الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

السدر : شجر النبق. والمخضود : الذي لا شوك له ، كأنما خضد شوكه (١). وعن مجاهد : الموقر الذي تثنى أغصانه كثرة حمله ، من خضد الغصن إذا ثناء وهو رطب. والطلح : شجر الموز. وقيل : هو شجر أم غيلان ، وله نوار كثير طيب الرائحة. وعن السدى : شجر يشبه طلح الدنيا ، ولكن له ثمر أحلى من العسل. وعن على رضى الله عنه أنه قرأ : وطلع ، وما شأن الطلح ، (٢) وقرأ (٣) قوله (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) فقيل له : أو نحوّلها؟ فقال : آي القرآن لا تهاج اليوم ولا تحوّل. وعن ابن عباس نحوه. والمنضود : الذي نضد (٤) بالحمل من أسفله إلى أعلاه ، فليست له ساق بارزة (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) ممتدّ منبسط لا يتقلص ، كظلّ ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس (مَسْكُوبٍ) يسكب لهم أين شاءوا وكيف شاءوا لا يتعنون فيه. وقيل : دائم الجرية لا ينقطع. وقيل : مصبوب يجرى على الأرض في غير أخدود (لا مَقْطُوعَةٍ) هي دائمة لا تنقطع في بعض الأوقات كفواكه الدنيا (وَلا مَمْنُوعَةٍ) لا تمنع عن متناولها بوجه ، ولا يحظر عليها كما يحظر على بساتين الدنيا. وقرئ : وفاكهة كثيرة ، بالرفع على : وهناك فاكهة ، كقوله : وحور عين (وَفُرُشٍ) جمع فراش. وقرئ : وفرش ، بالتخفيف (مَرْفُوعَةٍ) نضدت حتى ارتفعت. أو مرفوعة على الأسرة. وقيل : هي النساء ، لأن المرأة يكنى عنها بالفراش مرفوعة على الأرائك. قال الله تعالى (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) ، ويدل عليه قوله تعالى (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) وعلى التفسير الأول أضمر لهنّ ، لأنّ ذكر الفرش وهي المضاجع دلّ عليهن (أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) أى ابتدأنا خلقهن ابتداء جديدا من غير ولادة ، فإما أن يراد. اللاتي ابتدئ إنشاؤهن ، أو اللاتي أعيد إنشاؤهن. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم (٥). أنّ أمّ سلمة رضى الله عنها سألته عن قوله الله تعالى. (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَ) فقال : يا أم سلمة

__________________

(١) قوله «كأنما خضد شوكه» في الصحاح «خضدت الشجر» قطعت شوكه ، وخضدت العود ، أى : ثنيته من غير كسر. (ع)

(٢) قوله «وما شأن الطلح» لعله : وقال ما شأن الطلح. (ع)

(٣) قوله «وقرأ» أى : استشهادا على قراءته. (ع)

(٤) قوله «والمنضود الذي نضد» في الصحاح : أنه المرصوص بعضه فوق بعض. (ع)

(٥) أخرجه الثعلبي بتمامه من طريق الحسن بن علوية القطان عن إسماعيل بن عيسى عن المسيب بن شريك فذكره ولم يرفع إلا قصة عائشة. ومن طريق غنجار حدثنا إسماعيل بن أبى الباد عن يونس عن الحسن عن أم سلمة مرفوعا دون قصة عائشة. وروى الطبري والطبراني وابن مردويه من طريق عمر بن هاشم البيروتى عن سليمان بن أبى كريمة عن هشام عن الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت : قلت يا رسول الله ، أخبرنى عن قوله تعالى (عُرُباً أَتْراباً) فذكره. وفيه «فجعلهن عذارى عربا متعشقات متحببات إلى أزواجهن ، أترابا على ميلاد واحد» وروى الترمذي من طريق موسى بن عبيدة عن يزيد الزقاش طرفا منه واستضعفه.

٤٦١

هنّ اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطاء رمصاء (١) ، جعلهنّ الله بعد الكبر» (أَتْراباً) على ميلاد واحد في الاستواء (٢) ، كلما أتاهنّ أزواجهنّ وجدوهنّ أبكارا ، فلما سمعت عائشة رضى الله عنها ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : وأوجعاه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس هناك وجع. وقالت عجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن يدخلني الجنة ، لقال : إنّ الجنة لا تدخلها العجائز ، فولت وهي تبكى ، فقال عليه الصلاة السلام : «أخبروها أنها ليست يومئذ بعجوز» (٣) وقرأ الآية (عُرُباً) وقرئ : عربا ، بالتخفيف جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل (أَتْراباً) مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين ، وأزواجهنّ أيضا كذلك. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا جعادا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين» (٤) واللام في (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) من صلة أنشأنا وجعلنا.

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ

__________________

(١) قوله «عجائز شمطاء رمصا» في الصحاح «الشمط» : بياض شعر الرأس يخالط سواده ، والرجل أشمط ، والمرأة شمطاء. وفيه : الرمص : وسخ يجتمع في الموق ، وقد رمصت عينه ، والرجل أرمص اه ، أى : والمرأة رمصاء ، والجمع شمط ورمص. (ع)

(٢) قوله «ميلاد واحد في الاستواء» لعله متعلق بمعنى التشبيه ، أى : كأنهن على ميلاد واحد في استواء الخلق. (ع)

(٣) أخرجه الترمذي في الشمائل من رواية مبارك بن فضالة عن الحسن بهذا مرسلا وسياقه أتم. وله طرق أخرى. منها في البعث البيهقي من رواية ليث بن أبى سليم عن مجاهد عن عائشة. ومنها في الأوسط من رواية مسعدة ابن اليسع عن سعيد عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة. ورواه خارجة بن مصعب عن سعيد عن قتادة عن أنس. وكلها ضعيفة.

(٤) أخرجه أحمد وابن أبى شبية وأبو يعلى والطبراني في الأوسط من رواية حماد بن سلمة عن على بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أبى هريرة بهذا. وزاد على خلق آدم ستون ذراعا عرض سبعة أذرع. وذكر ابن أبى حاتم في العلل أن أباه قال : رواه أبو سلمة عن حماد مرسلا ولم يذكر فيه أبا هريرة وكذا أخرجه ابن سعد عن يحيى بن السكن عن حماد. وعلى بن زيد ضعيف. وفي الباب عن معاذ بن جبل. أخرجه الترمذي وقال : غريب. وبعض أصحاب قتادة أرسلوه. وأخرجه البيهقي موصولا ، ثم أخرجه موقوفا على قتادة.

٤٦٢

الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ)(٥٦)

(فِي سَمُومٍ) في حر نار ينفذ في المسام (وَحَمِيمٍ) وماء حار متناه في الحرارة (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) من دخان أسود بهيم (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) نفى لصفتى الظل عنه ، يريد : أنه ظل ، ولكن لا كسائر الظلال : سماه ظلا ، ثم نفى عنه برد الظل وروحه ونفعه لمن يأوى إليه من أذى الحر وذلك كرمه ليمحق ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه. والمعنى أنه ظل حارّ ضارّ إلا أنّ للنفي في نحو هذا شأنا ليس للإثبات. وفيه تهكم بأصحاب الشأمة ، وأنهم لا يستأهلون الظل البارد الكريم الذي هو لأضدادهم في الجنة. وقرئ : لا بارد ولا كريم بالرفع ، أى : لا هو كذلك و (الْحِنْثِ) الذنب العظيم. ومنه قولهم : بلغ الغلام الحنث ، أى : الحلم ووقت المؤاخذة بالمآثم. ومنه : حنث في يمينه ، خلاف : برّ فيها. ويقال : تحنث إذا تأثم وتحرج (أَوَآباؤُنَا) دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف. فإن قلت : كيف حسن العطف على المضمر في (لَمَبْعُوثُونَ) من غير تأكيد بنحن؟ قلت : حسن للفاصل الذي هو الهمزة ، كما حسن في قوله تعالى (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) لفصل (لا) المؤكدة النفي. وقرئ : أو آباؤنا. وقرئ : لمجمعون (١) (إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم ، والإضافة بمعنى من ، كخاتم فضة. والميقات : ما وقت به الشيء ، أى : حدّ. ومنه مواقيت الإحرام : وهي الحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرما (أَيُّهَا الضَّالُّونَ) عن الهدى (الْمُكَذِّبُونَ) بالبعث ، وهم أهل مكة ومن في مثل حالهم (مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) من الأولى لابتداء الغاية ، والثانية لبيان الشجر وتفسيره. وأنث ضمير الشجر على المعنى ، وذكره على اللفظ في قوله (مِنْهَا) و (عَلَيْهِ) ومن قرأ (مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) فقد جعل الضميرين للشجرة ، وإنما ذكر الثاني على تأويل الزقوم ، لأنه تفسيرها وهي في معناه (شُرْبَ الْهِيمِ) قرئ بالحركات الثلاث ، فالفتح والضم : مصدران. وعن جعفر الصادق رضى الله عنه ، أيام أكل وشرب ، بفتح الشين. وأما المكسور فبمعنى المشروب ، أى : ما يشربه الهيم وهي الإبل التي بها الهيام ، وهو داء تشرب منه فلا تروى : جمع أهيم وهيماء. قال ذو الرمّة :

__________________

(١) قوله «وقرئ : لمجمعون إلى ميقات» في الصحاح : أجمعت الشيء : جعلته جميعا. (ع)

٤٦٣

فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد

صداها ولا يقضى عليها هيامها (١)

وقيل الهيم : الرمال. ووجهه أن يكون جمع الهيام بفتح الهاء وهو الرمل الذي لا يتماسك ، جمع على فعل كسحاب وسحب ، ثم خفف وفعل به ما فعل بجمع أبيض. والمعنى : أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرّهم إلى أكل الزقوم الذي هو كالمهل ، فإذا ملؤوا منه البطون يسلط عليهم من العطش ما يضطرّهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم ، فيشربونه شرب الهيم. فإن قلت : كيف صحّ عطف الشاربين على الشاربين ، وهما لذوات متفقة ، وصفتان متفقتان ، فكان عطفا للشيء على نفسه؟ قلت : ليسنا بمتفقتين ، من حيث إنّ كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه : من تناهى الحرارة وقطع الأمعاء : أمر عجيب ، وشربهم له على ذلك كما تشرب الهيم الماء : أمر عجيب أيضا ، فكانتا صفتين مختلفتين. النزل : الرزق الذي يعدّ للنازل تكرما له. وفيه تهكم ، كما في قوله تعالى (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) وكقول أبى الشعر الضبي.

وكنّا إذا الجبّار بالجيش ضافنا

جعلنا القنا والموهفات له نزلا (٢)

وقرئ : نزلهم بالتخفيف.

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ)(٦٢)

__________________

(١) وقد زودت مى على النأى قبلة

علاقات حاجات طويل سقامها

فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد

صداها ولا يقضى عليها هيامها

لذي الرمة ، يقول : وقد زودتنا ، أى جعلت زادنا مى عند الرحيل قبلة ، فكانت القبلة علاقات الحاجات وأسباب التطلع إلى الوصال ، فعلاقات : خبر مرفوع ، أو بدل منصوب. والسقام ككلام ، وسقم كتعب ، وسقم كبخل :

مصدر سقم كتعب تعبا ، أى : عناؤها طويل المدة لا يبرأ. ويقال للجمل : أهيم. وللناقة هيماء ، إذا أصابهما الهيام بالضم : وهو داء تغلى منه قلوب الإبل كالعطش الشديد ، أى : فأصبحت كالناقة الهيماء. وقوله «لا الماء مبرد» استئناف مبين لوجه الشبه فيها. أو حال منها ، أى : لا يبرد الماء ظمأها ولا يقضى عليها ، أى : لا يمينها هيامها ، فأنا كذلك لا وصال فيشفينى ، ولا التلهف يميتني. ويروى : ولا يقضى على هيامها ، ولعل معناه : لا الماء يبرد الحرقة التي حصلت لي منها ، ولا يميتني الهيام الذي حصل لي منها ، ولكن الأولى أقعد وأجود معنى.

(٢) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٤٥٨ فراجعه إن شئت اه مصححه.

٤٦٤

(فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) تحضيض على التصديق : إما بالخلق لأنهم وإن كانوا مصدّقين به ، إلا أنهم لما كان مذهبهم خلاف ما يقتضيه التصديق ، فكأنهم مكذبون به. وإما بالبعث ، لأنّ من خلق أولا لم يمتنع عليه أن يخلق ثانيا (ما تُمْنُونَ) ما تمنونه ، أى : تقذفونه في الأرحام من النطف. وقرأ أبو السمال بفتح التاء ، يقال : أمنى النطفة ومناها. قال الله تعالى (مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى). (تَخْلُقُونَهُ) تقدرونه وتصوّرونه (قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) تقديرا وقسمناه عليكم قسمة الرزق على اختلاف وتفاوت كما تقتضيه مشيئتنا ، فاختلفت أعماركم من قصير وطويل ومتوسط. وقرئ : قدرنا بالتخفيف. سبقته على الشيء : إذا أعجزته عنه وغلبته عليه ولم تمكنه منه ، فمعنى قوله (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) أنا قادرون على ذلك لا تغلبوننا عليه ، وأمثالكم جمع مثل : أى على أن نبدل منكم ومكانكم أشباهكم من الخلق ، وعلى أن (نُنْشِئَكُمْ) في خلق لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها ، يعنى : أنا نقدر على الأمرين جميعا : على خلق ما يماثلكم ، وما لا يماثلكم ، فكيف نعجز عن إعادتكم. ويجوز أن يكون (أَمْثالَكُمْ) جمع مثل ، أى : على أن نبدل ونغير صفاتكم التي أنتم عليها في خلقكم وأخلاقكم ، وننشئكم في صفات لا تعلمونها.

قرئ النشأة والنشاءة. وفي هذا دليل على صحة القياس حيث جهّلهم في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى.

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (٦٧)

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) من الطعام ، أى : تبذرون حبه وتعملون في أرضه (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) تنبتونه وتردونه نباتا ، يرف وينمى (١) إلى أن يبلغ الغاية. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يقولن أحدكم : زرعت ، وليقل : حرثت» (٢) قال أبو هريرة : أرأيتم إلى (٣) قوله :

__________________

(١) قوله «نبانا يرف وينمى» في الصحاح : رف لونه يرف ـ بالكسر ـ برق وتلألأ. وشجر رفيف : إذا تندت أوراقه. (ع)

(٢) أخرجه ابن حبان والبزار والطبراني من طريق مخلد بن حسين عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبى هريرة بهذا قال : ثم قرأ أبو هريرة (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ).

(٣) قوله «قال أبو هريرة : أرأيتم» أى استشهد على الحديث بالآية ، وهي قوله تعالى (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) وقوله «أرأيتم» خطاب لمن يسمع منه ، وأراد معنى النظر ، فعداء بإلى كقوله (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ). (ع)

٤٦٥

(أَفَرَأَيْتُمْ ...) الآية. والحطام : من حطم ، كالفتات والجذاذ من فت وجذ : وهو ما صار هشيما وتحطم (فَظَلْتُمْ) وقرئ بالكسر. وفظللتم على الأصل (تَفَكَّهُونَ) تعجبون. وعن الحسن رضى الله عنه : تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه. أو على ما اقترفتم من المعاصي التي أصبتم يذلك من أجلها. وقرئ : تفكنون. ومنه الحديث «مثل العالم كمثل الحمة يأتيها البعداء (١) ويتركها القرباء فبيناهم إذ غار ماؤها فانتفع بها قوم وبقي قوم يتفكنون» (٢) أى : يتندمون (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) لملزمون غرامة ما أنفقنا. ومهلكون لهلاك رزقنا ، من الغرام : وهو الهلاك (بَلْ نَحْنُ) قوم (مَحْرُومُونَ) محارفون محدودون ، لاحظ لنا ولا بخت لنا ، ولو كنا مجدودين ، لما جرى علينا هذا. وقرئ : أئنا.

(أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ)(٧٠)

(الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ) يريد : الماء العذب الصالح للشرب. و (الْمُزْنِ) السحاب : الواحدة مزنة. وقيل : هو السحاب الأبيض خاصة ، وهو أعذب ماء (أُجاجاً) ملحا زعاقا (٣) لا يقدر على شربه. فإن قلت : لم أدخلت اللام على جواب (لَوْ) في قوله (لَجَعَلْناهُ حُطاماً) ونزعت منه هاهنا؟ قلت : إنّ «لو» لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشرط ، ولم تكن مخلصة للشرط كإن ولا عاملة مثلها ، وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقا من حيث إفادتها في مضمونى جملتيها أنّ الثاني امتنع لامتناع الأوّل : افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علما على هذا التعلق ، فزيدت هذه اللام لتكون علما على ذلك ، فإذا حذفت بعد ما صارت علما مشهورا مكانه ، فلأن الشيء إذا علم وشهر موقعه وصار مألوفا ومأنوسا به : لم يبال بإسقاطه عن اللفظ ، استغناء بمعرفة السامع. ألا ترى إلى ما يحكى عن رؤبة أنه كان يقول : خير ، لمن قال له : كيف أصبحت؟ فحذف الجار لعلم كل أحد بمكانه. وتساوى حالى حذفه وإثباته لشهرة أمره. وناهيك بقول أوس :

حتى إذا الكلّاب قال لها

كاليوم مطلوبا ولا طلبا (٤)

__________________

(١) قوله «كمثل الحمة يأتيها البعداء» في الصحاح «الحمة» : العين الحارة يستشفى بها الأعلاء والمرضى. وفي الحديث : «العالم كالحمة» اه. (ع)

(٢) لم أجده

(٣) قوله «ملحا زعاقا» في الصحاح «الماء الزعاق» : الملح. وطعام مزعوق : إذا كثر ملحه. (ع)

(٤) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ٢٨٨ فراجعه إن شئت اه مصححه.

٤٦٦

وحذفه «لم أر» فإذن حذفها اختصار لفظي وهي ثابتة في المعنى ، فاستوى الموضعان بلا فرق بينهما ، على أن تقدّم ذكرها والمسافة قصيرة مغن عن ذكرها ثانية ونائب عنه. ويجوز أن يقال : إنّ هذه اللام مفيدة معنى التوكيد لا محالة ، فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب ، للدلالة على أن أمر المطعوم مقدّم على أمر المشروب ، وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب ، من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعا للمطعوم. ألا ترى أنك إنما تسقى ضيفك بعد أن تطعمه ، ولو عكست قعدت تحت قول أبى العلاء :

إذا سقيت ضيوف النّاس محضا

سقوا أضيافهم شبما زلالا (١)

وسقى بعض العرب فقال : أنا لا أشرب إلا على ثميلة ، ولهذا قدّمت آية المطعوم على آية المشروب.

(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)(٧٤)

(تُورُونَ) تقدحونها وتستخرجونها من الزناد والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما على الآخر ، ويسمون الأعلى : الزند ، والأسفل : الزندة ، شبهوهما بالفحل والطروقة (٢) (شَجَرَتَها) التي منها الزناد (تَذْكِرَةً) تذكيرا لنار جهنم ، حيث علقنا بها أسباب المعايش كلها ، وعممنا بالحاجة إليها البلوى لتكون حاضرة للناس ينظرون إليها ويذكرون ما أو عدوا به. أو جعلناها تذكرة وأنموذجا من جهنم ، لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزأ من حرّ جهنم» (٣) (وَمَتاعاً) ومنفعة (لِلْمُقْوِينَ) للذين ينزلون القواء وهي القفر. أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام. يقال : أقويت من

__________________

(١) لأبى العلاء يمدح سعد الدولة أبا الفضائل ، وعيب عليه حيث مدح بسقى الضيوف الماء قبل ذكر الطعام. والمخض ـ بمعجمتين ـ : اللبن المنزوع زبده ، فهو بمعنى الممخوض. ويروى : محضا ، بالحاء المهملة ، أى : خالصا حلوا أو حامضا. والشبم ـ كحذر ـ : البارد. والزلال : العقب. هذا وحيث جعل علماء البلاغة للمقام مدخلا في الدلالة على المراد فنقول : إن معنى البيت : إذا عجلت الناس اللبن لأضيافهم واكتفوا به عن الاسراع بالطعام : عجلوا هم بالطعام لضيوفهم لاستعدادهم للضيفان ، فيحتاجون لشرب الماء ، فيسقونهم ماء قبل إطعام غيرهم الضيفان ، فسقيهم الماء يفيد تعجيل الطعام قبله بمعونة المقام ، لأنه يلزمه عادة فلا عيب فيه.

(٢) قوله «بالفحل والطروقة» أنثى الفحل ، كما في الصحاح. (ع)

(٣) متفق عليه من حديث أبى هريرة.

٤٦٧

أيام ، أى لم آكل شيئا (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ) فأحدث التسبيح بذكر اسم ربك ، أو أراد بالاسم : الذكر ، أى : بذكر ربك. و (الْعَظِيمِ) صفة للمضاف أو للمضاف إليه. والمعنى : أنه لما ذكر ما دل على قدرته وإنعامه على عباده قال : فأحدث التسبيح وهو أن يقول : سبحان الله ، إمّا تنزيها له عما يقول الظالمون الذين يجحدون وحدانيته ويكفرون نعمته ، وإما تعجبا من أمرهم في غمط آلائه (١) وأياديه الظاهرة ، وإما شكرا لله على النعم التي عدّها ونبه عليها.

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ)(٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٨٠)

(فَلا أُقْسِمُ) معناه فأقسم. ولا مزيدة مؤكدة مثلها في قوله (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) وقرأ الحسن : فلأقسم. ومعناه : فلأنا أقسم : اللام لام الابتداء (٢) دخلت على جملة من مبتدإ وخبر ، وهي : أنا أقسم ، كقولك «لزيد منطلق» ثم حذف المبتدأ ، ولا يصح أن نكون اللام لام القسم لأمرين ، أحدهما : أن حقها أن يقرن بها النون المؤكدة ، والإخلال بها ضعيف قبيح. والثاني : أن «لأفعلن» في جواب القسم للاستقبال ، وفعل القسم يجب أن يكون للحال (بِمَواقِعِ النُّجُومِ) بمساقطها ومغاربها ، لعل لله تعالى في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالا مخصوصة عظيمة ، أو للملائكة عبادات موصوفة ، أو لأنه وقت قيام المتهجدين والمبتهلين إليه من عباده الصالحين ، ونزول الرحمة والرضوان عليهم ، فلذلك أقسم بمواقعها ، واستعظم ذلك بقوله (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) أو أراد بمواقعها : منازلها ومسايرها ، وله تعالى في ذلك من الدليل على عظيم القدرة والحكمة ما لا يحيط به الوصف. وقوله (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) اعتراض في اعتراض ، لأنه اعترض به بين المقسم والمقسم (٣) عليه ، وهو قوله (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) واعترض ب (لَوْ تَعْلَمُونَ) بين الموصوف وصفته.

__________________

(١) قوله «في غمط آلائه» أى تحقير نعمه. أفاده الصحاح. (ع)

(٢) قال محمود : «لا زائدة مؤكدة مثلها في قوله (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) قال : وقرأ الحسن فلأقسم» واللام في هذه للابتداء ... الخ» قلت : تلخيص الرد بهذا الوجه الثاني : أن سياق الآية يرشد إلى أن القسم بمواقع النجوم واقع ، ويدل عليه القراءة الأخرى على زيادة لا : ومقتضى جعلها جوابا لقسم محذوف أن لا يكون القسم بمواقع النجوم واقعا ، بل مستقبلا ، فتتنافس القراءتان إذا ، والله الموفق للصواب.

(٣) قال محمود : «قوله وإنه لقسم لو تعلمون عظيم : اعتراض في اعتراض فالجملة الكبرى اعتراض بين القسم والجواب ... الخ» قال أحمد : وعلى هذا التفسير يكون جواب القسم مناسبا للمقسم ، مثل قوله (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) ومن واديه : وثناياك إنها إغريض كما تقدم.

٤٦٨

وقيل : مواقع النجوم : أوقات وقوع نجوم القرآن ، أى : أوقات نزولها كريم حسن مرضى في جنسه من الكتب. أو نفاع جم المنافع. أو كريم على الله (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) مصون من غير المقربين من الملائكة ، لا يطلع عليه من سواهم ، وهم المطهرون من جميع الأدناس أدناس الذنوب وما سواها : إن جعلت الجملة صفه لكتاب مكنون وهو اللوح. وإن جعلتها صفة للقرآن ، فالمعنى لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة من الناس ، يعنى مس المكتوب منه. ومن الناس من حمله على القراءة أيضا ، وعن ابن عمر أحب إلىّ أن لا يقرأ إلا وهو طاهر ، وعن ابن عباس في رواية أنه كان يبيح القراءة للجنب ، ونحوه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه» (١) أى لا ينبغي له أن يظلمه أو يسلمه. وقرئ : المتطهرون ، والمطهرون بالإدغام. والمطهرون ، من اطهره بمعنى طهره. والمطهرون بمعنى : يطهرون أنفسهم أو غيرهم بالاستغفار لهم والوحى الذي ينزلونه (تَنْزِيلٌ) صفة رابعة للقرآن ، اى : منزل من رب العالمين. أو وصف بالمصدر ، لأنه نزل نجوما من بين سائر كتب الله تعالى ، فكأنه في نفسه تنزيل ، ولذلك جرى مجرى بعض أسمائه ، فقيل : جاء في التنزيل كذا ، ونطق به التنزيل. أو هو تنزيل على حذف المبتدإ. وقرئ : تنزيلا ، على : نزل تنزيلا ،

(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)(٨٢)

(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) يعنى القرآن (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) اى : متهاونون به ، كمن يدهن في الأمر ، أى يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونا به (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) على حذف المضاف ، يعنى : وتجعلون شكر رزقكم التكذيب ، أى : وضعتم التكذيب موضع الشكر. وقرأ على رضى الله عنه : وتجعلون شكركم أنكم تكذبون. وقيل : هي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمعنى وتجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به. وقيل : نزلت في الأنواء ونسبتهم السقيا إليها. والرزق : المطر ، يعنى : وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله ، حيث تنسبونه إلى النجوم. وقرئ : تكذبون وهو قولهم في القرآن : شعر وسحر وافتراء. وفي المطر : وهو من الأنواء ، ولأنّ كل مكذب بالحق كاذب.

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ

__________________

(١) متفق عليه من حديث ابن عمر. ولمسلم من طريق أبى هريرة بعضه.

٤٦٩

صادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)(٩٦)

ترتيب الآية : فلو لا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين. و (فَلَوْ لا) الثانية مكررة للتوكيد ، والضمير في (تَرْجِعُونَها) للنفس وهي الروح ، وفي (أَقْرَبُ إِلَيْهِ) للمحتضر (غَيْرَ مَدِينِينَ) غير مربوبين ، من دان السلطان الرعية إذا ساسهم. (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) (١) يا أهل الميت بقدرتنا وعلمنا ، أو بملائكة الموت. والمعنى : إنكم في جحودكم أفعال الله تعالى وآياته في كل شيء إن أنزل عليكم كتابا معجزا قلتم : سحر وافتراء. وإن أرسل إليكم رسولا قلم : ساحر كذاب ، وإن رزقكم مطرا يحييكم به قلتم : صدق نوء كذا ، على مذهب يؤدى إلى الإهمال والتعطيل فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثم قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيى المميت المبدئ المعيد (فَأَمَّا إِنْ كانَ) المتوفى (مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) من السابقين من الأزواج الثلاثة المذكورة في أوّل السورة (فَرَوْحٌ) فله استراحة. وروت عائشة رضى الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : فروح ، (٢) بالضم. وقرأ به الحسن وقال : الروح الرحمة ، لأنها كالحياة للمرحوم. وقيل : البقاء ، أى : فهذان له معا ، وهو الخلود مع الرزق (٣) والنعيم. والريحان : الرزق (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أى : فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين ، أى : يسلمون عليك ، كقوله تعالى (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً). (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) كقوله تعالى (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) وقرئ بالتخفيف (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) قرئت بالرفع والجر عطفا على نزل وحميم (إِنَّ هذا) الذي أنزل في هذه السورة (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) أى الحق الثابت من اليقين.

__________________

(١) قوله «ونحن أقرب إليه منكم» لم يظهر وجه لتأخير هذا عما قبله إلا بالنظر للترتيب الذي ذكره فليحرر. (ع)

(٢) أخرجه الترمذي والنسائي وإسحاق والحاكم من رواية بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن عائشة ، زاد إسحاق «برفع الراء».

(٣) قوله «وهو الخلود مع الرزق» لعله : وهما. (ع)

٤٧٠

عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم : «من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم نصبه فاقة أبدا» (١)

سورة الحديد

مدنية ، وهي تسع وعشرون آية [نزلت بعد الزلزلة]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٦)

__________________

(١) أخرجه ابن وهب في جامعه حدثني السرى بن يحيى أن شجاعا حدثه عن أبى ظبية عن عبد الله بن مسعود تابعه يزيد بن أبى حكيم وعباس بن الفضل البصري كلاهما عن السرى. أخرجه البيهقي في الشعب من طريقهما. وكذا رواه أبو يعلى من رواية محمد بن حبيب عن السرى. ورواه البيهقي في الشعب من رواية حجاج بن منهال عن السرى فقال : عن شجاع عن ابن فاطمة عن ابن مسعود. وكذا رواه أبو عبيد في فضائل القرآن من رواية السرى فقال : عن أبى ظبية ، فاختلف أصحاب السرى. هل شيخه شجاع أو أبو شجاع. وكذا اختلفوا في شيخ شجاع هل هو أبو فاطمة أو أبو ظبية. ثم اختلفوا في ضبط أبى ظبية فعند الدارقطني بالطاء المهملة بعدها تحتانية ، ثم موحدة وإنه عيسى بن سليمان الجرجاني. وأن روايته عن ابن مسعود منقطعة. ويؤيده أن الثعلبي أخرجه من طريق أبى بكر العطاردي عن السرى عن شجاع عن أبى ظبية الجرجاني. وعند البيهقي أنه بالمعجمة بعدها موحدة ، ثم تحتانية ، وأنه مجهول. وقال أحمد بن حنبل : هذا حديث منكر. وشجاع لا أعرفه.

٤٧١

جاء في بعض الفواتح (سَبَّحَ) على لفظ الماضي ، وفي بعضها على لفظ المضارع ، وكل واحد منهما معناه : أنّ من شأن من أسند إليه التسبيح أن يسبحه ، وذلك هجيراه وديدنه ، وقد عدى هذا الفعل باللام تارة وبنفسه أخرى في قوله تعالى (وَتُسَبِّحُوهُ) وأصله : التعدي بنفسه ، لأنّ معنى سبحته : بعدته عن السوء ، منقول من سبح إذا ذهب وبعد ، فاللام لا تخلو إما أن تكون مثل اللام في : نصحته ، ونصحت له. وإما أن يراد بسبح لله : أحدث التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصا ، (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ما يتأتى منه التسبيح ويصح. فإن قلت : ما محل (يُحْيِي)؟ قلت : يجوز أن لا يكون له محل ، ويكون جملة برأسها ، كقوله (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ) وأن يكون مرفوعا على : هو يحيى ويميت ، ومنصوبا حالا من المجرور في (لَهُ) والجار عاملا فيها. ومعناه : يحيى النطف والبيض والموتى يوم القيامة ويميت الأحياء (هُوَ الْأَوَّلُ) هو القديم الذي كان قبل كل شيء (وَالْآخِرُ) الذي يبقى بعد هلاك كل شيء (وَالظَّاهِرُ) بالأدلة الدالة عليه (وَالْباطِنُ) لكونه غير مدرك بالحواس. فإن قلت : فما معنى الواو؟ (١) قلت الواو الأولى معناها الدلالة (٢) على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية ، والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء. وأما الوسطى ، فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين ، فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية ، وهو في جميعها ظاهر وباطن : جامع للظهور بالأدلة والخفاء ، فلا يدرك بالحواس. وفي هذا حجة على من جوّز إدراكه (٣) في الآخرة بالحاسة. وقيل : الظاهر العالي على كل شيء الغالب له ، من ظهر عليه إذا علاه وغلبه. والباطن الذي بطن كل شيء ، أى علم باطنه ، وليس بذاك مع العدول عن الظاهر المفهوم.

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت : ما معنى الواو وأجاب بأن المتوسطة بين الأول والآخر للجمع بين معنى الأولية والبقاء الخ. قال : ومعنى الطاهر أى بالأدلة والباطن أى عن الحواس. وقيل : وفيه دليل الرد على من زعم أنه تعالى يرى في الآخرة بالحاسة» قال أحمد : «لا دليل فيه على ذلك ، فان لنا أن نقول : إن المراد عدم الإدراك بالحاسة في الدنيا لا في الآخرة. ونحن نقول به ، أو في الآخرة. والمراد : الكفار والجاحدون للرؤية كالقدرية ألا ترى إلى قوله (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) فانه قيل : تقييد وتخصيص على خلاف الظاهر. قلنا والمسألة قطعية ، فيكفى الاحتمال. وأيضا فقسيمه لا بد فيه من تخصيص ، فانه تعالى لم يظهر جميع خلقه على الأدلة الموصلة إلى معرفته ، بل أخفاها عن كثير منهم وحرمهم الفوز بالايمان به عز وجل ، فالظاهر إذا معناها في التخصيص كالثاني طبقا بينه وبين الأول.

(٢) قوله «قلت الواو الأولى معناها الدلالة» الأولى إنما دلت على اجتماع الصفتين الأوليين ، والثالثة على اجتماع الأقربين. والثانية على اجتماع المجموعين. (ع)

(٣) قوله «حجة على من جوز إدراكه» يريد أهل السنة ، وهم قد جوزوا رؤيته مطلقا ، وقالوا : لا تدركه الأبصار ، أى ؛ لا تحيط به ، والمعتزلة أحالوا رؤيته تعالى ، وتفصيله في التوحيد. (ع)

٤٧٢

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٨)

(مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) يعنى أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها ، وإنما موّلكم إياها ، وخوّلكم الاستمتاع بها ، وجعلكم خلفاء في التصرف فيها ، فليست هي بأموالكم في الحقيقة. وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنوّاب ، فأنفقوا منها في حقوق الله ، وليهن عليكم الإنفاق منها كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه. أو جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما في أيديكم : بتوريثه إياكم ، فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم ، وسينقل منكم إلى من بعدكم ، فلا تبخلوا به ، وانفعوا بالإنفاق منها أنفسكم (لا تُؤْمِنُونَ) حال من معنى الفعل في مالكم ، كما تقول : مالك قائما ، بمعنى : ما تصنع قائما ، أى : وما لكم كافرين بالله. والواو في (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) واو الحال ، فهما حالان متداخلتان. وقرئ : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) والمعنى : وأى عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبراهين والحجج ، وقبل ذلك قد أخذ الله ميثاقكم بالإيمان : حيث ركب فيكم العقول ، (١) ونصب لكم الأدلة ، ومكنكم من النظر ، وأزاح عللكم ، فإذ لم تبق لكم علة بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول ، فما لكم لا تؤمنون (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) لموجب ما ، فإن هذا الموجب لا مزيد عليه. وقرئ : أخذ ميثاقكم ، (٢) على البناء للفاعل ، وهو الله عز وجل.

(هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٩)

(لِيُخْرِجَكُمْ) الله بآياته من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. أو ليخرجكم الرسول بدعوته

__________________

(١) قال محمود : «أخذ الميثاق عبارة عن تركيب العقول فيهم ... الخ» قال أحمد : وما عليه أن يحمل أخذ الميثاق على ما بينه الله في آية غير هذه ، إذ يقول تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) ولقد يريبني منه إنكاره لكثير من مثل هذه الظواهر والعدول بها عن حقائقها مع إمكانها عقلا ووقوعها بالسمع قطعا إلى ما يتوهمه من تمثيل يسميه تخييلا ، فالقاعدة التي تعتمد عليها كى لا يضرك ما يومئ إليه أن ما كل ما جوزه العقل وورد بوقوعه السمع وجب حمله على ظاهره والله الموفق.

(٢) قوله «وقرئ : أخذ ميثاقكم» يفيد أن القراءة على البناء للمفعول أشهر. (ع)

٤٧٣

(لَرَؤُفٌ) وقرئ لرؤوف (١).

(وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ)(١١)

(وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا) في أن لا تنفقوا (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يرث كل شيء فيهما لا يبقى منه باق لأحد من مال وغيره ، يعنى : وأى غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسوله والله مهلككم فوارث أموالكم ، وهو من أبلغ البعث على الإنفاق في سبيل الله. ثم بين التفاوت بين المنفقين منهم فقال (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ) قبل فتح مكة قبل عز الإسلام وقوّة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجا وقلة الحاجة إلى القتال والنفقة فيه ، ومن أنفق من بعد الفتح فحذف لوضوح الدلالة (أُولئِكَ) الذين أنفقوا قبل الفتح وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» (٢) (أَعْظَمُ دَرَجَةً). وقرئ : قبل الفتح (وَكُلًّا) وكل واحد من الفريقين (وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أى المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات. وقرئ بالرفع على : وكل وعده الله. وقيل : نزلت في أبى بكر رضى الله عنه ، لأنه أول من أسلم وأول من أنفق في سبيل الله. القرض الحسن : الإنفاق في سبيله. شبه ذلك بالقرض على سبيل المجاز ، لأنه إذا أعطى ماله لوجهه فكأنه أقرضه إياه (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) أى يعطيه أجره على إنفاقه مضاعفا «أضعافا» من فضله (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) يعنى : وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه. وقرئ : فيضعفه. وقرئا منصوبين على جواب (٣) الاستفهام «والرفع عطف على (يُقْرِضُ) ، أو على (فَيُضاعِفَهُ).

__________________

(١) قوله وقرئ «لرؤوف» يفيد أن القراءة بالقصر أشهر ، وفيه نظر فلينظر. وفي الصحاح : رؤف به ـ بالضم ، ورأف به ـ بالفتح ، ورئف به ـ بالكسر ، فهو رؤف على فعول. قال كعب بن مالك الأنصارى :

نطيع نبينا ونطيع ربا

هو الرحمن كان بنا رءوفا

ورؤف أيضا على فعل. قال جرير :

يرى للمسلمين عليه حقا

كفعل الوالد الرؤوف الرحيم

والظاهر أن رسمه بواو واحدة حال المد والقصر ، فيكون الأشهر قراءة المد ، كما هو الأشهر في الاستعمال اللغوي. (ع)

(٢) متفق عليه من حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه.

(٣) قوله «وقرئا منصوبين على جواب» أى قوله : فيضاعفه ، وقوله فيضعفه. (ع)

٤٧٤

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(١٢)

(يَوْمَ تَرَى) ظرف لقوله : وله أجر كريم. أو منصوب بإضمار «اذكر» تعظيما لذلك اليوم. وإنما قال (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) لأنّ السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين ، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ومن وراء ظهورهم ، فجعل النور في الجهتين شعارا لهم وآية ، لأنهم هم الذين بحسناتهم سعدوا وبصحائفهم البيض أفلحوا ، فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومروا على الصراط يسعون : سعى بسعيهم ذلك النور جنيبا لهم ومتقدما. ويقول لهم الذين يتلقونهم من الملائكة. (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ). وقرئ : ذلك الفوز.

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(١٥)

(يَوْمَ يَقُولُ) بدل من يوم ترى (انْظُرُونا) انتظرونا ، لأنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة على ركاب تزف (١) بهم. وهؤلاء مشاة. وانظروا إلينا ، لأنهم إذا نظروا اليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به. وقرئ : أنظرونا من النظرة وهي الإمهال : جعل اتئادهم في المضي إلى أن يلحقوا بهم إنظارا لهم (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) نصب منه ، وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) طرد لهم وتهكم بهم ، أى : ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوه هنالك ، فمن ثم يقتبس. أو ارجعوا إلى الدنيا ، فالتمسوا نورا بتحصيل سببه وهو الإيمان. أو ارجعوا خائبين وتنحوا عنا ،

__________________

(١) قوله «تزف بهم» أى : تسرع. أفاده الصحاح. (ع)

٤٧٥

فالتمسوا نورا آخر ، فلا سبيل لكم إلى هذا النور ، وقد علموا أن لا نور وراءهم ، وإنما هو تخييب وإقناط لهم (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) بين المؤمنين والمنافقين بحائط حائل بين شق الجنة وشق النار. وقيل : هو الأعراف لذلك السور (بابٌ) لأهل الجنة يدخلون منه (باطِنُهُ) باطن السور أو الباب ، وهو الشق الذي بلى الجنة (وَظاهِرُهُ) ما ظهر لأهل النار (مِنْ قِبَلِهِ) من عنده ومن جهته (الْعَذابُ) وهو الظلمة والنار. وقرأ زيد بن على رضى الله عنهما : فضرب بينهم على البناء للفاعل (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) يريدون موافقتهم في الظاهر (فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) محنتموها بالنفاق وأهلكتموها (وَتَرَبَّصْتُمْ) بالمؤمنين الدوائر (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) طول الآمال والطمع في امتداد الأعمار (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) وهو الموت (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) وغرّكم الشيطان بأنّ الله عفوّ كريم لا يعذبكم. وقرئ : الغرور ، بالضم (فِدْيَةٌ) ما يفتدى به (هِيَ مَوْلاكُمْ) قيل : هي أولى بكم ، وأنشد قول لبيد:

فندت كلا الفرجين تحسب أنّه

مولى المخافة خلفها وأمامها (١)

وحقيقة مولاكم : محراكم ومقمنكم (٢). أى : مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم ، كما قيل : هو مئنة للكرم ، أى مكان ، لقول القائل : إنه لكريم. ويجوز أن يراد : هي ناصركم ، أى لا ناصر لكم غيرها. والمراد : نفى الناصر على البتات. ونحوه قولهم : أصيب فلان بكذا فاستنصر الجزع (٣). ومنه قوله تعالى (يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) وقيل : تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار.

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ

__________________

(١) وتوجست رز الأنيس فراعها

عن ظهر غيب والأنيس سقامها

فغدت كلا الفرجين تحسب أنه

مولى المخافة خلفها وأمامها

البيد من معلقته. يصف بقرة وحشية ، توجست : أى تسمعت البقرة. والتوجس : التسمع. ويقال : رزت السماء رزا ، بتقديم الراء إذا صوتت عند المطر ؛ فالرز بالفتح : التصويت الخفي ، وبالكسر : اسم للصوت الخفي. ورز : أى صوت الأنيس ، وهم الصياد ، فأفزعها بظهر الغيب. وإقحام الظهر في مثل هذا التركيب : مبالغة في الخفاء ، لأن ما وراء الظهر لا يعلم ولا يدرى ما هو. وسمى الصياد أنيسا بالنسبة إلينا لا إليها ، لأنه عناؤها وسبب خوفها ، فجعله نفس السقام مبالغة. وكلا الفرحين : مبتدأ. وتحسب أنه مولى المخافة : خبر ، أى أنه الأولى بالخوف من جهته. وخلفها وأمامها : خبر لمبتدإ محذوف ، أو بدل من كلا الفرجين للتوضيح والتبيين ، أى : لهما ما بين رجليها وما بين يديها ، وبعضهم فسرهما بنقرنين في الجبل ، وعليه فلا معنى للام العهد فيهما.

(٢) قوله «محراكم ومقمنكم» يقال : هو حرى أن يفعل كذا ، وهو قمن أن يفعله ، أى : جدير بذلك وحقيق به. أفاده الصحاح. (ع)

(٣) قوله «فاستنصر الجزع» لعله : الجزع ، أى : نقيض الصبر. (ع)

٤٧٦

وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ)(١٦)

(أَلَمْ يَأْنِ) من أنى الأمر يأنى ، إذا جاء إناه ، أى. وقته. وقرئ : ألم يئن ، من آن يئين بمعنى : أنى يأنى ، وألما يأن ، قيل : كانوا مجدبين بمكة ، فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه ، فنزلت. وعن ابن مسعود : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين (١). وعن ابن عباس رضى الله عنهما : أنّ الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن. وعن الحسن رضى الله عنه : أما والله لقد استبطأهم وهم يقرؤن من القرآن أقل مما تقرءون. فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسق. وعن أبى بكر رضى الله عنه أنّ هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة ، فبكوا بكاء شديدا ، فنظر إليهم فقال : هكذا كنا حتى قست القلوب. وقرئ : نزّل ونزل. وأنزل (وَلا يَكُونُوا) عطف على تخشع ، وقرئ بالتاء على الالتفات. ويجوز أن يكون نهيا لهم عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب بعد أن وبخوا ، وذلك أنّ بنى إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم ، وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم ، فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة واختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره. فإن قلت : ما معنى (لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ)؟ قلت : يجوز أن يراد بالذكر وبما نزل من الحق : القرآن ، لأنه جامع للأمرين : للذكر والموعظة ، وأنه حق نازل من السماء ، وأن يراد خشوعها إذا ذكر الله وإذا تلى القرآن كقوله تعالى (إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) أراد بالأمد : الأجل ، كقوله :

...... إذا انتهى أمده (٢)

وقرئ : الأمدّ ، أى : الوقت الأطول (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين.

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(١٧)

__________________

(١) أخرجه مسلم بلفظ «وبين أن عاتبنا الله» ووهم الحاكم فاستدركه.

(٢) قوله «كقوله إذا انتهي أمده» البيت من أوله :

كل حى مستكمل مدة العمر

ومود إذا انتهى أمده .... اه عليان

قلت : قد تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٢٧٧ فراجعه إن شئت. اه مصححه.

٤٧٧

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) قيل : هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب ، وأنه يحييها كما يحيى الغيث الأرض.

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ)(١٨)

(الْمُصَّدِّقِينَ) المتصدّقين. وقرئ على الأصل. والمصدّقين من صدق ، وهم الذين صدقوا الله ورسوله يعنى المؤمنين. فإن قلت : علام عطف قوله (وَأَقْرَضُوا)؟ قلت : على معنى الفعل في المصدّقين ، لأنّ اللام بمعنى الذين ، واسم الفاعل بمعنى اصدقوا ، كأنه قيل : إنّ الذين اصدقوا وأقرضوا. والقرض الحسن : أنّ يتصدق من الطيب عن طيبة النفس وصحة النية على المستحق للصدقة. وقرئ : يضعف ، ويضاعف ، بكسر العين ، أى : يضاعف الله.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)(١٩)

يريد أنّ المؤمنين بالله ورسله هم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء : وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) أى : مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم. فإن قلت : كيف يسوّى بينهم في الأجر ولا بدّ من التفاوت؟ قلت : المعنى أنّ الله يعطى المؤمنين أجرهم ويضاعفه لهم بفضله ، حتى يساوى أجرهم مع أضعافه أجر أولئك. ويجوز أن يكون (وَالشُّهَداءُ) مبتدأ ، و (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) خيره.

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ)(٢٠)

أراد أنّ الدنيا ليست إلا محقرات من الأمور وهي اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر. وأما الآخرة فما هي إلا أمور عظام ، وهي : العذاب الشديد والمغفرة ورضوان الله. وشبه حال الدنيا وسرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث فاستوى واكتهل (١) وأعجب به

__________________

(١) قوله «فاستوى واكتهل» في الصحاح : اكتهل النيات ، أى : تم طوله وظهر نوره. (ع)

٤٧٨

الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات ، فبعث عليه العاهة فهاج واصفرّ وصار حطاما عقوبة لهم على جحودهم ، كما فعل بأصحاب الجنة وصاحب الجنتين. وقيل (الْكُفَّارَ) : الزراع. وقرئ : مصفارا

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٢١)

(سابِقُوا) سارعوا مسارعة المسابقين لأقرانهم في المضمار ، إلى جنة (عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) قال السدى : كعرض سبع السماوات وسبع الأرضين ، وذكر العرض دون الطول ، لأنّ كل ماله عرض وطول فإنّ عرضه أقل من طوله ، فإذا وصف عرضه بالبسطة : عرف أنّ طوله أبسط وأمدّ. ويجوز أن يراد بالعرض : البسطة ، كقوله تعالى (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) لما حقر الدنيا وصغر أمرها وعظم أمر الآخرة : بعث عباده على المسارعة إلى نيل ما وعد من ذلك : وهي المغفرة المنجية من العذاب الشديد والفوز بدخول الجنة (ذلِكَ) الموعود من المغفرة والجنة (فَضْلُ اللهِ) عطاؤه (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) وهم المؤمنون.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(٢٤)

المصيبة في الأرض : نحو الجدب وآفات الزروع والثمار. وفي الأنفس : نحو الأدواء والموت (فِي كِتابٍ) في اللوح (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) يعنى الأنفس أو المصائب (إِنَّ ذلِكَ) إنّ تقدير ذلك وإثباته في كتاب (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) وإن كان عسيرا على العباد ، ثم علل ذلك وبين الحكمة فيه فقال (لِكَيْلا تَأْسَوْا ... وَلا تَفْرَحُوا) يعنى أنكم إذا علمتم أنّ كل شيء مقدر مكتوب عند الله قلّ أساكم على الفائت وفرحكم على الآتي ، لأنّ من علم أن ما عنده معقود لا محالة : لم يتفاقم جزعه عند فقده ، لأنه وطن نفسه على ذلك ، وكذلك من علم أنّ بعض الخير واصل إليه ، وأن وصوله لا يفوته بحال : لم يعظم فرحه عند نيله (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ

٤٧٩

(فَخُورٍ) لأنّ من فرح بحظ من الدنيا وعظم في نفسه : اختال وافتخر به وتكبر على الناس. قرئ : بما آتاكم. وأتاكم ، من الإيتاء والإتيان. وفي قراءة ابن مسعود : بما أوتيتم. فإن قلت : فلا أحد يملك نفسه ـ عند مضرة تنزل به ، ولا عند منفعة ينالها ـ أن لا يحزن ولا يفرح. قلت : المراد : الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله ورجاء ثواب الصابرين ، والفرح المطغى الملهى عن الشكر ، فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام ، والسرور بنعمة الله والاعتداد بها مع الشكر : فلا بأس بهما (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) بدل من قوله (كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) كأنه قال : لا يحب الذين يبخلون ، يريد : الذين يفرحون الفرح المطغى إذا رزقوا مالا وحظا من الدنيا فلحبهم له وعزته عندهم وعظمه في عيونهم : يزوونه عن حقوق الله ويبخلون به ، ولا يكفيهم أنهم بخلوا حتى يحملوا الناس على البخل ويرغبوهم في الإمساك ويزينوه لهم ، وذلك كله نتيجة فرحهم به وبطرهم عند إصابته (وَمَنْ يَتَوَلَ) عن أوامر الله ونواهيه ولم ينته عما نهى عنه من الأسى على الفائت والفرح بالآتى : فإنّ الله غنى عنه. وقرئ : بالبخل. وقرأ نافع : فإنّ الله الغنى ، وهو في مصاحف أهل المدينة والشام كذلك.

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)(٢٥)

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا) يعنى الملائكة إلى الأنبياء (بِالْبَيِّناتِ) بالحجج والمعجزات (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) أى الوحى (وَالْمِيزانَ) روى أنّ جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال : مر قومك يزنوا به (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) قيل : نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد : السندان ، والكلبتان ، والميقعة ، والمطرقة (١) ، والإبرة. وروى : ومعه المر والمسحاة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : أنّ الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : أنزل الحديد ، والنار ، والماء ، والملح (٢). وعن الحسن (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) : خلقناه ، كقوله تعالى (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) وذلك أن أوامره تنزل من السماء وقضاياه وأحكامه (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) وهو القتال به (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم ، فما من صناعة

__________________

(١) قوله «والميقعة والمطرقة ... الخ» في الصحاح «الميقعة» : المطرقة. والميقعة ـ أيضا ـ : المسن الطويل. والمر : الحبل ، والمسحاة كالمجرفة ، إلا أنها من حديد. (ع)

(٢) أخرجه الثعلبي من حديث ابن عمر ، وفي إسناده من لا أعرفه.

٤٨٠