الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

فإن قلت : ما معنى قوله تعالى (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ) كمن هو خالد في النار؟ قلت : هو كلام في صورة الإثبات ومعنى النفي والإنكار (١) ، لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار ، ودخوله في حيزه ، وانخراطه في سلكه ، وهو قوله تعالى (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) فكأنه قيل : أمثل الجنة كمن هو خالد في النار ، أى كمثل جزاء من هو خالد في النار. فإن قلت : فلم عرّى في حرف الإنكار؟ وما فائدة التعرية؟ قلت : تعريته من حرف الإنكار فيها زيادة تصوير لمكابرة من يسوّى بين المتمسك بالبينة والتابع لهواه ، وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التي تجرى فيها تلك الأنهار ، وبين النار التي يسقى أهلها الحميم. ونظيره قول القائل :

أفرح أن أرزأ الكرام وأن

أورث ذودا شصائصا نبلا (٢)

هو كلام منكر للفرح برزية الكرام ووراثة الذود ، مع تعريه عن حرف الإنكار لانطوائه تحت حكم قول من قال : أتفرح بموت أخيك وبوراثة إبله ، والذي طرح لأجله حرف الإنكار إرادة أن يصوّر قبح ما أزن به (٣) فكأنه قال له : نعم مثلي يفرح بمرزاة الكرام وبأن يستبدل منهم ذودا يقل طائله (٤) ، وهو من التسليم الذي تحته كل إنكار ، ومثل الجنة : صفة الجنة العجيبة الشأن ، وهو مبتدأ ، وخبره : كمن هو خالد. وقوله : فيها أنهار ، داخل في حكم الصلة كالتكرير لها. ألا ترى إلى صحة قولك : التي فيها أنهار. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف هي فيها (٥)

__________________

(١) قال محمود : «هو كلام في صورة الإثبات ومعناه النفي ... الخ» قال أحمد : كم ذكر الناس في تأويل هذه الآية ، فلم أر أطلى ولا أحلى من هذه النكت التي ذكرها ، لا يعوزها إلا للتنبيه على أن في الكلام محذوفا لا بد من تقديره لأنه لا معادلة بين الجنة وبين الخالدين في النار إلا على تقدير مثل ساكن فيه يقوم وزن الكلام ويتعادل كفتاه. ومن هذا النمط قوله تعالى (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فانه لا بد من تقدير محذوف مع الأول أو الثاني ، ليتعادل القسمان ، وبهذا الذي قدرته في الآية ينطبق آخر الكلام على أوله ، فيكون المقصود تنظير بعد التسوية بين المتمسك بالسيئة والراكب للهوى ببعد التسوية بين المنعم في الجنة والمعذب في النار على الصفات المتقابلة المذكورة في الجهتين. وهو من وادى تنظير الشيء بنفسه ، باعتبار حالتين إحداهما أوضح في البيان من الأخرى ، فان المتمسك بالسنة هو المنعم في الجنة الموصوفة. والمتبع للهوى : هو المعذب في النار المنعوتة ، ولكن أنكر التسوية بينهما باعتبار الأعمال أولا ، وأوضح ذلك بإنكار التسوية بينهما باعتبار الأعمال أولا ، وأوضح ذلك بإنكار التسوية بينهما باعتبار الجزاء ثانيا.

(٢) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثالث صفحة ٢٦٤ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٣) قوله «ما أزن» أى اتهم. أفاده الصحاح. (ع)

(٤) قوله «يقل طائله» لأن الشصائص قليلات اللبن. والنبل : الكبار من الإبل ، والصغار منها أيضا ، فهو من الأضداد. أفاده الصحاح. (ع)

(٥) قوله «هي فيها» لعله : أى هي فيها. (ع)

٣٢١

أنهار ، وكأن قائلا قال : وما مثلها؟ فقيل : فيها أنهار ، وأن يكون في موضع الحال ، أى : مستقرّة فيها أنهار ، وفي قراءة على رضى الله عنه : أمثال الجنة ، أى : ما صفاتها كصفات النار. وقرئ : أسن. يقال : أسن الماء وأجن : إذا تغير طعمه وريحه. وأنشد ليزيد بن معاوية:

لقد سقتني رضابا غير ذى أسن

كالمسك فتّ على ماء العناقيد (١)

(مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) كما تتغير ألبان الدنيا ، فلا يعود قارصا ولا حاذرا (٢) ، ولا ما يكره من الطعوم (لَذَّةٍ) تأنيث لذّ ، وهو اللذيذ ، أو وصف بمصدر. وقرئ بالحركات الثلاث ، فالجر على صفه الخمر ، والرفع على صفة الأنهار ، والنصب على العلة ، أى : لأجل لذة الشاربين. والمعنى : ما هو إلا التلذذ الخالص ، ليس معه ذهاب عقل ولا خمار ولا صداع ، ولا آفة من آفات الخمر (مُصَفًّى) لم يخرج من بطون النحل فيخالطه الشمع وغيره (ماءً حَمِيماً) قيل إذا دنا منهم شوى وجوههم ، وانمازت فروة رءوسهم ، فإذا شربوه قطع أمعاءهم.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ)(١٦)

هم المنافقون : كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا يلقون له إلا تهاونا منهم ، فإذا خرجوا قالوا لأولى العلم من الصحابة ، ما ذا قال الساعة؟ على جهة الاستهزاء. وقيل : كان يخطب فإذا عاب المنافقين خرجوا فقالوا ذلك للعلماء. وقيل : قالوه لعبد الله بن مسعود. وعن ابن عباس : أنا منهم ، وقد سميت فيمن سئل (آنِفاً) وقرئ : أنفا على فعل ، نصب على الظرف (٣) قال الزجاج : هو من استأنفت الشيء : إذا ابتدأته. والمعنى : ما ذا قال في أوّل وقت يقرب منا.

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (١٧)

(زادَهُمْ) الله (هُدىً) بالتوفيق (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) أعانهم عليها. أو أتاهم جزاء تقواهم.

__________________

(١) ليزيد بن معاوية. وترضب الرجل ريق المرأة : إذا ترشفه. وأسن أسنا كتعب تعبا : تغير طعمه أو ريحه أو لونه. لطول مدته. يقول : سقتني ريقها الذي لم يتغير. وماء العناقيد : كناية عن الخمر ، واستعاره لريقها على التصريحية ، وناولتني المسك حال كونه تفتت على ريقها الشبيه بالخمر ، أى : كأنه كذلك لطيبه. ويروى : كالمسك وهي الظاهرة ، والتشبيه من قبيل تشبيه المفرد بالمركب ، لأنه لا يريد تشبيه الرضاب بالمسك فقط.

(٢) قوله «ولا حاذرا ولا ما يكره» لعله محذوف ، وأصله : حازر بالزاي ، وفي الصحاح : الحاذر : اللبن الحامض

(٣) قوله «وقرئ أنفا على فعل نصب على الظرف» لعله : بالضم. (ع)

٣٢٢

وعن السدى : بين لهم ما يتقون. وقرئ : وأعطاهم. وقيل : الضمير في زادهم ، لقول الرسول أو لاستهزاء المنافقين.

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ)(١٨)

(أَنْ تَأْتِيَهُمْ) بدل اشتمال من الساعة ، نحو : أن تطؤهم من قوله (رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) وقرئ : أن تأتهم ، بالوقف على الساعة واستئناف الشرط ، وهي في مصاحف أهل مكة كذلك : فإن قلت : فما جزاء الشرط؟ قلت : قوله فأنى لهم. ومعناه : إن تأتهم الساعة فكيف لهم ذكراهم ، أى تذكرهم واتعاظهم إذا جاءتهم الساعة ، يعنى لا تنفعهم الذكرى حينئذ ، كقوله تعالى (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى). فإن قلت : بم يتصل قوله (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) على القراءتين؟ قلت : بإتيان الساعة اتصال العلة بالمعلول ، كقولك : إن أكرمنى زيد فأنا حقيق بالإكرام أكرمه. والأشراط : العلامات. قال أبو الأسود :

فإن كنت قد أزمعت بالصّرم بيننا

فقد جعلت أشراط أوّله تبدو (١)

وقيل : مبعث محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم وعليهم منها ، وانشقاق القمر ، والدخان. وعن الكلبي : كثرة المال والتجارة ، وشهادة الزور ، وقطع الأرحام ، وقلة الكرام ، وكثرة اللثام. وقرئ : بغتة بوزن جربة (٢) ، وهي غريبة لم ترد في المصادر أختها ، وهي مروية عن أبى عمرو ، وما أخوفنى أن تكون غلطة من الراوي على أبى عمرو ، وأن يكون الصواب: بغتة ، بفتح الغين من غير تشديد ، كقراءة الحسن فيما تقدم.

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ)(١٩)

لما ذكر حال المؤمنين وحال الكافرين قال : إذا علمت أن الأمر كما ذكر من سعادة هؤلاء وشقاوة هؤلاء ، فاثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله ، وعلى التواضع وهضم النفس :

__________________

(١) لأبى الأسود. يقول : إن كنت جزمت بقطع المودة بيننا فلا تكتميه ، لأن علامات ابتدائه شرعت في الظهور.

(٢) قوله «بغتة بوزن جربة وهي غريبة» في القاموس «الجربة» محركة مشددة : جماعة الحمراء. وفي الصحاح «الجربة» بالفتح : بغتة ، وتشديد الباء : العانة من الحمير. رفيه أيضا «العانة» القطيع من حمر الوحش. (ع)

٣٢٣

باستغفار ذنبك وذنوب من على دينك. والله يعلم أحوالكم ومتصرفاتكم ومتقلبكم في معايشكم ومتاجركم ، ويعلم حيث تستقرون في منازلكم أو متقلبكم في حياتكم ومثواكم في القبور. أو متقلبكم في أعمالكم ومثواكم من الجنة والنار. ومثله حقيق بأن يخشى ويتقى ، وأن يستغفر ويسترحم. وعن سفيان بن عيينة : أنه سئل عن فضل العلم فقال : ألم تسمع قوله حين بدأ به فقال (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) فأمر بالعمل بعد العلم وقال : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) إلى قوله (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) وقال : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) ثم قال بعد (فَاحْذَرُوهُمْ) وقال : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) ثم أمر بالعمل بعد.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ)(٢١)

كانوا يدعون الحرص على الجهاد ويتمنونه بألسنتهم ويقولون (لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) في معنى الجهاد (فَإِذا أُنْزِلَتْ) وأمروا فيها بما تمنوا وحرصوا عليه كاعوا (١) وشق عليهم ، وسقطوا في أيديهم ، كقوله تعالى (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ). (مُحْكَمَةٌ) مبينة غير متشابهة لا تحتمل وجها إلا وجوب القتال. وعن قتادة : كل سورة فيها ذكر القتال فهي محكمة ، وهي أشدّ القرآن على المنافقين. وقيل لها «محكمة» لأنّ النسخ لا يرد عليها من قبل أنّ القتال قد نسخ ما كان من الصفح والمهادنة ، وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة. وقيل : هي المحدثة ، لأنها حين يحدث نزولها لا يتناولها النسخ ، ثم تنسخ بعد ذلك أو تبقى غير منسوخة. وفي قراءة عبد الله : سورة محدثة. وقرئ : فإذا نزلت سورة وذكر فيها القتال. على البناء للفاعل ونصب القتال (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هم الذين كانوا على حرف غير ثابتى الأقدام (نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أى تشخص أبصارهم جبنا وهلعا وغيظا ، كما ينظر من أصابته الغشية عند الموت (فَأَوْلى لَهُمْ) وعيد بمعنى : فويل لهم ، وهو أفعل : من الولي وهو القرب. ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) كلام مستأنف ، أى : طاعة وقول معروف خير لهم. وقيل : هي حكاية قولهم ، أى قالوا طاعة وقول معروف ،

__________________

(١) قوله «كاعوا» في الصحاح : كاع الكلب يكوع ، أى : مشى على كوعه في الرمل من شدة الحر. (ع)

٣٢٤

بمعنى : أمرنا طاعة وقول معروف. وتشهد له قراءة أبىّ : يقولون طاعة وقول معروف (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) أى جدّ. والعزم والجد لأصحاب الأمر. وإنما يسندان إلى الأمر إسنادا مجازيا. ومنه قوله تعالى (إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ). (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) فيما زعموا من الحرص على الجهاد. أو : فلو صدقوا في إيمانهم وواطأت قلوبهم فيه ألسنتهم.

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ)(٢٣)

عسيت وعسيتم : لغة أهل الحجاز. وأما بنو تميم فيقولون : عسى أن تفعل ، وعسى أن تفعلوا ، ولا يلحقون الضمائر : وقرأ نافع بكسر السين وهو غريب ، وقد نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات ، ليكون أبلغ في التوكيد. فإن قلت : ما معنى : فهل عسيتم ... أن تفسدوا في الأرض؟ قلت : معناه : هل يتوقع منكم الإفساد؟ فإن قلت : فكيف يصح هذا في كلام الله عز وعلا وهو عالم بما كان وما يكون؟ قلت : معناه إنكم ـ لما عهد منكم ـ أحقاء بأن يقول لكم كل من ذاقكم وعرف تمريضكم ورخاوة عقدكم في الإيمان : يا هؤلاء ، ما ترون؟ هل يتوقع منكم إن توليتم أمور الناس وتأمرتم عليهم لما تبين منكم من الشواهد ولاح من المخايل (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) تناحرا على الملك وتهالكا على الدنيا؟ وقيل : إن أعرضتم وتوليتم عن دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض : بالتغاور والتناهب ، وقطع الأرحام : بمقاتلة بعض الأقارب بعضا ووأد البنات؟ وقرئ : وليتم (١). وفي قراءة على بن أبى طالب رضى الله عنه : توليتم ، أى : إن تولاكم ولاة غشمة خرجتم معهم ومشيتم تحت لوائهم وأفسدتم بإفسادهم؟ وقرئ : وتقطعوا ، وتقطعوا ، من التقطيع والتقطع (أُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين (لَعَنَهُمُ اللهُ) لإفسادهم وقطعهم الأرحام ، فمنعهم ألطافه وخذلهم ، حتى صموا عن استماع الموعظة ، وعموا عن إبصار طريق الهدى. ويجوز أن يريد بالذين آمنوا : المؤمنين الخلص الثابتين ، وأنهم يتشوفون إلى الوحى إذا أبطأ عليهم ، فإذا أنزلت سورة في معنى الجهاد : رأيت المنافقين فيما بينهم يضجرون منها.

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)(٢٤)

__________________

(١) قوله «وقرئ وليتم» لعله بالبناء للمجهول ، وكذا توليتم في قراءة على. (ع)

٣٢٥

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) ويتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر ووعيد العصاة ، حتى لا يجسروا على المعاصي ، ثم قال (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) وأم بمعنى بل وهمزة التقرير ، للتسجيل عليهم بأن قلوبهم مقفلة لا يتوصل إليها ذكر. وعن قتادة : إذا والله يجدوا في القرآن زاجرا عن معصية الله لو تدبروه ، ولكنهم أخذوا بالمتشابه فهلكوا. فإن قلت : لم نكرت القلوب وأضيفت الأقفال إليها؟ قلت : أما التنكير ففيه وجهان : أن يراد على قلوب قاسية مبهم أمرها في ذلك. أو يراد على بعض القلوب : وهي قلوب المنافقين. وأما إضافة الأقفال ، فلأنه يريد الأقفال المختصة بها ، وهي أقفال الكفر التي استغلقت فلا تنفتح. وقرئ : إقفالها ، على المصدر.

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ)(٢٨)

(الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) جملة من مبتدإ وخبر وقعت خبرا لإنّ ، كقولك : إنّ زيدا عمرو مرّ به. سوّل لهم : سهل لهم ركوب العظائم ، من السول وهو الاسترخاء ، وقد اشتقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعا (١) (وَأَمْلى لَهُمْ) ومدّ لهم في الآمال والأمانى. وقرئ وأملى لهم ، يعنى : إنّ الشيطان يغويهم وأنا أنظرهم ، كقوله تعالى (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ) وقرئ : وأملى لهم على البناء للمفعول ، أى : أمهلوا ومدّ في عمرهم. وقرئ : سوّل لهم (٢) ، ومعناه : كيد الشيطان زين لهم على تقدير حذف المضاف. فإن قلت : من هؤلاء؟ قلت : اليهود كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم من بعد ما تبين لهم الهدى ، وهو نعته في التوراة. وقيل : هم المنافقون. الذين قالوا القائلون : اليهود. والذين كرهوا ما نزل الله : المنافقون. وقيل عكسه ، وأنه قول المنافقين لقريظة والنضير : لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم. وقيل (بَعْضِ الْأَمْرِ) : التكذيب برسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو بلا إله إلا الله ، أو ترك القتال معه. وقيل : هو قول أحد الفريقين

__________________

(١) قال محمود : «هو مشتق من السول وهو الاسترخاء ، أى : سهل لهم ركوب العظائم. قال : وقد أشقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعا ، قلت : لأن السؤل مهموز ، وسول معتل.

(٢) قوله «وقرئ سول لهم» لعله بالبناء للمجهول. (ع)

٣٢٦

للمشركين : سنطيعكم في التظافر على عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقعود عن الجهاد معه. ومعنى (فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) في بعض ما تأمرون به. أو في بعض الأمر الذي يهمكم (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) وقرئ : إسرارهم على المصدر ، قالوا ذلك سرا فيما بينهم ، فأفشاه الله عليهم. فكيف يعملون وما حيلتهم حينئذ؟ وقرئ : توفاهم ، ويحتمل أن يكون ماضيا ، ومضارعا قد حذفت إحدى تاءيه ، كقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) وعن ابن عباس رضى الله عنهما : لا يتوفى أحد على معصية الله إلا يضرب من الملائكة في وجهه ودبره (ذلِكَ) إشارة إلى التوفي الموصوف (ما أَسْخَطَ اللهَ) من كتمان نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. و (رِضْوانَهُ) الإيمان برسول الله.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) (٣٠)

(أَضْغانَهُمْ) أحقادهم وإخراجها : إبرازها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، وإظهارهم على نفاقهم وعداوتهم لهم ، وكانت صدورهم تغلى حنقا عليهم (لَأَرَيْناكَهُمْ) لعرفناكهم ودللناك عليهم. حتى تعرفهم بأعيانهم لا يخفون عليك (بِسِيماهُمْ) بعلامتهم : وهو أن يسمعهم الله تعالى بعلامة تعلمون بها. وعن أنس رضى الله عنه : ما خفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من المنافقين : كان يعرفهم بسيماهم ، ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين يشكوهم الناس ، فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب : هذا منافق (١). فإن قلت : أى فرق بين اللامين في (فَلَعَرَفْتَهُمْ) و (لَتَعْرِفَنَّهُمْ)؟ قلت : الأولى هي الداخلة في جواب «لو» كالتي في (لَأَرَيْناكَهُمْ) كررت في المعطوف ، وأما اللام في (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ) فواقعة مع النون في جواب قسم محذوف (فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) في نحوه وأسلوبه. وعن ابن عباس : هو قولهم : مالنا إن أطعنا من الثواب؟ ولا يقولون : ما علينا إن عصينا من العقاب. وقيل : اللحن : أن تلحن بكلامك ، أى : تميله إلى نحو من الأنحاء ليفطن له صاحبك كالتعريض والتورية. قال :

ولقد لحنت لكم لكيما تفقهوا

واللّحن يعرفه ذوو الألباب (٢)

__________________

(١) ذكره الشعبي بغير سند ، ولم أجده.

(٢) اللحن : العدول بالكلام عن الظاهر ، كالتعريض والتورية ، والمخطئ لاحن ، لعدوله عن الصواب ـ

٣٢٧

وقيل للمخطئ : لاحن ، لأنه يعدل بالكلام عن الصواب.

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ)(٣١)

(أَخْبارَكُمْ) ما يحكى عنكم وما يخبر به عن أعمالكم ، ليعلم حسنها من قبيحها ، لأن الخبر على حسب المخبر عنه : إن حسنا فحسن ، وإن قبيحا فقبيح ، وقرأ يعقوب : ونبلو ، بسكون الواو على معنى : ونحن نبلو أخباركم. وقرئ : وليبلونكم ويعلم ، ويبلو بالياء. وعن الفضيل : أنه كان إذا قرأها بكى وقال : اللهم لا تبلنا ، فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وعذبتنا.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ)(٣٢)

(وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) التي عملوها في دينهم يرجون بها الثواب ، لأنها مع كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم باطلة ، وهم قريظة والنضير. أو سيحبط أعمالهم التي عملوها ، والمكايد التي نصبوها في مشاقة الرسول ، أى : سيبطلها فلا يصلون منها إلى أغراضهم ، بل يستنصرون بها ولا يثمر لهم إلا القتل والجلاء عن أوطانهم. وقيل هم رؤساء قريش ، والمطعمون يوم بدر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ)(٣٣)

(وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) أى لا تحبطوا الطاعات بالكبائر (١) ، كقوله تعالى (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) إلى أن قال (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) وعن أبى العالية : كان أصحاب

__________________

ـ أى : لكي تفهموا دون غيركم ، فان اللحن يعرفه أرباب الألباب دون غيرهم. والألباب : العقول اه.

(١) قال محمود : «معناه : لا تحبطوا الطاعات بالكبائر ... الخ» قال أحمد : قاعدة أهل السنة مؤسسة على أن الكبائر ما دون الشرك لا تحبط حسنة مكتوبة ، لأن الله (لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) نعم يقولون : إن الحسنات يذهبن السيئات كما وعد به الكريم جل وعلا. وقاعدة المعتزلة موضوعة على أن كبيرة واحدة تحبط ما تقدمها من الحسنات ولو كانت مثل زيد البحر ، لأنهم يقطعون بخلود الفاسق في النار ، وسلب سمة الايمان عنه ، ومتى خلد في النار لم تنفع طاعاته ولا إيمانه ، فعلى هذا بنى الزمخشري كلامه وجلب الآثار التي في بعضها موافقة في الظاهر لمعتقده ، ولا كلام عليها جملة من غير تفصيل ، لأن القاعدة المتقدمة ثابتة قطعا بأدلة اقتضت ذلك يحاشى كل معتبر في الحل والعقد عن مخالفتها ، فمهما ورد من ظاهر يخالفها وجب رده إليها بوجه من التأويل ، فان كان نصا لا يقبل التأويل فالطريق في ذلك تحسين الظن بالمنقول عنه ، والتوريك بالغلط على النقلة ، على أن الأثر المذكور عن ابن عمر هو أولى بأن يدل ظاهره لأهل السنة فتأمله ، وأما محمل الآية عند أهل الحق فعلى أن النهى عن الإخلال بشرط من شروط العمل وبركن يقتضى بطلانه من أصله ، لا أنه يبطل بعد استجماعه شرائط الصحة والقبول.

٣٢٨

رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع الإيمان ذنب ، كما لا ينفع مع الشرك (١) عمل ، حتى نزلت (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) فكانوا يخافون الكبائر على أعمالهم. وعن حذيفة : فخافوا أن تحبط الكبائر أعمالهم. وعن ابن عمر : كنا ترى أنه ليس شيء من حسناتنا إلا مقبولا ، حتى نزل (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) فقلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا : الكبائر الموجبات (٢) والفواحش ، حتى نزل (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) فكففنا عن القول في ذلك ، فكنا نخاف على من أصاب الكبائر ونرجو لمن لم يصبها (٣). وعن قتادة رحمه الله : رحم الله عبدا لم يحبط عمله الصالح بعمله السيئ. وقيل : لا تبطلوها بمعصيتهما. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : لا تبطلوها بالرياء والسمعة ، وعنه : بالشك والنفاق : وقيل : بالعجب ، فإنّ العجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. وقيل : ولا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ)(٣٤)

(ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) قيل ، هم أصحاب القليب ، والظاهر العموم.

(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ)(٣٥)

(فَلا تَهِنُوا) ولا تضعفوا ولا تذلوا للعدوّ (وَ) لا (تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) وقرئ : السلم وهما المسالمة (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) أى الأغلبون الأقهرون (وَاللهُ مَعَكُمْ) أى ناصركم ، وعن قتادة : لا تكونوا أوّل الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها بالموادعة. وقرئ : ولا تدّعوا ، من ادّعى القوم وتداعوا : إذا دعوا. نحو قولك : ارتموا الصيد وتراموه. وتدعوا : مجزوم لدخوله

__________________

(١) أخرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب قدر الصلاة له. قال حدثنا أبو قدامة حدثنا وكيع حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس بهذا وزاد : فنزلت (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) وفي الكتاب حديث مرفوع. أخرجه إسحاق وأبو يعلى وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن مسعود. قال أبو نعيم : تفرد به يحيى بن يمان عن سفيان اه. ويحيى ضعيف. وفيه عن عمر أيضا أخرجه العقيلي. وابن عدى من رواية حجاج بن نصير عن منذر بن زياد وهما ضعيفان.

(٢) قوله «فقلنا الكبائر الموجبات» عبارة الخازن : الكبائر والفواحش. (ع)

(٣) أخرجه ابن مردويه. من طريق عبد الله بن المبارك عن بكير بن معروف. عن مقاتل بن حيان. عن نافع. عن ابن عمر بهذا. وأخرجه محمد بن نصر أيضا. من هذا الوجه.

٣٢٩

في حكم النهى. أو منصوب لإضمار إن. ونحو قوله تعالى (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) : قوله تعالى (إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى). (وَلَنْ يَتِرَكُمْ) من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلا من ولد أو أخ أو حميم ، أو حربته ، وحقيقته : أفردته من قريبه أو ماله ، من الوتر وهو الفرد ؛ فشبه إضاعة عمل العامل وتعطيل ثوابه بوتر الواتر ، وهو من فصيح الكلام. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : «من فاتته صلاة العصر ، فكأنما وتر أهله وماله» (١) أى أفرد عنهما قتلا ونهبا.

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ)(٣٨)

(يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) ثواب إيمانكم وتقواكم (وَلا يَسْئَلْكُمْ) أى ولا يسألكم جميعها ، إنما يقتصر منكم على ربع العشر ، ثم قال (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ) أى يجهدكم ويطلبه كله ، والإحفاء : المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء ، يقال : أحفاه في المسألة إذا لم يترك شيئا من الإلحاح. وأحفى شاربه : إذا استأصله (تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) أى تضطغنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم (٢) ، وتضيق صدوركم لذلك ، وأظهرتم كراهتكم ومقتكم لدين يذهب بأموالكم ، والضمير في (يُخْرِجْ) لله عز وجل ، أى يضغنكم بطلب أموالكم. أو للبخل ، لأنه سبب الاضطغان. وقرئ : نخرج. بالنون. ويخرج ، بالياء والتاء مع فتحهما ورفع أضغانكم (هؤُلاءِ) موصول بمعنى الذين صلته (تُدْعَوْنَ) أى أنتم الذين تدعون. أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون ، ثم استأنف وصفهم ، كأنهم قالوا : وما وصفنا؟ فقيل : تدعون (لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) قيل : هي النفقة في الغزو. وقيل : الزكاة ، كأنه قيل : الدليل على أنه لو أحفاكم لبخلتم وكرهتم العطاء واضطغنتم أنكم تدعون إلى أداء ربع العشر ، فمنكم ناس يبخلون به ، ثم قال (وَمَنْ يَبْخَلْ) بالصدقة وأداء الفريضة. فلا يتعداه ضرر بخله ، وإنما (يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) يقال بخلت عليه وعنه ، وكذلك

__________________

(١) متفق عليه من حديث ابن عمر.

(٢) قوله «أى تضطغنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم» في الصحاح : «الضغن» الحقد. وتضاغن القوم واضطغنوا : انطووا على الأحقاد. (ع)

٣٣٠

ضننت عليه وعنه. ثم أخبر أنه لا يأمر بذلك ولا يدعو اليه لحاجته إليه ، فهو الغنى الذي تستحيل عليه الحاجات ، ولكن لحاجتكم وفقركم إلى الثواب (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) معطوف على: وإن تؤمنوا وتتقوا (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) يخفق قوما سواكم على خلاف صفتكم راغبين في الإيمان والتقوى ، غير متولين عنهما ، كقوله تعالى (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) وقيل : هم الملائكة. وقيل : الأنصار. وعن ابن عباس : كندة والنخع. وعن الحسن : العجم وعن عكرمة : فارس والروم. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القوم وكان سلمان إلى جنبه ، فضرب على فخذه وقال : «هذا وقومه ، والذي نفسي بيده ، لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس» (١).

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة محمد صلى الله عليه وسلم كان حقا على الله أن يسقيه من أنهار الجنة» (٢)

سورة الفتح

مدنية [نزلت في الطريق عند الانصراف من الحديبية]

وآياتها ٢٩ [نزلت بعد الجمعة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) (٣)

هو فتح مكة ، وقد نزلت مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة عام الحديبية عدة له

__________________

(١) أخرجه الترمذي وابن حبان والحاكم. والطبري وابن أبى حاتم وغيرهم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة وله طرق عنه وعن غيره.

(٢) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي ، بأسانيدهم إلى أبى بن كعب.

٣٣١

بالفتح ، وجيء به على لفظ الماضي على عادة رب العزة سبحانه في أخباره ، لأنها في تحققها وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة ، وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخير (١) ما لا يخفى (٢). فإن قلت : كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟ قلت : لم يجعل علة للمغفرة ، ولكن لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة : وهي المغفرة وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز ، كأنه قيل : يسرنا لك فتح مكة ، ونصرناك على عدوّك ، لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل. ويجوز أن يكون فتح مكة ـ من حيث إنه جهاد للعدوّ ـ سببا للغفران والثواب والفتح والظفر بالبلد عنوة أو صلحا بحرب أو بغير حرب ، لأنه منغلق ما لم يظفر به ، فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح. وقيل : هو فتح الحديبية ، ولم يكن فيه قتال شديد ، ولكن ترام بين القوم بسهام وحجارة. وعن ابن عباس رضى الله عنه : رموا المشركين حتى أدخلوهم ديارهم. وعن الكلبي : ظهروا عليهم حتى سألوا الصلح. فإن قلت : كيف يكون فتحا وقد أحصروا فنحروا وحلقوا بالحديبية؟ قلت : كان ذلك قبل الهدنة ، فلما طلبوها وتمت كان فتحا مبينا. وعن موسى بن عقبة : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعا ، فقال رجل من أصحابه : ما هذا بفتح ، لقد صدّونا عن البيت وصد هدينا ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : «بئس الكلام هذا ، بل هو أعظم الفتوح ، وقد رضى المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح ، (٣) ويسألوكم القضية ، ويرغبوا إليكم في الأمان ، وقد رأوا منكم ما كرهوا» (٤) وعن الشعبي : نزلت بالحديبية وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة ما لم يصب في غزوة أصاب: أن بويع بيعة الرضوان ، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وظهرت الروم على فارس ، وبلغ الهدى محله ، وأطعموا نخل خيبر ، وكان في فتح الحديبية آية عظيمة. وذلك أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة ، فتمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مجه فيها ، فدرت بالماء حتى

__________________

(١) قوله «علو شأن المخبر» لعله : المخبر به. وعبارة النسفي : المخبر عنه. (ع)

(٢) قال محمود : «جاء الاخبار بالفتح على لفظ الماضي وإن لم يقع بعد ، لأن المراد فتح مكة ، والآية نزلت حين رجع عليه الصلاة والسلام من الحديبية قبل عام الفتح ، وذلك على عادة رب العزة في أخباره ، لأنها كانت محققة نزلت منزلة الكائنة الموجودة ، وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر ما لا يخفى» قال أحمد : ومن الفخامة الالتفات من التكلم إلى الغيبة.

(٣) قوله «عن بلادهم بالراح» في الصحاح «الراح» : الخمر ، والراح : جمع راحة وهي الكف. والراح : الارتياح اه والظاهر هنا الثالث. (ع)

(٤) هكذا هو في مغازي موسى بن عقبة عن الزهري وأخرجه البيهقي في الدلائل من طريقه ومن طريق أبى الأسود عن عروة أيضا نحوه مطولا

٣٣٢

شرب جميع من كان معه ، وقيل : فجاش الماء حتى امتلأت ولم ينفد ماؤها (١) بعد ـ وقيل : هو فتح خيبر ، وقيل : فتح الروم. وقيل : فتح الله له بالإسلام والنبوّة والدعوة بالحجة والسيف ، ولا فتح أبين منه وأعظم ، وهو رأس الفتوح كلها ، إذ لا فتح من فتوح الإسلام إلا وهو تحته ومتشعب منه. وقيل : معناه قضينا لك قضاء بينا على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل ؛ لتطوفوا بالبيت : من الفتاحة وهي الحكومة ، وكذا عن قتادة (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) يريد : جميع ما فرط منك. وعن مقاتل : ما تقدم في الجاهلية وما بعدها. وقيل : ما تقدم من حديث مارية وما تأخر من امرأة زيد (نَصْراً عَزِيزاً) فيه عز ومنعة ـ أو وصف بصفة المنصور إسنادا مجازيا أو عزيزا صاحبه.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)(٧)

(السَّكِينَةَ) السكون كالبهيتة للبهتان ، أى : أنزل الله في قلوبهم السكون والطمأنينة بسبب

__________________

(١) متفق عليه. من حديث البراء مطولا باللفظ الأول. ولمسلم من حديث سلمة بن الأكوع. قال «قدمنا المدينة ونحن أربع عشرة مائة وعليها خمسون شاة لا ترويها. فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنب الركية فاما دعا وإما بصق ، قال فجاشت. فسقينا واستقينا. وعند البخاري في الحديث الطويل عن المسور بن مخرمة ومروان : فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء. فلم يلبث الناس أن سرحوه. وشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه. فو الله ما زال يجيش لهم بالري ولا مخالفة في هذا لحديث البراء. لما رواه الواقدي من طريق عطاء بن أبى مروان. عن أبيه. حدثني أربعة عشر رجلا من أسلم صحابة. أن ناجية بن الأعجم. قال «دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم. حين شكا إليه من قلة الماء فدفع إلى سهما من كنانته وأمر بدلو من مائها. فمضمض فاه منه ثم مجه في الدلو. وقال لي : انزل الماء فصبه في البئر وفتحت الماء بالسهم. ففعلت. فو الذي بعثه بالحق. ما كدت أخرج حتى كاد يغمرنى». وروى أيضا من حديث قتادة. قال : لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل. فنزل بالسهم وتوضأ. ومج فاه منه ، ثم رده في البئر : جاشت بالرواء.

٣٣٣

الصلح والأمن ، ليعرفوا فضل الله عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف ، والهدنة غب القتال ، فيزدادوا يقينا إلى يقينهم ، وأنزل فيها السكون إلى ما جاء به محمد عليه السلام من الشرائع (لِيَزْدادُوا إِيماناً) بالشرائع مقرونا إلى إيمانهم وهو التوحيد. عن ابن عباس رضى الله عنهما : أن أوّل ما أتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد ، فلما آمنوا بالله وحده أنزل الصلاة والزكاة ، ثم الحج ، ثم الجهاد ، فازدادوا إيمانا إلى إيمانهم. أو أنزل فيها الوقار والعظمة لله عزّ وجل ولرسوله ، ليزدادوا باعتقاد ذلك إيمانا إلى إيمانهم. وقيل : أنزل فيها الرحمة ليتراحموا فيزداد إيمانهم (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يسلط بعضها على بعض كما يقتضيه علمه وحكمته ، ومن قضيته أن سكن قلوب المؤمنين بصلح الحديبية ووعدهم أن يفتح لهم ، وإنما قضى ذلك ليعرف المؤمنون نعمة الله فيه ويشكروها فيستحقوا الثواب ، فيثيبهم ويعذب الكافرين والمنافقين لما غاظهم من ذلك وكرهوه. وقع السوء : عبارة عن رداءة الشيء وفساده ، والصدق عن جودته وصلاحه ، فقيل في المرضى الصالح من الأفعال : فعل صدق ، وفي المسخوط الفاسد منها : فعل سوء. ومعنى (ظَنَّ السَّوْءِ) ظنهم أن الله تعالى لا ينصر الرسول والمؤمنين ، ولا يرجعهم إلى مكة ظافرين فاتحيها عنوة وقهرا (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) أى : ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم ـ والسوء : الهلاك والدمار. وقرئ : دائرة السوء (١) بالفتح ، أى. الدائرة التي يذمونها ويسخطونها ، فهي عندهم دائرة سوء ، وعند المؤمنين دائرة صدق. فإن قلت : هل من فرق بين السوء والسوء؟ قلت : هما كالكرة والكره والضعف والضعف ، من ساء ، إلا أنّ المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمه من كل شيء. وأما السوء بالضم فجار مجرى الشر الذي هو نقيض الخير. يقال : أراد به السوء وأراد به الخير ، ولذلك أضيف الظن إلى المفتوح لكونه مذموما ، وكانت الدائرة محمودة فكان حقها أن لا تضاف إليه إلا على التأويل الذي ذكرنا وأما دائرة السوء بالضم ، فلأن الذي أصابهم مكروه وشدة ، فصح أن يقع عليه اسم السوء ، كقوله عزّ وعلا (إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً).

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)(٩)

(شاهِداً) تشهد على أمّتك ، كقوله تعالى (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). (لِتُؤْمِنُوا) الضمير للناس (وَتُعَزِّرُوهُ) ويقووه بالنصرة (وَتُوَقِّرُوهُ) ويعظموه (وَتُسَبِّحُوهُ) من التسبيح. أو من

__________________

(١) قوله «وقرئ دائرة السوء بالفتح ، يفيد أن القراءة المشهورة. دائرة السوء. بالضم. (ع)

٣٣٤

السبحة ، والضمائر لله عز وجلّ والمراد بتعزير الله : تعزير دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومن فرق الضمائر فقد أبعد. وقرئ : لتؤمنوا وتعزروه (١) وتوقروه وتسبحوه ، بالتاء ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمّته. وقرئ : وتعزروه بضم الزاى وكسرها. وتعزروه بضم التاء والتخفيف ، وتعززوه بالزاءين. وتوقروه من أوقره بمعنى وقره. وتسبحوا الله (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) عن ابن عباس رضى الله عنهما : صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر.

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)(١٠)

لما قال (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) أكده تأكيدا على طريق التخييل (٢) فقال (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) يريد أن يد رسول الله التي تعلو أيدى المبايعين : هي يد الله ، والله تعالى منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام ، وإنما المعنى : تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله من غير تفاوت بينهما ، كقوله تعالى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) والمراد : بيعة الرضوان (فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه. قال جابر بن عبد الله رضى الله عنه : بايعنا رسول الله تحت الشجرة على الموت ، وعلى أن لا نفرّ ، فما نكث أحد منا البيعة إلا جد بن قيس وكان منافقا ، اختبأ تحت إبط بعيره ولم يسر مع القوم (٣). وقرئ : إنما يبايعون لله ، أى : لأجل الله ولوجهه ، وقرئ : ينكث بضم الكاف وكسرها ، وبما عاهد وعهد (فَسَيُؤْتِيهِ) بالنون والياء ، يقال : وفيت بالعهد وأوفيت به ، وهي لغة تهامة. ومنها قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ).

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ

__________________

(١) قوله «قرئ لتؤمنوا وتعزروه» يفيد أن قراءة الياء هي المشهورة ، وقد تشير إلى تفريق الضمائر قراءة : وتسبحوا الله ... الآية. (ع)

(٢) قال محمود : «لما قال إنما يبايعون الله أكده تأكيدا على طريق التخييل ... الخ» قال أحمد : كلام حسن بعد إسقاط لفظ التخييل وإبداله بالتمثيل ، وقد تقدمت أمثاله.

(٣) لم أجده هكذا بل في حديث جابر «أنه سئل كم كانوا يوم الحديبية؟ قال : كنا أربعة عشر مائة فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة. وهي سمرة. فبايعناه. وجد بن قيس اختبأ تحت بطن بعيره» أخرجه مسلم. ولأبى يعلى من هذا الوجه «لم نبايعه على الموت وإنما بايعناه على أن لا نفر ، بايعناه كلنا. إلا الجد بن قيس ، فانه اختبأ تحت بطن بعيره» فهذا ليس فيه أنه بايع ونكث ، بل فيه أنه لم يبايع أصلا.

٣٣٥

أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)(١١)

هم الذين خلفوا عن الحديبية ، وهم أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم والديل. وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه حذرا من قريش (١) أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت ، وأحرم هو صلى الله عليه وسلم وساق معه الهدى ، ليعلم أنه لا يريد حربا ، فتثاقل كثير من الأعراب وقالوا : يذهب إلى قوم قد غزوه في عقر (٢) داره بالمدينة وقتلوا أصحابه ، فيقاتلهم ، وظنوا أنه يهلك فلا ينقلب إلى المدينة واعتلوا بالشغل بأهاليهم وأموالهم وأنه ليس لهم من يقوم بأشغالهم. وقرئ : شغلتنا ، بالتشديد (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) تكذيب لهم في اعتذارهم. وأن الذي خلفهم ليس بما يقولون ، وإنما هو الشك في الله والنفاق ، وطلبهم للاستغفار أيضا ليس بصادر عن حقيقة (فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ) فمن يمنعكم من مشيئة الله وقضائه (إِنْ أَرادَ بِكُمْ) ما يضركم من قتل أو هزيمة (أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) من ظفر وغنيمة (٣) وقرئ : ضرا ، بالفتح والضم. الأهلون : جمع أهل. ويقال : أهلات ، على تقدير تاء التأنيث. كأرض وأرضات ، وقد جاء أهلة. وأمّا أهال ، فاسم جمع ، كليال.

(بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً)(١٢)

__________________

(١) أخرجه البيهقي في الدلائل من رواية آدم عن ورقاء. عن ابن نجيج عن مجاهد نحوه

(٢) قوله «قد غزوه في عقر داره» في المصباح : عقر الدار أصلها ، وهو محلة القوم. وأهل المدينة يقولون : عقر الدار ، بالضم. (ع)

(٣) قال محمود : «أى قتلا وهزيمة أو أراد بكم نفعا أى ظفرا وغنيمة» قال أحمد : لا تخلو الآية من الفن المعروف عند علماء البيان باللف ، وكان الأصل ـ والله أعلم ـ : فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا ، ومن يحرمكم النفع إن أراد بكم نفعا ، لأن مثل هذا النظم يستعمل في الضر ، وكذلك ورد في الكتاب العزيز مطردا ، كقوله (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ). (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في بعض الحديث «إنى لا أملك لكم شيئا» يخاطب عشيرته وأمثاله كثيرة ، وسر اختصاصه بدفع المضرة : أن الملك مضاف في هذه المواضع باللام ودفع المضرة نفع يضاف للمدفوع عنه ، وليس كذلك حرمان المنفعة ، فانه ضرر عائد عليه لا له ، فإذا ظهر ذلك فإنما انتظمت الآية على هذا الوجه ، لأن القسمين يشتركان في أن كل واحد منهما نفى لدفع المقدر من خير وشر ، فلما تقاربا أدرجهما في عبارة واحدة ، وخص عبارة دفع الضر ، لأنه هو المتوقع لهؤلاء ، إذ الآية في سياق التهديد أو الوعيد الشديد ، وهي نظير قوله (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) فان العصمة إنما تكون من السوء لا من الرحمة. فهاتان الآيتان يرامان في التقرير الذي ذكرته ، والله أعلم.

٣٣٦

وقرئ : إلى أهلهم. وزين ، على البناء للفاعل وهو الشيطان ، أو الله عز وجل ، وكلاهما جاء في القرآن (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) ، (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) والبور : من بار ، كالهلك : من هلك ، بناء ومعنى ؛ ولذلك وصف به الواحد والجمع والمذكر والمؤنث. ويجوز أن يكون جمع بائر كعائذ وعوذ. والمعنى : وكنتم قوما فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونياتكم لا خير فيكم. أو هالكين عند الله مستوجبين لسخطه وعقابه.

(وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً)(١٣)

(لِلْكافِرِينَ) مقام مقام لهم ، للإيذان بأنّ من لم يجمع بين الإيمانين الإيمان بالله وبرسوله فهو كافر ، ونكر (سَعِيراً) لأنها نار مخصوصة ، كما نكر (ناراً تَلَظَّى).

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(١٤)

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يدبره تدبير قادر حكيم ، فيغفر ويعذب بمشيئته (١) ، ومشيئته تابعة لحكمته ، وحكمته المغفرة للتائب وتعذيب المصر (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) رحمته سابقة لغضبه ، حيث يكفر السيئات باجتناب الكبائر ، ويغفر الكبائر بالتوبة.

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً)(١٥)

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) الذين تخلفوا عن الحديبية (إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ) إلى غنائم خيبر (أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) وقرئ كلم الله ، أن يغيروا موعد الله لأهل الحديبية ، وذلك أنه وعدهم أن يعوّضهم من مغانم مكة مغانم خيبر (٢) إذا قفلوا موادعين لا يصيبون منهم شيئا. وقيل :

__________________

(١) قال محمود : «يغفر ويعذب بمشيئته ... الخ» قال أحمد : قد تقدمت أمثالها ، والقول بأن موجب الحكمة ما ذكر تحكم. هذا وأدلة الشرع القاطعة تأتى على ما يعتقده فلا تبقى ولا تذر ، فكم من دليل على أن المغفرة لا تقف على التوبة ، وكم يروم إتباع القرآن للرأى الفاسد فيقيد مطلقا ويحجر واسعا ، والله الموفق.

(٢) قال محمود : «المراد بكلام الله وعده أهل الحديبية بغنائم خيبر عوضا عما يفوتهم من غنائم مكة ... الخ» قال أحمد : فالاضراب الأول إذا هو المعروف ، والثاني هو المستغرب المستعذب الذي ليس فيه مباينة بين الأول والثاني ، بل زيادة بينة ومبالغة متمكنة ، وإنما كان المنسوب إليهم ثانيا أشد من المنسوب إليهم أولا ، لأن الأول نسبة إلى جهل في شيء مخصوص ، وهو نسبتهم الحسد إلى المؤمنين ، والثاني يعتبر بجهل على الإطلاق. وقلة فهم على الاسترسال.

٣٣٧

هو قوله تعالى (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً). (تَحْسُدُونَنا) أن نصيب معكم من الغنائم. قرئ بضم السين وكسرها (لا يَفْقَهُونَ) لا يفهمون إلا فهما (قَلِيلاً) وهو فطنتهم لأمور الدنيا دون أمور الدين ، كقوله تعالى (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) فإن قلت : ما الفرق بين حرفى الإضراب؟ قلت. الأوّل إضراب معناه : ردّ أن يكون حكم الله أن لا يتبعوهم وإثبات الحسد. والثاني إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين ، إلى وصفهم مما هو أطم منه ، وهو الجهل وقلة الفقه.

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٦)

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ) هم الذين تخلفوا عن الحديبية (إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) يعنى بنى حنيفة قوم مسيلمة ، وأهل الردّة الذين حاربهم أبو بكر الصديق رضى الله عنه ؛ لأن مشركي العرب والمرتدين هم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف عند أبى حنيفة ومن عداهم من مشركي العجم وأهل الكتاب. والمجوس تقبل منهم الجزية ، وعند الشافعي لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس دون مشركي العجم والعرب. وهذا دليل على إمامة أبى بكر الصديق رضى الله عنه ، فإنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن بعد وفاته. وكيف يدعوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله تعالى (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) وقيل : هم فارس والروم. ومعنى (يُسْلِمُونَ) ينقادون ، لأنّ الروم نصارى ، وفارس مجوس يقبل منهم إعطاء الجزية. فإن قلت : عن قتادة أنهم ثقيف وهوازن ، وكان ذلك في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت : إن صح ذلك فالمعنى : لن تخرجوا معى أبدا ما دمتم على ما أنتم عليه من مرض القلوب والاضطراب في الدين. أو على قول مجاهد : كان الموعد أنهم لا يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا متطوعين لا نصيب لهم في المغنم (كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) يريد في غزوة الحديبية. أو يسلمون. معطوف على تقاتلونهم ، أى : يكون أحد الأمرين : إما المقاتلة ، أو الإسلام ، لا ثالث لهما. وفي قراءة أبىّ : أو يسلموا ، بمعنى : إلى أن يسلموا.

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ

٣٣٨

يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً)(١٧)

نفى الحرج عن هؤلاء من ذوى العاهات في التخلف عن الغزو. وقرئ : ندخله ونعذبه ، بالنون.

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)(١٩)

هي بيعة الرضوان ، سميت بهذه الآية ، وقصتها : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حين نزل الحديبية بعث جوّاس (١) بن أمّية الخزاعي رسولا إلى أهل مكة ، فهموا به فمنعه الأحابيش ، فلما رجع دعا بعمر رضى الله عنه ليبعثه فقال : إنى أخافهم على نفسي ، لما عرف من عداوتي إياهم وما بمكة عدوىّ يمنعني ، ولكنى أدلك على رجل هو أعز بها منى وأحب إليهم : عثمان بن عفان فبعثه فخبرهم أنه لم يأت بحرب ، وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته ، فوقروه وقالوا : إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل ، فقال : ما كنت لأطوف قبل أن يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتبس عندهم ، فأرجف بأنهم قتلوه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نبرح حتى نناجز القوم. ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة وكانت سمرة. قال جابر ابن عبد الله : لو كنت أبصر لأريتكم مكانها (٢). وقيل : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في أصل الشجرة وعلى ظهره غصن من أغصانها. قال عبد الله بن المغفل : وكنت قائما

__________________

(١) «جواس» الذي في أبى السعود وفي الشهاب : خراش ، بالخاء والراء والشين اه ملخصا من هامش ، وكذا في النسفي والخازن. (ع)

(٢) أخرجه أحمد من رواية عروة عن المسور ومروان. قالا : «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت» فذكر الحديث مطولا. وفيه هذه القصة دون قصة جابر وروى الطبري من رواية عكرمة مولى ابن عباس قال «دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم جواس بن أمية الخزاعي فذكره ومن طريق أبى إسحاق حدثني عبد الله بن أبى بكر «بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قتل فقال : لا نبرح حتى نناجز القوم. ودعا الناس إلى البيعة. فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، فكان الناس يقولون : بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت ، وجابر يقول : لم يبايعنا على الموت ولكن بايعنا على أن لا نفر ، إلى أن قال : وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل» وقوله وكانت سمرة. رواه مسلم من حديث جابر قال «فبايعناه وأخذ عمر بيده تحت الشجرة وكانت سمرة» وقول جابر : لو كنت أبصر الخ : متفق عليه من حديثه.

٣٣٩

على رأسه وبيدي غصن من الشجرة أذب عنه ، فرفعت الغصن عن ظهره فبايعوه على الموت دونه ، وعلى أن لا يفروا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنتم اليوم خير أهل الأرض» (١) وكان عدد المبايعين ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين (٢) وقيل : ألفا وأربعمائة : وقيل : ألفا وثلاثمائة (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الإخلاص وصدق الضمائر فيما بايعوا عليه (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ) أى : الطمأنينة والأمن بسبب الصلح على قلوبهم (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) وقرئ : وآتاهم ، وهو فتح خيبر غب انصرافهم من مكة. وعن الحسن : فتح هجر ، وهو أجلّ فتح : اتسعوا بثمرها زمانا (مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) هي مغانم خيبر ، وكانت أرضا ذات عقار (٣) وأموال ، فقسمها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عليهم ، ثم أتاه عثمان بالصلح فصالحهم وانصرف بعد أن نحر بالحديبية وحلق.

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً)(٢٠)

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً) وهي ما يفيء على المؤمنين إلى يوم القيامة (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) المغانم يعنى مغانم خيبر (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) يعنى أيدى أهل خيبر وحلفاؤهم من أسد وغطفان حين جاءوا لنصرتهم ، فقذف الله في قلوبهم الرعب فنكصوا. وقيل : أيدى أهل مكة بالصلح (وَلِتَكُونَ) هذه الكفة (آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) وعبرة يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان ،

__________________

(١) قوله «وقيل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل الشجرة وعلى ظهره غصن من أغصانها. قال عبد الله بن مغفل : كنت قائما على رأسه وبيدي غصن من الشجرة أذب عنه ، فرفعت الغصن عن ظهره وبايعوه على الموت دونه ، وعلى أن لا يفروا ، فقال لهم : أنتم اليوم خير أهل الأرض «أخرجه النسائي من رواية ثابت عن عبد الله بن مغفل. قال «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة وعلى رأسه غصن إلى قوله عن ظهره». وفي حديث معقل بن يسار «لقد رأيتنى يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس وأنا رافع غصنا من أغصانها ـ الحديث». وأما قوله «بايعوه ... الخ» فهو في حديث جابر.

(٢) أما الأولى فمتفق عليها من حديث سالم بن أبى الجعد عن جابر. دون قوله «وخمسا وعشرين» وأما الثانية ففي رواية عمرو بن مرة عن جابر في الصحيحين. وفي رواية أبى الزبير عنه ومسلم وعندهما عن قتادة. قلت : لسعيد ابن المسيب «لم كان عدد الذين شهدوا بيعة الرضوان؟ قال : خمس عشرة مائة قال : قلت : فان جابرا قال : كانوا أربع عشرة مائه قال : رحمه الله لقد وهم ، هو والله حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة» قال البيهقي في الدلائل : كأن جابرا رجع عن رواية خمس عشرة. إلى ألف وأربعمائة. وكذلك قال البراء ومعقل بن يسار. وسلمة بن الأكوع. انتهى. والرواية الثالثة في الصحيحين من رواية عمرو بن مرة عن عبد الله بن أبى أوفى. قال «كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاثمائة وكان من أسلم من المهاجرين. قلت والرواية التي فيها ألفا وخمسمائة وخمسا وعشرين.

أخرجها ابن مردويه في تفسيره من حديث ابن عباس موقوفا. وفي عددهم أقوال غير هذه بسطنها في شرح البخاري

(٣) قوله «ذات عقار» في الصحاح «العقار» بالفتح : الأرض والضياع والنخل. (ع)

٣٤٠