما المعانقة فقد كرهها أبو حنيفة رحمه الله ، وكذلك

__________________

(١) قوله «إنه سيظهر دينك» لعله : دينه ، كعبارة النسفي. (ع)

٣٤٦

التقبيل. قال لا أحب أن يقبل الرجل من الرجل وجهه ولا يده ولا شيئا من جسده. وقد رخص أبو يوسف في المعانقة. ومن حق المسلمين في كل زمان أن يراعوا هذا التشدّد وهذا التعطف : فيتشدّدوا على من ليس على ملتهم ودينهم ويتحاموه ، ويعاشروا إخوتهم في الإسلام متعطفين بالبر والصلة. وكف الأذى ، والمعونة ، والاحتمال ، والأخلاق السجيحة (١). ووجه من قرأ : أشداء ، ورحماء ـ بالنصب ـ : أن ينصبهما على المدح ، أو على الحال بالمقدّر في (مَعَهُ) ، ويجعل (تَراهُمْ) الخبر (سِيماهُمْ) علامتهم. وقرئ سيماؤهم ، وفيها ثلاث لغات : هاتان. والسيمياء ، والمراد بها السمة التي تحدث في جبهة السجاد من كثرة السجود ، وقوله تعالى (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) يفسرها ، أى : من التأثير الذي يؤثره السجود ، وكان كل من العليين : علىّ بن الحسين زين العابدين ، وعلىّ بن عبد الله بن عباس أبى الأملاك ، يقال له : ذو الثفنات ، لأنّ كثرة سجودهما أحدثت في مواقعه منهما أشباه ثفنات (٢) البعير. وقرئ : من أثر السجود ، ومن آثار السجود ، وكذا عن سعيد ابن جبير : هي السمة في الوجه. فإن قلت : فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تعلبوا (٣) صوركم (٤)» وعن ابن عمر رضى الله عنه أنه رأى رجلا قد أثر في وجهه السجود فقال : إن صورة وجهك أنفك ، فلا تعلب وجهك ، ولا تشن صورتك (٥). قلت : ذلك إذا اعتمد بجبهته على الأرض لتحدث فيه تلك السمة. وذلك رياء ونفاق يستعاذ بالله منه ، ونحن فيما حدث في جبهة السجاد الذي لا يسجد إلا خالصا لوجه الله تعالى. وعن بعض المتقدّمين : كنا نصلى فلا يرى بين أعيننا شيء ، ونرى أحدنا الآن يصلى فيرى بين عينيه ركبة البعير ، فما ندرى أثقلت الأرؤس أم خشنت الأرض وإنما أراد بذلك من تعمد ذلك للنفاق. وقيل : هو صفرة الوجه من خشية الله. وعن الضحاك : ليس بالندب (٦) في الوجوه ، ولكنه صفرة. وعن سعيد بن المسيب : ندى الطهور وتراب الأرض. وعن عطاء رحمه الله : استنارت وجوههم من طول

__________________

(١) قوله «والأخلاق السجبحة» أى السهلة. أفاده الصحاح. (ع)

(٢) قوله «ثفنات البعير» في الصحاح : هي ما يقع على الأرض من أعضائه إذا استناخ. (ع)

(٣) قوله «لا تعلبوا صوركم» في الصحاح : علبته أعلبه ـ بالضم ـ : إذا وسمته أو خدشته ، أو أثرت فيه. (ع)

(٤) لم أجده مرفوعا وهو في الذي بعده موقوف.

(٥) أخرجه عبد الرزاق عن الثوري. عن الأعمش عن حبيب عن أبى الثعثاء. عن ابن عمر «أنه رأى رجلا ينتحز إذا سجد فقال : لا تقلب صورتك» يقول لا تؤثرها. قلت : ما تقلب صورتك؟ قال : لا تغير لا تشن» ورواه إبراهيم الحربي من رواية أبى معاوية عن الأعمش عن حبيب عن عطاء عن عمر «أنه رأى رجلا قد أثر السجود بوجهه فقال : لا تقلب صورتك. ثم قال : قلبت الشيء إذا أثرت فيه.

(٦) قوله «ليس بالندب في الوجوه» في الصحاح «الندب» : أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد. (ع)

٣٤٧

ما صلوا بالليل ، كقوله «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» (١) (ذلِكَ) الوصف (مَثَلُهُمْ) أى وصفهم العجيب الشأن في الكتابين جميعا ، ثم ابتدأ فقال (كَزَرْعٍ) يريد : هم كزرع. وقيل : تم الكلام عند قوله (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) ثم ابتدئ (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ) ويجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) كقوله تعالى (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ). وقرئ : الإنجيل ، بفتح الهمزة (شَطْأَهُ) فراخه. يقال : أشطا الزرع إذا فرخ. وقرئ : شطأه ، بفتح الطاء. وشطأه ، بتخفيف الهمزة : وشطاءه ، بالمدّ. وشطه ، بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى ما قبلها. وشطوه ، بقلبها واوا (فَآزَرَهُ) من المؤازرة وهي المعاونة. وعن الأخفش : أنه أفعل. وقرئ : فأزره بالتخفيف والتشديد ، أى : فشدّ أزره وقوّاه. ومن جعل آزر أفعل ، فهو في معنى القراءتين (فَاسْتَغْلَظَ) فصار من الدقة إلى الغلظ (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) فاستقام على قصبه جمع ساق. وقيل : مكتوب في الإنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وعن عكرمة : أخرج شطأه بأبى بكر ، فآزره بعمر ، فاستغلظ بعثمان ، فاستوى على سوقه بعلىّ. وهذا مثل ضربه الله لبدء أمر الإسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوى واستحكم ، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم ، قام وحده. ثم قوّاه الله بمن آمن معه كما يقوى الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزرّاع. فإن قلت : قوله (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) تعليل لما ذا؟ قلت : لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوّة ، ويجوز أن يعلل به (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) لأنّ الكفار إذا سمعوا بما أعدّ لهم في الآخرة مع ما يعزهم به في الدنيا غاظهم ذلك. ومعنى (مِنْهُمْ) البيان ، كقوله تعالى (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ).

عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «من قرأ سورة الفتح فكأنما كان ممن شهد مع محمد فتح مكة» (٢).

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة عن إسماعيل الطلحي عن ثابت بن موسى عن شريك عن الأعمش عن أبى سفيان عن جابر مرفوعا بهذا واتفق أئمة الحديث وابن عدى والدارقطني والعقيلي وابن حبان والحاكم على أنه من قول شريك قاله لثابت لما دخل. وقال ابن عدى سرقه جماعة من ثابت كعبد الله بن شبرمة الشريكى وعبد الحميد بن بحر وغيرهما وأورده صاحب مسند الشهاب من رواية عبد الرزاق عن الثوري وابن جريج عن أبى الزبير عن جابر وهو موضوع على هذا الاسناد. وكذا من رواية الحسين بن حفص عن الثوري عن الأعمش عن أبى سفيان عن جابر والأمر فيه كذلك. ومن طرق أخرى واهية. قال ابن طاهر : ظن القضاعي أن الحديث صحيح ، لكثرة طرقه. وهو معذور لأنه لم يكن حافظا. وله طرق أخرى من غير رواية جابر أخرجه ابن جميع في معجمه من حديث أنس وابن الجوزي من وجه آخر عنه وهو باطل أيضا من الوجهين.

(٢) أخرجه ابن مردويه والواحدي بالإسناد إلى أبى بن كعب.

٣٤٨

سورة الحجرات

مدنية ، وآياتها ١٨ [نزلت بعد المجادلة]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(١)

قدّمه وأقدمه : منقولان بتثقيل الحشو والهمزة ، من قدمه إذا تقدّمه (١) في قوله تعالى (يَقْدُمُ قَوْمَهُ) ونظيرهما معنى ونقلا : سلفه وأسلفه. وفي قوله تعالى (لا تُقَدِّمُوا) من غير ذكر مفعول : وجهان ، أحدهما : أن يحذف ليتناول كل ما يقع في النفس مما يقدّم. والثاني : أن لا يقصد قصد (٢) مفعول ولا حذفه ، ويتوجه بالنهى إلى نفس التقدمة ، كأنه قيل : لا تقدموا على التلبس بهذا الفعل ، ولا تجعلوه منكم بسبيل (٣) ، كقوله تعالى (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) ويجوز أن يكون من قدّم بمعنى تقدّم ، كوجه وبين. ومنه مقدّمة الجيش خلاف ساقته ، وهي الجماعة المتقدّمة منه. وتعضده قراءة من قرأ : لا تقدموا ، بحذف إحدى تاءى تتقدموا ، إلا أن الأوّل أملأ بالحسن وأوجه ، وأشدّ ملاءمة لبلاغة القرآن ، والعلماء له أقبل. وقرئ : لا تقدموا من القدوم ، أى لا تقدموا إلى أمر من أمور الدين قبل قدومها ، ولا تعجلوا عليهما. وحقيقة قولهم : جلست بين يدي فلان ، أن يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريبا منه ،

__________________

(١) قوله «إذا تقدمه في قوله تعالى» لعله كما في قوله تعالى. (ع)

(٢) قوله «أن لا يقصد قصد ... الخ» عبارة النسفي : أن لا يقصد مفعول. والتهجي متوجه إلى نفس التقدمة. (ع)

(٣) ذكر الزمخشري من النكت : «أنه تعالى ابتدأ السورة بإيجاب أن يكون الأمر الذي ينتهى إلى الله ورسوله متقدما على الأمور كلها من غير تقييد ولا تخصيص» قال أحمد : يريد أنه لم يذكر المفعول الذي يتقاضاه تقدموا ، باطراح ذلك المفعول كقوله (يُحْيِي وَيُمِيتُ) وحلى الكلام بمجاز التمثيل في قوله (بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) بفائدة ليست في الكلام العريان ، وهو تصور الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه من الاقدام على أمر دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة ، وجعل صورة ذلك المنهي عنه مثل أن يجلس العبد في الجهتين المسامتتين ليمين سيده ويساره ويوليه دبره ، ومعناه : أن لا تقدموا على أمر حتى يأذن الله ورسوله فيه فتكونوا مقتدين فيما تأتون وتذرون بكتاب الله وسنة نبيه.

٣٤٩

فسميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع للقرب منهما توسعا ، كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره وداناه في غير موضع ، وقد جرت هذه العبارة هاهنا على سنن ضرب من المجاز ، وهو الذي يسميه أهل البيان تمثيلا. ولجريها هكذا فائدة جليلة ليست في الكلام العريان : وهي تصوير الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة : والمعنى : أن لا تقطعوا أمرا إلا بعد ما يحكمان به ويأذنان فيه ، فتكونوا إما عاملين بالوحي المنزل ، وإما مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم. وعليه يدور تفسير ابن عباس رضى الله عنه. وعن مجاهد : لا تفتاتوا على الله شيئا حتى يقصه (١) على لسان رسوله. ويجوز أن يجرى مجرى قولك : سرني زيد وحسن حاله ، وأعجبت بعمرو وكرمه. وفائدة هذا الأسلوب : الدلالة على قوّة الاختصاص ، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بالمكان الذي لا يخفى : سلك به ذلك المسلك. وفي هذا تمهيد وتوطئة لما نقم منهم فيما يتلوه من رفع أصواتهم فوق صوته : لأنّ من أحظاه الله بهذه الأثرة واختصه هذا الاختصاص القوى : كان أدنى ما يجب له من التهيب والإجلال أن يخفض بين يديه الصوت ، ويخافت لديه بالكلام. وقيل : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تهامة سرية سبعة وعشرين رجلا وعليهم المنذر بن عمرو الساعدي ، فقتلهم بنو عامر وعليهم عامر بن الطفيل ، إلا ثلاثة نفر نجوا فلقوا رجلين من بنى سليم قرب المدينة ، فاعتزيا لهم إلى بنى عامر ، لأنهم أعز من بنى سليم ، فقتلوهما وسلبوهما ، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «بئسما صنعتم كانا من سليم ، والسلب ما كسوتهما» فوداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم (٢) ونزلت ، أى : لا تعملوا شيئا من ذات أنفسكم حتى تستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن مسروق : دخلت على عائشة في اليوم الذي يشك فيه ، فقالت للجارية : اسقه عسلا ، فقلت : إنى صائم ، فقالت : قد نهى الله عن صوم هذا اليوم (٣). وفيه نزلت. وعن الحسن أنّ أناسا ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة فنزلت ، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا ذبحا (٤) آخر. وهذا مذهب أبى حنيفة رحمه

__________________

(١) قوله «حتى يقصه على لسان رسوله» لعله : يقضيه. (ع)

(٢) أخرجه البيهقي في الشعب في الخامس عشر من طريق مقاتل بن حيان قال «بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية واستعمل عليهم المنذر بن عمرو ـ فذكر قصة بئر معونة مطولا. وفيه هذا اللفظ. ورو : الدلائل من طريق ابن إسحاق ، ومن طريق موسى بن عقبة : هذه القصة على غير هذا السياق وأن المقتولين بنى كلاب ، وأن الثلاثة قتل منهم واحد. وهو المحفوظ والمشهور في المغازي

(٣) هكذا ذكره الثعلبي بغير سند. وذكره الدارقطني من رواية مالك بن حمزة بضم المهملة والراء. عن مسروق قال «دخلت على عائشة رضى الله عنها في اليوم الذي يشك فيه أنه يوم عرفة» ... الحديث

(٤) أخرجه عبد الرزاق. حدثنا معمر عن الحسن في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ

٣٥٠

الله ، إلا أن تزول الشمس. وعند الشافعي : يجوز الذبح إذا مضى من الوقت مقدار الصلاة. وعن الحسن أيضا : لما استقرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أتته الوفود من الآفاق فأكثروا عليه بالمسائل ، فنهوا أن يبتدؤه بالمسئلة حتى يكون هو المبتدئ (١). وعن قتادة : ذكر لنا أنّ ناسا كانوا يقولون : لو أنزل فيه كذا لكان كذا ، فكره الله ذلك منهم وأنزلها. وقيل : هي عامة في كل قول وفعل : ويدخل فيه أنه إذا جرت مسألة في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسبقوه بالجواب ، وأن لا يمشى بين يديه إلا لحاجة ، وأن يستأنى (٢) في الافتتاح بالطعام (وَاتَّقُوا اللهَ) فإنكم إن اتقيتموه عاقتكم التقوى عن التقدمة المنهي عنها وعن جميع ما تقتضي مراقبة الله تجنبه ، فإن التقىّ حذر لا يشافه أمرا (٣) إلا عن ارتفاع الريب وانجلاء الشك في أن لا تبعة عليه فيه ، وهذا كما تقول لمن يقارف بعض الرذائل : لا تفعل هذا وتحفظ مما يلصق بك العار ، فتنهاه أوّلا عن عين ما قارفه ، ثم تعم وتشيع وتأمره بما لو امتثل فيه أمرك لم يرتكب تلك الفعلة وكل ما يضرب في طريقها ويتعلق بسببها (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لما تقولون (عَلِيمٌ) بما تعملون ، وحق مثله أن يتقى ويراقب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)(٢)

إعادة النداء عليهم : استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد ، وتطرية الإنصات لكل حكم نازل ، وتحريك منهم لئلا يفتروا ويغفلوا عن تأملهم وما أخذوا به عند حضور مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأدب الذي المحافظة عليه تعود عليهم بعظيم الجدوى في دينهم ، وذلك لأنّ في إعظام صاحب الشرع إعظام ما ورد به ، ومستعظم الحق لا يدعه استعظامه أن يألو عملا بما يحدوه (٤) عليه ، وارتداعا عما يصده عنه ، وانتهاء إلى كل خير ، والمراد بقوله (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) أنه إذا نطق ونطقتم فعليكم أن

__________________

ـ اللهِ وَرَسُولِهِ) قال : هم قوم ذبحوا قبل أن يصلى النبي صلى الله عليه وسلم. فأمرهم أن يعيدوا الذبح» وأخرجه الطبري من رواية سعيد عن قتادة. قال «ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون : لو أنزل كذا ، لو صنع كذا ، لو قبل كذا» قال : وقال الحسن هم أناس ، فذكره.

(١) لم أجده.

(٢) قوله «وأن يستأنى في الافتتاح» أى : ينتظر. أفاده الصحاح. (ع)

(٣) قوله «لا يشافه أمرا» أى : لا يتشاغل بأمر ، وفي الصحاح : «الشفه» : الشغل ، يقال : شفهنى عن كذا ، أى : شغلني. (ع)

(٤) قوله «بما يحدوه عليه» أى : يحضه. (ع)

٣٥١

لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحدّ الذي يبلغه بصوته ، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عاليا لكلامكم ، وجهره باهرا لجهركم ، حتى تكون مزيته عليكم لائحة ، وسابقته واضحة ، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق (١) غير خاف ، لا أن تغمروا صوته بلغطكم وتبهروا منطقه بصخبكم. وبقوله : ولا تجهروا له بالقول : إنكم إذا كلمتموه وهو صامت فإياكم والعدول عما نهيتم عنه من رفع الصوت ، بل عليكم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم ، وأن تتعمدوا في مخاطبته القول اللين المقرّب من الهمس الذي يضادّ الجهر ، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم ، عاملين بقوله عز اسمه (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) وقيل معنى (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) لا تقولوا له : يا محمد ، يا أحمد ، وخاطبوه بالنبوّة. قال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر رضى الله عنه : يا رسول الله ، والله لا أكلمك إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله ، (٢) وعن عمر رضى الله عنه : انه كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم كأخى السرار لا يسمعه حتى يستفهمه (٣) ، وكان أبو بكر إذا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد : أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، (٤) وليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر : ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة ، لأنّ ذلك كفر ، والمخاطبون مؤمنون ، وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جرسه غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء ، فيتكلف الغض منه ، وردّه إلى حدّ يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزير والتوقير ، ولم يتناول النهى أيضا رفع الصوت الذي لا يتأذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدوّ أو ما أشبه ذلك ، ففي الحديث : أنه قال عليه الصلاة والسلام للعباس بن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين :

__________________

(١) قوله «كشية الأبلق» في الصحاح «الشية» : لون يخالف معظم لون الفرس وغيره. وفيه أيضا : اللغط الصوت والجلبة. وفيه الصخب : الصياح والجلبة. (ع)

(٢) ذكره الواحدي عن عطاء عن ابن عباس. ولم يسق سنده إليه. وأخرجه البزار وابن مردويه من طريق طارق بن شهاب عن أبى بكر. قال لما نزل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) قلت : يا رسول الله آليت ألا أكلمك إلا كأخى السرار حتى ألقى الله» وأخرجه الحاكم والبيهقي في المدخل من حديث أبى هريرة. قال «لما نزلت (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ ـ) الآية قال أبو بكر. والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخى السرار حتى ألقى الله عز وجل «وقال صحيح على شرط مسلم

(٣) أخرجه البخاري من حديث أبى الزبير. قال «لما نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ـ) الآية كان عمر بعد ذلك إذا حدث النبي صلى الله عليه وسلم حدثه كأخى السرار. لم يسمعه حتى يستفهمه.

(٤) لم أجده

٣٥٢

«اصرخ بالناس (١)» وكان العباس أجهر الناس صوتا (٢). يروى : أنّ غارة أتتهم يوما فصاح العباس يا صباحاه ، فأسقطت الحوامل لشدّة صوته (٣). وفيه يقول نابغة بنى جعدة :

زجر أبى عروة السّباع إذا

أشفق أن يختلطن بالغنم (٤)

زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه (٥). وفي قراءة ابن مسعود : لا ترفعوا بأصواتكم والباء مزيدة محذوّ بها حذو التشديد في قول الأعلم الهذلي :

رفعت عينى بالحجا

ز إلى أناس بالمناقب (٦)

وليس المعنى في هذه القراءة أنهم نهوا عن الرفع الشديد ، تخيلا أن يكون ما دون الشديد مسوغا لهم ، ولكن المعنى نهيهم عما كانوا عليه من الجلبة ، واستجفاؤهم فيما كانوا يفعلون. وعن ابن عباس : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس ، وكان في أذنه وقر ، وكان جهوري الصوت ، فكان إذا تكلم رفع صوته ، وربما كان يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتأذى بصوته (٧). وعن أنس أن هذه الآية لما نزلت : فقد ثابت ، فتفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر بشأنه ، فدعاه ، فسأله فقال : يا رسول الله ، لقد أنزلت إليك هذه الآية ، وإنى رجل جهير الصوت. فأخاف أن يكون عملى قد حبط ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لست هناك ، إنك تعيش بخير وتموت بخير ، وإنك من أهل الجنة (٨) .. وأمّا ما يروى عن الحسن : أنها نزلت فيمن كان يرفع صوته من المنافقين فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمحمله والخطاب للمؤمنين : على أن ينهى المؤمنون ليندرج المنافقون تحت النهى ، ليكون الأمر أغلظ عليهم وأشق. وقيل : كان المنافقون يرفعون أصواتهم ليظهروا قلة مبالاتهم ، فيقتدى بهم ضعفة المسلمين. وكاف التشبيه في محل النصب ،

__________________

(١) لم أجده ، وقد تقدم أن ذلك كان يوم حنين ، والعباس لم يشهد أحدا.

(٢) لم أجده

(٣) لم أجده

(٤) تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة ٣٨ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٥) لم أجده

(٦) للأعلم الهذلي ، يقول : نظرت وأنا في الحجاز إلى من في المناقب. وهذان الموضعان بينهما مسافة بعيدة ، وهذا من شدة الشوق إلى من في المناقب.

(٧) لم أجده

(٨) متفق عليه من حديث أنس دون قوله «لست هناك ، وزاد أحمد والطبراني فيه : فقال أنس : فكنا نراه يمشى بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة».

٣٥٣

أى : لا تجهروا له جهرا مثل جهر بعضكم لبعض. وفي هذا : أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا ، حتى لا يسوغ لهم أن يكلموه إلا بالهمس والمخافتة ، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة ، أعنى : الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم ، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوّة وجلالة مقدارها ، وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) منصوب الموضع ، على أنه مفعول له ، وفي متعلقه وجهان ، أحدهما : أن يتعلق بمعنى النهى ، فيكون المعنى : انتهوا عما نهيتم عنه لحبوط أعمالكم ، أى : لخشية حبوطها على تقدير حذف المضاف ، كقوله تعالى (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) والثاني : أن يتعلق بنفس الفعل ، ويكون المعنى : أنهم نهوا عن الفعل الذي فعلوه لأجل الحبوط ، لأنه لما كان بصدد الأداء إلى الحبوط : جعل كأنه فعل لأجله ، وكأنه العلة والسبب في إيجاده على سبيل التمثيل ، كقوله تعالى (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا). فإن قلت : لخص الفرق بين الوجهين. قلت : تلخيصه أن يقدر الفعل في الثاني مضموما إليه المفعول له ، كأنهما شيء واحد (١) ، ثم يصب النهى عليهما جميعا صبا. وفي الأوّل يقدر النهى

__________________

(١) قال محمود : «إنه مفعول له ومتعلقه إما معنى النهى ، كأنه قال : انتهوا كراهية حبوط أعمالكم على حذف مضاف ، كقوله (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) وأما نفس الفعل فهو المنهي عنه ، على معنى تنزيل صيرورة الجهر المنهي عنه إلى الحبوط. منزلة جعل الحبوط علة في الجهر على التمثيل ، من وادى (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) قال : وتلخيص الفرق بينهما أنه على الثاني يقدر انضمام المفعول من أجله إلى الفعل الأول ... الخ» قال أحمد : هو يحوم على شرعة وبيئة إياك. ورودها : وذلك أنه يعتقد أن ما دون الكفر ولو كبيرة واحدة تحبط العمل وتوجب الخلود في العذاب المقيم ، وتخرج المؤمن من اسم الايمان ورسمه ، ومعاذ الله من هذا المعتقد ، فعليك بعقيدة أهل السنة الممهدة في مواضع من هذا المجموع ، فجدد العهد بها : وهي اعتقاد أن المؤمن لا يخلد في النار ، وأن الجنة له بوعد الله حتم ولو كانت خطاياه ما دون الشرك أو ما يؤدى إليه كزبد البحر ، وأنه لا تحبط حسنة سيئة طارئة كائنة ما كانت سوى الشرك. والزمخشري اغتنم الفرصة في ظاهر هذه الآية فنزلها على معتقده ووجه ظهورها فيما يدعيه : أن رفع الصوت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم معصية لا تبلغ الشرك ، وقد أخاف الله عباده من إحباطه الأعمال بها ، ولو كان الإحباط مقطوعا بنفيه : لم تستقم الاخافة به ، وأنى له أن يبلغ من ذلك آماله ، ونظم الكلام يأباه عنده البصر بمعناه ، فنقول : المراد في الآية النهى عن رفع الصوت على الإطلاق ، ومعلوم أن حكم النهي : الحذر مما يتوقع في ذلك من إيذاء النبي عليه السلام ، والقاعدة المختارة أن إيذاءه عليه الصلاة والسلام يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق ، فورد النهى عما هو مظنة لأذى النبي عليه الصلاة والسلام سواء وجد هذا المعنى أولا ، حماية للذريعة وحسما للمادة ، ثم لما كان هذا المنهي عنه وهو رفع الصوت منقسما إلى ما يبلغ ذلك المبلغ أولا ، ولا دليل يميز أحد القسمين عن الآخر : لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقا ، وخوف أن يقع فيهما هو محبط للعمل ، وهو البالغ حد الإيذاء ، إذ لا دليل ظاهر يميزه ، وإن كان فلا يتفق تمييزه في كثير من الأحيان ، وإلى التباس أحد القسمين بالآخر وقعت الاشارة بقوله (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) وإلا فلو كان الأمر على ما يعتقده الزمخشري : لم يكن لقوله (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) موقع ، إذ الأمر بين أن يكون رفع الصوت مؤذيا فيكون كفرا محبطا قطعا ، وبين أن يكون غير مؤذ فيكون كبيرة محبطة ، على رأيه قطعا ، فعلى كلا حاليه الإحباط به محقق ، إذا فلا موقع لادعام الكلام بعدم الشعور ، مع أن الإحباط ثابت مطلقا ، والله أعلم وهذا التقرير الذي ذكرته يدور على مقدمتين كلتا هما صحيحة

٣٥٤

موجها على الفعل على حياله ، ثم يعلل له منهيا عنه. فإن قلت : بأى النهيين تعلق المفعول له؟ قلت : بالثاني عند البصريين ، مقدرا إضماره عند الأوّل ، كقوله تعالى (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) وبالعكس عند الكوفيين ، وأيهما كان فمرجع المعنى إلى أنّ الرفع والجهر كلاهما منصوص أداؤه إلى حبوط العمل : وقراءة ابن مسعود : فتحبط أعمالكم ، أظهر نصا بذلك ، لأنّ ما بعد الفاء لا يكون إلا مسببا عما قبله ، فيتنزل الحبوط من الجهر منزلة الحلول من الطغيان في قوله تعالى (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) والحبوط من حبطت الإبل : إذا أكلت الخضر فنفخ بطونها ، وربما هلكت. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «وإن مما ينبت الربيع لما يقتل حبطا أو يلم» (١) ومن أخواته : حبجت الإبل ، إذا أكلت العرفج (٢) فأصابها ذلك. وأحبض عمله : مثل أحبطه. وحبط الجرح وحبر : إذا غفر ، وهو نكسه وتراميه إلى الفساد : جعل العمل السيئ في إضراره بالعمل الصالح كالداء والحرض (٣) لمن يصاب به ، أعاذنا الله من حبط الأعمال وخيبة الآمال. وقد دلت الآية على أمرين هائلين ، أحدهما : أن فيما يرتكب من يؤمن من الآثام ما يحبط عمله. والثاني : أن في آثامه ما لا يدرى أنه محبط ، ولعله عند الله كذلك ، فعلى المؤمن أن يكون في تقواه كالماشى في طريق شائك لا يزال يحترز ويتوقى ويتحفظ.

(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)(٣)

(امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) من قولك : امتحن فلان لأمر كذا وجرب له ، ودرب للنهوض به. فهو مضطلع به غير وان عنه. والمعنى أنهم صبر على التقوى ، أقوياء على احتمال مشاقها.

أو وضع الامتحان موضع المعرفة ، لأنّ تحقق الشيء باختباره ، كما يوضع الخبر موضعها ، فكأنه قيل : عرف الله قلوبهم للتقوى ، وتكون اللام متعلقة بمحذوف ، واللام هي التي في قولك : أنت لهذا الأمر ، أى كائن له ومختص به قال :

أنت لها أحمد من بين البشر (٤)

__________________

ـ إحداهما : أن رفع الصوت من جنس ما يحصل به الإيذاء ، وهذا أمر يشهد به النقل والمشاهدة الآن ، حتى إن الشيخ ليتأذى برفع التلميذ صوته بين يديه ، فكيف برتبة النبوة وما يستحقه من الإجلال والإعظام. المقدمة الأخرى : أن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم كفر ، وهذا أمر ثابت قد نص عليه أئمتنا وأفتوا بقتل من تعرض لذلك كفرا ، ولا تقبل توبته ، فما أتاه أعظم عند الله وأكبر ، والله الموفق.

(١) أخرجه مسلم وغيره.

(٢) قوله «إذا أكلت العرفج» في الصحاح : شجر ينبت في السهل ، الواحدة : عرفجة. (ع)

(٣) قوله «كالداء والحرض» أى الفساد. أفاده الصحاح.

(٤) رائعة : خالية من الحشو والتعقيد ، وصوغتها ـ بالتشديد ـ : للمبالغة ، وأنت لها : أى أهل لها وكفؤ ، وأحمد : منادى ، ومن بين البشر : متعلق بمحذوف حال ، أى : منتخبا من بينهم. ويجوز أن «أحمد» أفعل تفضيل ، كذا قيل.

٣٥٥

أعدّاء من لليعملات على الوجى (١)

وهي مع معمولها منصوبة على الحال. أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الصعبة لأجل التقوى ، أى لتثبت وتظهر تقواها ، ويعلم أنهم متقون ، لأن حقيقة التقوى لا تعلم إلا عند المحن والشدائد والاصطبار عليها. وقيل أخلصها للتقوى. من قولهم : امتحن الذهب وفتنه ، إذا أذا به فخلص إبريزه من خبشه ونقاه. وعن عمر رضى الله عنه : أذهب الشهوات عنها. والامتحان : افتعال ، من محنه ، وهو اختبار بليغ أو بلاء جهيد. قال أبو عمرو : كل شيء جهدته فقد محنته. وأنشد :

أتت رذايا باديا كلالها

قد محنت واضطربت آطالها (٢)

قيل : أنزلت في الشيخين رضى الله عنهما ، لما كان منهما من غض الصوت والبلوغ به أخا السرار. وهذه الآية بنظمها الذي رتبت عليه من إيقاع الغاضين أصواتهم اسما لإنّ المؤكدة. وتصيير خبرها جملة من مبتدإ وخبر معرفتين معا. والمبتدأ : اسم الإشارة ، واستئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم ، وإيراد الجزاء نكرة : مبهما أمره ناظرة في الدلالة على غاية الاعتداد والارتضاء لما فعل الذين وقروا رسول الله صلى الله عليه وسلم من خفض أصواتهم ، وفي الإعلام بمبلغ عزة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدر شرف منزلته ، وفيها تعريض بعظيم ما ارتكب الرافعون أصواتهم واستيجابهم ضد ما استوجب هؤلاء.

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥)

__________________

(١) أعداء من لليعملات على الوجا

وأضياف بيت بيتوا لنزول

أعداء ما للعيش بعدك لذة

ولا لخليل بهجة بخليل

أعداء ما وجدي عليك بهين

ولا الصبر إن أعطيته بجميل

لعتبة بن مالك العقيلي ، يرثى عداء صاحبه. والهمزة للنداء. وعداء ـ كفعال ـ : على صيغة المبالغة ، أى : يا من كان معدا لاغاثة المطايا الكثيرات العمل ، والسفر مع الوجاء وهو الحفاء في أخفافها من كثرة السير ، واليعملات : جمع يعملة ، والبعير يعمل ، ومن كان معدا لأضياف بيته الذين يبيتون للنزول والاستراحة عنده. والعيش : الحياة ، أو ما يعاش به. والبهجة : السرور. والوجد : الحزن. وإن أعطيته : اعتراض ، دل على أنه لم يصبر. ونفى جمال الصبر مبالغة في عظم عداء عنده وحبه إياه ، وكرر النداء لإظهار التفجع.

(٢) الرذايا جمع رذية وهي الناقة المهزولة الضعيفة. ومحنته : بلوته. ويقال : محنت ناقتي أجهدتها في السير. ومحنت الجلد : مددته ووسعته. والآطال : جمع أطل وهو الخاصرة ، كأسباب وسبب. يقول : أتت المطايا مهازيل ظاهرا ملالها وتعبها من السير ، قد أجهدت تلك النوق بالسير. أو قد تدلت واضطربت خواصرها من شدة الجوع ويروى : أوصالها ، أى : أعضاؤها.

٣٥٦

والوراء : الجهة التي يواريها عنك الشخص بظله من خلف أو قدام (١). ومن لابتداء الغاية ، وأنّ المناداة نشأت من ذلك المكان. فإن قلت : فرق بين الكلامين بين ما تثبت فيه وما تسقط عنه. قلت : الفرق بينهما أنّ المنادى والمنادى في أحدهما يجوز أن يجمعهما الوراء ، وفي الثاني : لا يجوز لأنّ الوراء تصير بدخول من مبتدأ الغاية ، ولا يجتمع على الجهة الواحدة أن تكون مبتدأ ومنتهى لفعل واحد ، والذي يقول : ناداني فلان من وراء الدار. لا يريد وجه الدار ولا دبرها ، ولكن أى قطر من أقطارها الظاهرة كان مطلقا بغير تعيين واختصاص ، والإنكار لم يتوجه عليهم من قبل أنّ النداء وقع منهم في أدبار الحجرات أو في وجوهها ، وإنما أنكر عليهم أنهم نادوه من البرّ (٢) والخارج مناداة الأجلاف بعضهم لبعض ، من غير قصد إلى جهة دون جهة. والحجرة : الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها ، وحظيرة الإبل تسمى الحجرة ، وهي فعلة بمعنى مفعولة ، كالغرفة والقبضة ، وجمعها : الحجرات ـ بضمتين ، والحجرات ـ بفتح الجيم ، والحجرات بتسكينها. وقرئ بهنّ جميعا ، والمراد : حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت لكل واحدة منهنّ حجرة. ومناداتهم من ورائها يحتمل أنهم قد تفرّقوا على الحجرات متطلبين له ، فناداه بعض من وراء هذه ، وبعض من وراء تلك ، وأنهم قد أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها ، وأنهم نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها ، ولكنها جمعت إجلالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمكان حرمته. والفعل وإن كان مسندا إلى جميعهم فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم ، وكان الباقون راضين ، فكأنهم تولوه جميعا ، فقد ذكر الأصم أنّ الذي ناداه عيينة بن حصن والأقرع بن حابس. والإخبار عن أكثرهم بأنهم لا يعقلون : يحتمل أن يكون فيهم من قصد بالمحاشاة. ويحتمل أن يكون الحكم بقلة العقلاء فيهم قصدا إلى نفى أن يكون فيهم من يعقل ، فإنّ القلة تقع موقع النفي في كلامهم. وروى أن وفد بنى تميم أتوا رسول الله صلى الله

__________________

(١) قال محمود : «الوراء الجهة التي يواريها عنك الشخص بظله من خلف أو قدام ... الخ» قال أحمد : ولقد اغتر بعضهم في تبكيت بنى تميم بما لا تساعده عليه الآية ، فإنها نزلت في المتولين لمناداة النبي عليه الصلاة والسلام ، أو في الحاضرين حينئذ الراضين بفعل المنادين له ، وقد سئل عليه الصلاة والسلام عنهم فقال : هم جفاة بنى تميم ، وعلى الجملة (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) فكيف يسوغ إطلاق اللسان بالسوء في حق أمة عظيمة لأن واحدا منهم أو اثنين ارتكب جهالة وجفاء ، فقد ورد أن المنادى له عليه السلام : هو الأقرع ، هذا مع توارد الأحاديث في فضائل تميم وتخليدها وجوه الكتب الصحاح.

(٢) قوله «أنهم نادوه من البر والخارج» الظاهر أن تفسيره ما بعده. وفي الصحاح «في مادة برر» أن البرية هي الصحراء. وفي مادة ضمن : في تفسير قوله عليه الصلاة والسلام في بعض كتبه : «إن لنا الضاحية من البعل ولكم الضامنة من النخل» ما نصه : فالضاحية : هي الظاهرة التي في البر من النخل ، والضامنة : ما تضمنها أمصارهم وقراهم. (ع)

٣٥٧

عليه وسلم وقت الظهيرة وهو راقد ، فجعلوا ينادونه : محمد اخرج إلينا ، فاستيقظ فخرج (١) ونزلت. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فقال : «هم جفاة بنى تميم ، لو لا أنهم من أشدّ الناس قتالا للأعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم» (٢) فورود الآية على النمط الذي وردت عليه فيه مالا يخفى على الناظر : من بينات إكبار محل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلاله : منها مجيئها على النظم المسجل على الصائحين به بالسفه والجهل ، لما أقدموا عليه. ومنها لفظ الحجرات وإيقاعها كناية عن موضع خلوته. ومقيله مع بعض نسائه. ومنها : المرور على لفظها بالاقتصار على القدر الذي تبين به ما استنكر عليهم. ومنها : التعريف باللام دون الإضافة. ومنها : أن شفع ذمهم باستجفائهم واستركاك عقولهم وقلة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات ، تهوينا للخطب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتسلية له ، وإماطة لما تداخله من إيحاش تعجرفهم وسوء أدبهم ، وهلم جرا : من أوّل السورة إلى آخر هذه الآية ، فتأمّل كيف ابتدئ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمى إلى الله ورسوله متقدّمة على الأمور كلها من غير حصر ولا تقييد ، ثم أردف ذلك النهى عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر. كأن الأوّل بساط للثاني ووطاء لذكره ما هو ثناء على الذين تحاموا ذلك فغضوا أصواتهم ، دلالة على عظيم موقعه عند الله ، ثم جيء على عقب ذلك بما هو أطم وهجنته أتم : من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر ، كما يصاح بأهون الناس قدرا ، لينبه على فظاعة من أجروا إليه وجسروا عليه ، لأنّ من رفع الله قدره على أن يجهر له بالقول حتى خاطبه جلة المهاجرين (٣) والأنصار بأخى السرار ، كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغا ، ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب

__________________

(١) أخرجه ابن اسحق في السيرة قال : «قدمت وفود العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر القصة قال : ولما قدم وفد بنى تميم دخلوا المسجد. فنادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات يا محمد اخرج إلينا ـ فذكره إلى آخره» وأخرجه ابن مردويه من رواية ابن إسحاق عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس قال «لما قدم وفد بنى تميم وهم سبعون رجلا ـ فذكره مطولا. وأخرجه ابن مندة في المعرفة. وأورده الثعلبي من طريق يعلى بن عبد الرحمن عن عبد الحميد بن جعفر عن شمر بن الحكم عن جابر قال «جاءت بنو تميم فدخلوا المسجد فنادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات أن اخرج إلينا يا محمد فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم. فذكره مطولا.

(٢) أخرجه الثعلبي من رواية هاشم بن القاسم الحراني عن يعلى بن الأشدق حدثنا سعد بن عبد الله : أن النبي صلى الله عليه وسلم ـ فذكره : ولمسلم من حديث أبى هريرة «لا أزال أحب بنى تميم لثلاث ـ فذكر فيه «وهم أشد أمتى على الدجال».

(٣) قوله «حتى خاطبه جلة المهاجرين» معظم المهاجرين. (ع)

٣٥٨

وتقتبس محاسن الآداب ، كما يحكى عن أبى عبيد ـ ومكانه من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى ـ أنه قال : ما دققت بابا على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه (أَنَّهُمْ صَبَرُوا) في موضع الرفع على الفاعلية ، لأنّ المعنى : ولو ثبت صبرهم. والصبر : حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها. قال الله تعالى (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) وقولهم : صبر عن كذا ، محذوف منه المفعول ، وهو النفس ، وهو حبس فيه شدّة ومشقة على المحبوس ، فلهذا قيل للحبس على اليمين أو القتل : صبر. وفي كلام بعضهم : الصبر مرّ لا يتجرّعه إلا حرّ. فإن قلت : هل من فرق بين (حَتَّى تَخْرُجَ) وإلى أن تخرج؟ قلت : إنّ «حتى» مختصة بالغاية المضروبة. تقول : أكلت السمكة حتى رأسها ، ولو قلت : حتى نصفها ، أو صدرها : لم يجز ، و «إلى» عامّة في كل غاية ، فقد أفادت «حتى» بوضعها : أنّ خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم غاية قد ضربت لصبرهم ، فما كان لهم أن يقطعوا أمرا دون الانتهاء إليه. فإن قلت : فأى فائدة في قوله (إِلَيْهِمْ)؟ قلت : فيه أنه لو خرج ولم يكن خروجه إليهم ولأجلهم ، للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أنّ خروجه إليهم (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) في «كان» إما ضمير فاعل الفعل المضمر بعد لو ، وإما ضمير مصدر (صَبَرُوا) ، كقولهم : من كذب كان شرا له (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بليغ الغفران والرحمة واسعهما ، فلن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٨)

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة أخا عثمان لأمّه ـ وهو الذي ولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبى وقاص ، فصلى بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعا ، ثم قال : هل أزيدكم ، فعزله عثمان (١) عنهم ـ مصدّقا إلى بنى المصطلق ، وكانت بينه وبينهم إحقة ، فلما شارف ديارهم ركبوا مستقبلين له ، فحسبهم مقاتليه ، فرجع وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم :

__________________

(١) أخرجه مسلم من طريق أبى ساسان حصين بن منذر قال شهدت عثمان أخى الوليد بن عقبة وقد صلى الغداة بالكوفة أربعا ـ الحديث بطوله» وأخرجه ابن إسحاق والنسائي من هذا الوجه وقالوا فيه «وقد صلى للغداة أربعا»

٣٥٩

قد ارتدوا ومنعوا الزكاة (١) ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمّ أن يغزوهم ، فبلغ القوم فوردوا وقالوا : نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، فاتهمهم فقال : «لتنتهنّ أو لأبعثنّ إليكم رجلا هو عندي كنفسي يقاتل مقاتلتكم ويسبى ذراريكم» ثم ضرب بيده على كتف على رضى الله عنه. وقيل : بعث إليهم خالد بن الوليد فوجدهم منادين بالصلوات متهجدين ، فسلموا إليه الصدقات (٢) ، فرجع. وفي تنكير الفاسق والنبأ : شياع في الفساق والأنباء ، كأنه قال : أىّ فاسق جاءكم بأىّ نبإ (٣). فتوقفوا فيه وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة ، ولا تعتمدوا قول الفاسق «لأنّ من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه. والفسوق : الخروج من الشيء والانسلاخ منه. يقال : فسقت الرطبة عن قشرها. ومن مقلوبه : قفست البيضة ، إذا كسرتها وأخرجت ما فيها. ومن مقلوبه أيضا : قفست الشيء إذا أخرجته عن يد مالكه مغتصبا له عليه ، ثم استعمل في الخروج عن القصد والانسلاخ من الحق.

قال رؤبة :

فواسقا عن قصدها جوائرا (٤)

وقرأ ابن مسعود : فتثبتوا. والتثبت والتبين : متقاربان ، وهما طلب الثبات والبيان والتعرّف ، ولما كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم والذين معه بالمنزلة التي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب ، وما كان يقع مثل ما فرط من الوليد إلا في الندرة. قيل : إن جاءكم بحرف الشك وفيه أنّ على المؤمنين أن يكونوا على هذه الصفة ، لئلا يطمع فاسق في مخاطبتهم بكلمة زور (أَنْ تُصِيبُوا) مفعول له ، أى : كراهة إصابتكم (قَوْماً بِجَهالَةٍ) حال ، كقوله تعالى (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ) يعنى جاهلين بحقيقة الأمر وكنه القصة. والإصباح : بمعنى الصيرورة. والندم : ضرب من الغم ، وهو : أن تغتمّ على ما وقع منك تتمنى أنه لم يقع ، وهو غم يصحب

__________________

(١) أخرجه إسحاق والطبراني من حديث أم سلمة. دون قوله «فاتهمهم فقال لتنتهن أو لأبعثن إليكم رجلا هو عندي كنفسي يقاتل مقاتلتكم الخ» وعندهما بدل ذلك «فما زالوا يعتذرون إليه حتى نزلت فيهم الآية» وفيه موسى بن عبيدة ، وهو ضعيف ونحوه رواه أحمد والطبراني أيضا من حديث الحارث بن دثار الخزاعي أخرجه ابن مردويه من طريق عبد الله بن عبد القدوس عن الأعمش عن موسى بن المسيب عن سالم بن أبى الجعد. عن جابر قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة ـ فذكر الحديث بنحوه وزاد فقال عليه الصلاة والسلام : لتنتهن أو لأبعثن إليكم رجلا ـ فذكره.

(٢) لم أره.

(٣) قال محمود : «نكر فاسقا ونبأ لقصد الشياع ، فكأنه قيل أىّ فاسق جاء بأى نبأ» قال أحمد : تسامح بلفظ الشياع والمراد الشمول ، لأن النكرة إذا وقعت في سياق الشرط تعم ، كما إذا وقعت في سياق النفي ، والله أعلم.

(٤) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ١١٩ فراجعه إن شئت اه مصححه.

٣٦٠