الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

يؤثرون ، على الغيبة. ويعضد الأولى قراءة ابن مسعود : بل أنتم تؤثرون (خَيْرٌ وَأَبْقى) أفضل في نفسها وأنعم وأدوم. وعن عمر رضى الله عنه : ما الدنيا في الآخرة إلا كنفجة أرنب (١).

(إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى)(١٩)

(هذا) إشارة إلى قوله (قَدْ أَفْلَحَ) إلى (أَبْقى) يعنى أنّ معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف. وقيل : إلى ما في السورة كلها. وروى عن أبى ذر رضى الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كم أنزل الله من كتاب؟ فقال : مائة وأربعة كتب ، منها على آدم : عشر صحف ، وعلى شيث : خمسون صحيفة ، وعلى أخنوخ وهو إدريس : ثلاثون صحيفة ، وعلى إبراهيم : عشر صحائف والتوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان (٢). وقيل إنّ في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه عارفا بزمانه مقبلا على شأنه. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الأعلى أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل حرف أنزله الله على إبراهيم وموسى ومحمد (٣) وكان إذا قرأها قال : سبحان ربى الأعلى (٤) وكان على وابن عباس يقولان ذلك ، وكان يحبها (٥) وقال : أول من قال «سبحان ربى الأعلى» ميكائيل (٦).

سورة الغاشية

مكية ، وآياتها ٢٦ [نزلت بعد الذاريات]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ)(١)

(الْغاشِيَةِ) الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وتلبسهم أهوالها. يعنى القيامة ، من قوله

__________________

(١) قوله «إلا كنفجة أرنب» في الصحاح «نفجت الأرنب» إذا ثارت. (ع)

(٢) هو مختصر من حديث طويل أخرجه ابن حبان والحاكم. وقد تقدمت الاشارة اليه في الحج «تنبيه» وقع فيه «على آدم عشر صحائف» والذي عند المذكورين على موسى قبل التوراة عشر صحائف.

(٣) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.

(٤) أخرجه أبو داود والحاكم من طريق سعد بن جبير عن ابن عباس بهذا.

(٥) أخرجه البزار عن يوسف بن موسى : ووكيع عن إسرائيل عن ثور بن ابى فاختة عن أبيه عن على بهذا ورواه الواحدي من طريق أحمد بن حنبل ووكيع.

(٦) ذكره الثعلبي عن على بغير إسناد.

٧٤١

(يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) وقيل : النار ، من قوله (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) ، (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ يَوْمَئِذٍ) يوم إذ غشيت (خاشِعَةٌ) ذليلة (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) تعمل في النار عملا تتعب فيه ، وهو جرها السلاسل والأغلال (١) ، وخوضها في النار كما تخوض الإبل في الوحل ، وارتقاؤها دائبة في صعود من نار ، وهبوطها في حدور منها. وقيل : عملت في الدنيا أعمال السوء والتذت بها وتنعمت ، فهي في نصب منها في الآخرة. وقيل : عملت ونصبت في أعمال لا تجدى عليها في الآخرة. من قوله (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) ، (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) وقيل : هم أصحاب الصوامع. ومعناه : أنها خشعت لله وعملت ونصبت في أعمالها من الصوم الدائب ، (٢) والتهجد الواصب. وقرئ : عاملة ناصبة على الشتم. قرئ : تصلى بفتح التاء. وتصلى بضمها. وتصلى بالتشديد. وقيل : المصلى عند العرب : أن يحفروا حفيرا فيجمعوا فيه جمرا كثيرا ، ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه ، فأما ما يشوى فوق الجمر أو على المقلى أو في التنور ، فلا يسمى مصليا (آنِيَةٍ) متناهية في الحرّ ، كقوله (وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ). الضريع. يبيس الشبرق ، وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطبا (٣) ، فإذا يبس تحامته الإبل وهو سم قاتل. قال أبو ذؤيب :

رعى الشيرق الرّيّان حتّى إذا ذوى

وعاد ضريعا بان عنه النّحائص (٤)

وقال :

وحبسن في هزم الضّريع فكلّها

حدباء دامية اليدين حرود (٥)

__________________

(١) قال محمود : «ذليلة تعمل في النار عملا تنصب منه وهو جرها السلاسل ... الخ» قال أحمد : الوجه الأول متعين لأن الظرف المذكور وهو قوله (يَوْمَئِذٍ) مقطوع عن الجملة المضاف إليها ، تقديرها : يوم إذ عشيت ، وذلك في الآخرة بلا إشكال ، وهو ظرف لجميع الصفات المخبر بها ، أعنى : خاشعة عاملة ناصبة ، فكيف يتناول أعمال الدنيا.

(٢) قوله «من الصوم الدائب ، الدائب والواصب كلاهما بمعنى الدائم. (ع)

(٣) قال محمود : «الضريع : يبيس الشبرق ، وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطبا ... الخ» قال أحمد : فعلى الوجه الأول يكون صفة مخصصة لازمة. ذكرت شارحة لحقيقة الضريع. وعلى الثاني : تكون صفة مخصصة.

(٤) أى : رعى البعير الشبرق الريان ، أى : الشوك الرطب. وذوى يذوى ذويا : ذبل ذبولا. وذوى كرضى أنكرها الجوهري ، وأثبتها أبو عبيدة ، أى : حتى إذا جف وصار ضريعا يابسا يتفتت بان عنه ، أى : بعد عنه النحائص : جمع نحوص وهي الناقة الحائل ، لعلها أنه لا يسمن ولا يغنى من جوع.

(٥) لقيس بن عيزارة ، وهزمه ـ بالزاي ـ : صدعه «ومنه : الهزم ، أى : المنكسر. وناقة هزماء : بدا عظم وركيها من الهزال. وأما الهرم بالراء فهو الحمض ، وبعير عارم : يرعى الحمض. والضريع : نبت سيئ ـ

٧٤٢

فإن قلت : كيف قيل (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) وفي الحاقة (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ)؟ قلت : العذاب ألوان ، والمعذبون طبقات ، فمنهم. أكلة الزقوم. ومنهم أكلة الغسلين ، ومنهم أكلة الضريع : (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ). (لا يُسْمِنُ) مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام. أو ضريع ، يعنى : أنّ طعامهم من شيء ليس من مطاعم الإنس ، وإنما هو شوك والشوك مما ترعاه الإبل وتتولع به. وهذا نوع منه تنفر عنه ولا تقربه. ومنفعتا الغذاء منتفيتان عنه : وهما إماطة الجوع ، وإفادة القوّة والسمن في البدن. أو أريد : أن لا طعام لهم أصلا ، لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلا عن الإنس ، لأن الطعام ما أشبع أو أسمن ، وهو منهما بمعزل. كما تقول ليس لفلان ظل إلا الشمس ، تريد : نفى الظل على التوكيد. وقيل : قالت كفار قريش : إن الضريع لتسمن عليه إبلنا فنزلت (لا يُسْمِنُ) فلا يخلو إما أن يتكذبوا ويتعنتوا بذلك وهو الظاهر ، فيردّ قولهم بنفي السمن والشبع ، وإما أن يصدقوا فيكون المعنى : أن طعامهم من ضريع ليس من جنس ضريعكم ، إنما هو من ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ)(١٦)

(ناعِمَةٌ) ذات بهجة وحسن ، كقوله (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) أو متنعمة (لِسَعْيِها راضِيَةٌ) رضيت بعملها لما رأت ما أدّاهم إليه من الكرامة والثواب (عالِيَةٍ) من علو المكان أو المقدار (لا تَسْمَعُ) يا مخاطب. أو الوجوه (لاغِيَةً) أى لغوا ، أو كلمة ذات لغو. أو نفسا تلغو ، لا يتكلم أهل الجنة إلا بالحكمة وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم. وقرئ : لا تسمع : على البناء للمفعول بالتاء والياء (١) (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) يريد عيونا في غاية الكثرة ،

__________________

ـ ذو شوك. والحدب : الانحناء. والحدباء : المنحنية. وحرد حردا : يبس وشح ، يقول : حبست النوق في مرعى غث متفتت ، فكلها منحنية الظهور أو الأرجل من الهزال ، دامية اليدين من الشوك ، قليلة اللبن.

(١) قوله «على البناء للمفعول بالتاء والياء» أى : ولاغية : بالرفع فيهما. (ع)

٧٤٣

كقوله (عَلِمَتْ نَفْسٌ). (مَرْفُوعَةٌ) من رفعة المقدار أو السمك ، ليرى المؤمن بجلوسه عليه جميع ما خوّله ربه من الملك والنعيم. وقيل : مخبوءة لهم ، من رفع الشيء إذا خبأه (مَوْضُوعَةٌ) كلما أرادوها وجدوها موضوعة بين أيديهم عتيدة حاضرة ، لا يحتاجون إلى أن يدعوا بها. أو موضوعة على حافات العيون معدّة للشرب. ويجوز أن يراد : موضوعة عن حد الكبار ، أوساط بين الصغر والكبر ، كقوله (قَدَّرُوها تَقْدِيراً). (مَصْفُوفَةٌ) بعضها إلى جنب بعض. مساند ومطارح ، (١) أينما أراد أن يجلس على مسورة واستند إلى أخرى (وَزَرابِيُ) وبسط عراض فاخرة. وقيل : هي الطنافس التي لها خمل رقيق. جمع زربية (مَبْثُوثَةٌ) مبسوطة. أو مفرقة في المجالس.

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ)(٢٦)

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ) نظر اعتبار (كَيْفَ خُلِقَتْ) خلقا عجيبا ، دالا على تقدير مقدر ، شاهدا بتدبير مدبر ، حيث خلقها للنهوض بالأثقال وجرها إلى البلاد الشاحطة (٢) فجعلها تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر ، ثم تنهض بما حملت ، وسخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمّتها : لا تعاز ضعيفا ولا تمانع صغيرا ، وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار. وعن بعض الحكماء. أنه حدث عن البعير وبديع خلقه ، وقد نشأ في بلاد لا إبل بها ، ففكر ثم قال : يوشك أن تكون طوال الأعناق ، وحين أراد بها أن تكون سفائن البر صبرها على احتمال العطش ، حتى إن أظماءها (٣) لترتفع إلى العشر فصاعدا ، وجعلها ترعى كل شيء نابت في البراري والمفاوز مما لا يرعاه سائر البهائم. وعن سعيد بن جبير قال : لقيت شريحا القاضي فقلت : أين تريد؟ قال :

__________________

(١) قوله «مسائد ومطارح» عبارة النسفي. وسائدة وقوله. على مسوره عبارة النسفي. على موسدة. (ع)

(٢) «قوله إلى البلاد الشاحطة» أى البعيدة. أفاده الصحاح. (ع)

(٣) قوله «حتى إن أظماءها» في الصحاح. «الظمء» ما بين الوردين : وهو حبس الإبل عن الماء إلى غاية الورد ، والجمع : الأظماء. (ع)

٧٤٤

أريد الكناسة : قلت : وما تصنع بها؟ قال : أنظر إلى الإبل كيف خلقت. فإن قلت : كيف حسن ذكر الإبل مع السماء والجبال والأرض ولا مناسبة؟ قلت : قد انتظم هذه الأشياء نظر العرب في أوديتهم وبواديهم ، فانتظمها الذكر على حسب ما انتظمها نظرهم ، ولم يدع من زعم أن الإبل السحاب إلى قوله ، إلا طلب المناسبة ، ولعله لم يرد أن الإبل من أسماء السحاب ، كالغمام والمزن والرباب والغيم والغين ، وغير ذلك ، وإنما رأى السحاب مشبها بالإبل كثيرا في أشعارهم ، فجوز أن يراد بها السحاب على طريق التشبيه والمجاز (كَيْفَ رُفِعَتْ) رفعا بعيد المدى بالإمساك وبغير عمد. و (كَيْفَ نُصِبَتْ) نصبا ثابتا ، فهي راسخة لا تميل ولا تزول. و (كَيْفَ سُطِحَتْ) سطحا بتمهيد وتوطئة ، فهي مهاد للمتقلب عليها. وقرأ على بن أبى طالب رضى الله عنه : خلقت ، ورفعت ، ونصبت ، وسطحت : على البناء للفاعل وتاء الضمير ، والتقدير : فعلتها. فحذف المفعول. وعن هرون الرشيد أنه قرأ : سطحت بالتشديد ، والمعنى : أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق ، حتى لا ينكروا اقتداره على البعث فيسمعوا إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا به ويستعدوا للقائه. أى : لا ينظرون ، فذكرهم ولا تلح عليهم ، ولا يهمنك أنهم لا ينظرون ولا يذكرون (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) كقوله (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ). (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) بمتسلط ، كقوله (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) وقيل : هو في لغة تميم مفتوح الطاء ، على أن «سيطر» متعد عندهم. وقولهم : تسيطر ، يدل عليه (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى) استثناء منقطع ، أى : لست بمستول عليهم ، ولكن من تولى (وَكَفَرَ) منهم ، فإن لله الولاية والقهر. فهو يعذبه (الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) الذي هو عذاب جهنم. وقيل. هو استثناء من قوله (فَذَكِّرْ) أى : فذكر إلا من انقطع طمعك من إيمانه وتولى ، فاستحق العذاب الأكبر وما بينهما اعتراض. وقرئ : إلا من تولى ، على التنبيه. وفي قراءة ابن مسعود: فإنه يعذبه : وقرأ أبو جعفر المدني : إيابهم ، بالتشديد. ووجهه أن يكون «فيعالا» مصدر «أيب» فيعل من الإياب. أو أن يكون أصله أوابا : فعالا من أوّب ، ثم قيل : إيوابا كديوان في دوّان ، ثم فعل به ما فعل بأصل : سيد وميت. فإن قلت. ما معنى تقديم الظرف؟ قلت : معناه التشديد في الوعيد ، (١) وأن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام ، وأن حسابهم ليس بواجب إلا عليه ، وهو الذي يحاسب على النقير والقطمير. ومعنى الوجوب : الوجوب في الحكمة. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الغاشية حاسبه الله حسابا يسيرا» (٢).

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت : ما معنى تقديم الظرف؟ وأجاب بأن معناه التشديد في الوعيد ... الخ» قال أحمد : ومعنى (ثُمَ) الدلالة على أن الحساب أشد من الإياب ، لأنه موجب العذاب وبادرته.

(٢) أخرجه الواحدي والثعلبي وابن مردويه بالإسناد إلى أبى بن كعب.

٧٤٥

سورة الفجر

مكية ، وآياتها ٣٠ وقيل ٢٩ [نزلت بعد الليل]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ)(٥)

أقسم بالفجر كما أقسم بالصبح في قوله (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) ، (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ). وقيل : بصلاة الفجر. أراد بالليالي العشر : عشر ذى الحجة. فإن قلت : فما بالها منكرة من بين ما أقسم به؟ قلت : لأنها ليال مخصوصة من بين جنس الليالي : العشر بعض منها. أو مخصوصة بفضيلة ليست لغيرها. فإن قلت : فهلا عرفت بلام العهد ، لأنها ليال معلومة معهودة؟ قلت : لو فعل ذلك لم تستقل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير ، ولأن الأحسن أن تكون اللامات متجانسة ، ليكون الكلام أبعد من الألغاز والتعمية. وبالشفع والوتر : إما الأشياء كلها شفعها ووترها ، وإما شفع هذه الليالي ووترها. ويجوز أن يكون شفعها يوم النحر ، ووترها يوم عرفة ، لأنه تاسع أيامها وذاك عاشرها ، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسرهما بذلك (١). وقد أكثروا في الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون أجناس ما يقعان فيه ، وذلك قليل الطائل ، جدير بالتلهى عنه ، وبعد ما أقسم بالليالي المخصوصة أقسم بالليل على العموم (إِذا يَسْرِ) إذا يمضى ، كقوله (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) ، (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ). وقرئ : والوتر بفتح الواو ، وهما لغتان كالحبر والحبر في العدد ، وفي الترة : الكسر وحده (٢). وقرئ : الوتر بفتح الواو وكسر التاء : رواها يونس عن أبى عمرو ، وقرئ : والفجر ، والوتر ، ويسر : بالتنوين ، وهو التنوين الذي يقع بدلا من حرف الإطلاق. وعن ابن عباس : وليال عشر ، بالإضافة. يريد : وليال أيام عشر. وياء (يَسْرِ) تحذف في الدرج ، اكتفاء عنها بالكسرة. وأما في الوقف فتحذف مع

__________________

(١) قلت : التعليل من كلام الزمخشري. وأصله عند النسائي وأحمد والبزار والحاكم والبيهقي في الشعب الثالث والعشرين من رواية خير بن نعيم عن أبى الزبير عن جابر. قال : لا نعلمه إلا بهذا الاسناد.

(٢) قوله «وفي الترة الكسر وحده» في الصحاح «الموتور» الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه ، تقول : وتره وترا وترة ، وكذلك : وتره حقه ، أى : نقصه. (ع)

٧٤٦

الكسرة. وقيل : معنى «يسرى» يسرى فيه (هَلْ فِي ذلِكَ) أى فيما أقسمت به من هذه الأشياء (قَسَمٌ) أى مقسم به (لِذِي حِجْرٍ) يريد : هل يحق عنده أن تعظم بالإقسام بها. أو : هل في إقسامى بها لذي حجر ، أى : هل هو قسم عظيم يؤكد بمثله المقسم عليه. والحجر : العقل ، لأنه يحجر عن التهافت فيما لا ينبغي ، كما سمى عقلا ونهية ، لأنه يعقل وينهى. وحصاة : من الإحصاء وهو الضبط. وقال الفراء : يقال : إنه لذو حجر ، إذا كان قاهرا لنفسه ضابطا لها ، والمقسم عليه محذوف وهو «ليعذبن» يدل عليه قوله (أَلَمْ تَرَ) إلى قوله (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ)

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ)(١٤)

قيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عاد ، كما يقال لبنى هاشم : هاشم. ثم قيل للأوّلين منهم عاد الأولى وإرم ، تسمية لهم باسم جدّهم ، ولمن بعدهم : عاد الأخيرة. قال ابن الرقيات :

مجدا تليدا بناه أوّله

أدرك عادا وقبلها إرما (١)

فإرم في قوله (بِعادٍ إِرَمَ) عطف بيان لعاد ، وإيذان بأنهم عاد الأولى القديمة. وقيل (إِرَمَ) بلدتهم وأرضهم التي كانوا فيها ويدل عليه قراءة ابن الزبير : بعاد إرم ، على الإضافة. وتقديره : بعاد أهل إرم ، كقوله (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) ولم تنصرف قبيلة كانت أو أرضا للتعريف والتأنيث. وقرأ الحسن : بعاد أرم ، مفتوحتين. وقرئ : بعاد إرم ، بسكون الراء على التخفيف ، كما قرئ : بورقكم. وقرى : بعاد إرم ذات العماد ، بإضافة إرم إلى ذات العماد ، والإرم : العلم ، يعنى : بعاد أهل أعلام ذات العماد. و (ذاتِ الْعِمادِ) اسم المدينة. وقرئ : بعاد إرمّ ذات العماد ، أى جعل الله ذات العماد رميما بدلا من فعل ربك ، وذات العماد إذا كانت صفة للقبيلة ، فالمعنى : أنهم كانوا بدويين أهل عمد ، أو طوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة. ومنه قولهم : رجل معمد وعمدان : إذا كان طويلا. وقيل : ذات البناء الرفيع ، وإن كانت صفة

__________________

(١) لابن الرقيات ، يصف رجلا بأنه حاز مجدا تليدا. أى : قديما. وشبهه بالحصن المبنى على طريق المكنية وبناه تخييل ، أى شرعه وجدده أوله ، أى : آباؤه الأولون : أدرك هذا المجد من جدود الممدوح عادا وإرما قبله أى : قبل عاد ، لأنه عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح ، فعقب عاد هذا : هم عاد الأولى ، ومن بعدهم : عاد الثانية.

٧٤٧

للبلدة فالمعنى : أنها ذات أساطين. وروى أنه كان لعاد ابنان : شداد وشديد ؛ فملكا وقهرا ، ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد ، فملك الدنيا ودانت له ملوكها ، فسمع بذكر الجنة فقال : أبنى مثلها ، فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلاثمائة سنة ، وكان عمره تسعمائة سنة : وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة ، وأساطينها من الزبرجد والياقوت. وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة ، ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته ، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا. وعن عبد الله بن قلابة : أنه خرج في طلب إبل له ، فوقع عليها ، فحمل ما قدر عليه مما ثم ، وبلغ خبره معاوية فاستحضره ، فقص عليه ، فبعث إلى كعب فسأله فقال : هي إرم ذات العماد (١) ، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال ، يخرج في طلب إبل له ، ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال : هذا والله ذلك الرجل (لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها) مثل عاد (فِي الْبِلادِ) عظم أجرام وقوّة ، كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع ، وكان يأتى الصخرة العظيمة فيحملها فيلقيها على الحي فيهلكهم ، أو لم يخلق مثل مدينة شدّاد في جميع بلاد الدنيا. وقرأ ابن الزبير : لم يخلق مثلها ، أى : لم يخلق الله مثلها (جابُوا الصَّخْرَ) قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتا ، كقوله (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) قيل : أول من نحت الجبال والصخور والرخام : ثمود ، وبنوا ألفا وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة. قيل له : ذو الأوتاد ، لكثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا ، أو لتعذيبه بالأوتاد ، كما فعل بماشطة بنته وبآسية (الَّذِينَ طَغَوْا) أحسن الوجوه فيه أن يكون في محل النصب على الذم. ويجوز أن يكون مرفوعا على : هم الذين طغوا. أو مجرورا على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون. يقال : صب عليه السوط وغشاه وقنعه ، وذكر السوط : إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعدّلهم في الآخرة ، كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به. وعن عمر بن عبيد : كان الحسن إذا أتى على هذه الآية قال : إن عند الله أسواطا كثيرة ، فأخذهم بسوط منها. المرصاد : المكان الذي يترتب فيه الرصد «مفعال» من رصده ، كالميقات من وقته. وهذا مثل لإرصاده العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه. وعن بعض العرب أنه قيل له : أين ربك؟ فقال : بالمرصاد. وعن عمرو بن عبيد رحمه الله أنه قرأ هذه السورة عند بعض الظلمة حتى بلغ هذه الآية فقال : إنّ ربك لبالمرصاد يا فلان ، عرّض له في هذا النداء بأنه بعض من توعد بذلك من الجبابرة ، فلله درّه أىّ أسد

__________________

(١) أخرجه الثعلبي من طريق عثمان الدارمي عن عبد الله بن أبى صالح عن أبى لهيعة عن خالد بن أبى عمران عن وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت فذكره مطولا. قلت : آثار الوضع عليه لائحه.

٧٤٨

فرّاس كان بين ثوبيه ، يدق الظلمة بإنكاره ، ويقصع أهل الأهواء (١) والبدع باحتجاجه.

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ)(١٦)

فإن قلت : بم اتصل قوله (٢) (فَأَمَّا الْإِنْسانُ)؟ قلت : بقوله (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) كأنه قيل : إن الله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة والسعى للعاقبة ، وهو مرصد بالعقوبة للعاصي ، فأما الإنسان فلا يريد ذلك ولا يهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها. فإن قلت : فكيف توازن قوله ، فأما الإنسان ، (إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) وقوله (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ) (٣) وحق التوازن أن يتقابل الواقعان بعد أما وأما ، تقول : أما الإنسان فكفور ، وأما الملك فشكور. أما إذا أحسنت إلى زيد فهو محسن إليك ، وأما إذا أسأت إليه فهو مسيء إليك؟ قلت : هما متوازنان من حيث إنّ التقدير : وأما هو إذا ما ابتلاه ربه ، وذلك أن قوله (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) خبر المبتدأ الذي هو الإنسان ، ودخول الفاء لما في «أما» من معنى الشرط ، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في تقدير التأخير ، كأنه قيل : فأما الإنسان فقائل ربى أكرمن وقت الابتلاء ، فوجب أن يكون (فَيَقُولُ) الثاني خبرا لمبتدإ واجب تقديره. فإن قلت : كيف سمى كلا الأمرين من بسط الرزق وتقديره ابتلاء؟ قلت : لأنّ كل واحد منهما اختبار للعبد ، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر؟ وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع؟ فالحكمة فيهما واحدة. ونحوه قوله تعالى (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً). فإن قلت : هلا قال : فأهانه وقدر عليه رزقه ، كما قال فأكرمه ونعمه؟ قلت : لأن البسط إكرام من الله لعبده بإنعامه عليه متفضلا من غير سابقة (٤) ، وأما التقدير فليس بإهانة له ، لأنّ الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة ، ولكن تركا للكرامة ، وقد يكون المولى مكرما لعبده ومهينا له ، وغير مكرم ولا مهين ، وإذا أهدى لك زيد هدية قلت : أكرمنى بالهدية ، ولا تقول : أهاننى

__________________

(١) قوله «ويقصع أهل الأهواء» في الصحاح «قصعت الرجل» صغرته وحقرته. (ع)

(٢) قال محمود : «إن قلت : كيف اتصل قوله (فَأَمَّا الْإِنْسانُ) بما قبله ... الخ» قال أحمد : قوله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة ولا يأمره إلا بها : فاسد الصدر ، مبنى على أصله الفاسد ، سليم العجز.

(٣) قال محمود : «فان قلت كيف توازن قوله (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) وقوله (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ) قال أحمد : يريد أنه صدر ما بعد أما الأولى بالاسم ، وما بعد أما الثانية بالفعل. ومقصود السائل أن يكونا مصدرين : إما باسمين أو بفعلين.

(٤) قال محمود : «فان قلت هلا قال فأهانه وقدر عليه رزقه ، كما قال فأكرمه ونعمه؟ وأجاب بأن البسط إكرام من الله تعالى العبد من غير سابقة» قال أحمد : «قيد زائد تفريعا على أصله الفاسد ، والحق أن كل نعمة من الله كذلك.

٧٤٩

ولا أكرمنى إذا لم يهد لك. فإن قلت : فقد قال (فَأَكْرَمَهُ) فصحح إكرامه وأثبته ، ثم أنكر قوله (رَبِّي أَكْرَمَنِ) وذمّه عليه ، كما أنكر قوله (أَهانَنِ) وذمّه عليه. قلت : فيه جوابان ، أحدهما : أنه إنما أنكر قوله ربى أكرمن وذمّه عليه ، لأنه قال على قصد خلاف ما صححه الله عليه وأثبته ، وهو قصده إلى أنّ الله أعطاه ما أعطاه إكراما له مستحقا مستوجبا على عادة افتخارهم وجلالة أقدارهم عندهم ، كقوله (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) (١) وإنما أعطاه الله على وجه التفضل من غير استيجاب منه له ولا سابقة مما لا يعتدّ الله إلا به ، وهو التقوى دون الأنساب والأحساب التي كانوا يفتخرون بها ويرون استحقاق الكرامة من أجلها. والثاني : أن ينساق الإنكار والذّمّ إلى قوله (رَبِّي أَهانَنِ) يعنى أنه إذا تفضل عليه بالخير وأكرم به اعترف بتفضل الله وإكرامه ، وإذا لم يتفضل عليه سمى ترك التفضل هوانا وليس بهوان ، ويعضد هذا الوجه ذكر الإكرام في قوله (فَأَكْرَمَهُ) (٢) وقرئ : فقدر بالتخفيف والتشديد. وأكرمن ، وأهانن : بسكون النون في الوقف ، فيمن ترك الياء في الدرج مكتفيا منها بالكسرة.

(كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا)(٢٠)

(كَلَّا) ردع للإنسان عن قوله. ثم قال : بل هناك شرّ من القول (٣). وهو : أنّ الله يكرمهم بكثرة المال ، فلا يؤدّون ما يلزمهم فيه من إكرام اليتيم بالتفقد والمبرّة ، وحض أهله

__________________

(١) قال محمود : «فان قلت : فقد قال فأكرمه فصحح إكرامه وأثبته ، ثم أنكر قوله ربى أكرمن وذمه عليه كما أنكر قوله ربى أهانن وذمه عليه ، وأجاب بأمرين ، أحدهما أن المنكر عليه اعتقاده أن إكرام الله تعالى له عن استحقاق لمكان نسبه وحسبه وجلالة قدره ، كما كانوا يعتقدون الاستحقاق بذلك على الله ، كما قال : إنما أوتيته على علم» قال أحمد : والقدري لا يبعد عن ذلك ، لأنه يرى أن النعيم الأعظم في الآخرة حق العبد على الله واجب له عليه ليس بتفضل ولا ممنون.

(٢) قال محمود : «الثاني أن سياق الإنكار والذم إلى قوله (رَبِّي أَهانَنِ) بمعنى أنه إذا تفضل عليه بالخير اعترف بتفضل الله تعالى ، وإذا لم يتفضل عليه سمى ترك التفضل هو انا وليس بهوان ، ويعضد هذا الوجه ذكر الإكرام في قوله فأكرمه» قال أحمد : كأنه يجعل قوله (فَأَكْرَمَهُ) توطئة لذمه على قوله (أَهانَنِ) لا أنه مذموم معه.

(٣) قال محمود : «إنما أضرب عن الأول للاشعار بأن هنا ما هو أشر من القول الأول ... الخ» قال أحمد : وفي هذه الآية إشعار بابطال الجواب الثاني من جوابي الزمخشري ، فانه جعل قوله (أَكْرَمَنِ) غير مذموم ، ودلت هذه الآية على أن المعنى أن للمكرم بالبسط بالرزق حالتين ، إحداهما : اعتقاده أن إكرام الله له عن استحقاق ، الثانية أشد من الأولى : وهي أن لا يعترف بالإكرام أصلا ، لأنه يفعل أفعال جاحدى النعمة ، فلا يؤدى حق الله الواجب عليه في المال من إطعام اليتيم والمسكين.

٧٥٠

على طعام المسكين ويأكلونه أكل الأنعام ، ويحبونه فيشحون به وقرئ : يكرمون ، وما بعده بالياء والتاء. وقرئ : تحاضون ، أى : يحض بعضكم بعضا : وفي قراءة ابن مسعود : ولا تحاضون بضم التاء ، من المحاضة (أَكْلاً لَمًّا) ذا لمّ وهو الجمع بين الحلال والحرام. قال الحطيئة :

إذا كان لمّا يتبع الذّمّ ربّه

فلا قدّس الرّحمن تلك الطّواحنا (١)

يعنى : أنهم يجمعون في أكلهم بين نصيبهم من الميراث ونصيب غيرهم. وقيل : كانوا لا يورّثون النساء ولا الصبيان ، ويأكلون تراثهم مع تراثهم. وقيل : يأكلون ما جمعه الميت من الظلمة ، وهو عالم بذلك فيلم في الأكل بين حلاله وحرامه. ويجوز أن يذمّ الوارث الذي ظفر بالمال سهلا مهلا ، من غير أن يعرق فيه جبينه ، فيسرف في إنقاقه ، ويأكله أكلا واسعا جامعا بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه ، كما يفعل الورّاث البطالون (حُبًّا جَمًّا) كثيرا شديدا مع الحرص والشره ومنع الحقوق.

(كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ)(٢٦)

(كَلَّا) ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم. ثم أتى بالوعيد وذكر تحسرهم على ما فرّطوا فيه حين لا تنفع الحسرة ، ويومئذ بدل من (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ) وعامل النصب فيهما يتذكر (دَكًّا دَكًّا) دكا بعد دك. كقوله : حسبته بابا بابا ، أى : كرّر عليها الدك حتى عادت هباء منبثا. فإن قلت : ما معنى إسناد المجيء إلى الله ، والحركة والانتقال إنما يجوزان على من كان في جهة قلت : هو تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبين آثار قهره وسلطانه : مثلت حاله في ذلك محال الملك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره كلها ووزرائه وخواصه عن بكرة أبيهم (صَفًّا صَفًّا) ينزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفا بعد صف محدقين بالجن والإنس (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) كقوله (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) وروى أنها لما

__________________

(١) للحطيئة. واللم : الجمع بين الحلال والحرام من غير فرق. وروى «ربه» بدل «أهله» والطواحن : الأضراس. وتسمى : الأرحاء جمع وحى ، يقول : إذا كان الأكل جمعا ، أى : ذا جمع بين الخبيث والطيب يتبع صاحبه الذم ، فلا طهر الله تلك الأضراس التي تطحن ذلك المأكول ، والدعاء عليها : دعاء على صاحبها.

٧٥١

نزلت تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه ، فأخبروا عليا رضى الله عنه ، فجاء فاحتضنه من خلفه وقبله بين عاتقيه ، ثم قال : يا نبىّ الله ، بأبى أنت وأمى ما الذي حدث اليوم ، وما الذي غيّرك؟ فتلا عليه الآية. فقال على : كيف يجاء بها؟ قال : يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام ، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع (١). أى يتذكر ما فرّط فيه ، أو يتعظ (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) ومن أين له منفعة الذكرى ، لا بد من تقدير حذف المضاف ، وإلا فبين : يوم يتذكر ، وبين (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) تناف وتناقض (قَدَّمْتُ لِحَياتِي) هذه ، وهي حياة الآخرة ، أو وقت حياتي في الدنيا ، كقولك : جئته لعشر ليال خلون من رجب ، وهذا أبين دليل على أن الاختيار كان في أيديهم ومعلقا بقصدهم وإرادتهم ، وأنهم لم يكونوا محجوبين عن الطاعات مجبرين على المعاصي ، كمذهب أهل الأهواء (٢) والبدع ، وإلا فما معنى التحسر؟ قرئ : بالفتح ، يعذب ويوثق. وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن أبى عمرو أنه رجع إليها في آخر عمره. والضمير للإنسان الموصوف. وقيل هو أبىّ بن خلف أى لا يعذب أحد مثل عذابه ، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه ، لتناهيه في كفره وعناده ، أو لا يحمل عذاب الإنسان أحد ، كقوله (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) وقرئ بالكسر ، والضمير لله تعالى ، أى : لا يتولى عذاب الله أحد ، لأنّ الأمر لله وحده في ذلك اليوم. أو للإنسان ، أى : لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه.

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي)(٣٠)

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ) على إرادة القول ، أى : يقول الله للمؤمن (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ) إمّا أن يكلمه إكراما له كما كلم موسى صلوات الله عليه ، أو على لسان ملك. و (الْمُطْمَئِنَّةُ) الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن ، وهي النفس المؤمنة أو المطمئنة إلى الحق التي سكنها ثلج اليقين فلا يخالجها شك ، ويشهد للتفسير الأوّل : قراءة أبىّ بن كعب: يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة. فإن قلت : متى يقال لها ذلك؟ قلت : إمّا عند الموت. وإمّا عند البعث ، وإمّا عند دخول الجنة. على معنى : ارجعي إلى موعد ربك (راضِيَةً) بما أوتيت (مَرْضِيَّةً) عند الله (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) في جملة عبادي الصالحين ، وانتظمى في سلكهم (وَادْخُلِي جَنَّتِي) معهم ، وقيل : النفس الروح.

__________________

(١) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من طريق عطية عن أبى سعيد به وأتم منه.

(٢) قوله «كمذهب أهل الأهواء» إن كان المراد بهم أهل السنة لقولهم بأن الله هو الخالقى لفعل العبد فهم يثبتون له الاختيار فيه لأنهم يثبتون له الكسب فيه وإن كان المراد بهم من قال بالجبر المحض وهم القائلون بأن العبد لا دخل له في فعله أصلا ، بل هو كالريشة المعلقة في الهواء ، فكلامه مسلم لظهور بطلان مذهبهم. (ع)

٧٥٢

ومعناه : فادخلي في أجساد عبادي. وقرأ ابن عباس : فادخلي في عبدى. وقرأ ابن مسعود : في جسد عبدى. وقرأ أبى : ائتى ربك راضية مرضية. ادخلى في عبدى ، وقيل : نزلت في حمزة ابن عبد المطلب. وقيل : في خبيب بن عدى الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة ، فقال : اللهم إن كان لي عندك خير فحوّل وجهى نحو قبلتك ، فحوّل الله وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوّله. والظاهر العموم.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة الفجر في الليالي العشر غفر له ومن قرأها في سائر الأيام كانت له نورا يوم القيامة» (١).

سورة البلد

مكية ، وآياتها ٢٠ [نزلت بعد ق]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) (٧)

أقسم سبحانه بالبلد الحرام وما بعده على أن الإنسان خلق مغمورا في مكابدة المشاق والشدائد ، واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) يعنى : ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد الحرام كما يستحل الصيد في غير الحرم. عن شرحبيل : يحرّمون أن يقتلوا بها صيدا ويعضدوا بها شجرة ، ويستحلون إخراجك وقتلك وفيه تثبيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة ، وتعجيب من حالهم في عداوته. أو سلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالقسم

__________________

(١) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه باسنادهم إلى أبى رضى الله عنه.

٧٥٣

ببلده ، على أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد ، واعترض بأن وعده فتح مكة تتميما للتسلية والتنفيس عنه. فقال : وأنت حل بهذا البلد ، يعنى : وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر. وذلك أنّ الله فتح عليه مكة وأحلها له ، وما فتحت على أحد قبله ولا أحلت له فأحل ما شاء وحرّم ما شاء. قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة. ومقيس بن صبابة وغيرهما ، وحرّم دار أبى سفيان (١) ، ثم قال : إنّ الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة ، لم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي ، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار ، فلا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد. فقال العباس : يا رسول الله ، إلا الإذخر فإنه لقيوننا (٢) وقبورنا وبيوتنا ، فقال صلى الله عليه وسلم : «إلا الإذخر (٣)». فإن قلت : أين نظير قوله (وَأَنْتَ حِلٌ) في معنى الاستقبال؟ قلت : قوله عز وجل (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) ومثله واسع في كلام العباد ، تقول لمن تعده الإكرام والحباء : أنت مكرم محبو ، وهو في كلام الله أوسع ، لأنّ الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة. وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال ، وأن تفسيره بالحال محال : أن السورة بالاتفاق مكية ، وأين الهجرة عن وقت نزولها ، فما بال الفتح؟ فإن قلت : ما المراد بوالد وما ولد؟ قلت : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن ولده ، أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه وحرم أبيه ابراهيم ومنشأ أبيه إسماعيل ، وبمن ولده وبه. فإن قلت : لم نكر؟ قلت : للإبهام المستقل بالمدح والتعجب. فإن قلت : هلا قيل ومن ولد؟ قلت : فيه ما في قوله (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) أى بأى شيء وضعت ، يعنى موضوعا عجيب الشأن. وقيل : هما آدم وولده. وقيل : كل والد وولد. والكبد : أصله من قولك : كبد الرجل كبدا ، فهو أكبد : إذا وجعت كبده وانتفخت ، فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة. ومنه اشتقت المكابدة ، كما قيل : كبته بمعنى أهلكه. وأصله : كبده ، إذا أصاب كبده. قال لبيد :

يا عين هلّا بكيت أربد إذ

قمنا وقام الخصوم في كبد (٤)

__________________

(١) تقدم. وقتل ابن خطل : متفق عليه ، وقتل مقيس بن صبابة عند أبى داود والنسائي من رواية مصعب ابن سعد عن أبيه وقتل غيرهما تقدم أيضا. ومنهم الحويرث بن نفيل. رواه الواقدي في المغازي. والمراد بقوله «حرم دار أبى سفيان قوله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح : من دخل دار أبى سفيان فهو آمن» وقد رواه إسحاق وغيره

(٢) قوله «فانه لقيوننا» القيون : جمع قين ، وهو الحداد. كذا في الصحاح. (ع)

(٣) متفق عليه من حديث أبى سلمة عن أبى هريرة وله طرق وألفاظ.

(٤) للبيد برثى أخاه أريد. وكبد كبدا كتعب : وجعت كبده وانتفخت ، فاتسع فيه حتى صار كتعب في المعنى أيضا. يقول : يا عين هلا بكيت أخى وقت قيامنا للحرب وقيام الخصوم معنا فيه. والعاملان تنازعا قوله (فِي كَبَدٍ) ونزل عينه منزلة من يعقل ، فخاطبها. وهلا : حرف تحضيض.

٧٥٤

أى : في شدة الأمر وصعوبة الخطب.

والضمير في (أَيَحْسَبُ) لبعض صناديد قريش الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكابد منهم ما يكابد. والمعنى : أيظن هذا الصنديد القوى في قومه المتضعف للمؤمنين : أن لن تقوم قيامة ، ولن يقدر على الانتقام منه وعلى مكافأته بما هو عليه ، ثم ذكر ما يقوله في ذلك اليوم ، وأنه يقول (أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) يريد كثرة ما أنفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم ، ويدعونها معالى ومفاخر (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) حين كان ينفق ما ينفق رئاء الناس وافتخارا بينهم ، يعنى : أن الله كان يراه وكان عليه رقيبا. ويجوز أن يكون الضمير للإنسان ، على أن يكون المعنى : أقسم بهذا البلد الشريف ، ومن شرفه أنك حل به مما يقترفه أهله من المآثم متحرج بريء ، فهو حقيق بأن أعظمه بقسمي به (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) أى في مرض : وهو مرض القلب وفساد الباطن ، يريد : الذين علم الله منهم حين خلقهم أنهم لا يؤمنون ولا يعملون الصالحات. وقيل : الذي يحسب أن لن يقدر عليه أحد : هو أبو الأشد ، وكان قويا يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه ويقول : من أزالنى عنه فله كذا ، فلا ينزع إلا قطعا ويبقى موضع قدميه. وقيل : الوليد بن المغيرة (لُبَداً) قرى بالضم والكسر : جمع لبدة ولبدة ، وهو ما تلبد يريد الكثرة : وقرئ : لبدا بضمتين : جمع لبود. ولبدا : بالتشديد جمع لا بد.

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ)(١٦)

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) يبصر بهما المرئيات (وَلِساناً) يترجم به عن ضمائره (وَشَفَتَيْنِ) يطبقهما على فيه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) أى طريقى الخير والشر. وقيل : الثديين (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) يعنى : فلم يشكر تلك الأيادى والنعم بالأعمال الصالحة : من فك الرقاب وإطعام اليتامى والمساكين ، ثم بالإيمان

٧٥٥

الذي هو أصل كل طاعة ، وأساس كل خير ، بل غمط النعم (١) وكفر بالمنعم. والمعنى : أن الإنفاق على هذا الوجه هو الإنفاق المرضى النافع عند الله ، لا أن يهلك مالا لبدا في الرياء والفخار ، فيكون مثله (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ...) الآية. فإن قلت : قلما تقع «إلا» الداخلة على الماضي إلا مكررة ، ونحو قوله :

فأىّ أمر سيّئ لأفعله

لا يكاد يقع ، فما لها لم تكرر في الكلام الأفصح؟ قلت : هي متكررة في المعنى ، لأن معنى (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) فلا فك رقبة ، ولا أطعم مسكينا. ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك. وقال الزجاج قوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) يدل على معنى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) ، ولا آمن. والاقتحام : الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة. والقحمة : الشدة ، وجعل الصالحة : عقبة ، وعملها : اقتحاما لها ، لما في ذلك من معاناة المشقة ومجاهدة النفس. وعن الحسن : عقبة والله شديدة. مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوّه الشيطان. وفك الرقة : تخليصها من رق أو غيره. وفي الحديث : أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : دلني على عمل يدخلني الجنة. فقال : تعتق النسمة وتفك الرقبة. قال : أو ليسا سواء؟ قال : لا ، إعتاقها أن تنفرد بعتقها. وفكها : أن تعين في تخليصها من قود أو غرم (٢). والعتق والصدقة : من أفاضل الأعمال. وعن أبى حنيفة رضى الله عنه : أن العتق أفضل من الصدقة. وعند صاحبيه : الصدقة أفضل ، والآية أدل على قول أبى حنيفة ، لتقديم العتق على الصدقة. وعن الشعبي في رجل عنده فضل نفقة : أيضعه في ذى قرابة ، أو يعتق رقبة؟ قال : الرقبة أفضل ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من فك رقبة فك الله بكل عضو منها عضوا منه من النار (٣). قرئ : فك رقبة ، أو إطعام على : هي فك رقبة ، أو إطعام. وقرئ : فك رقبة ، أو أطعم ، على الإبدال من اقتحم العقبة. وقوله (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) اعتراض ، ومعناه : أنك لم تدركنه صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند الله. والمسغبة ، والمقربة ، والمتربة : مفعلات من سغب : إذا جاع. وقرب في النسب ، يقال : فلان ذو قرابتي. وذو مقربتى. وترب : إذا افتقر ، ومعناه. التصق بالتراب. وأما أترب فاستغنى ، أى : صار

__________________

(١) قوله «بل غمط النعم» أى : استحقرها. (ع)

(٢) أخرجه ابن حبان والحاكم وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة والبخاري في الأدب المفرد ، والبيهقي في الشعب ، والثعلبي وابن مردويه والواحدي من رواية عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب وليس عند أحد منهم قوله «من قود أو غرم» وكأنه من كلام الزمخشري.

(٣) أخرجه الحاكم من حديث عقبة بن عامر بلفظ «من أعتق رقبة».

٧٥٦

ذا مال كالتراب في الكثرة ، كما قيل : أثرى. وعن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (ذا مَتْرَبَةٍ) الذي مأواه المزابل (١) ، ووصف اليوم بذي مسعبة نحو ما يقول النحويون في قولهم : هم ناصب : ذو نصب. وقرأ الحسن : ذا مسغبة نصبه بإطعام. ومعناه : أو إطعام في يوم من الأيام ذا مسغبة.

(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ)(٢٠)

(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) جاء بثم لتراخى الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة ، لا في الوقت ، لأنّ الإيمان هو السابق المقدّم على غيره ، ولا يثبت عمل صالح إلا به. والمرحمة : الرحمة ، أى : أوصى بعضهم بعضا بالصبر على الإيمان والثبات عليه. أو بالصبر عن المعاصي وعلى الطاعات والمحن التي يبتلى بها المؤمن ، وبأن يكونوا متراحمين متعاطفين. أو بما يؤدى إلى رحمة الله. الميمنة والمشأمة : اليمين والشمال. أو اليمن والشؤم ، أى : الميامين على أنفسهم والمشائيم عليهنّ. قرئ : موصدة ، بالواو والهمزة ، من وصدت الباب وآصدته : إذا أطبقته وأغلقته. وعن أبى بكر بن عياش : لنا إمام يهمز مؤصدة ، فأشتهى أن أسدّ أذنى إذا سمعته.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ لا أقسم بهذا البلد أعطاه الله الأمان من غضبه يوم القيامة» (٢).

__________________

(١) أخرجه ابن مردويه من رواية مجاهد عن عبد الله بن عمر بهذا. وعند الحاكم عن ابن عباس : قال «هو الذي لا يقيه من التراب شيء» موقوف.

(٢) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.

٧٥٧

سورة الشمس

مكية ، وآياتها ١٥ [نزلت بعد القدر]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها)(١٠)

ضحاها : ضوؤها إذا أشرقت وقام سلطانها ، ولذلك قيل : وقت الضحى ، وكأن وجهه شمس الضحى. وقيل : الضحوة ارتفاع النهار. والضحى فوق ذلك. والضحاء بالفتح والمد : إذا امتد النهار وقرب أن ينتصف (إِذا تَلاها) طالعا عند غروبها آخذا من نورها ، وذلك في النصف الأوّل من الشهر. وقيل : إذا استدار فتلاها في الضياء والنور (إِذا جَلَّاها) عند انتفاخ النهار (١) وانبساطه ، لأن الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء. وقيل : الضمير للظلمة ، أو للدنيا ، أو للأرض ، وإن لم يجر لها ذكر ، كقولهم : أصبحت باردة : يريدون الغداة ، وأرسلت : يريدون السماء إذا يغشاها ، فتغيب وتظلم الآفاق ، فإن قلت : الأمر في نصب «إذا» معضل ، لأنك لا تخلو إما أن تجعل الواوات عاطفة فتنصب بها وتجر ، فتقع في العطف على عاملين في نحو قولك : مررت أمس بزيد ، واليوم عمرو. وإما أن تجعلهن للقسم ، فتقع فيما اتفق الخليل وسيبويه على استكراهه. قلت : الجواب فيه أن واو القسم مطرح معها إبراز الفعل إطراحا كليا ، فكان لها شأن خلاف شأن الباء ، حيث أبرز معها الفعل وأضمر ، فكانت الواو قائمة مقام الفعل والباء سادّة مسدهما معا ، والواوات العواطف نوائب عن هذه الواو ، فحققن أن يكون عوامل على الفعل (٢) والجار جميعا ، كما تقول : ضرب زيد عمرا ،

__________________

(١) قوله «عند انتفاخ النهار» في الصحاح : انتفخ النهار ، أى : علا. (ع)

(٢) قوله «عوامل على الفعل» لعله : عمل الفعل. (ع)

٧٥٨

وبكر خالدا ، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملهما. جعلت «ما» مصدرية في قوله (وَما بَناها وَما طَحاها وَما سَوَّاها) وليس بالوجه لقوله (فَأَلْهَمَها) وما يؤدى إليه من فساد النظم. والوجه أن تكون موصولة ، وإنما أوثرت على من لإرادة معنى الوصفية ، كأنه قيل : والسماء ، والقادر العظيم الذي بناها ، ونفس ، والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها ، وفي كلامهم : سبحان ما سخركن لنا. فإن قلت : لم نكرت النفس؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يريد نفسا خاصة من بين النفوس وهي نفس آدم ، كأنه قال : وواحدة من النفوس. والثاني : أن يريد كل نفس وينكر للتكثير على الطريقة المذكورة في قوله (عَلِمَتْ نَفْسٌ). ومعنى إلهام الفجور والتقوى : إفهامهما وإعقالهما ، وأنّ أحدهما حسن والآخر قبيح ، وتمكينه من اختيار ما شاء منهما (١) بدليل قوله (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) فجعله فاعل التزكية (٢)

__________________

(١) قال محمود : «معنى إلهام الفجور والتقوى إفهامهما وإعقالهما ، وأن أحدهما حسن والآخر قبيح ، وتمكينه ... الخ» قال أحمد : بين في هذا الكلام نوعين من الباطل ، أحدهما في قوله : معنى إلهام الفجور والتقوى إفهامهما وإعقالهما ، وأن أحدهما حسن والآخر قبيح ، والذي يكنه في هذه الكلمات اعتقاد أن الحسن والقبح مدركان بالعقل. ألا ترى إلى قوله : إعقالهما ، أى خلق العقل الموصل إلى معرفة حسن الحسن وقبح القبيح ، وإنما اغتنم في هذا فرصة إشعار الإلهام بذلك ، فانه ربما يظن أن إطلاقه على العلم المستفاد من السمع بعيد ، والذي يقطع دابر هذه النزغة أنا وإن قلنا إن الحسن والقبح لا يدركان إلا بالسمع لأنهما راجعان إلى الأحكام الشرعية التي ليست عندنا بصفات الأفعال ، فانا لا نلغى حظ العقل من إدراك الأحكام الشرعية ، بل لا بد في علم كل حكم شرعي من المقدمتين : عقلية ، وهي الموصلة إلى العقيدة. وسمعية مفرعة عليها ، وهي الدالة على خصوص الحكم. على أن تعلقه بظاهر لو سلم ظهوره في قاعدة قطعية بمعزل عن الصواب. النزغة الثانية : وهي التي كشف القناع في إبرازها أن التزكية وقسيمها ليس مخلوقين لله تعالى ، بل لشركائه المعتزلة ، وإنما نعارضه في الظاهر من فحوى الآية ، على أنه لم يذكر وجها في الرد على من قال : إن الضمير لله تعالى ، وإنما اقتصر على الدعوى مقرونة بسفاهته على أهل السنة ، فنقول : لا مراء في احتمال عود الضمير إلى الله تعالى وإلى ذى النفس ، لكن عوده إلى الله تعالى أولى لوجهين ، أحدهما : أن الجمل سيقت سياقة واحدة من قوله (وَالسَّماءِ وَما بَناها) وهلم جرا ، والضمائر فيما تقدم هذين الفعلين عائدة إلى الله تعالى بالاتفاق ، ولم يجر لغير الله تعالى ذكر. وإن قيل بعود الضمير إلى غيره : فإنما يتمحل لجوازه بدلالة الكلام ضمنا واستلزاما ، لا ذكرا ونطقا ، وما جرى ذكره أولى أن يعود الضمير عليه. الثاني : أن الفعل المستعمل في الآية التي استدل بها في قوله (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) «تفعل» ، ولا شك أن «تفعل» مطاوع «فعل» فهذا بأن يدل لنا ، أولى من أن يدل له ، لأن الكلام عندنا نحن : قد أفلح من زكاه الله فتزكى ، وعنده الفاعل في الاثنين واحد ، أضاف إليه الفعلين المختلفين ، ويحتاج في تصحيح الكلام إلى تعديد اعتبار وجهه ، ونحن عنه في غنية ، على أنا لا نأبى أن تضاف التزكية والتدسية إلى العبد ، على طريقة أنه الفاعل ، كما يضاف إليه الصلاة والصيام وغير ذلك من أفعال الطاعات ، لأن له عندنا اختيارا وقدرة مقارنة ، وإن منعنا البرهان العقلي الدال على وحدانية الله تعالى ونفى الشريك أن نجعل قدرة العبد مؤثرة خالقة ، فهذا جوابنا على الآية تنزلا ، وإلا فلم يذكر وجها من الرد ، فيلزمنا الجواب عنه ، وأما جوابنا عن سفاهته على أهل السنة ، فالسكوت ، والله الموفق.

(٢) قوله «فجعله فاعل التزكية» مبنى على مذهب المعتزلة : من أن العبد هو الفاعل لأفعاله الاختيارية. وذهب أهل السنة إلى أن الفاعل لها في الحقيقة هو الله تعالى ، كما تقرر في علم التوحيد. (ع)

٧٥٩

والتدسية ومتوليهما والتزكية : الإنماء والإعلاء بالتقوى. والتدسية : النقص والإخفاء بالفجور. وأصل دسى : دسس ، كما قيل في تقضض : تقضى. وسئل ابن عباس عنه فقال : أتقرأ (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) ، (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً). وأما قول من زعم أنّ الضمير في زكى ودسى لله تعالى ، وأنّ تأنيث الراجع إلى من ، لأنه في معنى النفس : فمن تعكيس القدرية الذين يورّكون (١) على الله قدرا هو بريء منه ومتعال عنه ، ويحيون لياليهم في تمحل فاحشة ينسبونها إليه. فإن قلت : فأين جواب القسم؟ قلت : هو محذوف تقديره : ليدمدمنّ الله عليهم ، أى : على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما دمدم على ثمود لأنهم كذبوا صالحا. وأما (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) فكلام تابع لقوله (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) على سبيل الاستطراد ، وليس من جواب القسم في شيء.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها)(١٥)

الباء في (بِطَغْواها) مثلها في : كتبت بالقلم. والطغوى من الطغيان : فصلوا بين الاسم والصفة في فعلى من بنات الياء ، بأن قلبوا الياء واوا في الاسم ، وتركوا القلب في الصفة ، فقالوا :امرأة خزيي وصديى ، يعنى : فعلت التكذيب بطغيانها ، كما تقول : ظلمني بجرأته على الله. وقيل : كذبت بما أوعدت به من عذابها ذى الطغوىّ كقوله ، (فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) ، وقرأ الحسن : بطغواها ، بضم الطاء كالحسنى والرجعى في المصادر (إِذِ انْبَعَثَ) منصوب بكذبت. أو بالطغوى. و (أَشْقاها) قدار بن سالف. ويجوز أن يكونوا جماعة ، والتوحيد لتسويتك في أفعل التفضيل إذا أضفته بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، وكان يجوز أن يقال : أشقوها ، كما تقول : أفاضلهم. والضمير في (لَهُمْ) يجوز أن يكون للأشقين والتفضيل في الشقاوة ، لأنّ من تولى الفقر وباشره كانت شقاوته أظهر وأبلغ. و (ناقَةَ اللهِ) نصب على التحذير ، كقولك الأسد الأسد ، والصبى الصبى ، بإضمار : ذروا أو احذروا عقرها (وَسُقْياها) فلا تزووها عنها ، ولا

__________________

(١) قوله «الذين يوركون على الله قدرا» في الصحاح : ورك فلان ذنبه على غيره ، إذا قرفه به اه ، أى : اتهمه. ومراده بالقدرية : أهل السنة ، حيث قالوا : كل ما وقع في الكون هو بقضائه تعالى وقدره خيرا كان أو شرا ، ويخلقه تعالى وإرادته ، قبيحا كان أو حسنا ، من أفعال العباد أو من غيرها ، كما تقرر في التوحيد. (ع)

٧٦٠