الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

الجنة ومن شاء أدخله النار (بِما قَدَّمَ) من عمل عمله (وَ) بما (أَخَّرَ) منه لم يعمله أو بما قدم من ماله فتصدق به ، أو بما أخره فخلفه. وبما قدم من عمل الخير والشر ، وبما أخر من سنة حسنة أو سيئة فعمل بها بعده. وعن مجاهد : بأوّل عمله وآخره. ونحوه : فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه (بَصِيرَةٌ) حجة بينة وصفت بالبصارة على المجاز ، كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً) أو عين بصيرة. والمعنى أنه ينبأ بأعماله وإن لم ينبأ ، ففيه ما يجزئ عن الإنباء ، لأنه شاهد عليها بما عملت ، لأنّ جوارحه تنطق بذلك (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه ويجادل عنها. وعن الضحاك : ولو أرخى ستوره ، وقال : المعاذير الستور ، واحدها معذار ، فإن صح فلأنه يمنع رؤية المحتجب ، كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب. فإن قلت : أليس قياس المعذرة أن تجمع معاذر لا معاذير؟ قلت : المعاذير ليس بجمع معذرة ، إنما هو اسم جمع لها ، ونحوه : المناكير في المنكر.

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ)(٢٥)

الضمير في (بِهِ) للقرآن ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقن الوحى نازع جبريل القراءة ، ولم يصبر إلى أن يتمها ، مسارعة إلى الحفظ وخوفا من أن يتفلت منه ، فأمر بأن يستنصت له ملقيا إليه بقلبه وسمعه ، حتى يقضى إليه وحيه ، ثم يقفيه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه. والمعنى : لا تحرّك لسانك بقراءة الوحى ما دام جبريل صلوات الله عليه يقرأ (لِتَعْجَلَ بِهِ) لتأخذه على عجلة ، ولئلا يتفلت منك. ثم علل النهى عن العجلة بقوله (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) في صدرك وإثبات قراءته في لسانك (فَإِذا قَرَأْناهُ) جعل قراءة جبريل قراءته : والقرآن : القراءة (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) فكن مقفيا له فيه ولا تراسله ، وطأ من نفسك أنه لا يبقى غير محفوظ ، فنحن في ضمان تحفيظه (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) إذا أشكل عليك شيء من معانيه ، كأنه كان يعجل في الحفظ والسؤال عن المعنى جميعا ، كما ترى بعض الحراص على العلم ، ونحوه (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) ، (كَلَّا) ردع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن عادة العجلة وإنكار لها عليه ، وحث على الأناة والتؤدة ، وقد بالغ في ذلك بإتباعه قوله (بَلْ تُحِبُّونَ

٦٦١

الْعاجِلَةَ) كأنه قال : بل أنتم يا بنى آدم لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء ، ومن ثم تحبون العاجلة (وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) وقرئ بالياء وهو أبلغ. فإن قلت : كيف اتصل قوله (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) إلى آخره ، بذكر القيامة؟ قلت : اتصاله به من جهة هذا للتخلص منه ، إلى التوبيخ بحب العاجلة وترك الاهتمام بالآخرة. الوجه : عبارة عن الجملة (١). والناضرة : من نضرة النعيم (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) تنظر إلى ربها خاصة لا تنظر إلى غيره ، وهذا معنى تقديم المفعول. ألا ترى إلى قوله (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) ، (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) ، (إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) ، (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) ، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ، (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) كيف دلّ فيها التقديم على معنى الاختصاص ، ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ولا تدخل تحت العدد في محشر يجتمع فيه الخلائق كلهم ، فإنّ المؤمنين نظارة ذلك اليوم لأنهم الآمنون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظورا (٢) إليه : محال ، فوجب حمله على معنى يصح معه الاختصاص ، والذي يصح معه أن يكون من قول الناس : أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بى ، تريد معنى التوقع والرجاء. ومنه قول القائل :

وإذا نظرت إليك من ملك

والبحر دونك زدتني نعما (٣)

وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ، ويأوون إلى مقائلهم. تقول : عيينتى نويظرة إلى الله وإليكم ، والمعنى : أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم ، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه ، والباسر : الشديد العبوس ، والباسل : أشد

__________________

(١) قال محمود : «الوجوه كناية عن الجملة ، وقدم إلى ربها ليفيد الحصر ... الخ» قال أحمد : ما أقصر لسانه عند هذه الآية ، فكم له يدندن ويطبل في جحد الرؤية ويشقق القباء ويكثر ويتعمق ، فلما فغرت هذه الآية فاه :

صنع في مصادمتها بالاستدلال ، على أنه لو كان المراد الرؤية لما انحصرت بتقديم المفعول ، لأنها حينئذ غير منحصرة على تقدير رؤية الله تعالى ، وما يعلم أن المتمتع برؤية جمال وجه الله تعالى لا يصرف عنه طرفه ، ولا يؤثر عليه غيره ، ولا يعدل به عز وعلا منظورا سواه ، وحقيق له أن يحصر رؤيته إلى من ليس كمثله شيء ، ونحن نشاهد العاشق في الدنيا إذا أظفرته برؤية محبوبه لم يصرف عنه لحظه ، ولم يؤثر عليه ، فكيف بالمحب لله عز وجل إذا أحظاه النظر إلى وجهه الكريم ، نسأل الله العظيم أن لا يصرف عنا وجهه ، وأن يعيذنا عن مزالق البدعة ومزلات الشبهة ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(٢) قوله «لو كان منظورا إليه» عدم كونه منظور إليه تعالى مبنى على مذهب المعتزلة ، وهو عدم جواز رؤيته تعالى. ومذهب أهل السنة جوازها. ويجوز أن يكون تقديم المفعول هنا للاهتمام بذكر المنظور إليه ، الذي يقتضى النظر إليه نضرة وجوه الناظرين ، لا للاختصاص. (ع)

(٣) يقول : وإذا رجوت مكارمك زدتني نعما فالنظر إليه كناية عن ذلك. ويجوز أن المعنى : بمجرد نظري إليك تجيبني فوق مسئولى ، ولا تحتاج إلى التصريح بالطلب. ومن ملك : تمييز مقترن بمن. والبحر دونك : جملة اعتراضية أو حالية ، أى : أقل منك في الخيرات والمكارم.

٦٦٢

منه ، ولكنه غلب في الشجاع إذا اشتد كلوحه (تَظُنُ) تتوقع أن يفعل بها فعل هو في شدّته وفظاعته (فاقِرَةٌ) داهية تقصم فقار الظهر ، كما توقعت الوجوه الناضرة أن يفعل بها كل خير.

(كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ)(٣٠)

(كَلَّا) ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة ، كأنه قيل : ارتدعوا عن ذلك ، وتنبهوا على ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم ، وتنتقلون إلى الآجلة التي تبقون فيها مخلدين. والضمير في (بَلَغَتِ) للنفس وإن لم يجر لها ذكر ، لأنّ الكلام الذي وقعت فيه يدل عليها ، كما قال حاتم :

أماويّ ما يغنى الثّراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر (١)

وتقول العرب : أرسلت ، يريدون : جاء المطر ، ولا تكاد تسمعهم يذكرون السماء (التَّراقِيَ) العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال. ذكرهم صعوبة الموت الذي هو أول مراحل الآخرة حين تبلغ الروح التراقي ودنا زهوقها : وقال حاضر وصاحبها ـ وهو المحتضر ـ بعضهم لبعض (مَنْ راقٍ) أيكم يرقيه مما به؟ وقيل : هو من كلام ملائكة الموت : أيكم يرقى بروحه؟ ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ (وَظَنَ) المحتضر (أَنَّهُ الْفِراقُ) أنّ هذا الذي نزل به هو فراق الدنيا المحبوبة (وَالْتَفَّتِ) ساقه بساقه والتوت عليها عند علز (٢) الموت. وعن قتادة : ماتت رجلاء فلا تحملانه ، وقد كان عليهما جوالا. وقيل : شدّة فراق الدنيا بشدّة إقبال

__________________

(١) أماوى ما يغنى الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

أماوى إن المال غاد ورائح

ويبقى من المال الأحاديث والذكر

وقد علم الأقوام لو أن حاتما

أراد ثراء المال كان له وفر

لحاتم الطائي ، والهمزة النداء ومأوى : مرخم ، أصله : ماوية ، اسم أمه وهي بنت عفير ، وكانت تلومه. وأصله :نسبة للماء ، لأنها تشبهه في اللين والرقة والصفاء والثراء. والثروة : الغنى. والحشرجة : تردد صوت النفس في الصدر. والضمير النفس وإن لم تذكر ادعاء لشهرتها. روى أنه لما احتضر أبو بكر رضى الله عنه قالت له عائشة لعمرك ما يغنى ... البيت» فقال : لا تقولي هذا يا بنية (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) وهي قراءة منسوبة إليه وكرر نداء ماوية التقريع ، وغاد ورائح : آت وذاهب. وقوله «من المال» أى من آثاره ، ولو كفت «علم» عن العمل في المفعول وعبر عن نفسه بالظاهر ، لأن هذا الكلام تتحدث به نفوس الأقوام ، فاعتبر صدوره منهم. وثراه المال : الغنى به ، أو جمعه. والوفر : الزيادة والمال الكثير.

(٢) قوله «علز الموت» هو كالرعدة تأخذ المريض. (ع)

٦٦٣

الآخرة ، على أن الساق مثل في الشدّة. وعن سعيد بن المسيب : هما ساقاه حين تلفان في أكفانه (الْمَساقُ) أى يساق إلى الله وإلى حكمه.

(فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى)(٣٥)

(فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) يعنى الإنسان في قوله (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) ألا ترى إلى قوله (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) وهو معطوف على (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) أى : لا يؤمن بالبعث ، فلا صدق بالرسول والقرآن ، ولا صلى. ويجوز أن يراد : فلا صدق ماله ، بمعنى : فلا زكاه. وقيل : نزلت في أبى جهل (يَتَمَطَّى) يتبختر. وأصله يتمطط ، أى : يتمدد ، لأنّ المتبختر يمدّ خطاه. وقيل : هو من المطا وهو الظهر ، لأنه يلويه. وفي الحديث : «إذا مشت أمتى المطيطاء وخدمتهم فارس والروم فقد جعل بأسهم بينهم» (١) يعنى : كذب برسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى عنه وأعرض ، ثم ذهب إلى قومه يتبختر افتخارا بذلك (أَوْلى لَكَ) بمعنى ويل لك ، وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكره.

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى)(٤٠)

(فَخَلَقَ) فقدر (فَسَوَّى) فعدل (مِنْهُ) من الإنسان (الزَّوْجَيْنِ) الصنفين (أَلَيْسَ ذلِكَ) الذي أنشأ هذا الإنشاء (بِقادِرٍ) على الإعادة. وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه

__________________

(١) أخرجه الترمذي وإسحاق وابن أبى شيبة وأبو يعلى. وابن عدى من رواية موسى بن عبيدة عن عبد الله ابن دينار عن ابن عمر. وموسى ضعيف. وروى الترمذي أيضا والبزار عن محمد بن إسماعيل عن أبى معاوية عن يحيى بن سعيد عن عبد الله بن دينار نحوه. قال الترمذي : ليس له أصل. وإنما المعروف حديث موسى بن عبيدة. وقال البزار : لا نعلم أحدا تابع عليه محمد بن إسماعيل وإنما يعرف عن موسى. واختلف فيه على يحيى بن سعيد. فرواه الحاكم من طريق حماد بن سلمة عنه عن عبيد عن خولة بنت قيس. ورواه الطبراني في الأوسط من رواية ابن لهيعة عن عمارة بن خزيمة عن يحيى بن بخنس مولى الزبير عن أبى هريرة. ورواه الأصبهانى في الترغيب من طريق فرج بن فضالة عن يحيى بن بخنس مرسلا.

٦٦٤

وسلم كان إذا قرأها قال سبحانك بلى (١).

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة القيامة شهدت له أنا وجبريل يوم القيامة أنه كان مؤمنا بيوم القيامة» (٢).

سورة الإنسان

مدنية ، وآياتها ٣١ [نزلت بعد الرحمن]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً)(١)

هل بمعنى «قد» في الاستفهام خاصة ، والأصل : أهل ، بدليل قوله :

أهل رأونا بسفع القاع ذى الأكم (٣)

فالمعنى : أقد أتى؟ على التقرير والتقريب جميعا ، أى : أتى على الإنسان قبل زمان قريب (حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ) فيه (شَيْئاً مَذْكُوراً) أى كان شيئا منسيا غير مذكور نطفة في الأصلاب والمراد بالإنسان : جنس بنى آدم ، بدليل قوله (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ). (حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) طائفة من الزمن الطويل الممتد. فإن قلت : ما محل (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً)؟ قلت : محله النصب على الحال من الإنسان ، كأنه قيل : هل أتى عليه حين من الدهر غير مذكور. أو الرفع على الوصف لحين ، كقوله (يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) وعن بعضهم : أنها تليت عنده فقال : ليتها تمت ، أراد : ليت تلك الحالة تمت ، وهي كونه شيئا غير مذكور ولم يخلق ولم يكلف.

__________________

(١) أبو داود : من رواية موسى بن أبى عائشة عن رجل سمعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الحاكم من رواية إسماعيل بن أمية عن أبى اليسع عن أبى هريرة نحوه «قلت» راويه عن إسماعيل عند الحاكم يزيد بن عياض متروك. ولكن أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن إسماعيل عن رجل عن أبى هريرة. واختلف فيه على إسماعيل على أوجه أخرى ذكرتها في حاشية الأطراف.

(٢) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه باسنادهم إلى أبى بن كعب.

(٣) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثالث صفحة ٣٤٢ فراجعه إن شئت اه مصححه.

٦٦٥

(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً)(٢)

(نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) كبرمة أعشار (١) ، وبرد أكياش : وهي ألفاظ مفردة غير جموع ، ولذلك وقعت صفات للأفراد. ويقال أيضا : نطفة مشج ، قال الشماخ :

طوت أحشاء مرتجة لوقت

على مشج سلالته مهين (٢)

ولا يصحّ أمشاج أن يكون تكسيرا له ، بل هما مثلان في الإفراد ، لوصف المفرد بهما.

ومشجه ومزجه : بمعنى. والمعنى من نطفة قد امتزج فيها الماءان. وعن ابن مسعود : هي عروق النطفة. وعن قتادة : أمشاج ألوان وأطوار ، يريد : أنها تكون نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة (نَبْتَلِيهِ) في موضع الحال ، أى : خلقناه مبتلين له ، بمعنى : مريدين ابتلاءه ، كقولك : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا ، تريد : قاصدا به الصيد غدا. ويجوز أن يراد : ناقلين له من حال إلى حال ، فسمى ذلك ابتلاء على طريق الاستعارة. وعن ابن عباس : نصرفه في بطن أمّه نطفة ثم علقة. وقيل : هو في تقدير التأخير ، يعنى : فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه ، وهو من التعسف.

(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)(٣)

شاكرا وكفورا : حالان من الهاء في هديناه (٣) ، أى : مكناه وأقدرناه في حالتيه جميعا. أو دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع : كان معلوما منه (٤) أنه يؤمن أو يكفر ، لإلزام الحجة. ويجوز أن يكونا حالين من السبيل ، أى : عرفناه السبيل إما سبيلا شاكرا وإما سبيلا كفورا كقوله (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز. وقرأ أبو السمال بفتح الهمزة

__________________

(١) قوله «كبرمة أعشار» في الصحاح «برمة أعشار» إذا انكسرت قطعا قطعا وقلب أعشار : جاء على بناء الجمع ، كما قالوا : رمح أقصاد اه ، ولم يذكر أكباش ولا مادته فيه ، فلينظر في غيره. (ع)

(٢) للشماخ. ورتجت الباب وأرتجته : إذا أغلقته. والرتاج : الباب. ومشج الشيء : مزجه. والمشج ـ كسبب ـ : الممزوج. ومثله : أمشاج ، فهو مفرد على صورة الجمع كأخلاق. وقيل : جمع مشج. والسلالة ـ في الأصل : ما ينسل من بين الأصابع من الطين المائع. والمهين : الحقير ، يصف امرأة قبلت المنى في فرجها وطوت قبلها عليه. ومرتجة صفة للأحشاء : أى مغلقة إلى وقت تمام الحمل. على منى مختلط من منى الرجل ومنيها ، سلالته : أى ما انسل وتدفق منه : مهين : حقير. وفعيل : يوصف به المذكر والمؤنث ، والواحد والمتعدد.

(٣) قال محمود «هما حالان من الهاء في هديناه ... الخ» قال أحمد : هذا من تحريفه المنكر وهو عند أهل السنة على ظاهره.

(٤) قال محمود : «أو يكون معناه إنا دعوناه إلى الايمان كان معلوما منه ... الخ» قال أحمد : واستحسانه لقراءة أبى السمال لتخيله أن في التقسيم إشعارا بغرضه الفاسد ، وليس كذلك ، فان التقسيم يحتمل الجزاء إما شاكرا فمناب ، وإما كفورا فمعاقب ، ويرشد إليه ذكر جزاء الفريقين بعد.

٦٦٦

في (إِمَّا) وهي قراءة حسنة. والمعنى : أما شاكرا فبتوفيقنا ، وأما كفورا فبسوء اختياره (١)

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) (٤)

ولما ذكر الفريقين أتبعهما الوعيد والوعد. وقرئ : سلاسل ، غير منون. وسلاسلا ، بالتنوين (٢). وفيه وجهان : أحدهما أن تكون هذه النون بدلا من حرف الإطلاق ، ويجرى الوصل مجرى الوقف. والثاني : أن يكون صاحب القراءة به ممن ضرى برواية الشعر ومرن لسانه على صرف غير المنصرف.

(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً)(١٠)

(الْأَبْرارَ) جمع برّ أو بارّ ، كرب وأرباب ، وشاهد وأشهاد. وعن الحسن : هم الذين لا يؤذون الذرّ (٣). والكأس : الزجاجة إذا كانت فيها خمر ، وتسمى الخمر نفسها : كأسا (مِزاجُها) ما تمزج به (كافُوراً) ماء كافور ، وهو اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور (٤) ورائحته

__________________

(١) قوله «فيسوء اختياره» هذا على مذهب المعتزلة أنه تعالى لا يخلق الشر ، أما عند أهل السنة فهو خالق الخير والشر ، كالشكر والكفر. (ع)

(٢) قال محمود : «قرئ بتنوين سلاسل فوجهه أن تكون هذه النون بدلا من ألف الإطلاق ... الخ» قال أحمد : وهذا من الطراز الأول لأن معتقده أن القراءة المستفيضة غير موقوفة على النقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفاصيلها ، وأنها موكولة إلى اجتهاد القراء واختيارهم بمقتضى نظرهم كما مر له ، وطم على ذلك هاهنا فجعل تنوين سلاسل من قبيل الغلط الذي يسبق إليه اللسان في غير موضعه لتمرنه عليه في موضعه ، والحق أن جميع الوجوه المستفيضة منقولة تواترا عنه صلى الله عليه وسلم ، وتنوين هذا على لغة من يصرف في نثر الكلام جميع ما لا ينصرف إلا أفعل ، والقراآت مشتملة على اللغات المختلفة ، وأما قوارير قوارير : فقرئ بترك تنوينهما وهو الأصل ، وتنوين الأول خاصة بدلا من ألف الإطلاق لأنها فاصلة ، وتنوين الثانية كالأولى اتباعا لها ، ولم يقرأ أحد بتنوين الثانية وترك تنوين الأولى ، فانه عكس أن يترك تنوين الفاصلة مع الحاجة إلى المجانسة ، وتنوين غيرها من غير حاجة.

(٣) قوله «لا يؤذون الذر» في الصحاح «الذر» النمل. (ع)

(٤) قال محمود : «كافورا عين في الجنة اسمها كذلك في لون الكافور ورائحته وبرده ... الخ» قال أحمد : هذا ـ

٦٦٧

وبرده. و (عَيْناً) بدل منه. وعن قتادة : تمزج لهم بالكافور وتختم لهم بالمسك. وقيل : تخلق فيها رائحة الكافور وبياضه وبرده. فكأنها مزجت بالكافور. و (عَيْناً) على هذين القولين: بدل من محل (مِنْ كَأْسٍ) على تقدير حذف مضاف ، كأنه قيل : يشربون فيها خمرا خمر عين. أو نصب على الاختصاص. فإن قلت : لم وصل فعل الشرب بحرف الابتداء أوّلا ، وبحرف الإلصاق آخرا؟ قلت : لأنّ الكأس مبدأ شربهم وأوّل غايته ، وأما العين فبها يمزجون شرابهم ، فكان المعنى : يشرب عباد الله بها الخمر ، كما تقول : شربت الماء بالعسل (يُفَجِّرُونَها) يجرونها حيث شاءوا من منازلهم (تَفْجِيراً) سهلا لا يمتنع عليهم (يُوفُونَ) جواب من عسى ، يقول : ما لهم يرزقون ذلك ، والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات ، لأنّ من وفي بما أوجبه هو على نفسه لوجه الله كان بما أوجبه الله عليه أو في (مُسْتَطِيراً) فاشيا منتشرا بالغا أقصى المبالغ ، من استطار الحريق ، واستطار الفجر. وهو من طار ، بمنزلة استنفر من نفر (عَلى حُبِّهِ) الضمير للطعام ، أى : مع اشتهائه والحاجة إليه. ونحوه (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) ، (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وعن الفضيل بن عياض : على حب الله (وَأَسِيراً) عن الحسن : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول : أحسن إليه ، فيكون عنده اليومين والثلاثة ، فيؤثره على نفسه. وعند عامة العلماء : يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام ولا تصرف إليهم الواجبات. وعن قتادة : كان أسيرهم يومئذ المشرك ، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه. وعن سعيد بن جبير وعطاء : هو الأسير من أهل القبلة. وعن أبى سعيد الخدري : هو المملوك والمسجون. وسمى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم الغريم : أسيرا ، فقال «غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك» (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ) على إرادة القول. ويجوز أن يكون قولا باللسان منعا لهم عن المجازاة بمثله أو بالشكر ، لأن إحسانهم مفعول لوجه الله ، فلا معنى لمكافأة الخلق ، وأن يكون قولهم لهم لطفا وتفقيها وتنبيها ، على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص لله. وعن عائشة رضى الله عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ، ثم تسأل الرسول ما قالوا؟ فإذا ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصا عند الله. ويجوز أن يكون ذلك بيانا وكشفا عن اعتقادهم وصحة نيتهم وإن لم يقولوا شيئا. وعن مجاهد :

__________________

ـ الجواب على القولين الأولين ، وأما على القولين الآخرين وهو أن العين بدل من الكأس. ومعنى مزاجها بالكافور : إما اشتمالها على أوصافه ، وإما أن يكون الكافور المعهود كما تقدم ، فلا يتم الجواب المذكور ، فيجاب عن السؤال بأنه لما ذكر الشراب أولا باعتبار الوقوع في الوجود ، ذكره ثانيا مطمئنا للالتذاذ به ، وكأنه قال : فيشربون منها فيلتذون بها ، وعليه حمله أبو عبيدة.

٦٦٨

أما إنهم ما تكلموا به ، ولكن علمه الله منهم فأثنى عليهم. والشكور والكفور : مصدران كالشكر والكفر (إِنَّا نَخافُ) يحتمل إن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم ، لا لإرادة مكافأتكم ، وإنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله تعالى على طلب المكافأة بالصدقة. ووصف اليوم بالعبوس. مجاز على طريقين : أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء ، كقولهم : نهارك صائم : روى أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران ، وأن يشبه في شدته وضرره بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل : والقمطرير : الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه. قال الزجاج : يقال : اقمطرت الناقة : إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها وزمت بأنفها (١) ، فاشتقه من القطر وجعل الميم مزيدة. قال أسد بن ناعصة (٢)

واصطليت الحروب في كلّ يوم

باسل الشّرّ قمطرير الصّباح (٣)

(فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ

__________________

(١) قوله «وجمعت قطريها وزمت بأنفها» القطر : الناحية والجانب. وزق الطائر فرخه : أطعمه بفيه. والزقرة : ترقيص الطفل ، كذا في الصحاح. (ع)

(٢) قوله «قال أسد بن ناعصة» من النعص : وهو التمايل. (ع)

(٣) لأسد بن ناعصة. وصلى النار واصطلاها إذا ذاق شدة حرها وتدفأ بها ، فشبه الحرب بالنار على طريق المكنية ، والاصطلاء تخييل ، والباسل : الشجاع إذا اشتد كلوحه. والقمطرير : الشديد العيوس الذي يجمع ما بين عينيه ، يقال : اقمطرت الناقة ، إذا جمعت قطريها فرفعت ذنبها وزمت بأنفها ، فهو من القطر ، والميم زائدة ، ووصف الشر والصياح بذلك مجاز.

٦٦٩

شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) (٢٢) (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) أى : أعطاهم بدل عبوس الفجار وحزنهم نضرة في الوجوه وسرورا في القلوب ، وهذا يدل على أنّ اليوم موصوف بعبوس أهله (بِما صَبَرُوا) بصبرهم على الإيثار. وعن ابن عباس رضى الله عنه : أنّ الحسن والحسين مرضا ، فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس معه ، فقالوا : يا أبا الحسن ، لو نذرت على ولدك (١) ، فنذر علىّ وفاطمة وفضة جارية لهما إن برآ مما بهما : أن يصوموا ثلاثة أيام ، فشفيا وما معهم شيء ، فاستقرض علىّ من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير ، فطحنت فاطمة صاعا واختبزت خمسة أقراص على عددهم ، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد ، مسكين من مساكين المسلمين ، أطعمونى أطعمكم الله من موائد الجنة ، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء ، وأصبحوا صياما ، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم ، فآثروه ، ووقف عليهم أسير في الثالثة ، ففعلوا مثل ذلك ، فلما أصبحوا أخذ على رضى الله عنه بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع قال : ما أشد ما يسوؤني ما أرى بكم ، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها. فساءه ذلك ، فنزل جبريل وقال : خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة. فإن قلت : ما معنى ذكر الحرير مع الجنة؟ قلت : المعنى وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدّى إليه من الجوع والعرى بستانا فيه مأكل هنىّ ، وحريرا فيه ملبس بهىّ. يعنى : أن هواءها معتدل ، لا حرّ شمس يحمى ولا شدّة برد تؤذى. وفي الحديث : هواء الجنة سجسج (٢) ، لا حرّ ولا قرّ. وقيل : الزمهرير القمر.

وعن ثعلب : أنه في لغة طيئ. وأنشد :

وليلة ظلامها قد اعتكر

قطعتها والزّمهرير ما زهر (٣)

__________________

(١) أخرجه الثعلبي من رواية القاسم بن بهرام عن ليث بن أبى سليم عن مجاهد عن ابن عباس ومن رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس في قوله تعالى (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ـ) الآية فذكر تمامه. وزاد في أثنائه أشعارا لعلى وفاطمة. قال الحكيم الترمذي في الرابع والأربعين : ومن الأحاديث التي تنكرها القلوب حديث رووه عن مجاهد عن ابن عباس فذكره بشعره. ثم قال : هذا حديث مزوق مفتعل لا يروج إلا على أحمق جاهل. ورواه ابن الجوزي في الموضوعات من طريق أبى عبد الله السمرقندي. عن محمد بن كثير عن الأصبغ بن نباتة. قال : مرض الحسن والحسين. إلى آخره فذكره بشعره وزيادة ألفاظ. ثم قال : وهذا لا نشك في وضعه.

(٢) قوله «هواء الجنة سجسج» تفسيره ما بعده ، كما يفيده الصحاح. (ع)

(٣) أى : ورب ليلة ظلامها قد تراكم واختلط وكثر ، قطعتها وأمضيتها بالسير ، والحال أن الزمهرير ما زهر أى : ما ظهر وأضاء. والزمهرير في لغة طيئ : القمر ، وهذه الحال مؤكدة لاعتكار الظلام.

٦٧٠

والمعنى : أن الجنة ضياء فلا يحتاج فيها شمس وقمر. فإن قلت : (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) علام عطفت؟ قلت : على الجملة التي قبلها ، لأنها في موضع الحال من المجزيين ، وهذه حال مثلها عنهم لرجوع الضمير منها إليهم في عليهم ، إلا أنها اسم مفرد ، وتلك جملة في حكم مفرد تقديره : غير رائين فيها شمسا ولا زمهريرا ، ودانية عليهم ظلالها ، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم ، كأنه قيل : وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحرّ والقرّ ودنوّ الظلال عليهم وقرئ : ودانية ، بالرفع ، على أن ظلالها مبتدأ ، ودانية خبر ، والجملة في موضع الحال ، والمعنى : لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ، والحال أن ظلالها دانية عليهم ، ويجوز أن تجعل (مُتَّكِئِينَ) و (لا يَرَوْنَ) و (دانِيَةً) كلها صفات لجنة. ويجوز أن يكون (وَدانِيَةً) معطوفة على جنة ، أى : وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها ، على أنهم وعدوا جنتين ، كقوله (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) لأنهم وصفوا بالخوف : (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا). فإن قلت : فعلام عطف (وَذُلِّلَتْ)؟ قلت : هي ـ إذا رفعت (وَدانِيَةً) ـ : جملة فعلية معطوفة على جملة ابتدائية ، وإذا نصبتها على الحال ، فهي حال من دانية ، أى : تدنو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها لهم. أو معطوفة عليها على : ودانية عليهم ظلالها ، ومذللة قطوفها ، وإذا نصبت (وَدانِيَةً) على الوصف ، فهي صفة مثلها ، ألا ترى أنك لو قلت : جنة ذللت قطوفها : كان صحيحا ، وتذليل القطوف : أن تجعل ذللا لا تمتنع على قطافها كيف شاءوا. أو تجعل ذليلة لهم خاضعة متقاصرة ، من قولهم : حائط ذليل إذا كان قصيرا (قَوارِيرَا قَوارِيرَا) قرئا غير منونين ، وبتنوين الأول ، وبتنوينهما. وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق ، لأنه فاصلة ، وفي الثاني لإتباعه الأوّل ، ومعنى قوارير من (فِضَّةٍ) أنها مخلوقة من فضة ، وهي مع بياض الفضة وحسنها في صفاء القوارير وشفيفها. فإن قلت : ما معنى كانت؟ قلت : هو من «يكون» في قوله (كُنْ فَيَكُونُ) أى : تكوّنت قوارير ، بتكوين الله تفخيما لتلك الخلقة العجيبة الشأن ، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين. ومنه كان في قوله : كان مزاجها كافورا. وقرئ : قوارير من فضة ، بالرفع على : هي قوارير (قَدَّرُوها) صفة لقوارير من فضة. ومعنى تقديرهم لها : أنهم قدروها في أنفسهم أن تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم ، فجاءت كما قدّروا. وقيل : الضمير للطائفين بها ، دل عليهم قوله (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ) على أنهم قدروا شرابها على قدر الري ، وهو ألذ للشارب لكونه على مقدار حاجته لا يفضل عنها ولا يعجز. وعن مجاهد : لا تفيض ولا تغيض. وقرئ : قدّروها ، على البناء للمفعول. ووجهه أن يكون من قدر ، منقولا من قدر. تقول : قدرت الشيء وقدرنيه فلان : إذا جعلك قادرا له. ومعناه : جعلوا قادرين لها كما شاءوا. وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا ، سميت العين زنجبيلا لطعم الزنجبيل فيها ، والعرب تستلذه وتستطيبه.

٦٧١

قال الأعشى :

كأنّ القر نفل والزّنجبيل

باتا بفيها وأريا مشورا (١)

وقال المسيب بن علس (٢)

وكأنّ طعم الزّنجبيل به

إذ ذقته وسلافة الخمر (٣)

و (سَلْسَبِيلاً) لسلاسة انحدارها في الحلق وسهولة مساغها ، يعنى : أنها في طعم الزنجبيل وليس فيها لذعه ، ولكن نقيض اللذع وهو السلاسة. يقال : شراب سلسل وسلسال وسلسبيل ، وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية. ودلت على غاية السلاسة. قال الزجاج : السلسبيل في اللغة : صفة لما كان في غاية السلاسة. وقرئ : سلسبيل ، على منع الصرف ، لاجتماع العلمية والتأنيث ، وقد عزوا إلى على بن أبى طالب رضى الله عنه أن معناه سل سبيلا إليها ، وهذا غير مستقيم على ظاهره. إلا أن يراد أن جملة قول القائل : سل سبيلا ، جعلت علما للعين ، كما قيل : تأبط شرا ، وذرّى حبا ، وسميت بذلك لأنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلا بالعمل الصالح ، وهو مع استقامته في العربية تكلف وابتداع ، وعزوه إلى مثل على رضى الله عنه أبدع. وفي شعر بعض المحدثين :

سل سبيلا فيها إلى راحة النّفس

براح كأنّها سلسبيل (٤)

و (عَيْناً) بدل من (زَنْجَبِيلاً) وقيل : تمزج كأسهم بالزنجبيل بعينه. أو يخلق الله طعمه فيها. و (عَيْناً) على هذا القول : مبدلة من (كَأْساً) كأنه قيل : ويسقون فيها كأسا كأس عين. أو منصوبة على الاختصاص. شبهوا في حسنهم وصفاء ألوانهم وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم باللؤلؤ المنثور

__________________

(١) للأعشى ، شبه رائحة فمها وطعمه بالقرنفل والزنجبيل ، لأن العرب تستطبيهما وتستلذهما ، وشبه طعم ريقها بطعم الأرى : وهو العسل. والمشور : اسم مفعول ، من شاره شورا إذا جناه. والشور : موضع تعسل فيه النحل.

(٢) قوله «المسيب بن علس» العلس في الأصل : القراد الضخم. وبه سمى الرجل ، كذا في الصحاح. (ع)

(٣) للمسيب بن علس ، وإجراء التشبيه هنا في طعم الزنجبيل يفيد أنه في البيت السابق كذلك ، وضمير به للفم وإذ ذقته : أى حين ذقت ريقه ، فهو مجاز ، وسلافة الخمر : أول ما يعصر من العنب ويتخمر ، وتشبه طعم الريق بهما في مطلق الاستلذاذ لا يفيد أن فيه حرافة كما فيهما. وسلافة : عطف على طعم. ويجوز أن ضمير «به» للريق وهو المذوق ، ومعنى كون السلافة به : أنها ممزوجة فيه.

(٤) اطلب طريقا فيها إلى راحة نفسك ، براح : أى بخمر. والسلسبيل والسلسال والسلسل : عين في الجنة سهلة الانحدار في الحلق ، سلسة المساغ. وزيدت الباء مبالغة في الدلالة على السلاسة والسهولة. وشبه الخمر بها لما هو معلوم وثابت بين الناس أن شراب الجنة أعلى الشراب.

٦٧٢

وعن المأمون : أنه ليلة زفت إليه بوران بنت الحسن بن سهل وهو على بساط منسوج من ذهب وقد نثرت عليه نساء دار الخلافة اللؤلؤ. فنظر إليه منثورا على ذلك البساط ، فاستحسن المنظر وقال : لله درّ أبى نواس ، وكأنه أبصر هذا حيث يقول :

كأنّ صغرى وكبرى من فواقعها

حصباء درّ على أرض من الذّهب (١)

وقيل : شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه ، لأنه أحسن وأكثر ماء (رَأَيْتَ) ليس له مفعول ظاهر ولا مقدر ليشيع ويعم ، كأنه قيل : وإذا أوجدت الرؤية ، ثم. ومعناه : أن بصر الرائي أينما وقع لم يتعلق إدراكه إلا بنعيم كثير وملك كبير. و (ثَمَ) في موضع النصب على الظرف ، يعنى في الجنة ومن قال : معناه «ما ثم» فقد أخطأ ، لأن «ثم» صلة لما ، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة (كَبِيراً) واسعا وهنيئا. يروى : أن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام ، يرى أقصاه كما يرى أدناه. وقيل لا زوال له. وقيل : إذا أرادوا شيأ كان. وقيل : يسلم عليهم الملائكة ويستأذنون عليهم. قرئ : عاليهم ، بالسكون ، على أنه مبتدأ خبره (٢) (ثِيابُ سُندُسٍ) أى ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس. وعاليهم. بالنصب ، على أنه حال من الضمير في (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ) أو في (حَسِبْتَهُمْ) أى يطوف عليهم ولدان عاليا للمطوف عليهم ثياب. أو حسبتهم لؤلؤا عاليا لهم ثياب. ويجوز أن يراد : رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب. وعاليتهم : بالرفع والنصب على ذلك. وعليهم. وخضر. وإستبرق : بالرفع ، حملا على الثياب بالجر على السندس. وقرئ : وإستبرق ، نصبا في موضع الجر على منع الصرف لأنه أعجمى ، وهو غلط لأنه نكرة يدخله حرف التعريف ، تقول : الإستبرق ، إلا أن يزعم ابن محيصن أنه قد يجعل علما لهذا الضرب من الثياب. وقرئ : وإستبرق ، بوصل الهمزة والفتح : على أنه مسمى باستفعل من البريق ، وليس بصحيح أيضا ، لأنه معرب مشهور تعريبه ، وأنّ أصله : استبره (وَحُلُّوا) عطف على (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ). فإن قلت : ذكر هاهنا أنّ أساورهم من فضة ، وفي موضع آخر أنها من

__________________

(١) لأبى نواس ، يصف الخمر بأن حبابها الذي يعلوها كالقوارير يشبه الدر ، وبأنها تشبه الذهب ، وهو من التشبيه المركب. وحكى أنه لما زفت بوران بنت الحسن بن سهل للمأمون بن الرشيد كان على بساط منسوج بالذهب ونثرت عليه نساء دار الخلافة اللؤلؤ ، فنظر إليه وقال : لله در أبى نواس حيث قال : كأن صغرى ... البيت ، وقد عيب عليه استعمال صغرى وكبرى مجردتين من أل والاضافة ، مع أنهما عن أفعل التفضيل ، وهو إذا جرد وجب تذكيره.

(٢) قال محمود : «قرئ بالسكون على أنه مبتدأ خبره ثياب ... الخ» قال أحمد : في هذا الوجه الآخر نظر ، فانه يجعله داخلا في مضمون الحسبان ، وكيف يكون ذلك وهم لابسون السندس حقيقة ، لا على وجه التشبيه باللؤلؤ ، بخلاف كونهم لؤلؤا ، فانه على طريق التشبيه المقتضى لقرب شبههم باللؤلؤ إلى أن يحسبوا لؤلؤا. ويحتمل أن يصحح هذا الوجه لكن بعد تكلف مستغنى عنه بالأول.

٦٧٣

ذهب. قلت : هب أنه قيل : وحلوا أساور من ذهب ومن فضة ، وهذا صحيح لا إشكال فيه ، على أنهم يسوّرون بالجنسين : إما على المعاقبة ، وإما على الجمع ، كما تزاوج نساء الدنيا بين أنواع الحلي وتجمع بينها ، وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران : سوار من ذهب ، وسوار من فضة (شَراباً طَهُوراً) ليس برجس كخمر الدنيا ، لأنّ كونها رجسا بالشرع لا بالعقل ، وليست الدار دار تكليف. أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدى الوضرة (١) ، وتدوسه الأقدام الدنسة ، ولم يجعل في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها. أو لأنه لا يئول إلى النجاسة لأنه يرشح عرقا من أبدانهم له ريح كريح المسك. أى : يقال لأهل الجنة (إِنَّ هذا) وهذا إشارة إلى ما تقدّم من عطاء الله لهم : ما جوزيتم به على أعمالكم وشكر به سعيكم ، والشكر مجاز.

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً)(٢٦)

تكرير الضمير بعد إيقاعه اسما لإنّ : تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل ، ليتقرّر في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان هو المنزل لم يكن تنزيله على أى وجه نزل إلا حكمة وصوابا ، كأنه قيل : ما نزّل عليك القرآن تنزيلا مفرقا منجما إلا أنا لا غيرى ، وقد عرفتني حكيما فاعلا لكل ما أفعله بدواعى الحكمة ، ولقد دعتني حكمة بالغة إلى أن أنزل عليك الأمر بالمكافة والمصابرة ، وسأنزل عليك الأمر بالقتال والانتقام بعد حين (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) الصادر عن الحكمة وتعليقه الأمور بالمصالح ، وتأخيره نصرتك على أعدائك من أهل مكة ، ولا تطع منهم أحدا قلة صبر منك على أذاهم وضجرا من تأخر الظفر ، وكانوا مع إفراطهم في العداوة والإيذاء له ولمن معه يدعونه إلى أن يرجع عن أمره ويبذلون له أموالهم وتزويج أكرم بناتهم إن أجابهم. فإن قلت : كانوا كلهم كفرة ، فما معنى القسمة في قوله (آثِماً أَوْ كَفُوراً)؟ قلت : معناه ولا تطع منهم راكبا لما هو إثم داعيا لك إليه. أو فاعلا لما هو كفر داعيا لك إليه ، لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل هو إثم أو كفر ، أو غير إثم ولا كفر ، فنهى أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث. وقيل : الآثم عتبة ، والكفور : الوليد ، لأنّ عتبة كان ركابا للمآثم ، متعاطيا لأنواع الفسوق ، وكان الوليد غالبا في الكفر

__________________

(١) قوله «فتمسه الأبدى الوضرة» من الوضر : وهو الدرن والدسم. أفاده الصحاح. (ع)

٦٧٤

شديد الشكيمة في العتوّ. فإن قلت : معنى أو : ولا تطع أحدهما ، فهلا جيء بالواو ليكون نهيا عن طاعتهما جميعا؟ قلت : لو قيل : ولا تطعهما ، جاز أن يطيع أحدهما ، وإذا قيل : لا تطع أحدهما ، علم أنّ الناهي عن طاعة أحدهما : عن طاعتهما جميعا أنهى. كما إذا نهى أن يقول لأبويه : أف ، علم أنه منهى عن ضربهما على طريق الأولى (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) ودم على صلاة الفجر والعصر (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) وبعض الليل فصل له. أو يعنى صلاة المغرب والعشاء ، وأدخل (مِنَ) على الظرف للتبعيض ، كما دخل على المفعول في قوله (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ). (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) وتهجد له هزيعا طويلا (١) من الليل : ثلثيه ، أو نصفه ، أو ثلثه.

(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً)(٢٨)

(إِنَّ هؤُلاءِ) الكفرة (يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) يؤثرونها على الآخرة ، كقوله (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا). (وَراءَهُمْ) قدّامهم أو خلف ظهورهم لا يعبئون به (يَوْماً ثَقِيلاً) استعير الثقيل لشدّته وهو له ، من الشيء الثقيل الباهظ لحامله. ونحوه : (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الأسر : الربط والتوثيق. ومنه : أسر الرجل إذا أوثق بالقدّ وهو الإسار. وفرس مأسور الخلق. وترس مأسور بالعقب (٢). والمعنى : شددنا توصيل عظامهم بعضها ببعض ، وتوثيق مفاصلهم بالأعصاب. ومثله قولهم : جارية معصوبة الخلق ومجدولته (وَإِذا شِئْنا) أهلكناهم و (بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ) في شدّة الأسر ، يعنى : النشأة الأخرى. وقيل: معناه : بدلنا غيرهم ممن يطيع. وحقه أن يجيء بإن ، لا بإذا ، كقوله (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) ، (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ).

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٣١)

__________________

(١) قوله «وتهجد له هزيعا طويلا» في الصحاح : مضى هزيع من الليل ، أى : طائفة. (ع)

(٢) قوله «وترس مأسور بالعقب» في الصحاح : العقب ـ بالتحريك ـ : العصب : الذي تعمل منه الأوتار ، الواحدة عقبة ، تقول منه : عقبت السهم والقدح والقوس : إذا لويت شيئا منه عليه. (ع)

٦٧٥

(هذِهِ) إشارة إلى السورة أو إلى الآيات القريبة (فَمَنْ شاءَ) فمن اختار الخير لنفسه وحسن العاقبة واتخاذ السبيل إلى الله عبارة عن التقرب إليه والتوسل بالطاعة (وَما تَشاؤُنَ) الطاعة (١) (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) بقسرهم عليها (٢) (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بأحوالهم وما يكون منهم (حَكِيماً) حيث خلقهم مع علمه بهم. وقرئ : تشاؤن ، بالتاء. فإن قلت : ما محل (أَنْ يَشاءَ اللهُ)؟ قلت النصب على الظرف ، وأصله : إلا وقت مشيئة الله ، وكذلك قراءة ابن مسعود : إلا ما يشاء الله. لأنّ (ما) مع الفعل كأن معه (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ) هم المؤمنون ونصب (الظَّالِمِينَ) بفعل يفسره. أعدّ لهم ، نحو : أوعد وكافأ ، وما أشبه ذلك. قرأ ابن مسعود : وللظالمين ، على : وأعدّ للظالمين وقرأ ابن الزبير : والظالمون على الابتداء ، وغيرها أولى لذهاب الطباق بين الجملة المعطوفة والمعطوف عليها فيها ، مع مخالفتها للمصحف.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على الله جنة وحريرا» (٣).

__________________

(١) قال محمود : «معناه وما تشاؤن الطاعة إلا أن يشاء الله ... الخ» قال أحمد : وهذا من تحريفاته للنصوص وتسوره على خزائن الكتاب العزيز ، كدأب الشطار واللصوص ، فلنقطع يد حجته التي أعدها ، وذلك حكم هذه السرقة وحدها ، فنقول : الله تعالى نفى وأثبت على سبيل الحصر الذي لا حصر ولا نصر أوضح منه. ألا ترى أن كلمة التوحيد اقتصر بها على النفي والإثبات ، لأن هذا النظم أعلق شيء بالحصر وأدله عليه ، فنفى الله تعالى أن يفعل العبد شيئا له فيه اختيار ومشيئة ، إلا أن يكون الله تعالى قد شاء ذلك الفعل ، فمقتضاه ما لم يشأ الله وقوعه من العبد لا يقع من العبد ، وما شاء منه وقوعه وقع ، وهو رديف : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وانظر إدخاله القسر في تعطيل الآية لا تأويلها كيف ناقض به ، فان معنى الآية عنده : أن مشيئة العبد الفعل لا تكون إلا إذا قسره الله عليها ، والقسر مناف للمشيئة ، فصار الحاصل أن مشيئة العبد لا توجد إلا إذا انتفت ، فإذا لا مشيئة للعبد البتة ولا اختيار ، وما هو إلا فر من إثبات قدرة للعبد غير مؤثرة ومشيئة غير خالقة ، ليتم له إثبات قدرة ومشيئة مؤثرين ، فوقع في سلب القدرة والمشيئة أصلا ورأسا ، وحيث لزم الحيد عن الاعتزال : انحرف بالكلية إلى الطرف الأقصى متحيزا إلى الجبر ، فيا بعد ما توجه بسوء نظره. والله الموفق.

(٢) قوله «إلا أن يشاء الله أن بقسرهم عليها» إرادته تعالى تستلزم وجود المراد ، ولكن لا تستلزم كون العبد مقسورا ومجبورا على الفعل إلا عند المعتزلة. وأما أهل السنة فقد أثبتوا للعبد للكسب ، مع كون الله هو الخالق لفعل عندهم ، وتفصيل ذلك في التوحيد. (ع)

(٣) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بأسانيدهم إلى أبى بن كعب.

٦٧٦

سورة المرسلات

مكية ، [إلا آية ٤٨ فمدنية] وآياتها ٥٠ [نزلت بعد الهمزة]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً)(٦)

أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة ، أرسلهنّ بأوامره فعصفن في مضيهن كما تعصف الرياح ، تخففا في امتثال أمره ، وبطوائف منهم نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي. أو نشرن الشرائع في الأرض. أو نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل بما أوحين ، ففرّقن بين الحق والباطل ، فألقين ذكرا إلى الأنبياء (عُذْراً) للمحقين (أَوْ نُذْراً) للمبطلين. أو أقسم برياح عذاب أرسلهن. فعصفن ، وبرياح رحمة نشرن السحاب في الجوّ ففرّقن بينه ، كقوله : (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) أو بسحائب نشرن الموات ، ففرّقن بين هن يشكر لله تعالى وبين من يكفر ، كقوله (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) فألقين ذكرا إمّا عذرا للذين يعتذرون إلى الله بتوبتهم واستغفارهم إذا رأوا نعمة الله في الغيث ويشكرونها ، وإما إنذارا الذين يغفلون الشكر لله وينسبون ذلك إلى الأنواء ، وجعلن ملقيات للذكر لكونهن سببا في حصوله إذا شكرت النعمة فيهن أو كفرت. فإن قلت : ما معنى عرفا؟ قلت : متتابعة كشعر العرف (١). يقال : جاءوا عرفا واحدا ، وهم عليه كعرف الضبع : إذا تألبوا عليه ، ويكون بمعنى العرف الذي هو نقيض النكر ، وانتصابه على أنه مفعول له ، أى : أرسلن للإحسان والمعروف ، والأول على الحال. وقرئ : عرفا على التثقيل ، نحو نكر في نكر. فإن قلت : قد فسرت المرسلات بملائكة العذاب ، فكيف يكون إرسالهم معروفا؟ قلت : إن لم يكن معروفا للكفار فإنه معروف للأنبياء والمؤمنين الذين انتقم الله لهم منهم. فإن قلت : ما العذر والنذر ، وبما انتصبا؟ قلت : هما مصدران من أعذر إذا محا الإساءة ، ومن أنذر إذا خوّف على

__________________

(١) قوله «كشعر العرف» في الصحاح «العرف» : عرف الفرس. وقوله تعالى (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) يقال : هو مستعار من عرف الفرس ، أى : يتتابعون كعرف الفرس. وفيه «تألبوا» : تجمعوا. (ع)

٦٧٧

فعل ، كالكفر والشكر ، ويجوز أن يكون جمع عذير ، بمعنى المعذرة ، وجمع نذير بمعنى الإنذار. أو بمعنى العاذر والمنذر. وأما انتصابهما فعلى البدل من ذكرا على الوجهين الأوّلين. أو على المفعول له. وأما على الوجه الثالث فعلى الحال بمعنى عاذرين أو منذرين. وقرئا : مخففين ومثقلين.

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(١٥)

إن الذي توعدونه من مجيء يوم القيامة لكائن نازل لا ريب فيه ، وهو جواب القسم.

وعن بعضهم : أن المعنى : ورب المرسلات (طُمِسَتْ) محيت ومحقت. وقيل : ذهب بنورها ومحق ذواتها ، موافق لقوله (انْتَثَرَتْ) و (انْكَدَرَتْ) ويجوز أن يمحق نورها ثم تنتثر ممحوقة النور (فُرِجَتْ) فتحت فكانت أبوابا. قال الفارجى : باب الأمير المبهم (نُسِفَتْ) كالحب إذا نسف بالمنسف. ونحوه (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) ، (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) وقيل : أخذت بسرعة من أماكنها ، من انتسفت الشيء إذا اختطفته. وقرئت : طمست : وفرجت ونسفت مشدّدة. قرئ : أقتت. ووقتت ، بالتشديد والتخفيف فيهما. والأصل : الواو. ومعنى توقيت الرسل : تبيين وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم. والتأجيل : من الأجل ، كالتوقيت : من الوقت (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) تعظيم لليوم ، وتعجيب من هوله (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) بيان ليوم التأجيل ، وهو اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق. والوجه أن يكون معنى وقتت : بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره : وهو يوم القيامة. وأجلت : أخرت. فإن قلت : كيف وقع النكرة مبتدأ في قوله (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)؟ قلت : هو في أصله مصدر منصوب سادّ مسدّ فعله ، ولكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه. ونحوه (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) ويجوز : ويلا ، بالنصب ، ولكنه لم يقرأ به. يقال : ويلا له ويلا كيلا.

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(١٩)

قرأ قتادة : نهلك ، بفتح النون ، من هلكه بمعنى أهلكه. قال العجاج :

٦٧٨

ومهمه هالك من تعرّجا (١)

(ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ) بالرفع على الاستئناف ، وهو وعيد لأهل مكة. يريد : ثم نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بالأولين ، ونسلك بهم سبيلهم لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم. ويقويها قراءة ابن مسعود. ثم سنتبعهم. وقرئ بالجزم للعطف على نهلك. ومعناه : أنه أهلك الأولين من قوم نوح وعاد وثمود ، ثم أتبعهم الآخرين من قوم شعيب ولوط وموسى (كَذلِكَ) مثل ذلك الفعل الشنيع (نَفْعَلُ) بكل من أجرم إنذارا وتحذيرا من عاقبة الجرم وسوء أثره.

(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(٢٤)

(إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) إلى مقدار من الوقت معلوم قد علمه الله وحكم به : وهو تسعة الأشهر ، أو ما دونها ، أو ما فوقها (فَقَدَرْنا) فقدّرنا ذلك تقديرا (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) فنعم المقدّرون له نحن. أو فقدرنا على ذلك فنعم القادرون عليه نحن ، والأوّل أولى لقراءة من قرأ : فقدّرنا بالتشديد ، ولقوله (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ).

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(٢٨)

الكفات : من كفت الشيء إذا ضمه وجمعه : وهو اسم ما يكفت ، كقولهم : الضمام والجماع لما يضم ويجمع ، يقال : هذا الباب جماع الأبواب ، وبه انتصب (أَحْياءً وَأَمْواتاً) كأنه قيل : كافتة أحياء وأمواتا. أو بفعل مضمر يدل عليه وهو تكفت. والمعنى : تكفت أحياء على ظهرها ، وأمواتا في بطنها. وقد استدل بعض أصحاب الشافعي رحمه الله على قطع النباش بأنّ الله تعالى جعل الأرض كفاتا للأموات ، فكان بطنها حرزا لهم ، فالنباش سارق من الحرز. فإن قلت : لم قيل أحياء وأمواتا على التنكير ، وهي كفات الأحياء والأموات جميعا؟ قلت :

__________________

(١)ومهمه هالك من تعرجا

لا يرتجى الخريت منها مخرجا

العجاج. والمهمه : المفازة القفرة. ويقال : أهلكه وهلكه. ومنه : هالك من تعرج. وعرج وتعرج : إذا نزل في المكان. والخريت : الدليل العارف بالطرق الضيقة ، ولو مثل خرت الابرة ، أى : لا يرجو الدليل مخرجا منها إذا ولجها ، فما بال غيره ، وهو مع ذلك قطعه بالسير.

٦٧٩

هو من تنكير التفخيم ، كأنه قيل : تكفت أحياء لا يعدون وأمواتا لا يحصرون ، على أنّ أحياء الإنس وأمواتهم ليسوا بجميع الأحياء والأموات. ويجوز أن يكون المعنى : تكفتكم أحياء وأمواتا ، فينتصبا على الحال من الضمير ، لأنه قد علم أنها كفات الإنس. فإن قلت : فالتنكه في (رَواسِيَ شامِخاتٍ) و (ماءً فُراتاً)؟ قلت : يحتمل إفادة التبعيض ، لأنّ في السماء جبالا قال الله تعالى (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) وفيها ماء فرات أيضا ، بل هي معدنه ومصبه ، وأن يكون للتفخيم.

(انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٣٧)

أى يقال لهم : انطلقوا إلى ما كذبتم به من العذاب ، وانطلقوا الثاني تكرير. وقرئ : انطلقوا على لفظ الماضي إخبارا بعد الأمر عن عملهم بموجبه ، لأنهم مضطرون إليه لا يستطيعون امتناعا منه (إِلى ظِلٍ) يعنى دخان جهنم ، كقوله : وظل من يحموم (ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) بتشعب لعظمه ثلاث شعب ، وهكذا الدخان العظيم تراه يتفرق ذوائب. وقيل : يخرج لسان من النار فيحيط بالكفار كالسرادق ، ويتشعب من دخانها ثلاث شعب ، فتظلهم حتى يفرغ من حسابهم ، والمؤمنون في ظل العرش (لا ظَلِيلٍ) تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين (وَلا يُغْنِي) في محل الجر ، أى : وغير مغن عنهم من حرّ اللهب شيئا (بِشَرَرٍ) وقرئ : بشرار (كَالْقَصْرِ) أى كل شررة كالقصر من القصور في عظمها. وقيل : هو الغليظ من الشجر ، الواحدة قصرة ، نحو : جمرة وجمر. وقرئ : كالقصر ، بفتحتين : وهي أعناق الإبل ، أو أعناق النخل ، نحو شجرة وشجر. وقرأ ابن مسعود : كالقصر بمعنى القصور ، كرهن ورهن. وقرأ سعيد ابن جبير : كالقصر في جمع قصرة ، كحاجة وحوج (جِمالَتٌ) جمع جمال. أو جمالة جمع جمل ، شبهت بالقصور ، ثم بالجمال لبيان التشبيه. ألا تراهم يشبهون الإبل بالأفدان والمجادل (١). وقرئ : جمالات ، بالضم : وهي قلوس الجسور. وقيل : قلوس سفن البحر ، الواحدة جمالة.

__________________

(١) قوله «بالأفدان والمجادل» جمع فدن وجمع مجدل ، وكلاهما بمعنى القصر ، كذا في الصحاح. وفيه أيضا «الجسر» بالفتح : الفطيم من الإبل. وفيه «القلس» : حبل ضخم من قلوس السفن. (ع)

٦٨٠