الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

إلا والحديد آلة فيها ، أو ما يعمل بالحديد (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ) باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين (بِالْغَيْبِ) غائبا عنهم ، قال ابن عباس رضى الله عنهما : ينصرونه ولا يبصرونه (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) غنى بقدرته وعزته في إهلاك من يريد هلاكه عنهم ، وإنما كلفهم الجهاد لينتفعوا به ويصلوا بامتثال الأمر فيه إلى الثواب.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ)(٢٦)

(وَالْكِتابَ) والوحى. وعن ابن عباس : الخط بالقلم ، يقال : كتب كتابا وكتابة (مِنْهُمْ) فمن الذرية أو من المرسل إليهم ، وقد دل عليهم ذكر الإرسال والمرسلين. وهذا تفصيل لحالهم ، أى : فمنهم مهتد ومنهم فاسق ، والغلبة للفساق.

(ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ)(٢٧)

قرأ الحسن : الإنجيل ، بفتح الهمزة ، وأمره أهون من أمر البرطيل والسكينة فيمن رواهما بفتح الفاء ، لأنّ الكلمة أعجمية لا يلزم فيها حفظ أبنية العرب. وقرئ : رآفة ، على : فعالة ، أى : وفقناهم للتراحم والتعاطف بينهم. ونحوه في صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ). والرهبانية : ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين ، مخلصين أنفسهم للعبادة ، وذلك أنّ الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد موت عيسى ، فقاتلوهم ثلاث مرات ، فقتلوا حتى لم يبق منهم إلا القليل ، فخافوا أن يفتنوا في دينهم ، فاختاروا الرهبانية : ومعناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان ، (١) وهو الخائف : فعلان من رهب ، كخشيان من خشي. وقرئ : ورهبانية بالضم ، كأنها نسبة إلى الرهبان : وهو جمع راهب كراكب وركبان ، وانتصابها بفعل مضمر (٢) يفسره

__________________

(١) قال محمود : «الرهبانية : الفعلة المنسوبة للرهبان ... الخ» قال أحمد : وفيه إشكال ، فان النسب إلى الجمع على صيغته غير مقبول عندهم حتى يرد إلى مفرده ، إلا أن يقال : إنه لما صار الرهبان طائفة مخصوصة صار هذا الاسم ـ وإن كان جمعا ـ كالعلم لهم ، فلحق بأنصارى ومدائنى وأعرابى.

(٢) قال محمود : «وهي منصوبة بفعل مضمر ... الخ» قال أحمد : في إعراب هذه الآية تورط أبو على الفارسي وتحيز إلى فئة الفتنة وطائفة البدعة ، فأعرب رهبانية على أنها منصوبة بفعل مضمر يفسره الظاهر ، وعلل امتناع

٤٨١

الظاهر : تقديره. وابتدعوا رهبانية (ابْتَدَعُوها) يعنى : وأحدثوها من عند أنفسهم ونذروها (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) لم نفرضها نحن عليهم (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) استثناء منقطع ، أى : ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) كما يجب على الناذر رعاية نذره ، لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) يريد : أهل الرحمة والرأفة الذين اتبعوا عيسى (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) الذين لم يحافظوا على نذرهم. ويجوز أن تكون الرهبانية معطوفة على ما قبلها ، وابتدعوها : صفة لها في محل النصب ، أى : وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عندهم ، بمعنى : وقفناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها ، ما كتبناها عليهم إلا ليبتغوا بها رضوان الله ويستحقوا بها الثواب ، على أنه كتبها عليهم وألزمها إياهم ليتخلصوا من الفتن ويبتغوا بذلك رضا الله وثوابه ، فما رعوها جميعا حق رعايتها ، ولكن بعضهم ، فآتينا المؤمنين المراعين منهم للرهبانية أجرهم ، وكثير منهم فاسقون. وهم الذين لم يرعوها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٨)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يجوز أن يكون خطابا للذين آمنوا من أهل الكتاب والذين آمنوا (١) من غيرهم ، فإن كان خطابا لمؤمنى أهل الكتاب. فالمعنى : يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد (يُؤْتِكُمْ) الله (كِفْلَيْنِ) أى نصيبين (مِنْ رَحْمَتِهِ) لإيمانكم بمحمد وإيمانكم بمن قبله (وَيَجْعَلْ لَكُمْ) يوم القيامة (نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) وهو النور المذكور في قوله (يَسْعى نُورُهُمْ). (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ما أسلفتم من الكفر والمعاصي.

(لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٢٩)

__________________

ـ العطف فقال : ألا ترى أن الرهبانية لا يستقيم حملها على (جَعَلْنا) مع وصفها بقوله (ابْتَدَعُوها) لأن ما يجعله هو تعالى لا يبتدعونه هم ، والزمخشري ورد أيضا مورده الذميم ، وأسلمه شيطانه الرجيم ، فلما أجاز ما منعه أبو على من جعلها معطوفة : أعذر لذلك بتحريف الجعل إلى التوفيق ، فرارا مما فر منه أبو على : من اعتقاد أن ذلك مخلوق لله تعالى ، وجنوحا إلى الاشراك واعتقاد أن ما يفعلونه هم لا يفعله الله تعالى ولا يخلقه ، وكفى بما في هذه الآية دليلا بعد الأدلة القطعية والبراهين العقلية على بطلان ما اعتقداه ، فانه ذكر محل الرحمة والرأفة مع العلم بأن محلها القلب ، فجعل قوله (فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) تأكيدا لخلقه هذه المعاني وتصويرا لمعنى الخلق بذكر محله ، ولو كان المراد أمرا غير مخلوق في قلوبهم لله تعالى كما زعما : لم يبق لقوله في قلوب الذين اتبعوه موقع ، ويأبى الله أن يشتمل كتابه الكريم على مالا موقع له ، ألهمنا الله الحجة وتهج بنا واضح المحجة ، إنه ولى التوفيق وواهب التحقيق.

(١) قوله «والذين آمنوا» لعله والذين آمنوا. (ع)

٤٨٢

(لِئَلَّا يَعْلَمَ) ليعلم (أَهْلُ الْكِتابِ) الذين لم يسلموا ، ولا مزيدة (أَلَّا يَقْدِرُونَ) أن مخففة من الثقيلة ، أصله : أنه لا يقدرون ، يعنى : أنّ الشأن لا يقدرون (عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) أى : لا ينالون شيئا مما ذكر من فضله من الكفلين : والنور والمغفرة ، لأنهم لم يؤمنوا برسول الله ، فلم ينفعهم إيمانهم بمن قبله ، ولم يكسبهم فضلا قط. وإن كان خطابا لغيرهم ، فالمعنى : اتقوا الله واثبتوا على إيمانكم برسول الله يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الكفلين في قوله (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) ولا ينقصكم من مثل أجرهم ، لأنكم مثلهم في الإيمانين لا تفرقون بين أحد من رسله. روى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جعفرا رضى الله عنه في سبعين راكبا إلى النجاشي يدعوه ، فقدم جعفر عليه فدعاه فاستجاب له ، فقال ناس ممن آمن من أهل مملكته وهم أربعون رجلا. ائذن لنا في الوفادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأذن لهم فقدموا مع جعفر وقد تهيأ لوقعة أحد ، فلما رأوا ما بالمسلمين من خصاصة : استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرجعوا وقدموا بأموال لهم فآسوا بها المسلمين (١) ، فأنزل الله (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ...) إلى قوله ... (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) فلما سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله (يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) فخروا على المسلمين وقالوا : أما من آمن بكتابكم وكتابنا فله أجره مرّتين ، وأما من لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجركم ، فما فضلكم علينا؟ فنزلت. وروى أنّ مؤمنى أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرّتين ، وادعوا الفضل عليهم ، فنزلت. وقرئ لكي يعلم. ولكيلا يعلم. وليعلم. ولأن يعلم : بإدغام النون في الياء. ولين يعلم : بقلب الهمزة ياء وإدغام النون في الياء. وعن الحسن : ليلا يعلم ، بفتح اللام وسكون الياء. ورواه قطرب بكسر اللام. وقيل في وجهها : حذفت همزة أن ، وأدغمت نونها في لام لا ، فصار «للا» ثم أبدلت من اللام المدغمة ياء ، كقولهم : ديوان ، وقيراط. ومن فتح اللام فعلى أن أصل لام الجرّ الفتح ، كما أنشد :

أريد لأنسى ذكرها. (٢) ..

__________________

(١) المعروف أن جعفر إنما قدم بعد أحد بزمان ، قدم عند فتح خيبر.

(٢) أريد لأنسى ذكرها فكأنما

تمثل لي ليلى بكل سبيل

لقبس بن الملوح مجنون ليلى العامرية. وقيل : لكثير صاحب عزة ، وكنى عنها بليلى تسترا. وقيل : سرقه كثير من شعر جميل صاحب بثنية. وقوله : لأنسى بفتح لام الجر على الأصل في الحروف المفردة ، وتلك : لغة عكل ، ويتعين فيها إذا دخلت على فعل منصوب بأن مضمرة كما هنا. وتروى بالكسر على اللغة المشهورة ، أى : أريد لنسيان تذكرها ، واللام زائدة ، لكنها هي التي أشعرت بحذف «إن» ، وتمثل : أصله تتمثل ، أى تتشكل وتتخيل أمامى ليلى بكل طريق ، إما الحسى وإما طريق الذكر ، والأول أوجه ، بدليل قوله «كأنما» وتمثلها له يوجب تذكرها. وما زائدة بعد كان ، كافة لها عن العمل فلذلك دخلت على الفعل.

٤٨٣

وقرئ : أن لا يقدروا (بِيَدِ اللهِ) في ملكه وتصرفه. واليد مثل (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ولا يشاء إلا إيتاء من يستحقه. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله ورسله» (١).

سورة المجادلة

مدنية ، وآياتها ٢٢ [نزلت بعد المنافقون]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)(١)

(قَدْ سَمِعَ اللهُ) قالت عائشة رضى الله عنها : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات : (٢) لقد كلمت المجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب البيت وأنا عنده لا أسمع ، وقد سمع (٣) لها. وعن عمر أنه كان إذا دخلت عليه أكرمها وقال : قد سمع الله لها. وقرئ : تحاورك ، أى : تراجعك الكلام. وتحاولك ، أى : تسائلك ، وهي خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخى عبادة : رآها وهي تصلى وكانت حسنة الجسم ، فلما سلمت راودها فأبت ، فغضب وكان به خفة ولمم (٤) ، فظاهر منها ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أوسا تزوجني وأنا شابة مرغوب فىّ ، فلما خلا سنى ونثرت بطني ـ أى : كثر ولدى ـ جعلني عليه (٥) كأمّه. وروى أنها قالت له :

__________________

(١) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبى كعب.

(٢) قال محمود : «قالت عائشة رضى الله عنها : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ... الخ» قال أحمد : ولقد استدل به بعضهم على عدم لزوم ظهار الذمي ، وليس بقوى ، لأنه غير المقصود.

(٣) أخرجه النسائي وابن ماجة والطبري وأحمد وإسحاق والبزار من طريق الأعمش عن تميم بن سلمة عن عروة عن عائشة. وعلقه البخاري ، وأخرجه الحاكم أتم سياقا منه ، وفيه تسميتها وتسمية زوجها.

(٤) قوله «ولمم» أى طرف من الجنون ، أو مس من الجن. أفاده الصحاح (ع)

(٥) أخرجه الدارقطني والبيهقي.

٤٨٤

إنّ لي صبية صغارا ، إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إلىّ جاعوا. فقال : ما عندي في أمرك شيء. وروى أنه قال لها : حرمت عليه ، فقالت : يا رسول الله ، ما ذكر طلاقا وإنما هو أبو ولدى وأحب الناس إلىّ ، فقال : حرمت عليه ، فقالت : أشكو إلى الله فاقتي ووجدي ، كلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت عليه ، هتفت وشكت إلى الله (١) ، فنزلت (فِي زَوْجِها) في شأنه ومعناه (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) يصح أن يسمع كل مسموع ويبصر كل مبصر. فإن قلت : ما معنى (قَدْ) في قوله (قَدْ سَمِعَ)؟ قلت : معناه التوقع ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله مجادلتها وشكواها وينزل في ذلك ما يفرّج عنها.

(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٤)

(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ) في (مِنْكُمْ) توبيخ للعرب وتهجين لعادتهم في الظهار ، لأنه كان من أيمان أهل جاهليتهم خاصة دون سائر الأمم (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) وقرئ بالرفع على اللغتين الحجازية والتميمية. وفي قراءة ابن مسعود : بأمّهاتهم ، وزيادة الباء في لغة من ينصب. والمعنى أن من يقول لامرأته أنت علىّ كظهر أمى : ملحق في كلامه هذا للزوج بالأم ، وجاعلها مثلها. وهذا تشبيه باطل لتباين الحالين (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) يريد أن الأمهات على الحقيقة إنما هنّ الوالدات وغيرهنّ ملحقات بهنّ لدخولهنّ في حكمهنّ ، فالمرضعات أمّهات ؛ لأنّهنّ

__________________

(١) هذه الرواية الثانية أخرجها الطبري من طريق أبى معشر عن محمد بن كعب القرظي قال : كانت خولة بنت ثعلبة تحت أوس بن الصامت. وكان رجلا به لمم. فقال في بعض هجراته : أنت على كظهر أمى ، قال : ما أظنك إلا قد حرمت على فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا نبى الله ، إن أوس بن الصامت أبو ولدى ، وأحب الناس إلى ، والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا قال : ما أراك إلا حرمت عليه ، فقالت : يا رسول الله لا تقل كذلك والله ما ذكر طلاقا. فراودت النبي صلى الله عليه وسلم مرارا ثم قالت : اللهم إنى أشكو إليك فاقتي ووحدتي وما يشق على من فراقه ـ الحديث» ومن طريق أبى العالية قال : فجعلت كلما قال لها : حرمت عليه ، هتفت وقالت : أشكو إلى الله ، فلم ترم مكانها حتى نزلت الآية.

٤٨٥

لما أرضعن دخلن بالرضاع في حكم الأمهات ، وكذلك أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين ، لأن الله حرّم نكاحهن على الأمة فدخلن بذلك في حكم الأمهات. وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة لأنهنّ لسن بأمّهات على الحقيقة. ولا بداخلات في حكم الأمهات ، فكان قول المظاهر : منكرا من القول تنكره الحقيقة وتنكره الأحكام الشرعية وزورا وكذبا باطلا منحرفا عن الحق (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) لما سلف منه إذا تيب عنه ولم يعد إليه ، ثم قال : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) يعنى : والذين كانت عادتهم أن يقولوا هذا القول (١) المنكر فقطعوه بالإسلام ، ثم يعودون لمثله ، فكفارة من عاد أن يحرّر رقبة ثم يماس المظاهر منها لا تحل له مماستها إلا بعد تقديم الكفارة. ووجه آخر : ثم يعودون لما قالوا : ثم يتداركون ما قالوا (٢) ، لأنّ المتدارك للأمر عائد إليه. ومنه المثل : عاد غيث على ما أفسد ، أى : تداركه بالإصلاح. والمعنى : أن تدارك هذا القول وتلافيه بأن يكفر حتى ترجع حالهما كما كانت قبل الظهار. ووجه ثالث : وهو أن يراد بما قالوا : ما حرّموه (٣)

__________________

(١) قال محمود : «يعنى والذين كانت عادتهم أن يقولوا هذا القول ... الخ» قال أحمد : وهذا الوجه يلزم الكفارة لمجرد قول الظهار في الإسلام لا غير ، والقول بوجوبها بمجرد الظهار : قول مجاهد من التابعين وسفيان من الفقهاء.

(٢) قال محمود : «ووجه ثان ثم يعودون لما قالوا ثم يتداركون ما قالوا ... الخ» قال أحمد : وهذا التفسير منزل على أن وجوب الكفارة مشروط بالعود بعد الظهار وهو القول المشهور لفقهاء الأمصار ولا يخص هذا التفسير وجها من وجوه العود التي ذكرها العلماء.

(٣) قال محمود : «ووجه ثالث : وهو أن يكون المراد بما قالوه ... الخ» قال أحمد : وهذا التفسير يقوى القول بأن العود الوطء. نفسه ، لأن حاصله : ثم يعودون للوطء ، وظاهر قولك : عاد الوطء. فعله ، وحمل العود على الوطء : من جملة أقوال مالك رحمه الله ، فقد تلخص أن كلام المختلفين في العود له مآخذ من هذه الآية ، فأما من لم يقف وجوب الكفارة عنده إلا على مجرد الظهار ، فحمل العود على الظهار ، وتسميته عودا والحالة هذه باعتبار أنه كان في الجاهلية وانقطع في الإسلام ، فايقاعه بعد الإسلام عود إليه. وأما من أوقفها على العود وجعل العود أن يعيد لفظ الظهار وهو قول داود فاعتبر ظاهر اللفظ ، وأما من حمل العود على العزم على الوطء فرأى أن العود إلى القول الأول عود بالتدارك لا بالتكرار ، وتدارك بعضه ببعضه ، وهل نقيضه العزم على الوطء لأن الأول امتناع منه أو العزم على الإمساك ، لأن العصمة تقتضي الحل وعدم الامتناع ، فيكفى محل خلاف. وأما من حمله على الوطء نفسه فرأى أن المراد بالقول المقول فيه ، ويحمل قوله (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أى مرة ثانية. وقد اختلف العلماء أيضا فيما إذا قدم الوطء على الكفارة ، فالمذهب المشهور للعلماء أن ذلك لا يسقط الكفارة ولا يوجب أخرى.

وذهب مجاهد إلى إيجاب أخرى به ، وذهبت طائفة إلى إسقاط الكفارة به أصلا ورأسا ، وكأن منشأ خلافهم النظر إلى قوله (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) فرآه أكثر العلماء منعا من الوطء قبل التكفير ، حتى كأنه قال : لا تماس حتى تكفر ، ورأته الطائفة المسقطة للكفارة بالوطء شرطا في الوجوب ، فلا جرم إذا مسها ، فقد فقد الشرط الذي هو عدم التماس فسقط الوجوب. ورآه مجاهد في إيجاب الكفارة ، فإذا تماسا قبل الكفارة تعددت ، ثم فيه نظر آخر : وهو أنه ذكر عدم التماس في كفارتى العتق والصوم ، وأسقطه في كفارة الإطعام ، فتلقى أبو حنيفة بذلك الفرق بين الإطعام وبين الأخريين ، حتى أنه لو وطئ في حال الإطعام لم يجب عليه استئناف كفارة ، بخلاف

٤٨٦

على أنفسهم بلفظ الظهار ، تنزيلا للقول منزلة المقول فيه نحو ما ذكرنا في قوله تعالى (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) ويكون المعنى : ثم يريدون العود للتماس. والمماسة : الاستمتاع بها من جماع ، أو لمس بشهوة ، أو نظر إلى فرجها لشهوة (١) (ذلِكُمْ) الحكم (تُوعَظُونَ بِهِ) لأن الحكم بالكفارة دليل على ارتكاب الجناية ، فيجب أن تتعظوا بهذا الحكم حتى لا تعودوا إلى الظهار وتخافوا عقاب الله عليه. فإن قلت : هل يصح الظهار بغير هذا اللفظ؟ قلت : نعم إذا وضع مكان أنت عضوا منها يعبر به عن الجملة كالرأس والوجه والرقبة والفرج ، أو مكان الظهر عضوا آخر يحرم النظر إليه من الأم كالبطن والفخذ. ومكان الأمّ ذات رحم محرم منه من نسب أو رضاع أو صهر أو جماع ، نحو أن يقول : أنت علىّ كظهر أختى من الرضاع

__________________

ـ الأخريين فان الوطء في خلال كل واحدة منهما يوجب إبطالها واستئناف أخرى ، على أن أبا حنيفة سوى بين الثلاث في تحريم المساس قبل حصولها كاملة ، كذا نقل الزمخشري عنه. ولقائل أن يقول على أبى حنيفة : إذا جعلت الفائدة في ذكر عدم التماس في بعضها وإسقاطه من بعضها الفرق بين أنواعها ، فلم صرفت الفرق إلى أحد الحكمين وهو إيجاب الاستئناف بالوطء في خلال الكفارة في بعضها دون البعض دون الحكم الآخر وهو تحريم التماس قبل الشروع في الكفارة ، فما تخصيص أحد الحكمين دون الآخر إلا نوع من التحكم. وله أن يقول : اتفقنا على التسوية فيه فتعين صرفه إلى الآخر هذا منتهى النظر مع أبى حنيفة ، ورأى القائلون بأن الطعام يبطل بتخلل الوطء في أثنائه كالصيام : أن فائدة ذكره عدم المماسة ، ثم إسقاطه للتنبيه على التسوية بين التكفير قبل وبعد. وتقريره : أن ذكره مع الاثنين كذكره مع الثالث ، وإطلاق الثالث كاطلاق الاثنين ، فكأنه قال في الجميع : من قبل أن يتماسا ومن بعد. وانطوى إيراد الآية على هذا الوجه على إبطال قول من قال : إن الأمر يختلف بين ما قبل التماس وما بعده فيجب قبل ويسقط بعد ، وعلى قول من قال : يجب قبل كفارة وبعد كفارتان ، وهاهنا نظر آخر : في أنه لم ذكر عدم التماس مع نوعين منها ، وقد كان ذكره مع واحد منها مفيدا لهذه الفائدة على التقرير المذكور. والجواب عنه : أن ذكره مع العتق مقتصر على إفادة تحريم الوطء قبل العتق ، ولا يتصور في العتق الوطء في أثنائه ، إذ لا يتبعض ولا يتفرق ، فاحتيج إلى ذكره مع الصيام الواقع على التوالي ليفيد تحريم الوطء قبل الشروع قيه وبعد الشروع إلى التمام ، إذ لو لم يذكره هنا لتوهم أن الوطء إنما يحرم قبل الشروع خاصة لا بعد ، لأنها هي الحالة التي دل عليها التقييد في العتق ، فلما ذكره مع الصيام الواقع متواليا : استغنى عن ذكره مع الطعام لأنه مثله في التعدد والتوالي وإمكان الوطء في خلاله ، وهذا التقرير منزل على أن العتق لا يتجزأ ولا يتبعض ، وهذا هو المرضى. وقد نفل العيني عن ابن القاسم أن من أعتق شقصا من عبد يملك جميعه ثم أعتق بقيته عن الظهار : أن ذلك يجزيه ، وهو خلاف أصله في المدونة ، وعابه عليه أصبغ وسحنون وابنه. «تنبيه» إن قال قائل بارتفاع التحريم بالكفارة لا يخلو ، إما أن يكون مشروطا فيلزم أن لا يرتفع التحريم بالكفارة التي تقدم على الشروع فيها مساس ، وإن لم يكن مشروطا لزم ارتفاع التحريم بالكفارة التي تخللها المساس ، وكلاهما غير مقول به عندكم ، فالجواب : أن المساس مناف لصحة الكفارة واعتبارها في رفع التحريم ، فإن وقع قبل الشروع في الكفارة تعذر الحكم ببطلان الكفارة ، لأن المحل لم يوجد ، وتعذر ذلك لا يبطل الحكم ككونه منافيا : أما إن وقع في أثنائها : فالمحل المحكوم فيه بعدم الصحة قائم ، فوجب إعمال المنافى ، وهذا كالحدث مناف لصحة الصلاة ، فان وقع في أثنائها أثر في إبطالها ، والله تعالى الموفق للصواب.

(١) قوله «أو نظر إلى فرجها لشهوة» عبارة التسفى بشهوة. (ع)

٤٨٧

أو عمتي من النسب أو امرأة ابني أو أبى أو أمّ امرأتى أو بنتها ، فهو مظاهر. وهو مذهب أبى حنيفة وأصحابه. وعن الحسن والنخعي والزهري والأوزاعى والثوري وغيرهم نحوه. وقال الشافعي : لا يكون الظهار إلا بالأمّ وحدها وهو قول قتادة والشعبي. وعن الشعبي : لم ينس الله أن يذكر البنات والأخوات والعمات والخالات ، إذ أخبر أن الظهار انما يكون بالأمّهات الوالدات دون المرضعات. وعن بعضهم : لا بد من ذكر الظهر حتى يكون ظهارا. فإن قلت : فإذا امتنع المظاهر من الكفارة ، هل للمرأة أن ترافعه؟ قلت : لها ذلك. وعلى القاضي أن يجبره على أن يكفر ، وأن يحبسه ، ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها ، لأنه يضرّبها في ترك التكفير والامتناع من الاستمتاع ، فيلزم إيفاء حقها. فإن قلت : فإن مسّ قبل أن يكفر؟ قلت : عليه أن يستغفر ولا يعود حتى يكفر ، لما روى أن سلمة بن صخر البياضي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ظاهرت من امرأتى ثم أبصرت خلخالها في ليلة قمراء فواقعتها ، فقال عليه الصلاة والسلام : «استغفر ربك ولا تعد حتى تكفر» (١) فإن قلت : أى رقبة تجزئ في كفارة الظهار؟ قلت : المسلمة والكافرة جميعا ، لأنها في الآية مطلقة. وعند الشافعي لا تجزى إلا المؤمنة. لقوله تعالى في كفارة القتل (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) ولا تجزى أمّ الولد والمدبر والمكاتب الذي أدّى شيئا ، فإن لم يؤدّ شيئا جاز. وعند الشافعي : لا يجوز : فإن قلت : فإن أعتق بعض الرقبة أو صام بعض الصيام ثم مس؟ قلت : عليه أن يستأنف ـ نهارا مس ـ أو ليلا ـ ناسيا أو عامدا ـ عند أبى حنيفة ، وعند أبى يوسف ومحمد : عتق بعض الرقبة عتق كلها فيجزيه ، وإن كان المسّ يفسد الصوم استقبل ، وإلا بنى. فإن قلت : كم يعطى المسكين في الإطعام؟ قلت : نصف صاع من برّ أو صاعا من غيره عند أبى حنيفة ، وعند الشافعي مدّا من طعام بلده الذي يقتات فيه. فإن قلت : ما بال التماس لم يذكر عند الكفارة بالإطعام كما ذكر عند الكفارتين؟ قلت : اختلف في ذلك ، فعند أبى حنيفة : أنه لا فرق بين الكفارات الثلاث في وجوب تقديمها على المساس ، وإنما ترك ذكره عند الإطعام دلالة على أنه إذا وجد في خلال الإطعام لم يستأنف كما يستأنف الصوم إذا وقع في خلاله. وعند غيره : لم يذكر للدلالة على أن

__________________

(١) لم أره بهذا اللفظ وهو في السنن الأربعة من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس «أن رجلا ظاهر من امرأته ، ثم واقعها قبل أن يكفر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : ما حملك على ما صنعت؟ قال : رأيت بياض ساقها في القمر. قال : فاعتزلها حتى تكفر عنك» وللترمذي «قال : رأيت خلخالها في القمر. قال : فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله» أخرجوه من رواية الفضل بن موسى عن معمر عنه موصولا ، وأبو داود والنسائي من رواية عبد الرزاق عن معمر مرسلا. قال النسائي : هذا أولى بالصواب ولأبى داود والترمذي من حديث سلمة بن صخر بن البياضي قال : كنت امرأ أستكثر من النساء. فذكر القصة مطولة ، وليس فيها «استغفر الله» إلى آخره.

٤٨٨

التكفير قبله وبعده سواء. فإن قلت : الضمير في أن يتماسا إلام يرجع؟ قلت : إلى ما دلّ عليه الكلام من المظاهر والمظاهر منها (ذلِكَ) البيان والتعليم للأحكام والتنبيه عليها لتصدقوا (بِاللهِ وَرَسُولِهِ) في العمل بشرائعه التي شرعها من الظهار وغيره ، ورفض ما كنتم عليه في جاهليتكم (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) التي لا يجوز تعدّيها (وَلِلْكافِرِينَ) الذين لا يتبعونها ولا يعملون عليها (عَذابٌ أَلِيمٌ).

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(٦)

(يُحَادُّونَ) يعادون ويشاقون (كُبِتُوا) أخزوا وأهلكوا (كَما كُبِتَ) من قبلهم من أعداء الرسل. قيل : أريد كبتهم يوم الخندق (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به (وَلِلْكافِرِينَ) بهذه الآيات (عَذابٌ مُهِينٌ) يذهب بعزهم وكبرهم (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ) منصوب بلهم. أو بمهين. أو بإضمار اذكر تعظيما لليوم (جَمِيعاً) كلهم لا يترك منهم أحد غير مبعوث. أو مجتمعين في حال واحدة ، كما تقول : حى جميع (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) تخجيلا لهم وتوبيخا وتشهيرا بحالهم ، يتمنون عنده المسارعة بهم إلى النار ، لما يلحقهم من الخزي على رؤوس الأشهاد (أَحْصاهُ اللهُ) أحاط به عددا لم يفته منه شيء (وَنَسُوهُ) لأنهم تهاونوا به حين ارتكبوه لم يبالوا به لضراوتهم بالمعاصي ، وإنما تحفظ معظمات الأمور.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٧)

(ما يَكُونُ) من كان التامة. وقرئ بالياء والتاء ، والياء على أنّ النجوى تأنيثها غير حقيقى ومن فاصلة. أو على أنّ المعنى ما يكون شيء من النجوى. والنجوى : التناجي ، فلا تخلو إما أن تكون مضافة إلى ثلاثة ، أى : من نجوى ثلاثة نفر. أو موصوفة بها ، أى : من أهل نجوى ثلاثة ، فحذف الأهل. أو جعلوا نجوى في أنفسهم مبالغة ، كقوله تعالى : خلصوا نجيا. وقرأ ابن أبى عيلة : ثلاثة وخمسة ، بالنصب على الحال بإضمار يتناجون ، لأن نجوى يدل عليه. أو

٤٨٩

على تأويل نجوى بمتناجين ، ونصبها من المستكن فيه. فإن قلت : ما الداعي إلى تخصيص الثلاثة والخمسة؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن قوما من المنافقين تحلقوا للتناجى مغايظة للمؤمنين على هذين العددين : ثلاثة وخمسة ، فقيل : ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة كما ترونهم يتناجون كذلك (وَلا أَدْنى مِنْ) عدديهم (وَلا أَكْثَرَ إِلَّا) والله معهم يسمع ما يقولون ، فقد روى عن ابن عباس رضى الله عنه : أنها نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية : كانوا يوما يتحدثون ، فقال أحدهم : أترى أن الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر : يعلم بعضا ولا يعلم بعضا. وقال الثالث : إن كان يعلم بعضا فهو يعلم كله ، وصدق. لأن من علم بعض الأشياء بغير سبب فقد علمها كلها لأن كونه عالما بغير سبب ثابت له مع كل معلوم ، والثاني : أنه قصد أن يذكر ما جرت عليه العادة من أعداد أهل النجوى والمتخالين للشورى والمندبون (١) لذلك ليسوا بكل أحد وإنما هم طائفة مجتباة من أولى النهى والأحلام ، ورهط من أهل الرأى والتجارب ، وأول عددهم الاثنان فصاعدا إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال وحكم الاستصواب. ألا ترى إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه كيف ترك الأمر شورى بين ستة ولم يتجاوز بها إلى سابع ، فذكر عز وعلا الثلاثة والخمسة وقال (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ) فدلّ على الاثنين والأربعة وقال (وَلا أَكْثَرَ) فدلّ على ما يلي هذا العدد ويقاربه. وفي مصحف عبد الله : إلا الله رابعهم ، ولا أربعة إلا الله خامسهم ، ولا خمسة إلا الله سادسهم ، ولا أقل من ذلك ولا أكثر إلا الله معهم إذا انتجوا. وقرئ : ولا أدنى من ذلك ولا أكثر ، بالنصب على أن لا لنفى الجنس. ويجوز أن يكون : ولا أكثر ، بالرفع معطوفا على محل (لا) مع أدنى ، كقولك : لا حول ولا قوّة إلا بالله ، بفتح الحول ورفع القوّة. ويجوز أن يكونا مرفوعين على الابتداء ، كقولك : لا حول ولا قوّة إلا بالله ، وأن يكون ارتفاعهما عطفا على محل (مِنْ نَجْوى) كأنه قيل : ما يكون أدنى ولا أكثر إلا هو معهم. ويجوز أن يكونا مجرورين (٢) عطفا على نجوى ، كأنه قيل : ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم. وقرئ : ولا أكبر ، بالباء. ومعنى كونه معهم : أنه يعلم ما يتناجون به ولا يخفى عليه ما هم فيه ، فكأنه مشاهدهم ومحاضرهم ، وقد تعالى عن المكان والمشاهدة. وقرئ : ثم ينبئهم ، على التخفيف.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ

__________________

(١) قوله «والمندبون لذلك» لعل أصله ، المنتدبون ، فأدغم. (ع)

(٢) قوله «ويجوز أن يكونا مجرورين» على قراءة (أَكْثَرَ) بفتح الراء. (ع)

٤٩٠

وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٨)

كانت اليهود والمنافقون يتناجون فيما بينهم ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين ، يريدون أن يغيظوهم ، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعادوا لمثل فعلهم ، وكان تناجيهم بما هو إثم وعدوان للمؤمنين وتواص بمعصية الرسول ومخالفته. وقرئ : ينتجون بالإثم والعدوان ، بكسر العين ، ومعصيات الرسول (حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) يعنى أنهم يقولون في تحيتك : السام عليك يا محمد ؛ والسام : الموت ، والله تعالى يقول (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) و (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) و (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) : (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) كانوا يقولون : ما له إن كان نبيا لا يدعو علينا حتى يعذبنا الله بما نقول ، فقال الله تعالى (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) عذابا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(١٠)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب للمنافقين الذين آمنوا بألسنتهم. ويجوز أن يكون للمؤمنين ، أى : إذا تناجيتم فلا تتشبهوا بأولئك في تناجيهم بالشر (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون صاحبهما فإنّ ذلك يحزنه» (١) وروى «دون الثالث». وقرئ فلا تناجوا. وعن ابن مسعود : إذا انتجيتم فلا تنتجوا (إِنَّمَا النَّجْوى) اللام إشارة إلى النجوى بالإثم والعدوان ، بدليل قوله تعالى (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) والمعنى : أنّ الشيطان يزينها لهم ، فكأنها منه ليغيظ الذين آمنوا ويحزنهم (وَلَيْسَ) الشيطان أو الحزن (بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ). فإن قلت : كيف لا يضرهم الشيطان أو الحزن إلا بإذن الله؟ قلت : كانوا يوهمون المؤمنين في نجواهم وتغامزهم أن غزاتهم غلبوا وأنّ أقاربهم قتلوا ، فقال : لا يضرهم الشيطان أو الحزن بذلك الموهم إلا بإذن الله ، أى : بمشيئته ، وهو أن يقضى الموت على أقاربهم أو الغلبة على الغزاة. وقرئ : ليحزن ، وليحزن.

__________________

(١) متفق عليه وهذا اللفظ لمسلم من حديث ابن مسعود. وقوله : «وروى دون الثالث» هذا اللفظ البخاري «فائدة» أخرج البزار من حديث ابن عمر نحوه ـ وزاد «إلا باذنه» قلت : فان كانوا أربعة؟ قال : لا بأس به».

٤٩١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(١١)

(تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) توسعوا فيه وليفسح بعضكم عن بعض ، من قولهم : أفسح عنى ، أى : تنح ، ولا تتضامّوا. وقرئ : تفاسحوا. والمراد : مجلس رسول الله ، وكانوا يتضامّون فيه تنافسا على القرب منه ، وحرصا على استماع كلامه. وقيل : هو المجلس من مجالس القتال ، وهي مراكز الغزاة ، كقوله تعالى (مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) وقرئ : في المجالس. قيل : كان الرجل يأتى الصف فيقول : تفسحوا ، فيأبون لحرصهم على الشهادة. وقرئ : في المجلس ـ بفتح اللام : وهو الجلوس ، أى : توسعوا في جلوسكم ولا تتضايقوا فيه (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) مطلق في كل ما يبتغى الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر وغير ذلك (انْشُزُوا) انهضوا للتوسعة على المقبلين. أو انهضوا عن مجلس رسول الله إذا أمرتم بالنهوض عنه ، ولا تملوا رسول الله بالارتكاز فيه : أو انهضوا إلى الصلاة والجهاد وأعمال الخير إذا استنهضتم ، ولا تثبطوا ولا تفرطوا (يَرْفَعِ اللهُ) المؤمنين بامتثال أوامره وأوامر رسوله ، والعالمين منهم خاصة (١) (دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) قرئ بالتاء والياء. عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه : أنه كان إذا قرأها قال يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر (٢) سبعين سنة (٣). وعنه عليه السلام «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» (٤) وعنه

__________________

(١) قال محمود : «فيه تعميم ثم تخصيص للعلماء ... الخ» قال أحمد : في الجزاء برفع الدرجات هاهنا مناسبة العمل لأن المأمور به تفسيح المجلس كيلا يتنافسوا في القرب من المكان الرفيع حوله عليه الصلاة والسلام فيتضايقوا ، فلما كان الممتثل لذلك يخفض نفسه عما يتنافس فيه من الرفعة امتثالا وتواضعا : جوزي على تواضعه برفع الدرجات كقوله : «من تواضع لله رفعه الله» ، ثم لما علم أن أهل العلم بحيث يستوجبون عند أنفسهم وعند الناس ارتفاع مجالسهم ، خصهم بالذكر عند الجزاء ليسهل عليهم ترك ما لهم من الرفعة في المجلس تواضعا لله تعالى.

(٢) قوله «حضر الجواد المضمر» الذي في الصحاح : أحضر الفرس إحضارا ، واحتضر : أى عدا ، واستحضرته : أعديته ، وفرس محضير : أى كثير العدو اه (ع)

(٣) أخرجه أبو يعلى وابن عدى من رواية عبد الله بن محزر عن الزهري عن أبى سلمة عن أبى هريرة ، وعبد الله ابن محرز ـ بمهملات ـ : ساقط الحديث ، وذكر ابن عبد البر في العلم أن ابن عون رواه عن ابن سيرين عن أبى هريرة ، فينظر من خرجه. وفي الباب عن ابن عمرو بن العاص في الترغيب للأصبهانى.

(٤) أخرجه أصحاب السنن الأربعة من حديث أبى الدرداء رضى الله عنه.

٤٩٢

عليه السلام «يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء» (١) فأعظم بمرتبة هي واسطة بين النبوّة والشهادة بشهادة رسول الله. وعن ابن عباس : خير سليمان بين العلم والمال والملك ، فاختار العلم فأعطى المال والملك معه (٢). وقال عليه السلام «أوحى الله إلى إبراهيم. يا إبراهيم ، إنى عليم أحب كل عليم» (٣) وعن بعض الحكماء : ليت شعري أى شيء أدرك من فاته العلم ، وأى شيء فات من أدرك العلم. وعن الأحنف : كاد العلماء يكونون أربابا ، وكل عز لم يوطد (٤) بعلم فإلى ذل مّا يصير. وعن الزبيري (٥) العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكورة الرجال.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(١٣)

(بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ) استعارة ممن له يدان. والمعنى : قبل نجواكم كقول عمر : من أفضل ما أوتيت العرب الشعر ، يقدّمه الرجل أمام حاجته فيستمطر به الكريم ويستنزل به (٦) اللئيم ، يريد : قبل حاجته (ذلِكَ) التقديم (خَيْرٌ لَكُمْ) في دينكم (وَأَطْهَرُ) لأنّ الصدقة طهرة. روى أن الناس أكثروا مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريدون حتى أملوه وأبرموه (٧) ، فأريد أن يكفوا عن ذلك ، فأمروا بأن من أراد أن يناجيه قدّم قبل مناجاته صدقة. قال على رضى الله عنه : لما نزلت دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما تقول في دينار؟

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة وأبو يعلى وابن عدى والعقيل والبيهقي في الشعب من حديث عثمان. وفيه عنبسة بن عبد الرحمن القرشي ، وهو متروك.

(٢) ذكره صاحب الفردوس هكذا ، وذكره قبله ابن عبد البر في كتاب العلم بلا إسناد.

(٣) أخرجه ابن عبد البر في العلم قال : روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ فذكره بغير إسناد.

(٤) قوله «وكل عز لم يوطد بعلم» في الصحاح : وطدت الشيء ، أى : أثبته وثقلته. (ع)

(٥) قوله «وعن الزبيري : العلم ذكر» قوله الزبيري : هو أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير مولى لبنى أسد ، وليس من ولد الزبير بن العوام ، كذا في الهداية والإرشاد اه من هامش. (ع)

(٦) لم أجده.

(٧) قوله «حتى أملوه وأبرموه» في الصحاح : أبرمه» أى : أمله وأضجره اه. (ع)

٤٩٣

قلت : لا يطيقونه. قال : كم؟ قلت : حبة أو شعيرة ، قال : إنك لزهيد. فلما رأوا ذلك : اشتدّ عليهم فارتدعوا وكفوا. أما الفقير فلعسرته ، وأما الغنىّ فلشحه (١). وقيل : كان ذلك عشر ليال ثم نسخ. وقيل : ما كان إلا ساعة من نهار. وعن على رضى الله عنه : إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي : كان لي دينار فصرفته ، فكنت إذا ناجيته تصدقت بدرهم (٢). قال الكلبي : تصدق به في عشر كلمات سألهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم (٣). وعن ابن عمر : كان لعلىّ ثلاث : لو كانت لي واحدة منهنّ كانت أحب إلىّ من حمر النعم : تزويجه فاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر ، وآية النجوى. قال ابن عباس : هي منسوخة بالآية التي بعدها ، وقيل : هي منسوخة بالزكاة (أَأَشْفَقْتُمْ) أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من الإنفاق الذي تكرهونه ، وأنّ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) ما أمرتم به وشق عليكم ، و (تابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) وعذركم ورخص لكم في أن لا تفعلوه ، فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات (بِما تَعْمَلُونَ) قرئ بالتاء والياء.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ

__________________

(١) قلت : هذا ملفق من حديثين. فمن قوله «قال على إنك لزهيد» أخرجه الترمذي وابن حبان وأبو يعلى والبزار من رواية علقمة الأنماري عن على به وأتم منه. وقال بعد قوله «إنك لزهيد : فنزلت أأشفقتم الآية» قال : فمتى خفف الله عن هذه الأمة» قال الترمذي : حسن غريب : إنما نعرفه من هذا الوجه. وقال البزار : لا يحفظ إلا عن على بهذا الاسناد. وأما أوله وآخره فأخرجه الطبري وابن مردويه من رواية على بن أبى طلحة عن ابن عباس في هذه الآية قال «إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه. فأراد الله أن يخفف عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، فلما قال ذلك ضن كثير من الناس بأموالهم ، فكف كثير من الناس عن المسألة. فأنزل الله تعالى بعد هذا (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) الآية فوسع الله عليهم.

(٢) أخرجه الحاكم من طريق عبد الرحمن بن أبى ليلى عن على به وأتم منه. وأخرجه ابن أبى شيبة من رواية ليث بن أبى سليم عن على بلفظ المصنف.

(٣) لم أجده.

٤٩٤

عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ)(١٩)

كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب الله عليهم في قوله تعالى (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) ويناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين (ما هُمْ مِنْكُمْ) يا مسلمون (وَلا مِنْهُمْ) ولا من اليهود ، كقوله تعالى (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ). (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) أى يقولون : والله إنا لمسلمون ، فيحلفون على الكذب الذي هو ادعاء الإسلام (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن المحلوف عليه كذب بحت. فإن قلت : فما فائدة قوله (وَهُمْ يَعْلَمُونَ)؟ قلت : الكذب : أن يكون الخبر لا على وفاق المخبر عنه ، سواء علم المخبر أو لم يعلم ، فالمعنى : أنهم الذين يخبرون وخبرهم خلاف ما يخبرون عنه ، وهم عالمون بذلك متعمدون له ، كمن يحلف بالغموس (١). وقيل : كان عبد الله بن نبتل المنافق يجالس رسول الله (٢) صلى الله عليه وسلم ، ثم يرفع حديثه إلى اليهود ، فبينا رسول الله في حجرة من حجره إذ قال لأصحابه : يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان ، فدخل ابن نبتل وكان أزرق ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «علام تشتمني أنت وأصحابك»؟ فحلف بالله ما فعل ، فقال عليه السلام : «فعلت» فانطلق فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما سبوه ، فنزلت (عَذاباً شَدِيداً) نوعا من العذاب متفاقما (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) يعنى أنهم كانوا في الزمان الماضي المتطاول على سوء العمل مصرين عليه. أو هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة. وقرئ : إيمانهم ، بالكسر ، أى : اتخذوا أيمانهم التي حلفوا بها. أو إيمانهم الذي أظهروه (جُنَّةً) أى سترة يتسترون بها من المؤمنين ومن قتلهم (فَصَدُّوا) الناس في خلال أمنهم وسلامتهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) وكانوا يثبطون من لقوا عن الدخول في الإسلام ويضعفون أمر المسلمين عندهم. وإنما وعدهم الله العذاب المهين المخزى لكفرهم وصدهم ، كقوله تعالى (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ). (مِنَ اللهِ) من عذاب الله (شَيْئاً) قليلا من الإغناء. وروى أنّ رجلا منهم قال :

__________________

(١) قوله «كمن يحلف بالغموس» في الصحاح : الأمر الغموس : الشديد. واليمين الغموس : التي تغمس صاحبها في الإثم. (ع)

(٢) لم أجده هكذا. وروى أحمد والبزار والطبراني والطبري وابن أبى حاتم والحاكم من رواية سماك عن ابن جبير عن ابن عباس قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل حجرة وقد كاد الظل أن يتقاص ، فقال : إنه سيأتيكم إنسان ، فينظر إليكم بعين شيطان. فإذا جاءكم فلا تكلموه. فلم يلبث أن طلع عليهم رجل أزرق أعور فقال حين رآه : علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فقال : ذرني آتيك بهم فانطلق فدعاهم فحلفوا ما قالوا وما فعلوا. فأنزل الله تعالى الآية» لفظ الحاكم.

٤٩٥

لننصرنّ يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا (فَيَحْلِفُونَ) لله تعالى على أنهم مسلمون في الآخرة (كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) في الدنيا على ذلك (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) من النفع ، يعنى : ليس العجب من حلفهم لكم ، فإنكم بشر تخفى عليكم السرائر ، وأن لهم نفعا في ذلك دفعا عن أرواحهم واستجرار فوائد دنيوية ، وأنهم يفعلونه في دار لا يضطرون فيها إلى علم ما يوعدون ، ولكن العجب من حلفهم لله عالم الغيب والشهادة مع عدم النفع والاضطرار إلى علم ما أنذرتهم الرسل ، والمراد : وصفهم بالتوغل في نفاقهم ومرونهم عليه ، وأن ذلك بعد موتهم وبعثهم باق فيهم لا يضمحل ، كما قال (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) وقد اختلف العلماء في كذبهم في الآخرة ، والقرآن ناطق بثباته نطقا مكشوفا. كما ترى في هذه الآية وفي قوله تعالى (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) ونحو حسبانهم أنهم على شيء من النفع إذا حلفوا استنظارهم المؤمنين ليقتبسوا من نورهم ، لحسبان أن الإيمان الظاهر مما ينفعهم. وقيل عند ذلك : يختم على أفواههم (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) يعنى أنهم الغاية التي لا مطمح وراءها في قول الكذب ، حيث استوت حالهم فيه في الدنيا والآخرة (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ) استولى عليهم. من حاذ الحمار العانة (١) إذا جمعها وساقها غالبا لها. ومنه : كان أحوذيا نسيج وحده ، وهو أحد ما جاء على الأصل ، نحو : استصوب واستنوق ، أى : ملكهم (الشَّيْطانُ) لطاعتهم له في كل ما يريده منهم ، حتى جعلهم رعيته وحزبه (فَأَنْساهُمْ) أن يذكروا الله أصلا لا بقلوبهم ولا بألسنتهم. قال أبو عبيدة : حزب الشيطان جنده.

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ)(٢٠)

(فِي الْأَذَلِّينَ) في جملة من هو أذل خلق الله لا ترى أحدا أذل منهم.

(كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)(٢١)

(كَتَبَ اللهُ) في اللوح (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) بالحجة والسيف. أو بأحدهما.

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

__________________

(١) قوله «العانة» هي القطيع من حمر الوحش ، كما في الصحاح. (ع)

٤٩٦

خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٢٢)

(لا تَجِدُ قَوْماً) من باب التخييل. خيل أن من الممتنع المحال : أن تجد قوما مؤمنين يوالون المشركين ، والغرض به أنه لا ينبغي أن يكون ذلك ، وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال ، مبالغة في النهى عنه والزجر عن ملابسته ، والتوصية بالتصلب في مجانية أعداء الله ومباعدتهم والاحتراس من مخالطتهم ومعاشرتهم ، وزاد ذلك تأكيدا وتشديدا بقوله (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ) وبقوله (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) وبمقابلة قوله (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ) بقوله (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) فلا تجد شيئا أدخل في الإخلاص من موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه ، بل هو الإخلاص بعينه (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أثبته فيها بما وفقهم فيه وشرح له صدورهم (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) بلطف من عنده حييت به قلوبهم. ويجوز أن يكون الضمير للإيمان ، أى : بروح من الإيمان ، على أنه في نفسه روح لحياة القلوب به. وعن الثوري أنه قال : كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان. وعن عبد العزيز بن أبى رواد : أنه لقيه المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلاها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان يقول : اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي نعمة ، (١) فإنى وجدت فيما أوحيت إلىّ : لا تجد قوما. وروى أنها نزلت في أبى بكر رضى الله عنه ، وذلك أنّ أبا قحافة سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصكه صكة سقط منها ، فقال له رسول الله «أو فعلته»؟ قال : نعم ، قال : «لا تعد» قال : والله لو كان السيف قريبا منى لقتلته (٢). وقيل في أبى عبيدة بن الجراح : قتل أباه عبد الله الجراح يوم أحد ، وفي أبى بكر : دعا ابنه يوم بدر إلى البراز ، وقال لرسول الله : دعني أكرّ في الرعلة (٣) الأولى ، قال : متعنا بنفسك يا أبا بكر ، أما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصرى (٤). وفي مصعب بن عمير : قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد. وفي عمر : قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر. وفي على وحمزة وعبيدة بن الحرث : قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله يوم القيامة» (٥)

__________________

(١) ذكره صاحب الفردوس من حديث معاذ. وأورده ابن مردويه من رواية جعفر الأحمر عن كثير بن عطية عن رجل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكر ولا لفاسق.

(٢) نقله الثعلبي عن ابن جريج قال «حدثت أن أبا قحافة ... فذكره.

(٣) قوله «دعني أكر في الرعلة» هي القطعة من الخيل ، كما في الصحاح. (ع)

(٤) هو في تفسير مقاتل بن حيان عن مرة الهمداني عن ابن مسعود ، وذكره الثعلبي عن تفسير مقاتل.

(٥) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبى بن كعب رضى الله عنه.

٤٩٧

سورة الحشر

مدنية ، وهي أربع وعشرون آية [نزلت بعد البينة]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ)(٢)

صالح بنو النضير رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له ، فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعته في التوراة لا ترد له راية ، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة فأمر عليه السلام محمد بن مسلمة الأنصارى فقتل كعبا غيلة وكان أخاه من الرضاعة ، ثم صبحهم بالكتائب وهو على حمار مخطوم بليف فقال لهم : اخرجوا من المدينة ، فقالوا : الموت أحب إلينا من ذاك ، فتنادوا بالحرب (١). وقيل : استمهلوا رسول الله عشرة أيام ليتجهزوا للخروج ، فدس عبد الله بن أبى المنافق وأصحابه إليهم : لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم ، ولئن خرجتم لنخرجنّ معكم ، فدربوا على الأزقة (٢) وحصنوها فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة ، فلما قذف الله الرعب في قلوبهم وأيسوا من نصر المنافقين : طلبوا الصلح ، فأبى عليهم إلا الجلاء ، على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم فجلوا إلى الشام إلى أريحا وأذرعات ، إلا أهل بيتين منهم : آل

__________________

(١) لم أجد له إسنادا ، بل ذكره الثعلبي هكذا بغير سند.

(٢) قوله «فدربوا على الأزقة «أى ضيقوا أفواهها بالخشب والحجارة كما يؤخذ مما سيأتى في تخريبهم بيوتهم بأيديهم. وفي الصحاح «الدرب» : المضيق في الجبل. (ع)

٤٩٨

أبى الحقيق وآل حيي بن أخطب ، فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة. اللام في (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) تتعلق بأخرج ، وهي اللام في قوله تعالى (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) (١) وقولك : جئته لوقت كذا. والمعنى : أخرج الذين كفروا عند أوّل الحشر. ومعنى أوّل الحشر : أن هذا أوّل حشرهم إلى الشأم ، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط ، وهم أوّل من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام. أو هذا أوّل حشرهم ، وآخر حشرهم : إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام. وقيل : آخر حشرهم حشر يوم القيامة ، لأنّ المحشر يكون بالشام. وعن عكرمة : من شك أنّ المحشر هاهنا ـ يعنى الشام ـ فليقرأ هذه الآية. وقيل : معناه أخرجهم من ديارهم لأوّل ما حشر لقتالهم ؛ لأنه أوّل قتال قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) لشدة بأسهم ومنعتهم ، ووثاقة حصونهم ، وكثرة عددهم وعدتهم ، وظنوا أنّ حصونهم تمنعهم من بأس الله (فَأَتاهُمُ) أمر الله (مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) من حيث لم يظنوا ولم يخطر ببالهم : وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف غرّة على يد أخيه ، وذلك مما أضعف قوتهم وفل من شوكتهم ، وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة بما قذف فيها من الرعب ، وألهمهم أن يوافقوا المؤمنين في تخريب بيوتهم ويعينوا على أنفسهم ، وثبط المنافقين الذين كانوا يتولونهم عن مظاهرتهم. وهذا كله لم يكن في حسبانهم. ومنه أتاهم الهلاك. فإن قلت : أى فرق بين قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو ما نعتهم ، وبين النظم الذي جاء عليه؟ قلت : في تقديم الخبر على المبتدإ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم ، وفي تصيير ضميرهم اسما لأن وإسناد الجملة إليه : دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالى معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم (٢) ، وليس ذلك في قولك : وظنوا أنّ حصونهم تمنعهم. وقرئ : فمآتاهم الله ، أى : فمآتاهم الهلاك. والرعب : الخوف الذي يرعب الصدر ، أى يملؤه ، وقذفه : إثباته وركزه. ومنه قالوا في صفة الأسد : مقذف ، كأنما قذف باللحم قذفا لا كتنازه وتداخل أجزائه. وقرئ : يخرّبون ويخربون ، مثقلا ومخففا. والتخريب والإخراب : الإفساد بالنقض والهدم. والخرية : الفساد ، كانوا يخربون بواطنها والمسلمون ظواهرها : لما أراد الله من استئصال شأفتهم (٣) وأن لا يبقى لهم بالمدينة دار ولا منهم ديار ، والذي دعاهم إلى التخريب : حاجتهم إلى الخشب والحجارة

__________________

(١) قال محمود : «اللام في قوله (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) كاللام في قوله (قَدَّمْتُ لِحَياتِي) قال أحمد : كأنه يريد أنها اللام التي تصحب التاريخ ، كقوله : كتبت لعام كذا ولشهر كذا.

(٢) قوله «أو يطمع في معازتهم» أى مغالبتهم ، كما في الصحاح. (ع)

(٣) قوله «من استئصال شأفتهم» في الصحاح «الشأفة» : قرحة تخرج من أسفل القدم فتكوى فتذهب ، يقال في المثل : استأصل الله شأفته ، أى : أذهبه الله كما أذهب تلك القرحة بالكي اه. (ع)

٤٩٩

ليسدّوا بها أفواه الأزقة. وأن لا يتحسروا بعد جلائهم على بقائها مساكن للمسلمين ، وأن ينقلوا معهم ما كان في أبنيتهم من جسد الخشب والساج المليح. وأما المؤمنون فداعيهم إزالة متحصنهم ومتمنعهم ، وأن يتسع لهم مجال الحرب. فإن قلت : ما معنى تخريبهم لها بأيدى المؤمنين؟ قلت : لما عرضوهم لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوهم إياه (فَاعْتَبِرُوا) بما دبر الله ويسر من أمر إخراجهم وتسليط المسلمين عليهم من غير قتال. وقيل : وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يورثهم الله أرضهم وأموالهم بغير قتال ، فكان كما قال.

(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٤)

يعنى : أنّ الله قد عزم على تطهير أرض المدينة منهم وإراحة المسلمين من جوارهم وتوريثهم أموالهم ، فلو لا أنه كتب عليهم الجلاء واقتضته حكمته ودعاه إلى اختياره أنه أشق عليهم من الموت (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بالقتل كما فعل بإخوانهم بنى قريظة (وَلَهُمْ) سواء أجلوا أو قتلوا (عَذابُ النَّارِ) يعنى : إن نجوا من عذاب الدنيا لم ينجوا من عذاب الآخرة.

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ)(٥)

(مِنْ لِينَةٍ) بيان لما قطعتم. ومحل (ما) نصب بقطعتم ، كأنه قال : أى شيء قطعتم ، وأنث الضمير الراجع إلى ما في قوله (أَوْ تَرَكْتُمُوها) لأنه في معنى اللينة. واللينة : النخلة من الألوان ، ضروب النخل ما خلا العجوة (١) والبرنية ، وهما أجود النخيل ، وياؤها عن واو ، قلبت لكسرة ما قبلها ، كالديمة. وقيل : «اللينة» النخلة الكريمة ، كأنهم اشتقوها من اللين. قال ذو الرمّة :

__________________

(١) ذكر الزمخشري فيه تفسيرين أحدهما أنه النخل ما عدا العجوة والبرني وهما خير النخل ... الخ. قال أحمد : والظاهر أن الاذن عام في القطع والترك ، لأنه جواب الشرط المضمر لهما جميعا ويكون التعليل باجزاء الفاسقين لهما جيعا ، وأن القطع يحسرهم على ذهابها والترك يحسرهم على بقائها للمسلمين ينتفعون بها ، فهم في حسرتين من الأمرين جميعا.

٥٠٠