الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

وقالوا : يقال مريته حقه إذا جحدته ، وتعديته بعلى لا تصح إلا على مذهب التضمين (نَزْلَةً أُخْرى) مرة أخرى من النزول ، نصبت النزلة نصب الظرف الذي هو مرة ، لأنّ الفعلة اسم للمرّة من الفعل ، فكانت في حكمها ، أى : نزل عليه جبريل عليه السلام نزلة أخرى في صورة نفسه ، فرآه عليها ، وذلك ليلة المعراج. قيل في سدرة المنتهى : هي شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش : ثمرها كقلال هجر ، وورقها كآذان الفيول ، تنبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله في كتابه ، يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها. والمنتهى : بمعنى موضع الانتهاء ، أو الانتهاء ، كأنها في منتهى الجنة وآخرها. وقيل : لم يجاوزها أحد ، وإليها ينتهى علم الملائكة وغيرهم ، ولا يعلم أحد ما وراءها. وقيل : تنتهي إليها أرواح الشهداء (جَنَّةُ الْمَأْوى) الجنة التي يصير إليها المتقون : عن الحسن. وقيل : تأوى إليها أرواح الشهداء. وقرأ على وابن الزبير وجماعة : جنة المأوى ، أى ستره بظلاله ودخل فيه. وعن عائشة : أنها أنكرته وقالت : من قرأ به فأجنه الله (ما يَغْشى) تعظيم وتكثير لما يغشاها ، فقد علم بهذه العبارة أن ما يغشاها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله : أشياء لا يكتنهها النعت ولا يحيط بها الوصف. وقد قيل : يغشاها الجم الغفير من الملائكة يعبدون الله عندها. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «رأيت على كل ورقة من ورقها ملكا قائما يسبح الله» (١). وعنه عليه السلام : يغشاها رفرف من طير خضر (٢). وعن ابن مسعود وغيره : يغشاها فراش من ذهب (٣) (ما زاغَ) بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَما طَغى) أى أثبت ما رآه إثباتا مستيقنا صحيحا ، من غير أن يزيغ بصره عنه أو يتجاوزه ، أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها ، وما طغى : وما جاوز ما أمر برؤيته (لَقَدْ رَأى) والله لقد رأى (مِنْ آياتِ رَبِّهِ) الآيات التي هي كبراها وعظماها (٤) ، يعنى : حين رقى ربه إلى السماء فأرى عجائب الملكوت.

__________________

ـ ما عنده ، لأن من حلب الناقة يتركها يابسة الضرع ، أو جحدت حقه كأنك أخذته منه ، أو تسببت في إخراج ما عنده ، فيذمك كما ذممته. ما كان يمريك ، أى : ما كان يفعل بك كذلك.

(١) أخرجه الطبري من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال قيل له : يا رسول الله ، أى شيء رأيت يغشى تلك الشجرة؟ فذكره وأتم منه» وعبد الرحمن ضعيف وهذا معضل.

(٢) لم أجده.

(٣) أما حديث ابن مسعود فرواه إسحاق بن راهويه من طريق مرة عنه بهذا وأتم منه وأما غيره فرواه [بياض بالأصل].

(٤) قال محمود : «معناه قد رأى من آيات ربه الآيات التي ... الخ» قال أحمد : ويحتمل أن تكون الكبرى صفة آيات ربه ،

٤٢١

(أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى)(٢٣)

(اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ) أصنام كانت لهم ، وهي مؤنثات ، فاللات كانت لثقيف بالطائف. وقيل : كانت بنخلة تعبدها قريش ، وهي فعلة من لوى ، لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة. أو يلتوون عليها (١) : أى يطوفون. وقرئ : اللات ، بالتشديد. وزعموا أنه سمى برجل كان يلت عنده السمن بالزيت ويطعمه الحاج. وعن مجاهد : كان رجل يلت السويق بالطائف ، وكانوا يعكفون على قبره ، فجعلوه وثنا ، والعزى كانت لغطفان وهي سمرة ، وأصلها تأنيث الأعز ، وبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها ، فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها ، واضعة يدها على رأسها ، فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول :

يا عزّ كفرانك لا سبحانك

إنى رأيت الله قد أهانك (٢)

__________________

ـ لا مفعولا به ، ويكون المرئي محذوفا لتفخيم الأمر وتعظيمه ، كأنه قال : لقد رأى من آيات ربه الكبرى أمورا عظاما لا يحيط بها الوصف ، والحذف في مثل هذا أبلغ وأهول ، وهذا ـ والله أعلم ـ أولى من الأول ، لأن فيه تفخيما لآيات الله الكبرى ، وأن فيها ما رآه وفيها ما لم يره ، وهو على الوجه الأول يكون مقتضاه أنه رأى جميع الآيات الكبرى على الشمول والعموم ، وفيه بعد ، فان آيات الله تعالى لا يحيط أحد علما بجملتها. فان قال : عام أريد به خاص ، فقد رجع إلى الوجه الذي ذكرناه والله أعلم.

(١) قال محمود : «اشتقاق اللات من لوى على كذا إذا قام عليه لأنهم كانوا ... الخ» قال أحمد : الأخرى تأنيث آخر ، ولا شك أنه في الأصل مشتق من التأخير الوجودي ، إلا أن العرب عدلت به عن الاستعمال في التأخير الوجودي إلى الاستعمال حيث يتقدم ذكر مغاير لا غير ، حتى سلبته دلالته على المعنى الأصلى ، بخلاف آخر وآخرة ، على وزن فاعل وفاعلة ، فان إشعارهما بالتأخير الوجودي ثابت لم يغير. ومن ثم عدلوا عن أن يقولوا : ربيع الآخر ، على وزن الأفعل ، وجمادى الأخرى : إلى ربيع الآخر ، على وزن فاعل ، وجمادى الآخرة على وزن فاعلة ، لأنهم أرادوا أن يفهموا التأخير الوجودي ، لأن الأفعل والفعلى من هذا الاشتقاق مسلوب الدلالة على غرضهم ، فعدلوا عنها إلى الآخر والآخرة ، والتزموا ذلك فيهما. وهذا البحث مما كان الشيخ أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله تعالى قد حرره آخر مدته ، وهو الحق إن شاء الله تعالى ، وحينئذ يكون المراد الاشعار بتقدم مغاير في الذكر ، مع ما نعتقده في الوفاء بفاصلة رأس الآية ، والله أعلم.

(٢) لخالد بن الوليد رضى الله عنه. وعز : مرخم عزى. وترخيمه شاذ ، لأنه ليس رباعيا ولا مؤنثا بالهاء ، وهي شجرة كانت نعبدها الجاهلية ، فضربها بسيقه فخرجت منها جنية صارخة ، فقال لها ذلك البهت. وقيل : ضربها

٤٢٢

ورجع فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام تلك العزى ولن تعبد أبدا (١). ومناة : صخرة كانت لهذيل وخزاعة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : لثقيف. وقرئ : ومناءة ، وكأنها سميت مناة لأنّ دماء النسائك كانت تمنى عندها ، أى : تراق ، ومناءة مفعلة من النوء ، كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها. والأخرى ذمّ ، وهي المتأخرة الوضيعة المقدار ، كقوله تعالى (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) أى وضعاؤهم لرؤسائهم وأشرافهم. ويجوز أن تكون الأوّلية والتقدّم عندهم للات والعزى. كانوا يقولون إنّ الملائكة وهذه الأصنام بنات الله ، وكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى مع وأدهم البنات ، فقيل لهم (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) ويجوز أن يراد : أنّ اللات والعزى ومناة إناث ، وقد جعلتموهنّ لله شركاء ، ومن شأنكم أن تحتقروا الإناث وتستنكفوا من أن يولدن لكم وينسبن إليكم ، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أندادا لله وتسمونهنّ آلهة (قِسْمَةٌ ضِيزى) جائرة ، من ضازه يضيزه إذا ضامه ، والأصل : ضوزى (٢). ففعل بها ما فعل ببيض ، لتسلم الياء. وقرئ : ضئزى ، من ضأزه بالهمز. وضيز : بفتح الضاد (هِيَ) ضمير الأصنام ، أى ما هي (إِلَّا أَسْماءٌ) ليس تحتها في الحقيقة مسميات ، لأنكم تدعون الإلهية لما هو أبعد شيء منها وأشدّه منافاة لها. ونحوه قوله تعالى (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها) أو ضمير الأسماء وهي قولهم ، اللات والعزى ومناة ، وهم يقصدون بهذه الأسماء الآلهة ، يعنى : ما هذه الأسماء إلا أسماء سميتموها بهواكم وشهوتكم ، ليس لكم من الله على صحة تسميتها برهان تتعلقون به. ومعنى (سَمَّيْتُمُوها) سميتم بها ، يقال : سميته زيدا ، وسميته بزيد (إِنْ يَتَّبِعُونَ) وقرئ بالتاء (إِلَّا الظَّنَ) إلا توهم أنّ ما هم عليه حق ، وأنّ آلهتهم شفعاؤهم ، وما تشتهيه أنفسهم ، ويتركون ما جاءهم من الهدى والدليل على أنّ دينهم باطل.

__________________

ـ بالفأس حتى قطعها وقتل الجنية. وكفرانك : نصب بمحذوف وجوبا ، كسبحان ، أى : أكفر كفرانا بك ، لا أنزه تنزيها لك ، فهما مصدران مغنيان عن اللفظ بفعليهما. والاهانة : الا ذلال.

(١) أخرجه ابن مردويه من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن السائب الكلبي عن أبى صالح وعن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى العزى ليهدمها. وكانت بنخلة عليها سادن فجاءها خالد فهدمها فذكر نحوه إلى آخره ورواه الواقدي في المغازي والأزرقى في التاريخ من طريقه عن عبد الله بن يزيد الهذلي عن سعيد بن عمرو الهذلي قال «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فذكر القصة وفيها : فبعث خالد ابن الوليد إلى العزى يهدمها فذكر القصة. وكذا ذكره ابن سعد في الطبقات في السرايا وأصل هذه القصة رواها النسائي وأبو يعلى والطبراني وأبو نعيم في الدلائل من حديث أبى الطفيل قال «لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ـ بعث خالد بن الوليد إلى نخلة ـ وكانت بها العزى فأتاها خالد ، وكانت على ثلاث شجرات فقطع الشجرات».

(٢) قوله «والأصل قوله ضوزى» لعل صوابه «ضيزى» بكسر الضاد. ويؤيده ما قبله وما بعده اه ملخصا من هامش. (ع)

٤٢٣

(أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى)(٢٥)

(أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) هي أم المنقطعة ومعنى الهمزة فيها لإنكار ، أى : ليس للإنسان ما تمنى ، والمراد طمعهم في شفاعة الآلهة ، وهو تمنّ على الله في غاية البعد ، وقيل : هو قولهم : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) وقيل : هو قول الوليد بن المغيرة «لأوتين مالا وولدا» وقيل هو تمنى بعضهم أن يكون هو النبي صلى الله عليه وسلم فلله الآخرة والأولى أى هو مالكهما. فهو يعطى منهما من يشاء ويمنع من يشاء ، وليس لأحد أن يتحكم عليه في شيء منهما.

(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى)(٢٦)

يعنى : أنّ أمر الشفاعة ضيق وذلك أنّ الملائكة مع قربتهم وزلفاهم وكثرتهم واغتصاص السماوات بجموعهم لو شفعوا بأجمعهم لأحد لم تغن شفاعتهم عنه شيئا قط ولم تنفع ، إلا إذا شفعوا من بعد أن بأذن الله لهم في الشفاعة لمن يشاء الشفاعة له ويرضاه ويراه أهلا لأن يشفع له ، فكيف تشفع الأصنام إليه بعبدتهم (١).

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى)(٣٠)

(لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ) أى كل واحد متهم (تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) لأنهم إذا قالوا : الملائكة بنات الله ، فقد سموا كل واحد منهم بنتا وهي تسمية الأنثى (بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أى بذلك وبما يقولون (٢). وفي قراءة أبىّ : بها ، أى : بالملائكة. أو التسمية (لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) يعنى إنما يدرك الحق الذي هو حقيقة الشيء وما هو عليه بالعلم والتيقن لا بالظنّ والتوهم (فَأَعْرِضْ) عن دعوة من رأيته معرضا عن ذكر الله عن الآخرة ولم يرد إلا الدنيا ، ولا تتهالك على إسلامه ، ثم قال (إِنَّ

__________________

(١) قوله «بعبدتهم» لعله لعبدتهم ، كعبارة النسفي. (ع)

(٢) قوله «ربما يقولون» لعله أو بما يقولون. (ع)

٤٢٤

رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ) أى إنما يعلم الله من يجيب ممن لا يجيب ، وأنت لا تعلم ، فخفض على نفسك ولا تتعنها ، فإنك لا تهدى من أحببت ، وما عليك إلا البلاغ. وقوله تعالى (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) اعتراض أو فأعرض عنه ولا تقابله ، إنّ ربك هو أعلم بالضال والمهتدى ، وهو مجازيهما بما يستحقان من الجزاء.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى)(٣٢)

قرئ : ليجزي. ويجزى ، بالياء والنون فيهما. ومعناه : أنّ الله عز وجل إنما خلق العالم وسوّى هذه الملكوت لهذا الغرض : وهو أن يجازى المحسن من المكلفين والمسيء منهم. ويجوز أن يتعلق بقوله (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) لأنّ نتيجة العلم بالضال والمهتدى جزاؤهما (بِما عَمِلُوا) بعقاب ما عملوا من السوء. و (بِالْحُسْنَى) بالمثوبة الحسنى وهي الجنة. أو بسبب ما عملوا من السوء وبسبب الأعمال الحسنى (كَبائِرَ الْإِثْمِ) أى الكبائر من الإثم ، لأن الإثم جنس يشتمل على كبائر وصغائر ، والكبائر : الذنوب التي لا يسقط عقابها إلا بالتوبة. وقيل : التي يكبر عقابها بالإضافة إلى ثواب صاحبها (وَالْفَواحِشَ) ما فحش من الكبائر ، كأنه قال : والفواحش منها خاصة : وقرئ : كبير الإثم ، أى : النوع الكبير منه وقيل : هو الشرك بالله. واللمم : ما قل وصغر. ومنه : اللمم المس من الجنون ، واللوثة منه.

وألم بالمكان إذا قل فيه لبثه. وألم بالطعام : قل منه أكله : ومنه :

لقاء أخلّاء الصّفاء لمام (١)

__________________

(١) لقاء أخلاء الصفاء لمام

وكل وصال الغانيات ذمام

أى : لقاء الأحباب الذين صفت مودتهم لمام ، أى : قليل فهو مفاعلة من الإلمام وهو الزيادة بلا تلبث ولا تمكث وكل وصال النساء المستغنيات بجمالهن عن التحلي بالحلى أو المخدرات المقيمات في بيوتهن ، من غنى بالمكان كرضى : أقام به ذمام أى شيء قليل من حقوق الحرمة والذمة ، وإطلاقه على ذلك مجاز ، وحقيقته : الحرمة والذمة والمعاهدة والعهد الذي يتعاهد به المتعاهدان وما يذم الشخص على إضاعته من العهد ، فهو إما مفاعلة من الذمة ، وإما اسم آلة : كالحزام والوثاق ، وقد يستعمل صفة لبئر قليلة الماء ، ويستعمل جمع ذمة. والمعنى أن رؤية الأحباب قليلة

٤٢٥

والمراد الصغائر من الذنوب ، ولا يخلو قوله تعالى (إِلَّا اللَّمَمَ) من أن يكون استثناء منقطعا أو صفة ، كقوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ) كأنه قيل : كبائر الإثم غير اللمم ، وآلهة غير الله : وعن أبى سعيد الخدري : اللمم هي النظرة ، والغمزة ، والقبلة : وعن السدّى : الخطرة من الذنب : وعن الكلبي : كل ذنب لم يذكر الله عليه حدّا ولا عذابا : وعن عطاء : عادة النفس الحين بعد الحين (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) حيث يكفر الصغائر باجتناب الكبائر ، (١) والكبائر بالتوبة (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) فلا تنسبوها إلى زكاء العمل وزيادة الخير وعمل الطاعات : أو إلى الزكاء والطهارة من المعاصي ، ولا تثنوا عليها واهضموها ، فقد علم الله الزكي منكم والتقى أوّلا وآخرا قبل أن يخرجكم من صلب آدم ، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم. وقيل : كان ناس يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجنا ، فنزلت : وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء : فأما من اعتقد أن ما عمله من العمل الصالح من الله وبتوفيقه وتأييده ولم يقصد به التمدح : لم يكن من المزكين أنفسهم ، لأن المسرة بالطاعة طاعة ، وذكرها شكر.

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ

__________________

ـ إما حقيقة في العادة ، وإما ادعاء واستقلالا لها. ورؤية غيرهم كثيرة. وفيه معنى التحزن. ويجوز أن يقرأ : الدمام بالمهملة ، وهو ما يطلى به الوجه ليحسن ، والمعنى : أن وصالهن مجرد تمويه لا حقيقة له ، والمعنى على التشبيه.

(١) قوله «يكفر الصغائر باجتناب الكبائر» هذا عند المعتزلة ، وعند أهل السنة بذلك. أو بمجرد الفضل ، وكذا ما بعده. (ع)

٤٢٦

فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى) (٥٤)

أَكْدى) قطع عطيته وأمسك ، وأصله : إكداء الحافر ، وهو أن تلقاه كدية : وهي صلابة كالصخرة فيمسك عن الحفر ، ونحوه : أجبل الحافر ، ثم استعير فقيل : أجبل الشاعر إذا أفحم. روى أن عثمان رضى الله عنه كان يعطى ما له في الخير ، فقال له عبد الله بن سعد بن أبى سرح وهو أخوه من الرضاعة : يوشك أن لا يبقى لك شيء ، فقال عثمان : إن لي ذنوبا وخطايا ، وإنى أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه ، فقال عبد الله : أعطنى ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها ، فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء. فنزلت. ومعنى (تَوَلَّى) ترك المركز يوم أحد ، فعاد عثمان إلى أحسن من ذلك وأجمل (فَهُوَ يَرى) فهو يعلم أن ما قال له أخوه من احتمال أوزاره حق (وَفَّى) قرئ مخففا ومشدّدا ، والتشديد مبالغة في الوفاء. أو بمعنى : وفر وأتم ، كقوله تعالى (فَأَتَمَّهُنَ) وإطلاقه ليتناول كل وفاء وتوفية ، من ذلك : تبليغه الرسالة ، واستقلاله بأعباء النبوّة ، والصبر على ذبح ولده وعلى نار نمروذ ، وقيامه بأضيافه وخدمته إياهم بنفسه ، وأنه كان يخرج كل يوم فيمشى فرسخا يرتاد ضيفا ، فإن وافقه أكرمه ، وإلا نوى الصوم. وعن الحسن : ما أمره الله بشيء إلا وفي به. وعن الهزيل بن شرحبيل (١) : كان بين نوح وبين إبراهيم يؤخذ الرجل بجريرة غيره ، ويقتل بأبيه وابنه وعمه وخاله ، والزوج بامرأته ، والعبد بسيده ، فأوّل من خالفهم إبراهيم. وعن عطاء بن السائب : عهد أن لا يسأل مخلوقا ، فلما قذف في النار قال له جبريل وميكائيل : ألك حاجة؟ فقال. أمّا إليكما فلا. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : وفي عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر (٢) النهار ، وهي : صلاة الضحى. وروى : ألا أخبركم لم سمى الله خليله (الَّذِي وَفَّى)؟ كان يقول إذا أصبح وأمسى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ ...) إلى ... (حِينَ تُظْهِرُونَ) (٣) وقيل : وفي سهام الإسلام: وهي ثلاثون : عشرة في التوبة (التَّائِبُونَ ...) وعشرة في الأحزاب : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ ...) وعشرة في المؤمنين (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ...) وقرئ : في صحف ، بالتخفيف (أَلَّا تَزِرُ) أن مخففة من الثقيلة. والمعنى : أنه

__________________

(١) قوله «وعن الهزيل بن شرحبيل» لعله : الهذيل. (ع)

(٢) أخرجه الطبري وابن أبى حاتم وغيرهما من رواية جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبى أمامة مرفوعا به وأتم منه.

(٣) أخرجه أحمد والطبراني وابن السنى والطبري وابن أبى حاتم من رواية ابن لهيعة عن زياد عن زيان عن ابن فائد عن سهل بن معاذ عن أبيه به.

٤٢٧

لا تزر ، والضمير ضمير الشأن ، ومحل أن وما بعدها : الجر بدلا من ما في صحف موسى. أو الرفع على : هو أن لا تزر ، كأن قائلا قال : وما في صحف موسى وإبراهيم ، فقيل : أن لا تزر (إِلَّا ما سَعى) إلا سعيه. فإن قلت : أما صح في الأخبار : الصدقة عن الميت ، والحج عنه ، وبه الإضعاف؟ قلت : فيه جوابان ، أحدهما : أن سعى غيره لما لم ينفعه إلا مبنيا على سعى نفسه. وهو أن يكون مؤمنا صالحا وكذلك الإضعاف ـ كأن سعى غيره كأنه سعى نفسه ، لكونه تابعا له وقائما بقيامه. والثاني ، أن سعى غيره لا ينفعه إذا عمله لنفسه ، ولكن إذا نواه به فهو بحكم الشرع كالنائب عنه والوكيل القائم مقامه (ثُمَّ يُجْزاهُ) ثم يجزى العبد سعيه ، يقال : جزاه الله عمله وجزاه على عمله ، بحذف الجار وإيصال الفعل. ويجوز أن يكون الضمير للجزاء ، ثم فسره بقوله (الْجَزاءَ الْأَوْفى) أو أبدله عنه ، كقوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) ، (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) قرئ بالفتح على معنى : أن هذا كله في الصحف ، وبالكسر على الابتداء ، وكذلك ما بعده. والمنتهى : مصدر بمعنى الانتهاء ، أى : ينتهى إليه الخلق ويرجعون إليه ، كقوله تعالى (إِلَى اللهِ الْمَصِيرُ). (أَضْحَكَ وَأَبْكى) خلق قوتي الضحك والبكاء (١) (إِذا تُمْنى) إذا تدفق في الرحم ، يقال : منى وأمنى. وعن الأخفش : تخلق من منى المانى ، أى قدر المقدّر : قرئ : النشأة والنشاءة بالمد. وقال (عَلَيْهِ) لأنها واجبة (٢) عليه في الحكمة (٣) ، ليجازى على الإحسان والإساءة (وَأَقْنى) وأعطى القنية وهي المال الذي تأثلته وعزمت أن لا تخرجه من يدك (الشِّعْرى) مرزم الجوزاء (٤) : وهي التي تطلع وراءها ، وتسمى كلب الجبار ، وهما شعريان الغميصاء والعبور وأراد العبور. وكانت خزاعة تعبدها ، سنّ لهم ذلك أبو كبشة رجل من أشرافهم ،

__________________

(١) قال محمود : «أى خلق قوتي الضحك والبكاء» قال أحمد : وخلق أيضا فعلى الضحك والبكاء على قواعد السنة ، وعليه دلت الآية غير مثابرة لتحريفه ، والله الموفق.

(٢) قال محمود : «إنما قال عليه لأنها واجبة عليه ... الخ» قال أحمد : هذا من فساد اعتقاد المعتزلة الذي يسمونه مراعاة الصلاح والحكمة ، وأى فساد أعظم مما يؤدى إلى اعتقاد المعتزلة الإيجاب على رب الأرباب ، تعالى الله عن ذلك. ومثل هذه القاعدة التي عفت البراهين القاطعة رسمها وأبطلت حكمها لا يكفى فيها كلمة محتملة : هي لو كانت ظاهرة لوجب تنزيلها على ما يوفق بينها وبين القواطع ، والذي حملت عليه لفظة عليه غير هذا المعنى : وهو أن المراد أن أمر النشأة الأخرى يدور على قدرته عز وجل وإرادته ، كما يقال : دارت قضية فلان على يدي. وقول المحدثين. على يدي دار الحديث ، أى هو الأصل فيه والسند ، والله أعلم.

(٣) قوله «لأنها واجبة عليه في الحكمة» هذا عند المعتزلة لا عند أهل السنة. (ع)

(٤) قوله «مرزم الجوزاء» في الصحاح «المرزمان» مرزما الشعريين ، وهما نجمان : أحدهما في الشعرى ، والآخر في الذراع اه. (ع)

٤٢٨

وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أبو كبشة ، تشبيها له به لمخالفته إياهم في دينهم (١) ، يريد : أنه رب معبودهم هذا. عاد الأولى : قوم هود ، وعاد الأخرى : إرم. وقيل : الأولى القدماء ، لأنهم أوّل الأمم هلاكا بعد قوم نوح ، أو المتقدمون في الدنيا الأشراف. وقرئ : عادا لولى. وعاد لولى ، بإدغام التنوين في اللام وطرح همزة أولى ونقل ضمتها إلى لام التعريف (وَثَمُودَ) وقرئ : وثمود (أَظْلَمَ وَأَطْغى) (٢) لأنهم كانوا يؤذونه ويضربونه حتى لا يكون به حراك ، وينفرون عنه حتى كانوا يحذرون صبيانهم أن يسمعوا منه ، وما أثر فيهم دعاؤه (٣) قريبا من ألف سنة (وَالْمُؤْتَفِكَةَ) والقرى التي ائتفكت بأهلها ، أى : انقلبت ، وهم قوم لوط ، يقال : أفكه فأتفك : وقرئ : والمؤتفكات (أَهْوى) رفعها إلى السماء على جناح جبريل ، ثم أهواها إلى الأرض أى : أسقطها (ما غَشَّى) تهويل وتعظيم لما صب عليها من العذاب وأمطر عليها من الصخر المنضود.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ)(٥٨)

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) تتشكك ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو للإنسان على الإطلاق ، وقد عدد نعما ونقما وسماها كلها آلاء من قبل ما في نقمه من المزاجر والمواعظ للمعتبرين (هذا) القرآن (نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) أى إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من قبلكم. أو هذا الرسول منذر من المنذرين الأولين ، وقال : الأولى على تأويل الجماعة (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) قربت الموصوفة بالقرب في قوله تعالى (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) ، (لَيْسَ لَها) نفس (كاشِفَةٌ) أى مبينة متى تقوم ، كقوله تعالى (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) أو ليس لها نفس كاشفة ، أى : قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله ، غير أنه لا يكشفها. أو ليس لها الآن نفس كاشفة بالتأخير ، وقيل الكاشفة مصدر بمعنى الكشف : كالعافية. وقرأ طلحة : ليس لها مما يدعون من دون الله كاشفة ، وهي على الظالمين ساءت الغاشية.

(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا)(٦٢)

__________________

(١) هذا وهم ، والمعروف أنهم كانوا يقولون له : ابن أبى كبشة ، كما في حديث أبى سفيان الطويل في الصحيحين حيث قال : لقد أمر أمر ابن أبى كبشة أن يخافه ملك بنى الأصفر. يعنى هرقل.

(٢) قوله «وقرئ وثمود أظلم وأطغى» يفيد أن قراءة التنوين أشهر. (ع)

(٣) قوله «وما أثر فيهم دعاؤه» أى دعاؤه إياهم إلى الإسلام. (ع)

٤٢٩

(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) وهو القرآن (تَعْجَبُونَ) إنكارا (وَتَضْحَكُونَ) استهزاء (وَلا تَبْكُونَ) والبكاء والخشوع حق عليكم. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه لم ير ضاحكا بعد نزولها (١). وقرئ : تعجبون تضحكون ، بغير واو (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) شامخون مبرطمون (٢). وقيل : لاهون لاعبون. وقال بعضهم لجاريته : اسمدى لنا ، أى غنى لنا (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) ولا تعبدوا الآلهة.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة النجم أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وجحد به بمكة» (٣)

سورة القمر

مكية [إلا الآيات ٤٤ و ٤٥ و ٤٦ فمدنية]

وآياتها ٥٥ [نزلت بعد الطارق]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ)(٣)

انشقاق القمر من آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته النيرة. عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر مرتين(٤).

__________________

(١) أخرجه أحمد في الزهد والثعلبي من حديث صالح بن أبى الخليل. ورواه ابن مردويه من طريق سعيد ابن جبير عن ابن عباس بإسناد ضعيف.

(٢) قوله «شامخون مبرطمون» في الصحاح «البرطمة» الانتفاخ من الغضب اه. وفيه «السامد» : رافع رأسه تكبرا ، واللاهي ، والمعنى ، والقائم ، والساكت ، والحزين الخاشع ، واسمأد الرجل بالهمز اسمئدادا : أى ورم غضبا. (ع)

(٣) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.

(٤) متفق عليه من رواية قتادة عن أنس رضى الله عنه.

٤٣٠

وكذا عن ابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهما ، قال ابن عباس : انفلق فلقتين فلقة ذهبت وفلقة بقيت (١). وقال ابن مسعود : رأيت حراء بين فلقتى القمر (٢). وعن بعض الناس : أن معناه ينشق يوم القيامة ، وقوله (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) يردّه ، وكفى به رادّا ، وفي قراءة حذيفة : وقد انشق القمر ، أى : اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها أن القمر قد انشق ، كما تقول : أقبل الأمير وقد جاء المبشر بقدومه. وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال : ألا إن الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم (٣). مستمر : دائم مطرد ، وكل شيء قد انقادت طريقته ودامت حاله ، قيل فيه : قد استمرّ. لما رأوا تتابع المعجزات وترادف الآيات : قالوا : هذا سحر مستمرّ. وقيل : مستمرّ قوى محكم ، من قولهم : استمر مريره (٤). وقيل : هو من استمر الشيء إذا اشتدّت مرارته ، أى : مستبشع عندنا ، مرّ على لهواتنا ، لا نقدر أن نسيغه كما لا يساغ المر الممقر (٥). وقيل : مستمر مارّ ، ذاهب يزول ولا يبقى ، تمنية لأنفسهم وتعليلا. وقرئ : وإن يروا (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) وما زين لهم الشيطان من دفع الحق بعد ظهوره (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) أى كل أمر لا بد أن يصير إلى غاية يستقرّ عليها ، وإن أمر محمد سيصير إلى غاية يتبين عندها أنه حق ، أو باطل وسيظهر لهم عاقبته. أو وكل أمر من أمرهم وأمره مستقر ، أى : سيثبت ويستقر على حالة خذلان أو نصرة في الدنيا ، وشقاوة أو سعادة في الآخرة. وقرئ بفتح القاف ، يعنى : كل أمر ذو مستقرّ ، أى : ذو استقرار. أو ذو موضع استقرار أو زمان استقرار. وعن أبى جعفر : مستقر ، بكسر القاف والجرّ عطفا على الساعة ، أى : اقتربت الساعة واقترب كل أمر مستقر يستقر ويتبين حاله.

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ

__________________

(١) أخرجه أبو نعيم في الدلائل ، من رواية الكلبي عن أبى صالح عنه ، وفي الصحيحين عنه : «انشق القمر على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم».

(٢) أخرجه ابن مردويه من رواية منصور عن زيد بن وهب عن ابن مسعود قال : «ولقد رأيت والله حراء بين الشقتين» وفي الصحيحين عن أبى معمر عنه «بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى إذا انفلق القمر فلقتين وكان فلقة وراء الجبل وفلقة دونه. فقال : اشهدوا» وفي الباب عن ابن عمر في مسلم. وعن جبير بن مطعم عن الحاكم في المستدرك ، وعن أحمد أيضا.

(٣) أخرجه الحاكم والطيراني وأبو نعيم منى رواية ابن علية عن عطاء بن السائب عن ابن عبد الرحمن بهذا وأتم. ورواه عبد الرزاق من وجه آخر عن عطاء ، وكذا أخرجه أحمد من رواية شعبة عن عطاء.

(٤) قوله «استمر مريره» في الصحاح «المرير» : الغريمة وما لطف وطال واشتد فتله من الحبال. (ع)

(٥) قوله «كما يساغ المر الممقر» في الصحاح. مقر الشيء وأمقر ، أى : صار مرا. (ع)

٤٣١

النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) (٧)

(مِنَ الْأَنْباءِ) من القرآن المودع أنباء القرون الخالية أو أنباء الآخرة ، وما وصف من عذاب الكفار (مُزْدَجَرٌ) ازدجار أو موضع ازدجار. والمعنى : هو في نفسه موضع الازدجار ومظنة له ، كقوله تعالى (لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أى هو أسوة. وقرئ مزدجر بقلب تاء الافتعال زايا وإدغام الزاى فيها (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) بدل من ما. أو على : هو حكمة. وقرئ بالنصب حالا من ما. فإن قلت : إن كانت ما موصولة ساغ لك أن تنصب حكمة حالا ، فكيف تعمل إن كانت موصوفة؟ وهو الظاهر. قلت : تخصصها الصفة : فيحسن نصب الحال عنها (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) نفى أو إنكار. وما منصوبة ، أى : فأى غناء تغنى النذر (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) لعلمك أن الإنذار لا يغنى فيهم. نصب (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) بيخرجون ، أو بإضمار اذكر. وقرئ بإسقاط الياء اكتفاء بالكسرة عنها ، والداعي إسرافيل أو جبريل ، كقوله تعالى (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ). (إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) منكر فظيع تنكره النفوس لأنها لم تعهد بمثله وهو هول يوم القيامة. وقرئ : نكر بالتخفيف ، ونكر بمعنى أنكر (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) حال من الخارجين فعل للأبصار وذكر ، كما تقول : يخشع أبصارهم. وقرئ : خاشعة ، على : تخشع أبصارهم. وخشعا ، على : يخشعن أبصارهم ، وهي لغة من يقول : أكلونى البراغيث ، وهم طيئ. ويجوز أن يكون في (خُشَّعاً) ضميرهم ، وتقع (أَبْصارُهُمْ) بدلا عنه. وقرئ. خشع أبصارهم ، على الابتداء والخبر ، ومحل الجملة النصب على الحال. كقوله :

وجدته حاضراه الجود والكرم (١)

وخشوع الأبصار : كناية عن الذلة والانخزال ، لأن ذلة الذليل وعزة العزيز تظهران في عيونهما. وقرئ : يخرجون من الأجداث : من القبور (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) الجراد مثل في الكثرة والتموّج. يقال في الجيش الكثير المائج بعضه في بعض : جاءوا كالجراد ، وكالدبا (٢) منتشر في كل مكان لكثرته (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) مسرعين مادّى أعناقهم إليه. وقيل : ناظرين إليه لا يقلعون بأبصارهم. قال :

__________________

(١) إن الذي كنت أرجو فضل نائله

وجدته حاضراه الجود والكرم

يقول : إن الذي كنت أرجو بقية عطائه أو زيادة عطائه : وجدته مصاحبا الجود والكرم. وهما مبتدأ خبره حاضراه ، والجملة محلها نصب مفعول ثان ، وحضورهما : كناية عن قيامهما به.

(٢) قوله «كالجراد وكالدبا» في الصحاح «الدبا» الجراد قبل أن يطير ، والواحدة دباة. (ع)

٤٣٢

تعبّدتى نمر بن سعد وقد أرى

ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع (١)

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(١٧)

(قَبْلَهُمْ) قبل أهل مكة (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) يعنى نوحا. فإن قلت : ما معنى قوله تعالى (فَكَذَّبُوا) بعد قوله (كَذَّبَتْ) (٢)؟ قلت : معناه : كذبوا فكذبوا عبدنا أى : كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب ، كلما مضى منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب. أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا ، أى : لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوّة رأسا : كذبوا نوحا ، لأنه من جملة الرسل (مَجْنُونٌ) هو مجنون (وَازْدُجِرَ) وانتهروه بالشتم والضرب والوعيد بالرجم في قولهم (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) وقيل : هو من جملة قيلهم ، أى : قالوا هو مجنون ، وقد ازدجرته الجن وتخبطته وذهبت بلبه وطارت بقلبه. قرئ : أنى ، بمعنى : فدعا بأنى مغلوب. وإنى : على إرادة

__________________

(١) الكلام على حذف حرف الاستفهام الإنكاري ، أى : أيتخذني عبدا هذا الرجل ، وحذف مفعول أرى لدلالة الحال عليه ، وهو قوله : ونمر بن سعد مطيع لي ومهطع ، أى : منتظر أمرى ليمتثله. أو مسرع إلى امتثاله ، وأظهر في مقام الإضمار تعجبا منه واستخفافا بشأنه ، ونمر : بسكون الميم.

(٢) قال محمود : «إن قلت : ما فائدة كذبوا بعد قوله كذبت قبلهم قوم نوح ... الخ؟ قال أحمد : قد تقدم كلامه على قوله تعالى (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي) وأجاب عنه بجوابين ، أحدهما متعذر هاهنا ، والآخر : ممكن وهو أن ذلك كقول القائل : أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد عليه الصلاة والسلام ، وقد مضى لي جوابان ، أحدهما : يمكن إجراؤه هنا ، وحاصله منع ورود السؤال ، لأن الأول مطلق والثاني مقيد ، فليس تكرارا. وهو كقوله في هذه السورة (فَتَعاطى فَعَقَرَ) فان تعاطيه هو نفس عقره ، ولكن ذكره من جهة عمومه ، ثم من ناحية خصوصه إسهابا ، وهو بمثابة ذكره مرتين ، وجواب آخر هنا : وهو أن المكذب أولا محذوف دل عليه ذكر نوح ، فكأنه قال : كذبت قوم نوح نوحا ، ثم جاء بتكذيبهم ثانيا مضافا إلى قوله (عَبْدَنا) فوصف نوحا بخصوص العبودية ، وأضافه إليه إضافة تشريف ، فالتكذيب المخبر عنه ثانيا أبشع عليهم من المذكور أولا لتلك اللمحة ، والله أعلم.

٤٣٣

القول ، فدعا فقال : إنى مغلوب (١) غلبني قومي ، فلم يسمعوا منى واستحكم اليأس من إجابتهم لي (فَانْتَصِرْ) فانتقم منهم بعذاب تبعثه عليهم ، وإنما دعا بذلك بعد ما طم عليه الأمر وبلغ السيل الربا (٢) ، فقد روى : أنّ الواحد من أمّته كان يلقاه فيخنقه حتى يخر مغشيا عليه. فيفيق وهو يقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. وقرئ : ففتحنا مخففا ومشدّدا ، وكذلك وفجرنا (مُنْهَمِرٍ) منصب في كثرة وتتابع لم ينقطع أربعين يوما (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر ، وهو أبلغ من قولك : وفجرنا عيون الأرض ونظيره في النظم (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً). (فَالْتَقَى الْماءُ) يعنى مياه السماء والأرض. وقرئ : الماءان ، أى : النوعان من الماء السماوي والأرضى. ونحوه قولك : عندي تمران ، تريد : ضربان من التمر : برني ومعقلي. قال :

لنا إبلان فيهما ما علمتم (٣)

وقرأ الحسن : الماوان ، بقلب الهمزة واوا ، كقولهم : علباوان (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) على حال قدرها الله كيف شاء. وقيل : على حال جاءت مقدّرة مستوية : وهي أن قدر ما أنزل من السماء كقدر ما أخرج من الأرض سواء بسواء. وقيل : على أمر قد قدر في اللوح أنه يكون ، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان (عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) أراد السفينة ، وهي من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات فتنوب منابها وتودى مؤداها. بحيث لا يفصل بينها وبينها. ونحوه :

 ......... ولكن

قميصي مسرودة من حديد (٤)

__________________

(١) قوله «فدعا فقال إنى مغلوب» لعله : أى فدعا فقال. (ع)

(٢) قوله «وبلغ السيل الربا» لعله جمع ربوة وهي ما ارتفع من الأرض كالرابية. أفاده الصحاح ، لكن فيه في حرف الزاى : والزبية الرابية لا يعلوها الماء. وفي المثل : قد بلغ السيل الزبى. والزبية : حفرة تحفر للأسد في موضع عال لأجل صيده. اه ملخصا. (ع)

(٣) لنا إبلان فيهما ما علمتم

فعن أيهما ما شئتم فتنكبوا

يقول : لنا قطيعان من الإبل فيهما قرى الأضياف وصلة الفقراء ، فاحملوا ما شئتم منهما على مناكبكم ، أى : خذوه وافصلوه عن الباقي. أو المعنى : اعدلوا عنهما وانصرفوا عما أردتموه منهما في مناكب الأرض ، فاننا حماته.

وأيهما : بالسكون لغة في أى المشددة. وما شئتم : بدل منه. ويجوز أن «ما» زائدة ، أى : ففي أيهما شئتم فانصرفوا في مناكب الأرض وطرقها مبعدين عنهما. ويجوز أن «ما شئتم» مفعول به ، أو مفعول مطلق مقدم على عامله ، والفاء الثانية تكرير للأولى. ويجوز أنها إشارة إلى ما في المعمول من معنى الشرط ، أى : فاما عن أيهما. أو فاما ما شئتم فتنكبوا ، أى : تجنبوا.

(٤) مفرشى صهوة الحصان ولكن

قميصي مسرودة من حديد

الصهوة : مقعد الفارس من ظهر الفرس. يقول : مفرشى ظهر حصانى. وقميصي : درع من حديد متتابعة النسج ،

٤٣٤

أراد : ولكن قميصي درع ، وكذلك :

ولو في عيون النّازيات بأكرع (١)

أراد : ولو في عيون الجراد. ألا ترى أنك لو جمعت بين السفينة وبين هذه الصفة ، أو بين الدرع والجراد وهاتين الصفتين : لم يصح ، وهذا من فصيح الكلام وبديعه. والدسر : جمع دسار : وهو المسمار ، فعال من دسره إذا دفعه ، لأنه يدسر به منفذه (جَزاءً) مفعول له لما قدم من فتح أبواب السماء وما بعده ، أى فعلنا ذلك جزاء (لِمَنْ كانَ كُفِرَ) وهو نوح عليه السلام ، وجعله مكفورا لأنّ النبي نعمة من الله ورحمة. قال الله تعالى (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) فكان نوح عليه السلام نعمة مكفورة ، ومن هذا المعنى ما يحكى أنّ رجلا قال للرشيد : الحمد لله عليك ، فقال : ما معنى هذا الكلام؟ قال : أنت نعمة حمدت الله عليها. ويجوز أن يكون على تقدير حذف الجار وإيصال الفعل. وقرأ قتادة: كفر ، أى جزاء للكافرين. وقرأ الحسن : جزاء ، بالكسر : أى مجازاة. الضمير في (تَرَكْناها) للسفينة. أو للفعلة ، أى : جعلناها آية يعتبر بها. وعن قتادة : أبقاها الله بأرض الجزيرة. وقيل : على الجودي دهرا طويلا ، حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة. والمدكر : المعتبر. وقرئ : مذتكر ، على الأصل. ومذكر ، بقلب التاء ذالا وإدغام الذال فيها. وهذا نحو : مذجر. والنذر : جمع نذير وهو الإنذار (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أى سهلناه للادكار والاتعاظ ، بأن شحناه بالمواعظ الشافية وصرفنا فيه من الوعد والوعيد (فَهَلْ مِنْ) متعظ. وقيل : ولقد سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه ، فهل من طالب لحفظه ليعان عليه. ويجوز أن يكون المعنى : ولقد هيأناه للذكر ، من يسر ناقته للسفر : إذا رحلها ، ويسر فرسه للغزو ، إذا أسرجه وألجمه. قال :

وقمت إليه باللجام ميسرا

هنالك يجزيني الّذى كنت أصنع (٢)

__________________

ـ يعنى أنه ليس من أهل التنعم ، بل من أهل البدو والغزو. والاستدراك من باب استتباع المدح بما يشبه الذم ، مبالغة في المدح.

(١) وإنى لأستوفى حقوقي جاهدا

ولو في عيون النازيات بأكرع

يقول : ولا بد من الاجتهاد في تخليص حقوقي وأخذها ، ولو كانت في أخفى مكان وأبعده كعيون الجراد النازيات الواثبات بأكرع ، أى أرجل دقيقة جمع كراع : فحذف الموصوف وكنى عنه بالنازيات صفته لجريانها مجرى الاسم. وقيل :

المعنى لا بد من أخذ إبلى ولو كانت هزالا جدا بحيث ترى في عيون الجراد لصغرها ، أى : ولو كانت كأنها كذلك

(٢) أرى أم سهل لا تزال نفجع

تلوم وما أدرى علام توجع

تلوم على أن أمنح الورد لقحة

وما تستوي والورد ساعة تفزع

إذا هي قامت حاسرا مشمعلة

نخيب الفؤاد رأسها ما يقنع

وقمت إليه باللجام مبسرا

هنالك يجزيني الذي كنت أصنع

٤٣٥

ويروى : أن كتب أهل الأديان نحو التوراة والإنجيل لا يتلوها أهلها إلا نظرا ولا يحفظونها ظاهرا كما القرآن.

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(٢٢)

(وَنُذُرِ) وإنذارى لهم بالعذاب قبل نزوله. أو إنذار أتى في تعذيبهم لمن بعدهم (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) في يوم شؤم. وقرئ : في يوم نحس ، كقوله (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ). (مُسْتَمِرٍّ) قد استمر عليهم ودام حتى أهلكهم. أو استمر عليهم جميعا كبيرهم وصغيرهم ، حتى لم يبق منهم نسمة ، وكان في أربعاء في آخر الشهر لا تدور. ويجوز أن يريد بالمستمر : الشديد المرارة والبشاعة (تَنْزِعُ النَّاسَ) تقلعهم عن أماكنهم ، وكانوا يصطفون آخذين أيديهم بأيدى بعض (١). ويتدخلون في الشعاب ، ويحفرون الحفر فيندسون فيها فتنزعهم وتكبهم وتدق رقابهم (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) يعنى أنهم كانوا يتساقطون على الأرض أمواتا وهم جثث طوال عظام ، كأنهم أعجاز نخل وهي أصولها بلا فروع ، منقعر : منقلع : عن مغارسه. وقيل : شبهوا بأعجاز النخل ، لأنّ الريح كانت تقطع رؤوسهم فتبقى أجسادا بلا رؤوس. وذكر صفة (نَخْلٍ) على اللفظ ، ولو حملها على المعنى لأنث ، كما قال (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ).

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥)

__________________

ـ للأعرج المعنى الخارجي. وتفجع وتوجع : أصلها بتاءين حذفت إحداهما تخفيفا. وعلام : استفهام عن علة التوجع. وأسنح : أعطى والورد : اسم فرسه. واللقحة : اللبن الحليب. والحاسر : العريانة الوجه. والمشمعلة : السريعة الجري. والنخيب : الخالية المجوفة. والمراد : التي ذهب عقلها ورأسها ، ما يقنع : أى ما يستر بالقناع لدهشتها وخجلتها. وقوله «الورد الأول» مفعول به ، والثاني مفعول معه : هذا حال أم سهل. وأما حال مهره ، فبينها في قوله : وقمت إليه مهيئا ومعدا له باللجام. أو مسهلا له به ، دلالة على أنه كان صعبا لو لا اللجام. وهنالك إشارة إلى مكان الحرب ، أو إلى زمانها ، يجزيني : أى يعطيني جزاء صنعي معه ، وشبهه بمن تصح منه المجازاة على طريق المكنية ، وصنعه : هو سقيه اللبن.

(١) قوله «آخذين أيديهم بأيدى بعض» عبارة النسفي : آخذين بعضهم بأيدى بعض. (ع)

.

٤٣٦

سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٣٢)

(أَبَشَراً مِنَّا واحِداً) نصب بفعل مضمر يفسره (نَتَّبِعُهُ) وقرئ : أبشر منا واحد ، على الابتداء. ونتبعه : خبره ، والأوّل أوجه للاستفهام. كان يقول : إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق ، وسعر : ونيران ، جمع سعير ، فعكسوا عليه فقالوا : إن اتبعناك كنا إذن كما تقول. وقيل : الضلال : الخطأ والبعد عن الصواب. والسعر : الجنون. يقال : ناقة مسعورة. قال :

كأنّ بها سعرا إذا العيس هزّها

ذميل وإرخا من السّير متعب (١)

فإن قلت : كيف أنكروا أن يتبعوا بشرا منهم واحدا؟ قلت : قالوا أبشرا : إنكارا لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية ، وطلبوا أن يكون من جنس أعلى من جنس البشر وهم الملائكة (٢) ، وقالوا (مِنَّا) لأنه إذا كان منهم كانت المماثلة أقوى ، وقالوا (واحِداً) إنكارا لأن تتبع الأمّة رجلا واحدا. أو أرادوا واحدا من أفنائهم (٣) ليس بأشرفهم وأفضلهم ، ويدل عليه قولهم (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) أى أأنزل عليه الوحى من بيننا وفينا من هو أحق منه بالاختيار للنبوّة (أَشِرٌ) بطر متكبر ، حمله بطره وشطارته وطلبه التعظم علينا على ادعاء ذلك (سَيَعْلَمُونَ غَداً) عند نزول العذاب بهم أو يوم القيامة (مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) أصالح أم من كذبه. وقرئ : ستعلمون بالتاء على حكاية ما قال لهم صالح مجيبا لهم. أو هو كلام

__________________

(١) السعر : الجنون ، والمسعور : المجنون والذي ضربته السموم. يقول : كأن بناقتي جنون لقوة سيرها ، فالعيس : جمع عيساء وهي النوق البيض ، حركها ذميل وإرخاء : وهما نوعان من السير متعب كل منهما. وإسناد الهز إليهما مجاز عقلى من باب الاسناد للسبب ، وإن أريد بالهز التسيير فيكون من الاسناد للمصدر ، كجد جده ، لكن المسند هنا من المتعدي ، والمسند إليه من اللازم.

(٢) قوله «أعلى من جنس البشر وهم الملائكة» تفضيل الملك على البشر مذهب المعتزلة. وأهل السنة يفضلون البشر على الملك. (ع)

(٣) قوله «واحدا من أفنائهم» وفي الصحاح : يقال هو من أفناء الناس ، إذا لم يعلم ممن هو. اه ، ولم يذكر له واحدا. (ع)

٤٣٧

الله تعالى على سبيل الالتفات. وقرئ : الأشر ، بضم الشين ، كقولهم حدث وحدث. وحذر وحذر ، وأخوات لها. وقرئ : الأشر ، وهو الأبلغ في الشرارة. والأخير والأشر : أصل قولهم : هو خير منه وشر منه ، وهو أصل مرفوض ، وقد حكى ابن الأنبارى قول العرب : هو أخير وأشر ، وما أخيره وما أشره (مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) باعثوها ومخرجوها من الهضبة (١) كما سألوا (فِتْنَةً لَهُمْ) امتحانا لهم وابتلاء (فَارْتَقِبْهُمْ) فانتظرهم وتبصر ما هم صانعون (وَاصْطَبِرْ) على أذاهم ولا تعجل حتى يأتيك أمرى (قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) مقسوم بينهم : لها شرب يوم ولهم شرب يوم. وإنما قال : بينهم ، تغليبا للعقلاء (مُحْتَضَرٌ) محضور لهم أو للناقة. وقيل : يحضرون الماء في نوبتهم واللبن في نوبتها (صاحِبَهُمْ) قدار بن سالف أحيمر ثمود (فَتَعاطى) فاجترأ على تعاطى الأمر العظيم غير مكترث له ، فأحدث العقر بالناقة. وقيل فتعاطى الناقة فعقرها ، أو فتعاطى السيف (صَيْحَةً واحِدَةً) صيحة جبريل. والهشيم ، الشجر اليابس المتهشم المتكسر. والمحتظر : الذي يعمل الحظيرة وما يحتظر به ييبس بطول الزمان وتتوطؤه البهائم فيتحطم ويتهشم. وقرأ الحسن بفتح الظاء وهو موضع الاحتظار ، أى : الحظيرة.

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(٤٠)

(حاصِباً) ريحا تحصبهم بالحجارة ، أى : ترميهم (بِسَحَرٍ) بقطع من الليل ، وهو السدس الأخير منه. وقيل : هما سحران ، فالسحر الأعلى قبل انصداع الفجر ، والآخر عند انصداعه. وأنشد :

مرّت بأعلى السّحرين تذأل (٢)

__________________

(١) قوله «ومخرجوها من الهضبة» في الصحاح «الهضبة» الجبل المنبسط على وجه الأرض. (ع)

(٢) يا سائلي إن كنت عنها تسأل

مرت بأعلى السحرين تذأل

يقول : يا من تسألنى إن كنت تسألنى عن الحمر الوحشية لا غير ، فقد مرت بأعلى السحرين وهو السحر الذي قبل

٤٣٨

وصرف لأنه نكرة. ويقال : لقيته سحر : إذا لقيته في سحر يومه (نِعْمَةً) إنعاما ، مفعول له (مَنْ شَكَرَ) نعمة الله بإيمانه وطاعته (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ) لوط عليه السلام (بَطْشَتَنا) أخذتنا بالعذاب (فَتَمارَوْا) فكذبوا (بِالنُّذُرِ) متشاكين (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) فمسحناها وجعلناها كسائر الوجه لا يرى لها شق. روى أنهم لما عالجوا باب لوط عليه السلام ليدخلوا قالت الملائكة خلهم يدخلوا ، (إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) فصفقهم جبريل عليه السلام بجناحه صفقه فتركهم يتردّدون لا يهتدون إلى الباب حتى أخرجهم لوط (فَذُوقُوا) فقلت لهم : ذوقوا على ألسنة الملائكة (بُكْرَةً) أوّل النهار وباكره ، كقوله : مشرقين ، ومصبحين. وقرأ زيد بن على رضى الله عنهما : بكرة ، غير منصرفة ، تقول : أتيته بكرة وغدوة بالتنوين. إذا أردت التنكير ، وبغيره إذا عرّفت وقصدت بكرة نهارك وغدوته (عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) ثابت قد استقرّ عليهم إلى أن يفضى بهم إلى عذاب الآخرة. فإن قلت : ما فائدة تكرير قوله (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟ قلت : فائدته أن يجدّدوا عند استماع كل نبا من أنباء الأوّلين ادكارا واتعاظا ، وأن يستأنفوا تنبها واستيقاظا ، إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث عليه ، وأن يقرع لهم العصا مرات ، ويقعقع لهم الشن (١) تارات ، لئلا يغلبهم السهو ولا تستولى عليهم الغفلة ، وهكذا حكم التكرير ، كقوله (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) عند كل نعمة عدّها في سورة الرحمن ، وقوله (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) عند كل آية أوردها في سورة والمرسلات ، وكذلك تكرير الأنباء والقصص في أنفسها لتكون تلك العبر حاضرة القلوب ، مصورة للأذهان ، مذكورة غير منسية في كل أوان.

(وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ)(٤٢)

(النُّذُرُ) موسى وهرون وغيرهما من الأنبياء ، لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون.

أو جمع نذير وهو الإنذار (بِآياتِنا كُلِّها) بالآيات التسع (أَخْذَ عَزِيزٍ) لا يغالب (مُقْتَدِرٍ) لا يعجزه شيء.

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ

__________________

ـ انصداع الفجر. والأدنى : هو الذي عند انصداعه ، أى مرت في السحر الأول تذأل بالهمز ، أى : تسرع في المشي من ذأل كمنع : إذا مشى في خفة. ومنه : ذؤالة الذئب ، وبين تسأل وتذأل الجناس المضارع.

(١) قوله «ويقعقع لهم الشن» القربة الخلق ، كذا في الصحاح. (ع)

٤٣٩

نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ)(٤٦)

(أَكُفَّارُكُمْ) يا أهل مكة (خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) الكفار المعدودين : قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون ، أى أهم خير قوّة وآلة ومكانة في الدنيا ، أو أقل كفرا وعنادا يعنى : أنّ كفاركم مثل أولئك بل شر منهم (أَمْ) أنزلت عليكم يا أهل مكة (بَراءَةٌ) في الكتب المتقدّمة. أنّ من كفر منكم وكذب الرسل كان آمنا من عذاب الله ، فأمنتم بتلك البراءة (نَحْنُ جَمِيعٌ) جماعة أمرنا مجتمع (مُنْتَصِرٌ) ممتنع لا نرام ولا نضام. وعن أبى جهل أنه ضرب فرسه يوم بدر ، فتقدّم في الصف وقال : نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه ، فنزلت (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) عن عكرمة : لما نزلت هذه الآية قال عمر : أى جمع يهزم ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع ويقول : «سيهزم الجمع» عرف تأويلها (١) (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) أى الأدبار كما قال :

كلوا في بعض بطنكم تعفوا (٢)

وقرئ : الأدبار (أَدْهى) أشدّ وأفظع. والداهية : الأمر المنكر لذي لا يهتدى لدوائه (وَأَمَرُّ) من الهزيمة والقتل والأسر. وقرئ : سنهزم الجمع.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ)(٥٠)

(فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) في هلاك ونيران. أو في ضلال عن الحق في الدنيا ، ونيران في الآخرة (مَسَّ سَقَرَ) كقولك : وجد مس الحمى وذاق طعم الضرب ، لأنّ النار إذا أصابتهم بحرها ولقحتهم بإيلامها ، فكأنها تمسهم مسا بذلك ، كما يمس الحيوان ويباشر بما يؤذى ويؤلم. وذوقوا : على إرادة القول. وسقر : علم لجهنم. من سقرته النار وصقرته إذا لوحته. قال ذو الرمّة :

__________________

(١) أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة ، وعن أيوب عن عكرمة «أن عمر ـ فذكره» وأتم منه ، ورواه من هذا الوجه إسحاق والطبري وابن أبى حاتم ، ورواه الطبري في الأوسط من رواية عبد المجيد بن أبى رواد عن معمر عن قتادة عن أنس عن عمر موصولا.

(٢) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٤٧٩ فراجعه إن شئت اه مصححه.

٤٤٠