الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

علمك الله ، وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه ، وعبس وأعرض عنه ، فنزلت ؛ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه ويقول إذا رآه : مرحبا بمن عاتبني فيه ربى ، ويقول له : هل لك من حاجة؟ واستخلفه على المدينة مرتين ، وقال أنس : رأيته يوم القادسية وعليه درع وله راية سوداء (١). وقرئ : عبس ، بالتشديد للمبالغة ؛ ونحوه : كلح في كلح (أَنْ جاءَهُ) منصوب بتولي ، أو بعبس ، على اختلاف المذهبين. ومعناه : عبس ، لأن جاءه الأعمى. أو أعرض لذلك. وقرئ : آ أن جاءه بهمزتين وبألف بينهما ، ووقف على (عَبَسَ وَتَوَلَّى) ثم ابتدئ ، على معنى : ألأن جاءه الأعمى فعل ذلك إنكارا عليه. وروى أنه ما عبس بعدها في وجه فقير قط ، ولا تصدى لغنى. وفي الإخبار عما فرط منه ، ثم الإقبال عليه بالخطاب : دليل على زيادة الإنكار ، كمن يشكو إلى الناس جانبا جنى عليه ، تم يقبل على الجاني إذا حمى في الشكاية مواجها له بالتوبيخ وإلزام الحجة. وفي ذكر الأعمى نحو من ذلك ، كأنه يقول : قد استحق عنده العبوس والإعراض لأنه أعمى ، وكان يجب أن يزيده لعماه تعطفا وترؤفا وتقريبا وترحيبا ، ولقد تأدّب الناس بأدب الله في هذا تأدبا حسنا ، فقد روى عن سفيان الثوري رحمه الله أنّ الفقراء كانوا في مجلسه أمراء (وَما يُدْرِيكَ) وأى شيء يجعلك داريا بحال هذا الأعمى؟ (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) أى يتطهر بما يتلقن من الشرائع من بعض أوضار الإثم (أَوْ يَذَّكَّرُ) أو يتعظ (فَتَنْفَعَهُ) ذكراك ، أى : موعظتك ، وتكون له لطفا في بعض الطاعات. والمعنى : أنك لا تدرى ما هو مترقب منه ، من تزكّ أو تذكر ، ولو دريت لما فرط ذلك منك. وقيل : الضمير في (لَعَلَّهُ) للكافر. يعنى أنك طمعت في أن يتزكى بالإسلام ، أو يتذكر فتقرّبه الذكرى إلى قبول الحق ، وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن. وقرئ : فتنفعه ، بالرفع عطفا على يذكر. وبالنصب جوابا للعلّ ، كقوله (فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) ، (تَصَدَّى) تتعرض بالإقبال عليه ، والمصاداة. المعارضة ، وقرئ : تصدى ، بالتشديد ، بإدغام

__________________

ـ والحاكم من حديث عائشة رضى الله عنها نحوه «تنبيه» النسب الذي ساقه في غاية التخليط ، يظهر لمن له أدنى إلمام بالأخبار والأنساب. قال ابن سعد : أما أهل المدينة فيقولون اسمه عبد الله. وأما أهل العراق وهشام الكلبي فيقولون اسمه عمرو ثم أجمعوا على نسبه. فقالوا : ابن قيس بن زياد بن الأصم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص ابن عامر بن لؤي. وأمه عاتكة هي أم مكتوم بنت عبد الله بن عامر بن مخزوم. وقال ابن سعد : أخبرنا يزيد بن هارون. أخبرنا جويبر عن الضحاك. قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم تصدى لرجل من قريش يدعوه إلى الإسلام فأقبل عبد الله بن أم مكتوم الأعمى ، فجعل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعرض عنه ويعبس في وجهه ، ويقبل على الآخر. فعاتب الله رسوله فقال (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) ـ الآيات فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكرمه واستخلفه على المدينة مرتين».

(١) أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة. أخبرنى أنس بهذا وكذا رواه أبو يعلى والطبري من رواية قتادة عن أنس رضى الله عنه.

٧٠١

التاء في الصاد. وقرأ أبو جعفر : تصدى ، بضم التاء ، أى : تعرّض. ومعناه : يدعوك داع إلى التصدي له : من الحرص والتهالك على إسلامه ، وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) ، (يَسْعى) يسرع في طلب الخير (وَهُوَ يَخْشى) الله أو يخشى الكفار ، وأذاهم في إتيانك. وقيل : جاء وليس معه قائد ، فهو يخشى الكبوة (تَلَهَّى) تتشاغل ، من لهى عنه. والتهى. وتلهى. وقرأ طلحة بن مصرف : تتلهى. وقرأ أبو جعفر : تلهى ، أى : يلهيك شأن الصناديد. فإن قلت : قوله (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) ، (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) كأن فيه اختصاصا. قلت ، نعم ، ومعناه : إنكار التصدي والتلهي عليه ، أى : مثلك خصوصا لا ينبغي له أن يتصدى للغنىّ ويتلهى عن الفقير.

(كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ)(١٦)

(كَلَّا) ردع عن المعاتب عليه ، وعن معاودة مثله (إِنَّها تَذْكِرَةٌ) أى موعظة يجب الاتعاظ والعمل بموجبها (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أى كان حافظا له غير ناس ، وذكر الضمير لأنّ التذكرة في معنى الذكر والوعظ (فِي صُحُفٍ) صفة لتذكرة ، يعنى : أنها مثبتة في صحف منتسخة من اللوح (مُكَرَّمَةٍ) عند الله (مَرْفُوعَةٍ) في السماء. أو مرفوعة المقدار (مُطَهَّرَةٍ) منزهة عن أيدى الشياطين ، لا يمسها إلا أيدى ملائكة مطهرين (سَفَرَةٍ) (١) كتبة ينتسخون الكتب من اللوح (بَرَرَةٍ) أتقياء. وقيل : هي صحف الأنبياء ، كقوله (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) وقيل السفرة : القرّاء. وقيل : أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ)(٢٣)

(قُتِلَ الْإِنْسانُ) دعاء عليه ، وهي من أشنع دعواتهم (٢) ، لأنّ القتل قصارى شدائد

__________________

(١) قوله «سفرة» في الصحاح : واحدهم سافر ، ككافر وكفرة. (ع)

(٢) قال محمود : «دعاء عليه وهو من أشنع دعائهم ... الخ» قال أحمد : ما رأيت كاليوم قط عبدا ينازع ربه ، الله تعالى يقول (ثُمَّ شَقَقْنَا) فيضيف فعله إلى ذاته حقيقة ، كما أضاف بقية أفعاله من عند قوله (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ) وعلم جرا. والزمخشري يجعل الاضافة مجازية من باب إسناد الفعل إلى سببه ، فيجعل إضافة الفعل إلى الله تعالى

٧٠٢

الدنيا وفظائعها. و (ما أَكْفَرَهُ) تعجب (١) من إفراطه في كفران نعمة الله ، ولا ترى أسلوبا أغلظ منه. ولا أخشن مسا ، ولا أدل على سخط ، ولا أبعد شوطا في المذمة ، مع تقارب طرفيه ، ولا أجمع للأئمة على قصر متنه ثم أخذ في وصف حاله من ابتداء حدوثه ، إلى أن انتهى وما هو مغمور فيه من أصول النعم وفروعها ، وما هو غارز فيه رأسه من الكفران والغمط (٢) وقلة الالتفات إلى ما يتقلب فيه وإلى ما يجب عليه من القيام بالشكر (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) من أى شيء حقير (٣) مهين خلقه ، ثم بين ذلك الشيء بقوله (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) فهيأه لما يصلح له ويختص به. ونحوه (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً). نصب السبيل بإضمار «يسر» وفسره بيسر والمعنى : ثم سهل سبيله وهو مخرجه من بطن أمّه. أو السبيل الذي يختار سلوكه من طريقى الخير والشر بإقداره وتمكينه ، كقوله (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) وعن ابن عباس رضى الله عنهما : بين له سبيل الخير والشر (فَأَقْبَرَهُ) فجعله ذا قبر يوارى فيه تكرمة له ، ولم يجعله مطروحا على وجه الأرض جزرا للسباع والطير كسائر الحيوان. يقال : قبر الميت إذا دفنه. وأقبره الميت. إذا أمره أن يقبره ومكنه منه. ومنه قول من قال للحجاج : أقبرنا صالحا (أَنْشَرَهُ) أنشأه النشأة الأخرى. وقرئ : نشره (كَلَّا) ردع للإنسان عما هو عليه (لَمَّا يَقْضِ) لم يقض بعد ، مع تطاول الزمان وامتداده من لدن آدم إلى هذه الغاية (ما أَمَرَهُ) الله حتى يخرج عن جميع أوامره ، يعنى : أنّ إنسانا لم يخل من تقصير قط.

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٣٢)

__________________

ـ من باب إضافة الشق إلى الحراث ، لأنه السبب. قتل القدري ما أكفره على قول ، وما أضله على آخر ، وإذا جعل شق الأرض مضافا إلى الحراث حقيقة ، وإلى الله مجازا ، فما يمنعه أن يجعل الحراث هو الذي صبب الماء وأنبت الحب ، والعقب والقضب : حقيقة ، وهل هما إلا واحد.

(١) قوله «تعجب من إفراطه» لعله : تعجيب. (ع)

(٢) قوله «من الكفران والغمط» بطر النعمة وتحقيرها. أفاده الصحاح. (ع)

(٣) قوله «من أى شيء خلقه من أى شيء حقير» لعله : أى من شيء ... الخ». (ع)

٧٠٣

ولما عدد النعم في نفسه : أتبعه ذكر النعم فيما يحتاج إليه ، فقال (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) إلى مطعمه الذي يعيش به كيف دبرنا أمره (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ) يعنى الغيث. قرئ بالكسر على الاستئناف ، وبالفتح على البدل من الطعام. وقرأ الحسين بن على رضى الله عنهما. أنى صببنا ، بالإمالة على معنى : فلينظر الإنسان كيف صببنا الماء. وشققنا : من شق الأرض بالنبات ويجوز أن يكون من شقها بالكراب على (١) البقر ، وأسند الشك إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب. والحب : كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما. والقضب : الرطبة (٢). والمقضاب : أرضه ، سمى بمصدر قضبه إذا قطعه ، لأنه يقضب مرّة بعد مرّة (وَحَدائِقَ غُلْباً) يحتمل أن يجعل كل حديقة غلباء ، فيريد تكاثفها وكثرة أشجارها وعظمها ، كما تقول : حديقة ضخمة ، وأن يجعل شجرها غلبا ، أى : عظاما غلاظا. والأصل في الوصف بالغلب : الرقاب ، فاستعير. قال عمرو بن معد يكرب :

يمشى بها غلب الرّقاب كأنّهم

بزل كسين من الكحيل جلالا (٣)

والأب : المرعى ، لأنه يؤبّ أى يؤم وينتجع. والأبّ والأمّ : أخوان. قال :

جذمنا قيس ونجد دارنا

ولنا الأبّ به والمكرع (٤)

وعن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه سئل عن الأب فقال : أىّ سماء تظلني ، وأىّ أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به (٥). وعن عمر رضى الله عنه : أنه قرأ هذه الآية فقال :

__________________

(١) قوله «من شقها بالكراب» في الصحاح : كربت الأرض ، إذا قلبتها للحرث. (ع)

(٢) قوله «والقضب الرطبة» في الصحاح «القضبة ، والقضب» الرطبة. وفيه أيضا «الرطبة» بالفتح : القضب اه وفيه دور. وقال بعض الفضلاء «القضب» : هو المسمى في مصر بالبرسيم الحجازي. (ع)

(٣) لعمرو بن معديكرب. ويقال : أسد أغلب ، أى : غليظ العنق ، والغلب : جمعه ، ثم استعير لكل غليظ والبزل : جمع بازل للمذكر والمؤنث من الإبل إذا انفطر نأيه ، وذلك في السنة التاسعة : والكحيل : القطران. والجلال : جمع جل : يصف مفازة تمشى فيها أسود غلاظ الأعناق ، كأنها فتيات من الإبل دهنت بالقطران حتى صار عليها كالجلال ، فكسين : استعارة مصرحة ، والجلال : ترشيح. ويروى : كأنهم ، باستعارة ضمير العقلاء لغيرهم.

(٤) الجذم ـ بالكسر وقد يفتح : الأصل الذي يقتطع منه غيره. والأب والأم ـ بالفتح والتشديد ـ بمعنى المرعى ، لأنه يؤب ويؤم ، أى : يقصد. والمكرع : المنهل. يقول : نحن من قبيلة قيس ونجد هي ديارنا ، ولنا به أى في نجد المرعى والمروي. وفيه تمدح بالشرف والشجاعة على غيره.

(٥) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن. حدثنا محمد بن يزيد عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي أن أبا بكر رضى الله عنه سئل عنه فذكره ورواه ابن أبى شيبة وعبد بن حميد من هذا الوجه. وهذا منقطع. ورواه يحيى الحماني وابن عبد البر في العلم من طريقه من رواية إبراهيم النخعي عن أبى معمر عن أبى بكر فذكره.

٧٠٤

كل هذا قد عرفنا ، فما الأب؟ ثم رفض عصا كانت بيده (١) وقال : هذا لعمر الله التكلف ، وما عليك يا ابن أمّ عمر أن لا تدرى ما الأب ، ثم قال : اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب ، وما لا فدعوه. فإن قلت : فهذا يشبه النهى عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته. قلت : لم يذهب إلى ذلك ، ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل ، وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفا عندهم ، فأراد أنّ الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطعمه واستدعاء شكره ، وقد علم من فحوى الآية أنّ الأب بعض ما أنبته الله للإنسان متاعا له أو لإنعامه ، فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر لله ـ على ما تبين لك ولم يشكل ـ مما عدّد من نعمه ، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له ، واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت ، ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن.

(مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ)(٤١)

يقال : صخّ لحديثه ، مثل : أصاخ له ، فوصفت النفخة بالصاخة مجازا ، لأنّ الناس يصخون لها (يَفِرُّ) منهم لاشتغاله بما هو مدفوع إليه ، ولعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئا ، وبدأ بالأخ ، ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه ، ثم بالصاحبة والبنين لأنهم أقرب وأحب ، كأنه قال : يفرّ من أخيه ، بل من أبويه ، بل من صاحبته وبنيه. وقيل : يفرّ منهم حذرا من مطالبتهم بالتبعات. يقول الأخ : لم تواسنى بمالك. والأبوان : قصرت في برنا. والصاحبة : أطعمتنى الحرام وفعلت وصنعت. والبنون : لم تعلمنا ولم ترشدنا ، وقيل : أوّل من يفرّ من أخيه : هابيل ، ومن أبويه : إبراهيم ومن صاحبته : نوح ولوط ، ومن ابنه : نوح (يُغْنِيهِ) يكفيه في الاهتمام به. وقرئ : يعنيه أى يهمه (مُسْفِرَةٌ) مضيئة متهللة ، من أسفر الصبح : إذا أضاء. وعن ابن عباس رضى الله

__________________

(١) أخرجه الطبري والطبراني في مسند الشاميين من طريق ابن وهب عن يونس وعمرو بن الحارث. ورواه الحاكم والبيهقي في الشعب في التاسع عشر من طريق صالح بن كيسان : وابن مردويه من رواية شعيب كلهم عن الزهري «أن إنسانا أخبره أنه سمع عمر فذكره. وله طريق أخرى من رواية حميد عن أنس أخرجها الحاكم. وروى الحاكم أيضا من وجه آخر عن عمر رضى الله عنه أنه سأل ابن عباس رضى الله عنهما عن الآية فقال : هو نبت الأرض مما تأكله الدواب والأنعام. ولا يأكله الناس.

٧٠٥

عنهما : من قيام الليل ، لما روى في الحديث «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار (١) ، وعن الضحاك : من آثار الوضوء. وقيل : من طول ما اغبرت في سبيل الله (غَبَرَةٌ) غبار يعلوها (قَتَرَةٌ) سواد كالدخان ، ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه ، كما ترى من وجوه الزنوج إذا اغبرت ، وكأن الله عز وجل يجمع إلى سواد وجوههم الغبرة ، كما جمعوا الفجور إلى الكفر.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة عبس وتولى جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر (٢)».

سورة التكوير

مكية ، وآياتها ٢٩ [نزلت بعد المسد]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ)(١٤)

في التكوير وجهان : أن يكون من كوّرت العمامة إذا لففتها ، أى : يلف ضوءها لفا فيذهب

__________________

(١) تقدم في سورة الفتح.

(٢) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه باسنادهم إلى أبى بن كعب.

٧٠٦

انبساطه وانتشاره في الآفاق ، وهو عبارة عن إزالتها والذهاب بها ، لأنها ما دامت باقية كان ضياؤها منبسطا غير ملفوف. أو يكون لفها عبارة عن رفعها وسترها ، لأنّ الثواب إذا أريد رفعه لف وطوى ، ونحوه قوله (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) وأن يكون من طعنه فجوّره وكوّره : إذا ألقاه ، أى : تلقى وتطرح عن فلكها ، كما وصفت النجوم بالانكدار. فإن قلت : ارتفاع الشمس على الابتداء أو الفاعلية؟ قلت : بل على الفاعلية رافعها فعل مضمر يفسره كوّرت ، لأنّ «إذا» يطلب الفعل لما فيه من معنى الشرط (انْكَدَرَتْ) انقضت. قال :

أبصر خربان فضاء فانكدر (١)

ويروى في الشمس والنجوم : أنها تطرح في جهنم ليراها من عبدها ، كما قال (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ). (سُيِّرَتْ) أى على وجه الأرض وأبعدت. أو سيرت في الجوّ تسيير السحاب كقوله (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ). والعشار في جمع عشراء ، كالنفاس في جمع نفساء : وهي التي أتى على حملها عشرة أشهر ، ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة ، وهي أنفس ما تكون عند أهلها وأعزها عليهم (عُطِّلَتْ) تركت مسيبة مهملة. وقيل : عطلها أهلها عن الحلب والصر ، لاشتغالهم بأنفسهم. وقرئ : عطلت ، بالتخفيف (حُشِرَتْ) جمعت من كل ناحية. قال قتادة : يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص. وقيل : إذا قضى بينها ردّت ترابا فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبنى آدم وإعجاب بصورته ، كالطاوس ونحوه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : حشرها موتها. يقال: إذا أجحفت السنة بالناس وأموالهم حشرتهم السنة. وقرئ : حشرت ، بالتشديد (سُجِّرَتْ) قرئ بالتخفيف والتشديد ، من سجر التنور : إذا ملأه بالحطب ، أى : ملئت وفجر بعضها إلى بعض حتى تعود مجرا واحدا. وقيل : ملئت نيرانا تضطرم لتعذيب أهل النار. وعن الحسن : يذهب ماؤها فلا تبقى فيها قطرة (زُوِّجَتْ) قرنت كل نفس بشكلها. وقيل : قرنت الأرواح

__________________

(١) إذا الكرام ابتدروا الباع بدر

تقضى البازي إذا البازي كسر

«انى جناحيه من الطود فمر

أبصر خربان فضاء فانكدر

العجاج يمدح عمر بن عبيد الله التميمي. والباع بالمهملة : قدر مد اليدين ، والمراد به الكرم مجازا. وبدر : أسرع وغلب الكرام ، وتقضى : نصب به ، وأصله : تقضض ، أبدل الثاني حرف علة وكسر الأول ، أى : أمال جناحيه وداناهما من الجبل العظيم ، ومر : سار على وجه الجبل. وخربان ـ جمع خرب ـ : طائر يقال له الحبارى ، وهو مضاف لفضاء ، فانكدر : أى انقض وسقط عليها فيأكلها. ويروى صدر هذا الرجز :

لقد سما ابن معمر حين اعتمر

مغزى بعيدا من بعيد وضبر

تقضى البازي ... الخ. واعتمر : أى زار. والمغزى : مكان الغزو. وضبره ضبرا : جمعه جمعا. يقول : ارتفع قدره حين غزا موضعا بعيدا من الشام ، وجمع لذلك جيشا عظيما ، وأسرع كاسراع البازي إلى الحبارى : بالغ في وصف البازي تصويرا لحال المشبه ، ومبالغة في مدحه.

٧٠٧

بالأجساد. وقيل بكتبها وأعمالها. وعن الحسن : هو كقوله (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) وقيل : نفوس المؤمنين بالحور ، ونفوس الكافرين بالشياطين. وأد يئد مقلوب من آد يئود : إذا أثقل. قال الله تعالى (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) لأنه إثقال بالتراب : كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها : ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية ، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمها : طيبيها وزينيها ، حتى أذهب بها إلى أحمائها ، وقد حفر لها بئرا في الصحراء ، فيبلغ بها البئر فيقول لها : انظري فيها ، ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها ، حتى تستوي البئر بالأرض. وقيل : كانت الحامل إذا أقربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة ، فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة ، وإن ولدت ابنا حبسته. فإن قلت : ما حملهم على وأد البنات؟ قلت : الخوف من لحوق العار بهم من أجلهنّ. أو الخوف من الإملاق ، كما قال الله تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) وكانوا يقولون : إن الملائكة بنات الله ، فألحقوا البنات به ، فهو أحق بهنّ. وصعصعة بن ناجية ممن منع الوأد ، فبه افتخر الفرزدق في قوله :

ومنّا الّذى منع الوائدات

فأحيا الوئيد فلم توأد (١)

فإن قلت : فما معنى سؤال الموؤدة عن ذنبها الذي قتلت به ، وهلا سئل الوائد عن موجب قتله لها؟ قلت : سؤالها وجوابها تبكيت لقاتلها نحو التبكيت في قوله تعالى لعيسى (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ...) إلى قوله ... (سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) وقرئ : سألت ، أى : خاصمت عن نفسها ، وسألت الله أو قاتلها ، وإنما قيل (قُتِلَتْ) بناء على أن الكلام إخبار عنها ، ولو حكى ما خوطبت به حين سئلت. فقيل : قتلت. أو كلامها حين سئلت لقيل : قتلت. وقرأ ابن عباس رضى الله عنهما : قتلت ، على الحكاية. وقرئ : قتلت ، بالتشديد. وفيه دليل بين على أن أطفال المشركين لا يعذبون ، وعلى أن التعذيب لا يستحق إلا بالذنب ، وإذا بكت الله الكافر ببراءة الموؤدة من الذنب : فما أقبح به ، وهو الذي لا يظلم مثقال ذرّة أن يكرّ

__________________

(١) للفرزدق ، يفتخر يجده صعصعة : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وقال : يا رسول الله ، عملت أعمالا في الجاهلية فهل لي فيها من أجر؟ فقال : وما عملت؟ قال : قد أحييت ثلاثا وستين من الموؤدة أشترى الواحدة منهن بناقتين عشراويتين وجمل ، فقال صلى الله عليه وسلم : هذا من باب البر ولك أجره إذ من الله عليك بالإسلام. ويقال : وأد بنته إذا دفنها وهي حية ، وكانت كندة تفعل ذلك خوف العار والفقر. ويروى : فأحيا الوئيد وهي أوقع. والوئيد يقال للمفرد والجمع مذكرا أو مؤنثا. ويروى : وجدي ، أى : هو الذي منع الجماعات الدافنات بناتهن حيات وفداهن من الموت ، فكأنه أحياهن ، فأطلق الوئيد على المشرفات على الموت مجازا ، والأحياء ترشيح.

٧٠٨

عليها بعد هذا التبكيت فيفعل بها ما تنسى عنده فعل المبكت من العذاب الشديد السرمد. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه سئل عن ذلك ، فاحتجّ بهذه الآية (نُشِرَتْ) قرئ بالتخفيف والتشديد ، يريد : صحف الأعمال تطوى صحيفة الإنسان عند موته ، ثم تنشر إذا حوسب. عن قتادة : صحيفتك يا ابن آدم تطوى على عملك ، ثم تنشر يوم القيامة ، فلينظر رجل ما يملى في صحيفته. وعن عمر رضى الله عنه أنه كان إذا قرأها قال : إليك يساق الأمر يا ابن آدم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «يحشر الناس عراة حفاة» فقالت أمّ سلمة : كيف بالنساء؟ فقال : شغل الناس يا أمّ سلمة» قالت : وما شغلهم؟ قال : نشر الصحف فيها مثاقيل الذرّ ومثاقيل الخردل (١) ويجوز أن يراد : نشرت بين أصحابها ، أى فرقت بينهم. وعن مرثد بن وداعة : إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش ، فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية ، وتقع صحيفة الكافر في يده في سموم وحميم أى مكتوب فيها ذلك ، وهي صحف غير صحف الأعمال (كُشِطَتْ) كشفت وأزيلت ، كما يكشط الإهاب عن الذبيحة ، والغطاء عن الشيء. وقرأ ابن مسعود : قشطت. واعتقاب الكاف والقاف كثير. يقال : لبكت الثريد ولبقته ، والكافور والقافور (سُعِّرَتْ) أو قدت إيقادا شديدا. وقرئ : سعرت بالتشديد للمبالغة. قيل : سعرها عضب الله تعالى وخطايا بنى آدم (أُزْلِفَتْ) أدنيت من المتقين ، كقوله تعالى (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) قيل : هذه اثنتا عشرة خصلة. ست منها في الدنيا ، وست في الآخرة. و (عَلِمَتْ) : هو عامل النصب في (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) وفيما عطف عليه. فإن قلت : كل نفس تعلم ما أحضرت ، كقوله (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) لا نفس واحدة. فما معنى قوله (عَلِمَتْ نَفْسٌ)؟ قلت : هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط فيما بعكس عنه. ومنه قوله عز وجل : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) ومعناه : معنى كم وأبلغ منه. وقول القائل :

قد أترك القرن مصفرّا أنامله (٢)

وتقول لبعض قوّاد العساكر : كم عندك من الفرسان؟ فيقول : رب فارس عندي. أولا تعدم عندي فارسا ، وعنده المقانب (٣) ، وقصده بذلك التمادي في تكثير فرسانه ، ولكنه أراد

__________________

(١) أخرجه الثعلبي من طريق محمد بن أبى موسى عن عطاء بن يسار عن أم سلمة بهذا. وأصله في الصحيحين عن عائشة ، وأخرجه الحاكم من حديث سودة.

(٢) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٢٠٢ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٣) قوله «وعنده المقانب في الصحاح «المقنب» : ما بين لثلاثين إلى الأربعين من الخيل. (ع)

٧٠٩

إظهار براءته من التزيد ، وأنه ممن يقلل كثير ما عنده ، فضلا أن يتزيد ، فجاء بلفظ التقليل ، ففهم منه معنى الكثرة على الصحة واليقين. وعن ابن مسعود رضى الله عنه أنّ قارئا قرأها عنده ، فلما بلغ (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) قال : وانقطاع ظهرياه.

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ)(١٨)

(بِالْخُنَّسِ) الرواجع ، بينا ترى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعا إلى أوله. و (الْجَوارِ) السيارة. و (الْكُنَّسِ) (١) الغيب من كنس الوحشي : إذا دخل كناسه. قيل : هي الدراري

__________________

(١) تعرض الزمخشري في تفسيره العامل الخ. قال أحمد : هذا الجواب لا يستمر ، لأجل ظهور الفعل الثاني في قوله (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) ولما أعضل الجواب عن هذا السؤال في سورة التكوير : التزم الشيخ أبو عمرو بن الحاجب إجازة التعطف على عاملين ، واتخذ هذه الآية وزره ومعضده في مخالفة سيبويه ، ورد على الزمخشري جوابه في سورة والشمس وضحاها ، لأنه لم يطرد له هاهنا ، وكان على رده يستحسن تيقظ فطنته في استنباطه ، ونحن والله الموفق نلتزم مذهب سيبويه في امتناع العطف على عاملين في جعل الواو الثانية عاطفة ، ويجرى جواب الزمخشري هاهنا وينفصل عن هذه الآية فتقول : قوله (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) هذه الواو الأولى ابتداء قسم ، والواو في قوله (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) عاطفة فيطرد ما قال الزمخشري. فان قيل : فقد خالفتم سيبويه ، فانه لا يرى الواو المتعقبة للقسم ابتداء قسم بل عاطفة ، وقد جعلتم الواو الأولى وهي متعقبة للقسم ابتداء قسم؟ قلنا : إنما تكلم سيبويه في الواو المتعقبة للقسم بالواو وأما الآية فالقسم الأول فيها بالباء والفعل ، فجعلنا الواو بعد ذلك قسما وتبعا ، وهو أبلغ ، كأنه أقسم قسمين بشيئين مختلفين. فان قبل : أجل. إنما تكلم سيبويه على الواو المتعقبة للقسم بالواو ، فما الفرق بين المتعقبة للقسم بالواو والمتعقبة للقسم بالباء؟ وما هما إلا سواء ، فان كل واحد منهما آلة له ، والتاء تدل على الباء فحكمهما واحد؟ قلنا : ليستا سواء فان القسم منى صدر بالواو ولم يله واو أخرى ، فجعلها قسما آخر فيه تكرار منكره ، إذ الآلة واحدة ، ولا كذلك إذا اختلفت الآلة ، فان عاملة التكرار مأمونة إذا ، ألا ترى أنه لو صدر القسم بالواو ، ثم تلاه قسم بالباء ، لتحتم جعلهما قسمين مستقلين ، فكذلك لو حولف هذا الترتيب. وأيضا ، فإنه إن كان المانع لسيبويه من جعل الواو الثانية قسما مستقلا مجيء الجواب واحدا ، واحتياج الواو الأولى إلى محذوف ، فالعطف يغنى عن تقدير محذوف ، فيتعين ، فلا يلزم اطراد الباء لأنها أصل القسم لا سيما مع التصريح بفعل القسم ثم تأكيده بزيادة لا ، فان في مجموع ذلك ما يغنى عن إفراده بجواب مذكور ، ولا كذلك الواو فإنها ضعيفة المكنة في باب القسم بالنسبة إلى الباء ، فلا يلزم من حذف جواب تمكنت الدلالة عليه حذف جواب دونه في الوضوح ، وأختم الكلام على هذا السؤال بنكتة بديعة فأقول : إنما خصصت إيراد السؤال بالواو الثانية في قوله (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) دون الثالثة لأنه غير متوجه عليها. ألا تراك لو جعلتها عاطفة لم يلزمك العطف على عاملين ، لأنك نجعلها نائبة عن الباء وتجعل إذا فيها منصوبة بالفعل مباشرة إذا لم يتقدم في جملة الفعل ظرف تعطف عليه إذا ، فتصير بمثابة قولك : مررت بزيد وعمرو اليوم ، فاليوم منصوب بالفعل مباشرة ، وفهم من المثال أن مرورك بزيد مطلق غير مقيد بظرف ، وإنما المقيد باليوم مرورك بعمرو خاصة لكن يطابق الآية ، فان الظرف فيها وإن عمل فيه الفعل مباشرة فهو مقيد القسم بالليل ، لا للقسم بالخنس.

٧١٠

الخمسة : بهرام (١) ، وزحل ، وعطارد ، والزهرة ، والمشترى : تجرى مع الشمس والقمر ، وترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس ، فخنوسها رجوعها : وكنوسها : اختفاؤها تحت ضوء الشمس. وقيل : هي جميع الكواكب ، تخنس بالنهار فتغيب عن العيون ، وتكنس بالليل : أى تطلع في أماكنها ، كالوحش في كنسها. عسعس الليل وسعسع : إذا أدبر. قال العجاج:

حتّى إذا الصّبح لها تنفّسا

وانجاب عنها ليلها وعسعسا (٢)

وقيل : عسعس : إذا أقبل ظلامه. فإن قلت : ما معنى تنفس الصبح؟ قلت : إذا أقبل الصبح : أقبل بإقباله روح ونسيم ، فجعل ذلك نفسا له على المجاز. وقيل : تنفس الصبح.

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ)(٢١)

(إِنَّهُ) الضمير للقرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) هو جبريل صلوات الله عليه (٣) ذِي قُوَّةٍ)

__________________

(١) قوله «بهرام» : ليس بعربي ، والمراد به : المريخ. (ع)

(٢) العجاج. وتنفس الصبح : اتساع ضوئه ، أو إقباله بضوء ونسيم. وضمير «لها» الشمس ، وقيل : للمفازة. وانجاب : انقطع وانفصل عنها ظلام الليل. وعسعس : ولى مدبرا وزال ظلامه ، فهو توكيد لما قبله. ويجوز أن الضمير لبقرة وحشية مثلا.

(٣) قال محمود : «المراد بالرسول الكريم : جبريل عليه السلام. وقوله (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) ليدل على عظم منزلته ومكانته ، وثم إشارة إلى الظرف المذكور يعنى عند ذى العرش الخ» قال أحمد : ما كان جبريل صلوات الله عليه يرضى منه هذا التفسير المنطوى على التقصير في حق البشير النذير عليه أفضل الصلاة والسلام ، ولقد اتبع الزمخشري هواه في تمهيد أصول مذهبه الفاسد ، فأخطأ على الأصل والفرع جميعا ، ونحن فبين ذلك بحول الله وقوته فنقول : أولا اختلف أهل التفسير ، فذهب منهم الجم الغفير إلى أن المراد بالرسول الكريم هاهنا إلى آخر النعوت :

محمد صلى الله عليه وسلم. فإن يكن كذلك والله أعلم فذلك فضل الله المعتاد على نبيه ، وإن كان المراد جبريل عليه السلام فقد اختلف الناس في المفاضلة بين الملائكة والرسل ، والمشهور عن أبى الحسن : تفضيل الرسل. ومذهب المعتزلة : تفضيل الملائكة ، إلا أن المختلفين أجمعوا على أنه لا يسوغ تفضيل أحد القبيلين الجليلين بما يتضمن تنقيص معين من الملائكة ومعين من الرسل ، لأن التفضيل وإن كان ثابتا إلا أن في التعيين إيذاء للمفضول ، وعليه حمل الحذاق قوله صلى الله عليه وسلم «لا تفضلوني على يونس بن متى» أى لا تعينوا مفضولا على التخصيص ، لأن التفضيل على لتعميم ثابت بإجماع المسلمين ، أى تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم على النبيين أجمعين ، وكان جدي رحمه الله يوضح ذلك بمثال فيقول : لو قلت بحضرة جماعة من الفقهاء : فلان أفضل أهل عصره ، لكان في الجماعة احتمال لهذا التفضيل وإن لزم اندراجهم في المفضولين ، ولو عينت واحدا منهم وقلت : فلان أفضل منك وأتقى لله ، لأسرع به الأذى إلى بعضك. وإذا تقرر لك أنه لا يلزم من اعتقاد التفضيل على التعميم جواز إطلاق التفضيل على التخصيص ، علمت أن الزمخشري أخطأ على أصله لأنه بتقدير أن تكون الملائكة أفضل كما يعتقد ، لا يجوز أن يقال أحد من الملائكة على التخصيص أنه أفضل من أحد الأنبياء على التخصيص ، لا سيما في سيد ولد آدم عليه أفضل الصلاة والسلام ،

٧١١

كقوله تعالى (شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ) لما كانت حال المكانة على حسب حال الممكن ، قال : (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) ليدل على عظم منزلته ومكانته (ثَمَ) إشارة إلى الظرف المذكور ، أعنى : عند ذى العرش ، على أنه عند الله مطاع في ملائكته المقرّبين يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه. وقرئ : ثم ، تعظيما للأمانة ، وبيانا لأنها أفضل صفاته المعدودة.

(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ)(٢٢)

(وَما صاحِبُكُمْ) يعنى : محمدا صلى الله عليه وسلم (بِمَجْنُونٍ) كما تبهته الكفرة (١) ، وناهيك بهذا دليلا على جلالة مكان جبريل عليه السلام وفضله على الملائكة ، ومباينة منزلته (٢) أفضل الإنس محمد صلى الله عليه وسلم : إذا وازنت بين الذكرين حين قرن بينهما ، وقايست بين قوله (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) وبين قوله (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ).

__________________

ـ ثم يعود الكلام على الآية بعد تسليم أن المراد جبريل ، وبعد أن نكله في تعيينه النبي صلى الله عليه وسلم وعده مفضولا إلى الله فنقول : لم يذكر فيها نعت إلا والنبي صلى الله عليه وسلم مثله ، أولها : رسول كريم ، فقد قال في حقه صلى الله عليه وسلم في آخر سورة الحاقة (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) وقد قيل أيضا : إن المراد جبريل ، إلا أنه يأباه قوله (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ) وقد وافق الزمخشري على ذلك فيما تقدم ، فهذا أول النعوت وأعظمها. وأما قوله (ذِي قُوَّةٍ) فليس محل الخلاف ، إذ لا نزاع في أن لجبريل عليه السلام فضل القوة الجسمية ومن يقتلع المدائن بريشة من جناحه ، لا مراء في فضل قوته على قوة البشر. وقد قيل هذا في تفسير قوله (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى) وقوله (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَ) فقد ثبت طاعة الملائكة أيضا لنبينا صلى الله عليه وسلم ، ورد أن جبريل عليه السلام قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله يقرئك السلام ، وقد أمر ملك الجبال أن يطيعك عند ما آذته قريش فسلم عليه الملك وقال : إن أمرتنى أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت ، فصبر النبي صلى الله عليه وسلم واحتسب. وأعظم من ذلك وأشرف : مقامه المحمود في الشفاعة الكبرى يوم لا يتقدمه أحد ، إذ يقول الله تعالى له : ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع. وأما أمين فقد قال وهو الصادق المصدوق : والله إنى لأمين في الأرض أمين في السماء ، وحسبك قوله : وما هو على الغيب بظنين. إن قرأته بالظاء فمعناه أنه صلى الله عليه وسلم أمين على الغيب غير متهم ، وإن قرأته بالضاد رجع إلى الكرم ، فكيف يذهب إلى التفضيل بالنعوت المشتركة بين الفاضل والمفضول سواء ، وما لي مباحثة في أصل المسألة ، ولكن الرد عليه في خطئه على كل قول يتعين ، وإلا فالمسئلة في غير هذا الكتاب. فنسأل الله أن يثبتنا على الايمان به وبملائكته وكتبه ورسله ، وعلى القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، وأن يعمر قلوبنا بحبهم ، وأن يجعل توسلنا إليه بهم ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(١) قوله «كما تبهته الكفرة» أى تتهمه بما ليس فيه. (ع)

(٢) قوله «ومباينة منزلته ... الخ» يعنى ارتفاع منزلته على منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو مبنى على مذهب المعتزلة من تفضيل الملك على البشر. ومذهب أهل السنة : تفضيل رؤساء البشر. وإنما ذكر جبريل بتلك الصفات واقتصر على نفى الجنون عن النبي صلى الله عليه وسلم لأن جبريل مجهول لهم ، بخلاف محمد صلى الله عليه وسلم فاقه صاحبهم ، ولذا اقتصر على نفى ما بهتوه به. (ع)

٧١٢

(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) (٢٥)

(وَلَقَدْ رَآهُ) ولقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) بمطلع الشمس الأعلى (وَما هُوَ) وما محمد على ما يخبر به من الغيب من رؤية جبريل والوحى إليه وغير ذلك (بِضَنِينٍ) بمتهم من الظنة وهي التهمة. وقرئ : بضنين ، من الضنّ وهو البخل أى : لا يبخل بالوحي فيزوى بعضه غير مبلغه ، أو يسأل تعليمه فلا يعلمه ، وهو في مصحف عبد الله بالظاء ، وفي مصحف أبىّ بالضاد. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما. وإتقان الفصل بين الضاد والظاء : واجب. ومعرفة مخرجيهما مما لا بد منه للقارئ ، فإنّ أكثر العجم لا يفرّقون بين الحرفين ، وإن فرقوا ففرقا غير صواب ، وبينهما بون بعيد ، فإن مخرج الضاد من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره ، وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه أضبط يعمل بكلتا يديه ، وكان يخرج الضاد من جانبي لسانه ، وهي أحد الأحرف الشجرية أخت الجيم والشين ، وأما الظاء فمخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا ، وهي أحد الأحرف الذولقية أخت الذال والثاء. ولو استوى الحرفان لما ثبتت في هذه الكلمة قراءتان اثنتان واختلاف بين جبلين من جبال العلم والقراءة ، ولما اختلف المعنى والاشتقاق والتركيب فإن قلت : فإن وضع المصلى أحد الحرفين مكان صاحبه. قلت : هو كواضع الذال مكان الجيم ، والثاء مكان الشين ، لأن التفاوت بين الضاد والظاء كالتفاوت بين أخواتهما (وَما هُوَ) وما القرآن (بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أى بقول بعض المسترقة للسمع ، وبوحيهم إلى أوليائهم من الكينة.

(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)(٢٩)

(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) استضلال لهم كما يقال لتارك الجادّة اعتسافا أو ذهابا في بنيات الطريق (١) : أين تذهب ، مثلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ) بدل من العالمين وإنما أبدلوا منهم لأنّ الذين شاءوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر ، فكأنه لم يوعظ به غيرهم وإن كانوا موعظين جميعا (وَما تَشاؤُنَ) الاستقامة يا من

__________________

(١) قوله «في بنيات الطريق» في الصحاح «بقيات الطريق» : هي الطرق الصحار تتشعب من الجادة. (ع)

٧١٣

يشاؤها إلا بتوفيق الله (١) ولطفه. أو : وما تشاؤنها أنتم يا من لا يشاؤها إلا بقسر الله وإلجائه.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة إذا الشمس كورت أعاذه الله أن يفضحه حين تنشر صحيفته» (٢).

سورة الانفطار

مكية ، وآياتها ١٩ [نزلت بعد النازعات]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ)(٥)

(انْفَطَرَتْ) انشقت (فُجِّرَتْ) فتح بعضها إلى بعض ، فاختلط العذب بالمالح ، وزال البرزخ الذي بينهما ، وصارت البحار بحرا واحدا. وروى أنّ الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار ، فتصير مستوية ، وهو معنى التسجير عند الحسن ، وقرئ : فجرت ، بالتخفيف. وقرأ مجاهد : فجرت على البناء للفاعل والتخفيف ، بمعنى : بغت لزوال البرزخ نظرا إلى قوله تعالى (لا يَبْغِيانِ) لأنّ البغي والفجور أخوان. بعثر وبحثر بمعنى ، وهما مركبان من البعث والبحث

__________________

(١) قوله «يا من يشاؤها إلا بتوفيق الله» تأويل المشيئة بذلك مبنى على أن فعل العبد بخلق العبد وإرادته. لا بخلق الله تعالى ولا بإرادته : وهو مذهب المعتزلة. ومذهب أهل السنة : أنه يخلق الله تعالى وإرادته كظاهر الآيات. وقوله بقسر الله ، أى بجبره العبد على الفعل ، لكن الجبر ينافي الاختيار المصحح للتكليف واستحقاق الثواب والعقاب ، ويمكن أنه أراد بقسر الله إرادته المستلزمة لوجود المراد ، كما سبق له في الكتاب غير مرة التعبير بارادة القسر ، لكن استلزام الارادة للمراد لا يستلزم قسر العبد وجبره عند أهل السنة ، وإن كان الله هو الخالق لفعل العبد ، لأنهم أثبتوا العبد الكسب ، خلافا للمعتزلة. وتفصيل المقام في علم التوحيد. (ع)

(٢) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه باسنادهم إلى أبى بن كعب.

٧١٤

مع راء مضمومة إليهما. والمعنى : يحثت وأخرج موتاها. وقيل : لبراءة المبعثرة ، لأنها بعثرت أسرار المنافقين.

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ)(٨)

فإن قلت : ما معنى قوله : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) وكيف طابق الوصف بالكرم إنكار الاغترار به (١) ، وإنما يغتر بالكريم ، كما يروى عن على رضى الله عنه أنه صاح بغلام له كرّات فلم يلبه ، فنظر فإذا هو بالباب ، فقال له : مالك لم تجبني؟ قال : لثقتي بحلمك وأمنى من عقوبتك ، فاستحسن جوابه وأعتقه (٢). وقالوا : من كرم الرجل سوء أدب غلمانه. قلت : معناه أنّ حق الإنسان أن لا يغتر بتكرم الله عليه ، حيث خلقه حيا لينفعه ، وبتفضله عليه بذلك حتى يطمع بعد ما مكنه وكلفه فعصى وكفر النعمة المتفضل بها أن يتفضل عليه بالثواب وطرح العقاب ، اغترارا بالتفضل الأوّل ، فإنه منكر خارج من حد الحكمة ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تلاها. «غرّه جهله» (٣) وقال عمر رضى الله عنه : غرّه حمقه وجهله. وقال الحسن : غره والله شيطانه الخبيث ، أى : زين له المعاصي وقال له : افعل ما شئت ، فربك الكريم الذي تفضل عليك بما تفضل به أوّلا وهو متفضل عليك آخرا ، حتى ورطه. وقيل للفضيل ابن عياض : إن أقامك الله يوم القيامة وقال لك : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) ما ذا تقول؟ قال أقول : غرتني ستورك المرخاة. وهذا على سبيل الاعتراف بالخطإ في الاغترار بالستر ، وليس باعتذار كما يظنه الطماع ، ويطن به قصاص الحشوية ويروون عن أئمتهم : إنما قال (بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) دون سائر صفاته ، ليلقن عبده الجواب حتى يقول : غرّنى كرم الكريم. وقرأ سعيد بن جبير : ما أغرّك ، إما على التعجب ، وإما على الاستفهام ، من قولك : غرّ الرجل فهو غارّ : إذا غفل ،

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت : قوله ما غرك بربك الكريم ما معناه وكيف يطابق الوصف بالكرم ... الخ»؟ قال أحمد : حجة الزمخشري هاهنا فارغة ، فان الآية إنما وردت في الكفار ، بدليل قوله (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) ونحن نوافقه على خلودهم وانقطاع معاذيرهم ، لا على أن تخليدهم واجب على الله تعالى بمقتضى الحكمة ، فان الله لا يجب عليه شيء. ويجوز عقلا أن يثيب الكافر ويخلده في الجنة ، وبالعكس في المؤمن ، ولو لا ورود السمع باثابة المؤمنين وعذاب الكافرين فيتعين المصير إليه ، لكان ما ذكرناه في الجواز والاحتمال ، فان الله عز وجل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

(٢) لم أجده.

(٣) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن عن كثير بن هشام عن جعفر بن برقان عن صالح بن سمار قال بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية فذكره.

٧١٥

من قولك : بيتهم العدوّ وهم غارّون. وأغرّه غيره : جعله غارا (فَسَوَّاكَ) فجعلك سويا سالم الأعضاء (فَعَدَلَكَ) فصيرك معتدلا متناسب الخلق من غير تفاوت فيه ، فلم يجعل إحدى اليدين أطول ، ولا إحدى العينين أوسع ، ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود ، ولا بعض الشعر فاحما وبعضه أشقر. أو جعلك معتدل الخلق تمشى قائما لا كالبهائم. وقرئ : فعدلك بالتخفيف. وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكون بمعنى المشدّد ، أى : عدل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت. والثاني (فَعَدَلَكَ) فصرفك. يقال : عدله عن الطريق يعنى : فعدلك عن خلقة غيرك وخلقك خلقة حسنة مفارقة لسائر الخلق. أو فعدلك إلى بعض الأشكال والهيئات. (ما) في (ما شاءَ) مزيدة ، أى : ركبك في أىّ صورة اقتضتها مشيئته وحكمته من الصور المختلقة في الحسن والقبح والطول والقصر والذكورة والأنوثة ، والشبه ببعض الأقارب وخلاف الشبه. فإن قلت : هلا عطفت هذه الجملة كما عطف ما قبلها؟ قلت : لأنها بيان لعدلك. فإن قلت : بم يتعلق الجار؟ قلت : يجوز أن يتعلق بركبك. على معنى : وضعك في بعض الصور ومكنك فيه ، وبمحذوف : أى ركبك حاصلا في بعض الصور ، ومحله النصب على الحال إن علق بمحذوف ويجوز أن يتعلق بعدلك ، ويكون في «أى» معنى التعجب (١) ، أى فعدلك في صورة عجيبة ، ثم قال : ما شاء ركبك. أى. ركبك ما شاء من التراكيب ، يعنى تركيبا حسنا.

(كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ)(١٢)

(كَلَّا) ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله والتسلق به ، وهو موجب الشكر والطاعة ، إلى عكسهما الذي هو الكفر والمعصية ، ثم قال (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) أصلا وهو الجزاء.

أو دين الإسلام. فلا تصدّقون ثوابا ولا عقابا وهو شر من الطمع المنكر (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) تحقيق لما يكذبون به من الجزاء ، يعنى أنكم تكذبون بالجزاء والكاتبون يكتبون عليكم أعمالكم لتجازوا بها. وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم : تعظيم لأمر الجزاء ، وأنه عند الله من جلائل الأمور ، ولو لا ذلك لما وكل بضبط ما يحاسب عليه ، ويجازى به الملائكة الكرام الحفظة الكتبة. وفيه إنذار وتهويل وتشوير للعصاة (٢) ولطف للمؤمنين. وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها قال : ما أشدّها من آية على الغافلين.

__________________

(١) قوله «معنى التعجب» لعله : التعجيب. (ع)

(٢) قوله «وتشوير العصاة» أى إخجال اه كذا بهامش وفي الصحاح «الشوار» الفرع. ومنه قيل : شور به أى كأنه أبدى عورته. (ع)

٧١٦

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ)(١٦)

(وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) كقوله (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) ويجوز أن يراد : يصلون النار يوم الدين وما يغيبون عنها قبل ذلك ، يعنى : في قبورهم. وقيل : أخبر الله في هذه السورة أنّ لابن آدم ثلاث حالات : حال الحياة التي يحفظ فيها عمله ، وحال الآخرة التي يجازى فيها ، وحال البرزخ وهو قوله (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ).

(وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)(١٩)

يعنى أن أمر يوم الدين بحيث لا ندرك دراية دار كنهه في الهول والشدّة وكيفما تصورته فهو فوق ذلك وعلى أضعافه ، والتكرير لزيادة التهويل ، ثم أجمل القول في وصفه فقال (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) أى لا تستطيع دفعا عنها ولانفعالها بوجه ولا أمر إلا لله وحده. من رفع فغلى البدل من يوم الدين ، أو على : هو يوم لا تملك. ومن نصب فبإضمار يدانون ، لأنّ الدين يدل عليه. أو بإضمار اذكر. ويجوز أن يفتح لإضافته إلى غير متمكن وهو في محل الرفع. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ إذا السماء انفطرت كتب الله له بعدد كل قطرة من السماء حسنة وبعدد كل قبر حسنة» (١).

__________________

(١) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بسندهم إلى أبى بن كعب.

٧١٧

سورة المطففين

مكية ، وآياتها ٣٦ [نزلت بعد العنكبوت ، وهي آخر سورة نزلت بمكة]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٦)

التطفيف : البخس في الكيل والوزن ، لأنّ ما يبخس شيء طفيف حقير. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وكانوا من أخبث الناس كيلا ، فنزلت ، فأحسنوا الكيل (١) وقيل : قدمها وبها رجل يعرف بأبى جهينة ومعه صاعان : يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر (٢). وقيل : كان أهل المدينة تجارا يطففون ، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة ، فنزلت فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها (٣) عليهم. وقال : «خمس بخمس» : قيل : يا رسول الله ، وما خمس بخمس؟ قال «ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوّهم ، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر (٤)» وعن على رضى الله عنه : أنه مر برجل يزن الزعفران وقد أرجح فقال له : أقم الوزن بالقسط ، ثم أرجح بعد ذلك ما شئت. كأنه أمره بالتسوية أولا ليعتادها ويفصل الواجب من النفل. وعن ابن عباس : إنكم معشر الأعاجم وليتم أمرين : بهما هلك من كان قبلكم : المكيال والميزان ، وخص الأعاجم لأنهم يجمعون الكيل والوزن جميعا وكانا مفرّقين في الحرمين : كان أهل مكة يزنون

__________________

(١) أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم من رواية يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما.

(٢) نقله الثعلبي عن السدى.

(٣) لم أجده.

(٤) أخرجه الحاكم من رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه رفعه «ما نقض قوم العهد ... الحديث» وفيه بشر ابن المهاجر. وفيه مقال ، ومن طريق عطاء بن أبى رباح عن عبد الله بن عمرو مرفوعا نحوه.

٧١٨

وأهل المدينة يكيلون. وعن ابن عمر أنه كان يمر بالبائع فيقول له : اتق الله وأوف الكيل ، فإنّ المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى إن العرق ليلجمهم. وعن عكرمة : أشهد أنّ كل كيال ووزان في النار ، فقيل له : انّ ابنك كيال أو وزان ، فقال : أشهد أنه في النار. وعن أبىّ رضى الله عنه : لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤس المكاييل وألسن الموازين. لما كان اكتيالهم من الناس اكتيالا يضرهم (١) ويتحامل فيه عليهم : أبدل «على» مكان «من» للدلالة على ذلك. ويجوز أن يتعلق «على» بيستوفون ، ويقدم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية ، أى : يستوفون على الناس خاصة ، فأما أنفسهم فيستوفون لها : وقال الفراء «من» و «على» يعتقبان في هذا الموضع ، لأنه حق عليه ، فإذا قال : اكتلت عليك ، فكأنه قال : أخذت ما عليك ، وإذا قال : اكتلت منك ، فكقوله : استوفيت منك. والضمير في (كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) ضمير منصوب راجع إلى الناس. وفيه وجهان : أن يراد : كالوا لهم أو وزنوا لهم ، فحذف الجار وأوصل الفعل ، كما قال ،

ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا

ولقد نهيتك عن نبات الأوبر (٢)

والحريص يصيدك لا الجواد ، بمعنى : جنيت لك ، ويصيد لك. وأن يكون على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، والمضاف هو المكيل أو الموزون ، ولا يصح أن يكون ضميرا مرفوعا للمطففين ، لأنّ الكلام يخرج به إلى نظم فاسد ، وذلك أنّ المعنى : إذا أخذوا من الناس استوفوا ، وإذا أعطوهم أخسروا ، وإن جعلت الضمير للمطففين انقلب إلى قولك : إذا أخذوا من الناس استوفوا ، وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا ، وهو كلام متنافر

__________________

(١) قال محمود : «لما كان اكتيالهم على الناس اكتيالا يضرهم ... الخ» قال أحمد : لا منافرة فيه ، ولا يجعل هذا القائل الضمير دالا على مباشرة ولا إشعار أيضا فيه بذلك ، إنما يكون نظم الكلام على هذا الوجه : إذا كان الكيل من جهة غيرهم استوفوه ، وإذا كان الكيل من جهتهم خاصة أخسروه ، سواء باشروه أولا ، وهذا أنظم كلام وأحسنه والله أعلم ، والذي يدلك على أن الضمير لا يعطى مباشرة الفعل أن لك أن تقول : الأمراء هم الذين يقيمون الحدود لا السوقة ، ولست تعنى أنهم يباشرون ذلك بأنفسهم ، وإنما معناه أن فعل ذلك من جهتهم خاصة.

(٢) «جنى لا يتعدى إلا لواحد والثاني باللام ، فالأصل : جنيت لك ، فحذف الجار وأوصل الضمير. أو ضمنه معنى : أبحتك ، فعداه لهما. والأكمؤ : جمع كمأ ، كأفلس وفلس ، وهو واحد الكمأة ، وهي لنوع كبير من نبات يسمى شحمة الأرض ، سمى كمأة لاشتهاره بها. والعساقل : جمع عسقول كعصفور ، وكان حقه : عساقيل ، فحذفت الياء الوزن. وقيل : إنه جمع عسقل ، وهو نوع صغير منها جيد أبيض ، ونبات أوبر : نوع ردىء منها أسود مزغب ، كأن عليه وبر. وقيل : هو جنس آخر يشبه القلقاس أو اللفت. ونبات أوبر : جمع ابن أوبر ، لأنه علم لما لا يعقل. وأل فيه زائدة. وقال المبرد : هو اسم جنس ، قال فيه معرفة ، والبيت من باب التمثيل مثال؟؟؟ من أغرى على الطيب ، فعدل إلى الخبيث ، ثم يرجع يتندم على عاتبته.

٧١٩

لأنّ الحديث واقع في الفعل لا في المباشر ، والتعلق في إيطاله بخط المصحف ، وأنّ الألف التي تكتب بعد واو الجمع غير ثابتة فيه : ركيك ، لأنّ خط المصحف لم يراع في كثير منه حدّ المصطلح عليه في علم الخط ، على أنى رأيت في الكتب المخطوطة بأيدى الأئمة المتقنين هذه الألف مرفوضة لكونها غير ثابتة في اللفظ والمعنى جميعا ، لأن الواو وحدها معطية معنى الجمع ، وإنما كتبت هذه الألف تفرقة بين واو الجمع وغيرها في نحو قولك : هم لم يدعوا ، وهو يدعو ، فمن لم يثبتها قال : المعنى كاف في التفرقة بينهما. وعن عيسى بن عمر وحمزة : أنهما كانا يرتكبان ذلك ، أى يجعلان الضميرين للمطففين ، ويقفان عند الواوين وقيفة يبينان بها ما أرادا. فإن قلت : هلا قيل : أو اتزنوا ، كما قيل (أَوْ وَزَنُوهُمْ)؟ قلت : كأن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة ، لأنهم يدعدعون (١) ويحتالون في الملء ، وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعا (يُخْسِرُونَ) ينقصون. يقال : خسر الميزان (٢) وأخسره (أَلا يَظُنُ) إنكار وتعجيب عظيم من حالهم في الاجتراء على التطفيف ، كأنهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمنون تخمينا (أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) ومحاسبون على مقدار الذرّة والخردلة. وعن قتادة : أوف يا ابن آدم كما تحب أن يوفى لك ، واعدل كما تحب أن يعدل لك. وعن الفضيل : بخس الميزان سواد الوجه يوم القيامة. وعن عبد الملك بن مروان : أن أعرابيا قال له : قد سمعت ما قال الله في المطففين : أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به ، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن. وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظن ، ووصف اليوم بالعظم ، وقيام الناس فيه لله خاضعين ، ووصفه ذاته برب العالمين : بيان بليغ لعظم الذنب وتفاقم الإثم في التطفيف وفيما كان في مثل حاله من الحيف وترك القيام بالقسط ، والعمل على السوية والعدل في كل أخذ وإعطاء ، بل في كل قول وعمل. وقيل : الظنّ بمعنى اليقين ، والوجه ما ذكر ، ونصب (يَوْمَ يَقُومُ) بمبعوثون. وقرئ بالجر بدلا من (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) وعن ابن عمر أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ قوله (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) بكى نحيبا وامتنع من قراءة ما بعده.

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ)(٩)

__________________

(١) قوله «يدعدعون ويحتالون» في الصحاح الدعدعة تحريك المكيال ونحوه ليسعه الشيء. ودعدعت الشيء : ملأته. (ع)

(٢) قوله «يقال خسر الميزان» عبارة الصحاح : خسرت الشيء وأخسرته : نقصته. (ع)

٧٢٠