الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (٣٠)

(هَلْ أَتاكَ) تفخيم للحديث وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما عرفه بالوحي. والضيف للواحد والجماعة كالزور والصوم ، لأنه في الأصل مصدر ضافه ، وكانوا اثنى عشر ملكا. وقيل : تسعة عاشرهم جبريل. وقيل ثلاثة : جبريل ، وميكائيل ، وملك معهما. وجعلهم ضيفا ، لأنهم كانوا في صورة الضيف : حيث أضافهم إبراهيم. أو لأنهم كانوا في حسبانه كذلك. وإكرامهم : أنّ إبراهيم خدمهم بنفسه ، وأخدمهم امرأته ، وعجل لهم القرى أو أنهم في أنفسهم مكرمون. قال الله تعالى (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ). (إِذْ دَخَلُوا) نصب بالمكرمين إذا فسر بإكرام إبراهيم لهم ، وإلا فبما في ضيف من معنى الفعل. أو بإضمار اذكر (سَلاماً) مصدر سادّ مسدّ الفعل مستغنى به عنه. وأصله : نسلم عليكم سلام ، وأمّا (سَلامٌ) فمعدول به إلى الرفع على الابتداء. وخبره محذوف ، معناه : عليكم سلام ، للدلالة على ثبات السلام ، كأنه قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به ، أخذا بأدب الله تعالى. وهذا أيضا من إكرامه لهم. وقرئا مرفوعين. وقرئ : سلاما قال سلما. والسلم : السلام. وقرئ : سلاما قال سلم (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أنكرهم للسلام الذي هو علم الإسلام. أو أراد : أنهم ليسوا من معارفه أو من جنس الناس الذين عهدهم ، كما لو أبصر العرب قوما من الخزر (١) أو رأى لهم حالا وشكلا خلاف حال الناس وشكلهم ، أو كان هذا سؤالا لهم ، كأنه قال : أنتم قوم منكرون ، فعرفوني من أنتم (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) فذهب إليهم في خفية من ضيوفه ، ومن أدب المضيف أن يخفى أمره (٢) ، وأن يباده بالقرى من غير أن يشعر به الضيف ، حذرا من أن يكفه ويعذره. قال قتادة : كان عامة مال نبى الله إبراهيم : البقر (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ). والهمزة في (أَلا تَأْكُلُونَ) للإنكار : أنكر عليهم ترك الأكل. أو حثهم عليه (فَأَوْجَسَ) فأضمر. وإنما خافهم لأنهم لم يتحرّموا بطعامه (٣)

__________________

(١) قوله «قوما من الخزر» في الصحاح : الخزر : جيل من الناس. والأخزر : ضيق العين صغيرها ، كما أفاده الصحاح. (ع)

(٢) قال محمود : «فيه إشارة لاختفائه من ضيوفه ، ومن أدب المضيف أن يخفى أمره ... الخ» قال أحمد : معنى حسن ، وقد نقل أبو عبيد أنه لا يقال : راغ إلا إذا ذهب على خفية. ونقل أبو عبيد في قوله عليه السلام : «إذا كفى أحدكم خادمه حر طعامه فليقعده معه ، وإلا فليروغ له لقمة» قال أبو عبيد : يقال روغ اللقمة وسغبلها وسغسغها ومرغها : إذا غمسها فرويت سمنا قلت : وهو من هذا المعنى ، لأنها تذهب مغموسة في السمن حتى تخفى ومن مقلوبه : غور الأرض والجرح وسائر مقلوباته قريبة من هذا المعنى ، والله أعلم.

(٣) قوله «لأنهم لم يتحرموا بطعامه» في الصحاح «الحرمة» : ما لا يحل انتهاكه ، وقد تحرم بصحبته اه. وهو يفيد أن التحرم مراعاة الحرمة ، من حيث لا يحل انتهاكها. (ع)

٤٠١

فظن أنهم يريدون به سوءا. وعن ابن عباس : وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب. وعن عون بن شداد : مسح جبريل العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمّه (بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أى يبلغ ويعلم. وعن الحسن : عليم : نبىّ ، والمبشر به إسحاق ، وهو أكثر الأقاويل وأصحها ، لأن الصفة صفة سارّة لا هاجر ، وهي امرأة إبراهيم وهو بعلها. وعن مجاهد : هو إسماعيل (فِي صَرَّةٍ) في صيحة ، من : صر الجندب ، وصرّ القلم والباب ، ومحله النصب على الحال ، أى : فجاءت صارّة. قال الحسن : أقبلت إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم ، لأنها وجدت حرارة الدم فلطمت وجهها من الحياء ، وقيل : فأخذت في صرة ، كما تقول : أقبل يشتمني. وقيل : صرتها قولها : أوه. وقيل : يا ويلتا. وعن عكرمة : رنتها (١) (فَصَكَّتْ) فلطمت ببسط يديها. وقيل : فضربت بأطراف أصابعها جبهتها فعل المتعجب (عَجُوزٌ) أنا عجوز ، فكيف ألد (كَذلِكَ) مثل ذلك الذي قلنا وأخبرنا به (قالَ رَبُّكِ) أى إنما نخبرك عن الله ، والله قادر على ما تستبعدين. وروى أنّ جبريل قال لها : انظري إلى سقف بيتك ، فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة.

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ)(٣٧)

لما علم أنهم ملائكة وأنهم لا ينزلون إلا بإذن الله رسلا في بعض الأمور (قالَ فَما خَطْبُكُمْ) أى : فما شأنكم وما طلبكم (إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) إلى قوم لوط (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) يريد : السجيل ، وهو طين طبخ كما يطبخ الآجر ، حتى صار في صلابة الحجارة (مُسَوَّمَةً) معلمة ، من السومة وهي العلامة على كل واحد منها اسم من يهلك به. وقيل: أعلمت بأنها من حجارة العذاب. وقيل : بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا. سماهم مسرفين ، كما سماهم عادين ، لإسرافهم وعدوانهم في عملهم : حيث لم يقنعوا بما أبيح لهم. الضمير في (فِيها) للقرية ، ولم يجر لها ذكر لكونها معلومة. وفيه دليل على أنّ الإيمان والإسلام واحد ، وأنهما صفتا مدح. قيل : هم لوط وابنتاه. وقيل : كان لوط وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة عشر. وعن قتادة : لو كان فيها

__________________

(١) قوله «رنتها» في الصحاح «الرنة» الصوت : ، يقال : رفت المرأة رنينا وأرنت أيضا : صاحت. (ع)

٤٠٢

أكثر من ذلك لأنجاهم ، ليعلموا أن الإيمان محفوظ لا ضيعة على أهله عند الله (آيَةً) علامة يعتبر بها الخائفون دون القاسية قلوبهم. قال ابن جريج : هي صخر منضود فيها. وقيل: ماء أسود منتن.

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ)(٤٠)

(وَفِي مُوسى) عطف على (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ) أو على قوله (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً) على معنى : وجعلنا في موسى آية كقوله :

علفتها تبنا وماء باردا

(فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) فازورّ وأعرض ، كقوله تعالى (وَنَأى بِجانِبِهِ) وقيل : فتولى بما كان يتقوّى به من جنوده وملكه. وقرئ : بركنه ، بضم الكاف (وَقالَ ساحِرٌ) أى هو ساحر (مُلِيمٌ) آت بما يلام عليه من كفره وعناده ، والجملة مع الواو حال من الضمير في فأخذناه. فإن قلت : كيف وصف نبى الله يونس صلوات الله عليه بما وصف به فرعون في قوله تعالى (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ)؟ قلت : موجبات اللوم تختلف وعلى حسب اختلافها تختلف مقادير اللوم ، فراكب الكبيرة ملوم على مقدارها ، وكذلك مقترف الصغيرة. ألا ترى إلى قوله تعالى (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) ، (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) لأنّ الكبيرة والصغيرة يجمعهما اسم العصيان ، كما يجمعهما اسم القبيح والسيئة.

(وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ)(٤٢)

(الْعَقِيمَ) التي لا خير فيها من إنشاء مطر أو إلقاح شجر ، وهي ريح الهلاك. واختلف فيها : فعن على رضى الله عنه : النكباء. وعن ابن عباس : الدبور. وعن ابن المسيب : الجنوب. الرميم : كل ما رم أى بلى وتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك.

(وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ)(٤٥)

٤٠٣

(حَتَّى حِينٍ) تفسيره قوله (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ). (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) فاستكبروا عن امتثاله. وقرئ : الصعقة وهي المرّة ، من مصدر صعقتهم الصاعقة : والصاعقة النازلة نفسها (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) كانت نهارا يعاينونها. وروى أن العمالقة كانوا معهم في الوادي ينظرون إليهم وما ضرّتهم (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) كقوله تعالى (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) وقيل : هو من قولهم : ما يقوم به ، إذا عجز عن دفعه (مُنْتَصِرِينَ) ممتنعين من العذاب.

(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ)(٤٦)

(وَقَوْمَ) قرئ بالجر على معنى : وفي قوم نوح وتقوّيه قراءة عبد الله : وفي قوم نوح. وبالنصب على معنى : وأهلكنا قوم نوح ، لأنّ ما قبله يدل عليه. أو واذكر قوم نوح.

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ)(٤٨)

(بِأَيْدٍ) بقوّة. والأيد والآد : القوّة. وقد آد يئيد وهو أيد (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) لقادرون ، من الوسع وهو الطاقة. والموسع : القوى على الإنفاق. وعن الحسن : لموسعون الرزق بالمطر. وقيل : جعلنا بينها وبين الأرض سعة (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) فنعم الماهدون نحن.

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(٤٩)

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أى من كل شيء من الحيوان (خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) ذكرا وأنثى. وعن الحسن : السماء والأرض ، والليل والنهار ، والشمس والقمر ، والبر والبحر ، والموت والحياة ، فعدّد أشياء وقال : كل اثنين منها زوج ، والله تعالى فرد لا مثل له (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أى فعلنا ذلك كله من بناء السماء وفرش الأرض وخلق الأزواج إرادة أن تتذكروا فتعرفوا الخالق وتعبدوه.

(فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)(٥١)

(فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أى إلى طاعته وثوابه (١) من معصيته وعقابه ، ووحدوه ولا تشركوا به

__________________

(١) قال محمود : «معنى ففروا إلى الله ، أى : إلى طاعته من معصيته وإلى ثوابه ... الخ» قال أحمد : حمل الآية ما لم تحمله ، لأنه لا يكاد يخلى سورة حتى يدس في تفسيرها بيده إلى معتقده ، فدس هاهنا القطع بوعيد الفساق وبخلودهم كالكفار ، ولا تحتمل الآية لما ذكر ، فان العناية في قوله (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) الفرار إلى عبادة الله ـ

٤٠٤

شيئا ، وكرّر قوله (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) عند الأمر بالطاعة والنهى عن الشرك ، ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل ، كما أنّ العمل لا ينفع إلا مع الإيمان ، وأنه لا يفوز عند الله إلا الجامع بينهما. ألا ترى إلى قوله تعالى (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) والمعنى : قل يا محمد : ففرّوا إلى الله.

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ)(٥٣)

(كَذلِكَ) الأمر ، أى مثل ذلك ، وذلك إشارة إلى تكذيبهم الرسول وتسميته ساحرا ومجنونا ، ثم فسر ما أجمل بقوله (ما أَتَى) ولا يصح أن تكون الكاف منصوبة بأتى ، لأنّ ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. ولو قيل : لم يأت ، لكان صحيحا ، على معنى : مثل ذلك الإتيان لم يأت من قبلهم رسول إلا قالوا (أَتَواصَوْا بِهِ) الضمير للقول ، يعنى : أتواصى الأوّلون والآخرون بهذا القول حتى قالوه جميعا متفقين عليه (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أى لم يتواصوا به لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد ، بل جمعتهم العلة الواحدة وهي الطغيان ، والطغيان هو الحامل عليه.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)(٥٥)

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) فأعرض عن الذين كرّرت عليهم الدعوة فلم يجيبوا ، وعرفت عنهم العناد واللجاج ، فلا لوم عليك في إعراضك بعد ما بلغت الرسالة وبذلت مجهودك في البلاغ والدعوة ، ولا تدع التذكير والموعظة بأيام الله (فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) أى تؤثر في الذين عرف الله منهم أنهم يدخلون في الإيمان. أو يزيد الداخلين فيه إيمانا. وروى أنه لما نزلت (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد ذلك على أصحابه ، ورأوا أنّ الوحى قد انقطع وأنّ العذاب قد حضر ، فأنزل الله. وذكر.

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)(٥٦)

__________________

ـ فتوعد من لم يعبد الله ، ثم نهي عابده أن يشرك بعبادة ربه غيره ، وتوعده على ذلك. وفائدة تكرار النذارة الدلالة على أنه لا تنفع العبادة مع الاشراك ، بل حكم المشرك حكم الجاحد المعطل ، لا كما قال الزمخشري : المأمور به في الأول الطاعة الموظفة بعد الايمان ، فتوعد تاركها بالوعيد المعروف له وهو الخلود. وعلى هذا لا يكون تكرارا على اختلاف الوعيدين ، فهو أولى ، فكيف يحمل الآية على خلاف ما هو أولى بها ، ليتم الاستدلال بها على معتقده الفاسد ، نعوذ بالله من ذلك.

٤٠٥

أى : وما خلقت الجن والإنس إلا لأجل العبادة ، ولم أرد من جميعهم إلا إياها (١). فإن قلت : لو كان مريدا (٢) للعبادة منهم لكانوا كلهم عبادا؟ قلت : إنما أراد منهم أن يعبدوه مختارين للعبادة لا مضطرين إليها ، لأنه خلقهم ممكنين ، فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريدا لها ، ولو أرادها على القسر والإلجاء لوجدت من جميعهم.

(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)(٥٨)

يريد : أنّ شأنى مع عبادي ليس كشأن السادة مع عبيدهم ، فإنّ ملاك العبيد إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وأرزاقهم ، فإمّا مجهز في تجارة ليفي ربحا. أو مرتب في فلاحة ليعتلّ أرضا. أو مسلم في حرفة لينتفع بأجرته. أو محتطب. أو محتش. أو طابخ. أو خابز ، وما أشبه ذلك من الأعمال والمهن التي هي تصرف في أسباب المعيشة وأبواب الرزق ، فأمّا مالك ملك العبيد وقال لهم : اشتغلوا بما يسعدكم في أنفسكم ، ولا أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي ولا رزقكم ، وأنا غنىّ عنكم وعن مرافقكم ، ومتفضل عليكم برزقكم وبما يصلحكم ويعيشكم من عندي ، فما هو إلا أنا وحدي (الْمَتِينُ) الشديد القوة. قرئ بالرفع صفة لذو ، وبالجر صفة للقوّة على تأويل الاقتدار ، والمعنى في وصفه بالقوة والمتانة : أنه القادر البليغ الاقتدار على كل شيء. وقرئ : الرازق. وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم : إنى أنا الرازق.

__________________

(١) قال محمود : «إلا لأجل العبادة ، ولم أرد من جميعهم إلا إياها ... الخ» قال أحمد : من عاداته أنه إذا استشعر أن ظاهرا موافق لمعتقده نزله على مذهبه بصورة إيراد معتقد أهل السنة سؤالا ، وإيراد معتقده جوابا ، فكذلك صنع هاهنا ، فنقول : السؤال الذي أورده مما لا يجاب عنه بما ذكره ، فانه سؤال مقدماته قطعية عقلية ، فيجب تنزيل الآية عليه ، وهي أن ظاهر سياق الآية دليل لأهل السنة ، فإنها إنما سيقت لبيان عظمته عز وجل ، وأن شأنه مع عبيده لا يقاس به شأن عبيد الخلق معهم ، فان عبيدهم مطلوبون بالخدمة والتكسب للسادة ، وبواسطة مكاسب عبيدهم قدر أرزاقهم. والله تعالى لا يطلب من عباده رزقا ولا إطعاما ، وإنما يطلب منهم عبادته لا غير ، وزائد على كونه لا يطلب منهم رزقا أنه هو الذي يرزقهم ، فهذا المعنى الشريف هو الذي تحلى تحت راية هذه الآية ، وله سيقت ، وبه نطقت ، ولكن الهوى يعمى ويصم ، فحاصله : وما خلقت الجن والانس إلا لأدعوهم إلى عبادتي ، وهذا ما لا يعدل عنه أهل السنة ، فانه وافق معتقدهم وبالله التوفيق.

(٢) قوله «لو كان مريدا العبادة» قد يقال : لا يلزم من خلقهم العبادة أن يريدها من جميعهم. وقوله «مع كونه مريدا لها» هذا على مذهب المعتزلة من أن إرادة الله الفعل من العبد بمعنى الأمر. وأما مذهب أهل السنة فكل ما أراده الله كان ، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد ، وتحقيقه في علم التوحيد. (ع)

٤٠٦

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)(٦٠)

الذنوب : الدلو العظيمة ، وهذا تمثيل ، أصله في السقاة يتقسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب. قال :

لنا ذنوب ولكم ذنوب

فإن أبيتم فلنا القليب (١)

ولما قال عمرو بن شاس :

وفي كل حى قد خبطت بنعمة

فحقّ لشاس من نداك ذنوب (٢)

قال الملك : نعم وأذنبه. والمعنى : فإنّ الذين ظلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكذيب من أهل مكة لهم نصيب من عذاب الله مثل نصيب أصحابهم ونظرائهم من القرون. وعن قتادة : سجلا من عذاب الله مثل سجل أصحابهم (مِنْ يَوْمِهِمُ) من يوم القيامة. وقيل : من يوم بدر. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قرأ سورة والذاريات أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل ريح هبت وجرت في الدنيا (٣).

__________________

(١) إنا إذا شاربنا شريب

له ذنوب ولنا ذنوب

فان أبى كان له القليب

الشريب من يشرب معك. والذنوب : الدلو الممتلئة ماء ، والنصيب من الماء. والذنابة : مسيل الماء. والقلب البئر لقلب ترابه. يقول : إنا كرام نشاطر شريبنا ، فان لم يرض بالمناوبة أعطيناه الجميع. وروى بدل المصراعين

الأخيرين : لنا ذنوب ولكم ذنوب

فان أبيتم فلنا القليب

ولعل الصواب : فان أبى أو فان أبيتم فلنا ، لئلا ينكر البيت. والمعنى : نقول لمن يشرب معنا ذلك ، ففيه دلالة على الشجاعة والغلبة. والشريب كالعشير : يطلق على الواحد والمتعدد.

(٢) وأفت الذي آثاره في عدوه

من البؤس والنعمى لهن ندوب

وفي كل حى قد خبطت بنعمة

فحق لشاس من نداك ذنوب

لشاس أخى علقمة بن عبيدة ، يخاطب الحرث بن أبى شمر الغساني وكان أسيرا عنده. والندوب ـ في الأصل ـ : آثار الجراح بعد برئها. ومن بيانية ، أى : آثاره التي هي البؤس والنعمى. أو ابتدائية ، أى : الناشئة منهما ، لهن بقايا في عدوه. والبؤس : الشدة ، والنعمى : الرخاء. والخابط : الذي يخبط مواضع الفقراء يتفقد أحوالهم من غير تخصيص ، ثم قيل لكل طالب : خابط ومختبط. ويجوز أن يكون من قولهم : خبط الشجرة ، ليسقط ورقها للإبل والغنم فاستعار في نفسه الورق للأموال ، والخبط تخييل والمعنى أنه شجاع كريم ، بأسه أوهن الأعداء ونعمته ظهرت عليهم بل على جميع الناس وشاس من وضع الظاهر موضع المضمر لإظهار المسكنة والاستعطاف : قيل : إن القائل عمرو بن شاس ، فوضع الظاهر في موضعه. ولما سمع الحرث ذلك قال : نعم وأذنبته ، وكسا شاسا ومن معه ، وأركبهم وأطلقهم ، ولما استعار الندى للعطاء رشح ذلك بالذنوب : وهو الدلو الممتلئة.

(٣) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.

٤٠٧

سورة الطور

مكية ، وهي تسع وأربعون ، وقيل : ثمان وأربعون آية

[نزلت بعد السجدة]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً)(١٠)

الطور : الجبل الذي كلم الله عليه موسى وهو بمدين. والكتاب المسطور في الرق المنشور ، والرق : الصحيفة. وقيل : الجلد الذي يكتب فيه الكتاب الذي يكتب فيه الأعمال. قال الله تعالى (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) وقيل : هو ما كتبه الله لموسى وهو يسمع صرير القلم. وقيل : اللوح المحفوظ. وقيل القرآن ، ونكر لأنه كتاب مخصوص من بين جنس الكتب ، كقوله تعالى (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها). (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) الضراح (١) في السماء الرابعة. وعمرانه : كثرة غاشيته من الملائكة. وقيل : الكعبة لكونها معمورة بالحجاج والعمار والمجاورين (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) السماء (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) المملوء. وقيل : الموقد ، من قوله تعالى (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) وروى أن الله تعالى يجعل يوم القيامة البحار كلها نارا تسجر بها نار جهنم. وعن على رضى الله عنه أنه سأل يهوديا : أين موضع النار في كتابكم؟ قال : في البحر. قال على : ما أراه إلا صادقا ، (٢) لقوله تعالى (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ). (لَواقِعٌ) لنازل. قال

__________________

(١) قوله «والبيت المعمور الضراح في السماء» في الصحاح «الضراح» بالضم : بيت في السماء ، وهو البيت المعمور. عن ابن عباس. (ع)

(٢) أخرجه الطبري من رواية داود بن أبى هند عن سعيد بن المسيب قال : قال على لرجل من اليهود : أين جهنم؟ قال : البحر. قال. ما أراه إلا صادقا : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) ، (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ).

٤٠٨

جبير بن مطعم : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلمه في الأسارى فألفيته في صلاة الفجر يقرأ سورة الطور ، فلما بلغ : إن عذاب ربك لواقع : أسلمت خوفا من أن ينزل العذاب (١) (تَمُورُ السَّماءُ) تضطرب وتجيء وتذهب. وقيل : المور تحرك في تموّج ، وهو الشيء يتردد في عرض كالداغصة في الركبة (٢).

(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ)(١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١٦)

غلب الخوض في الاندفاع في الباطل والكذب. ومنه قوله تعالى (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) ، (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) الدع : الدفع العنيف ، وذلك أن خزنة النار يغلون أيديهم إلى أعناقهم ، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ، ويدفعونهم إلى النار دفعا على وجوههم وزخا في أقفيتهم (٣). وقرأ زيد بن علىّ : يدعون ، من الدعاء أى يقال لهم : هلموا إلى النار ، وادخلوا النار (دَعًّا) مدعوعين ، يقال لهم : هذه النار (أَفَسِحْرٌ هذا) يعنى كنتم تقولون للوحى هذا سحر ، أفسحر هذا؟ يريد : أهذا المصداق أيضا سحر؟ ودخلت الفاء لهذا المعنى (أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) كما كنتم لا تبصرون في الدنيا ، يعنى : أم أنتم عمى عن المخبر عنه كما كنتم عميا عن الخبر ، وهذا تقريع وتهكم (سَواءٌ) خبر محذوف ، أى : سواء عليكم الأمران : الصبر وعدمه ، فإن قلت : لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)؟ قلت : لأنّ الصبر إنما يكون له مزية على الجزع ، لنفعه في العاقبة بأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير ، فأما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة ، فلا مزية له على الجزع.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ

__________________

(١) لم أجده هكذا. والذي جاء في الصحيح «أن ذلك في صلاة المغرب» وأنه قال لما سمع (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) ـ إلى آخره : كاد قلبي يطير».

(٢) قوله «كالداغصة في الركبة» هي العظم المدور الذي يتحرك على رأس الركبة ، كما في الصحاح. (ع)

(٣) قوله «وزخا في أقفيتهم» في الصحاح «زخه» أى : دفعه في وهدة اه. (ع)

٤٠٩

رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ)(٢٠)

(فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) في أية جنات وأى نعيم ، بمعنى الكمال في الصفة. أو في جنات ونعيم مخصوصة بالمتقين خلقت لهم خاصة. وقرئ : فاكهين وفكهين وفاكهون : من نصبه حالا جعل الظرف مستقرا ، ومن رفعه خبرا جعل الظرف لغوا ، أى : متلذذين (بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ). فإن قلت : علام عطف قوله (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ)؟ قلت : على قوله (فِي جَنَّاتٍ) أو على (آتاهُمْ رَبُّهُمْ) على أن تجعل ما مصدرية ، والمعنى : فاكهين بإيتائهم ربهم ووقايتهم عذاب الجحيم. ويجوز أن تكون الواو للحال وقد بعدها مضمرة. يقال لهم (كُلُوا وَاشْرَبُوا) أكلا وشربا (هَنِيئاً) أو طعاما وشرابا هنيئا ، وهو الذي لا تنغيص فيه. ويجوز أن يكون مثله في قوله :

هنيئا مريئا غير داء مخامر

لعزّة من أعراضنا ما استحلّت (١)

أعنى : صفة استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل مرتفعا به ما استحلت كما يرتفع بالفعل» كأنه قيل : هناء عزة المستحل من أعراضنا ، وكذلك معنى (هَنِيئاً) هاهنا : هناءكم الأكل والشرب. أو هناءكم ما كنتم تعملون ، أى : جزاء ما كنتم تعملون. والباء مزيدة كما في (كَفى بِاللهِ) والباء متعلقة بكلوا واشربوا إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب. وقرئ : بعيس (٢) عين.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ

__________________

(١) يكلفها الخنزير شتمي وما بها

هواني ولكن للمليك استذلت

هنيئا مريئا غير داء مخامر

لعزة من أعراضنا ما استحلت

لكثير بن صخر صاحب عزة ، كان ينشد أشعاره في حلقة البصرة ، فمرت به مع زوجها فقال لها : لتغضبنه أو لأضربنك ، فقالت : كذا وكذا بفم الشاعر ، فقال ذلك. وقيل : خرجت تطلب سمنا فصادفها كثير فتحادثا ، وسكب من أداوة معه في إنائها حتى بل ثوبها ، وأنكر ذلك زوجها ، فقصت عليه القصص ، فأمرها بشتمه فقال ذلك. والمليك : مالك أمرها. وما بها هواني : أى ليست مريدة له. وهنيئا مريئا : صفتان مستعملتان استعمال المصدر النائب عن فعله ، وما استحلت : مرفوع محلا بأحدهما على التنازع ، وغير نصب على الحال. ومن أعراضنا بيان لما بعده. والهنيء والمريء : الذي لا تنغيص فيه ، المحمود العاقبة ، والمخامر : المخالط ، وشبه عرضه بالشراب السائغ على طريق المكنية. وهنيئا مريئا : تخييل. ويجوز أن التجوز فيهما على طريق التصريحية.

(٢) قوله «وقرئ بعيس» في الصحاح : العيس ـ بالكسر ـ : الإبل البيض يخالط بياضها شيء من الشقرة ، واحدها : أعيس ، والأنثى : عيساء ، ويقال : هي كرائم الإبل اه ولعله هنا استعارة للنساء. (ع)

٤١٠

وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ)(٢٤)

(وَالَّذِينَ آمَنُوا) معطوف على (بِحُورٍ عِينٍ) أى قرناهم بالحور وبالذين آمنوا ، أى : بالرفقاء والجلساء منهم ، كقوله تعالى (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) فيتمتعون تارة بملاعبة الحور ، وتارة بمؤانسة الإخوان المؤمنين (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقرّبهم (١) عينه» ثم تلا هذه الآية. فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم ، وبمزاوجة الحور العين ، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم. ثم قال (بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) أى بسبب إيمان عظيم رفيع المحل ، وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها ، تفضلا عليهم وعلى آبائهم ، لنتم سرورهم ونكمل نعيمهم. فإن قلت : ما معنى تنكير الايمان؟ قلت : معناه الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة. ويجوز أن يراد : إيمان الذرية الداني المحل : كأنه قال : بشيء من الإيمان ، لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم. وقرئ : وأتبعتهم ذريتهم واتبعتهم ذريتهم. وذرياتهم : وقرئ : ذرياتهم ، بكسر الذال. ووجه آخر : وهو أن يكون (وَالَّذِينَ آمَنُوا) مبتدأ خبره (بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) وما بينهما اعتراض (وَما أَلَتْناهُمْ) وما نقصناهم. يعنى : وفرنا عليهم جميع ما ذكرنا من الثواب والتفضل ، وما نقصناهم من ثواب عملهم من شيء. وقيل معناه : وما نقصناهم من ثوابهم شيئا نعطيه الأبناء حتى يلحقوا بهم ، إنما ألحقناهم بهم على سبيل التفضل. قرئ : ألتناهم ، وهو من بابين : من ألت يألت ، ومن ألات يليت ، كأمات يميت. وآلتناهم ، من آلت يؤلت ، كآمن يؤمن. ولتناهم ، من لات يليت. وولتناهم ، من ولت يلت. ومعناهنّ واحد (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) أى مرهون ، كأن نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح الذي هو مطالب به ، كما يرهن الرجل عبده بدين عليه ، فإن عمل صالحا فكها وخلصها ، وإلا أوبقها (وَأَمْدَدْناهُمْ) وزدناهم في وقت بعد وقت (يَتَنازَعُونَ) يتعاطون ويتعاورون هم وجلساؤهم من أقربائهم وإخوانهم (كَأْساً) خمرا (لا لَغْوٌ فِيها) في شربها (وَلا تَأْثِيمٌ) أى لا يتكلمون في أثناء الشرب بسقط الحديث وما لا طائل تحته كفعل المتنادمين في الدنيا على الشراب في سفههم وعربدتهم ، ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله ، أى : ينسب إلى الإثم

__________________

(١) أخرجه البزار وابن عدى. وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه. والثعلبي من طريق قيس بن الربيع عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا. قال البزار تفرد قيس برفعه. ورواه الثوري موقوفا ورواه الحاكم والبيهقي في الاعتقاد والطبري وابن أبى حاتم من طريق الثوري عن عمرو بن مرة به موقوفا

٤١١

لو فعله في دار التكليف من الكذب والشتم والفواحش ، وإنما يتكلمون بالحكم والكلام الحسن متلذذين بذلك ، لأنّ عقولهم ثابتة غير زائلة ، وهم حكماء علماء. وقرئ : لا لغو فيها ولا تأثيم (غِلْمانٌ لَهُمْ) أى مملوكون لهم مخصوصون بهم (مَكْنُونٌ) في الصدف ، لأنه رطبا أحسن وأصفى. أو مخزون لأنه لا يخزن إلا الثمين الغالي القيمة. وقيل لقتادة : هذا الخادم فكيف المخدوم؟ فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» (١) وعنه عليه السلام : «إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادى الخادم من خدامه فيجيبه ألف ببابه : لبيك لبيك» (٢).

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)(٢٨)

(يَتَساءَلُونَ) يتحادثون ويسأل بعضهم بعضا عن أحواله وأعماله وما استوجب به نيل ما عند الله (مُشْفِقِينَ) أرقاء القلوب من خشية الله. وقرئ ، ووقانا ، بالتشديد (عَذابَ السَّمُومِ) عذاب النار ووهجها ولفحها. والسموم : الريح الحارّة التي تدخل المسام فسميت بها نار جهنم لأنها بهذه الصفة (مِنْ قَبْلُ) من قبل لقاء الله تعالى والمصير إليه ، يعنون في الدنيا (نَدْعُوهُ) نعبده ونسأله الوقاية (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ) المحسن (الرَّحِيمُ) العظيم الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب. وقرئ : أنه بالفتح ، بمعنى : لأنه.

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ)(٢٩)

(فَذَكِّرْ) فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم ، ولا يثبطنك قولهم : كاهن أو مجنون ، ولا تبال به فإنه قول باطل متناقض ، لأنّ الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة نظر ، والمجنون مغطى على عقله. وما أنت بحمد الله وإنعامه عليك بصدق النبوّة ورجاحة العقل أحد هذين.

(أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ

__________________

(١) أخرجه عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة به قال فذكره ، وأخرجه الثعلبي من رواية الحسن مرسلا

(٢) أخرجه الثعلبي من رواية عمر بن عبد العزيز البصري عن يوسف بن أبى طيبة عن وكيع عن هشام عن أبيه عن عائشة نحوه.

٤١٢

مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٤٣)

وقرئ : يتربص به ريب المنون ، على البناء للمفعول. وريب المنون. ما يقلق النفوس ويشخص بها من حوادث الدهر. قال :

أمن المنون وريبه أتوجّع (١)

وقيل : المنون الموت ، وهو في الأصل فعول ، من منه إذا قطعه ، لأن الموت قطوع ، ولذلك سميت شعوب. قالوا : ننتظر به نوائب الزمان فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء: زهير والنابغة (مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكى (أَحْلامُهُمْ) عقولهم وألبابهم. ومنه قولهم : أحلام عاد. والمعنى : أتأمرهم أحلامهم بهذا التناقض في القول ، وهو قولهم : كاهن وشاعر ، مع قولهم مجنون. وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهى (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) مجاوزون الحدّ في العناد مع ظهور الحق لهم. فإن قلت : ما معنى كون الأحلام آمرة؟ قلت :

__________________

(١) أمن المنون وريبه أتوجع

والدهر ليس بمعتب من يجزع

لأبى ذويب مطلع مرثية بنيه ، والاستفهام للإنكار. وريب المنون : ما يقلق النفوس ويدهشها من حوادث الدهر. والمنون : الموت ، كالمنية ، لأنه مقدر ، فهو من منى إذا قدر. وقوله «والدهر ... الخ» جملة حالية. ويقال : أعتبه ، إذا قبل عتابه وأزال شكواه ، فشبه الدهر بإنسان مسيء على طريق المكنية ، وإسناد الاعتاب تخييل. والجزع : شدة الحزن.

٤١٣

هو مجاز لأدائها إلى ذلك ، كقوله تعالى (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) وقرئ: بل هم قوم طاغون. (تَقَوَّلَهُ) اختلقه من تلقاء نفسه (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذه المطاعن ، مع علمهم ببطلان قولهم ، وأنه ليس بمتقوّل لعجز العرب عنه ، وما محمد إلا واحد من العرب. وقرئ بحديث مثله على الإضافة ، والضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعناه : أن مثل محمد في فصاحته ليس بمعوز في العرب ، فإن قدر محمد على نظمه كان مثله قادرا عليه ، فليأتوا بحديث ذلك المثل : (أَمْ خُلِقُوا) أم أحدثوا وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم (مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) من غير مقدّر (أَمْ هُمُ) الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق (بَلْ لا يُوقِنُونَ) أى : إذا سئلوا من خلقكم وخلق السماوات والأرض؟ قالوا : الله ، وهم شاكون فيما يقولون ، لا يوقنون. وقيل : أخلقوا من أجل لا شيء من جزاء ولا حساب؟ وقيل : أخلقوا من غير أب وأم؟ (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ) الرزق حتى يرزقوا النبوّة من شاءوا. أو : أعندهم خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختياره حكمة ومصلحة؟ (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) الأرباب الغالبون ، حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم؟ وقرئ : المصيطرون بالصاد (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ) منصوب إلى السماء يستمعون صاعدين فيه إلى كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم وظفرهم في العاقبة دونه كما يزعمون؟ (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) بحجة واضحة تصدق استماع مستمعهم. المغرم : أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه ، أى : لزمهم مغرم ثقيل فدحهم (١) فزهدهم ذلك في اتباعك؟ (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) أى اللوح المحفوظ (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) ما فيه حتى يقولوا لا نبعث. وإن بعثنا لم نعذب (٢) (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) وهو كيدهم في دار الندوة برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) إشارة اليهم أو أريد بهم كل من كفر بالله (هُمُ الْمَكِيدُونَ) هم الذين يعود عليهم وبال كيدهم ويحيق بهم مكرهم. وذلك أنهم قتلوا يوم بدر. أو المغلوبون في الكيد ، من كايدته فكدته.

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(٤٧)

__________________

(١) قوله «فدحهم فزهدهم» أى : أثقلهم وبهظهم. أفاده الصحاح. (ع)

(٢) قوله «وإن بعثنا لم نعذب» لعله : لا نعذب. (ع)

٤١٤

الكسف : القطعة ، وهو جواب قولهم (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) يريد : أنهم لشدّة طغيانهم وعنادهم لو أسقطناه عليهم لقالوا : هذا سحاب مركوم بعضه فوق بعض يمطرنا ، ولم يصدقوا أنه كسف ساقط للعذاب. وقرئ : حتى يلقوا ويلقوا (يُصْعَقُونَ) يموتون. وقرئ : يصعقون. يقال. صعقه فصعق ، وذلك عند النفخة الأولى نفخة الصعق (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) وإن. لهؤلاء الظلمة (عَذاباً دُونَ ذلِكَ) دون يوم القيامة : وهو القتل ببدر ، والقحط سبع سنين ، وعذاب القبر. وفي مصحف عبد الله : دون ذلك قريبا.

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ)(٤٩)

(لِحُكْمِ رَبِّكَ) بإمهالهم وما يلحقك فيه من المشقة والكلفة (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) مثل ، أى : بحيث نراك ونكلؤك. وجمع العين لأنّ الضمير بلفظ ضمير الجماعة. ألا ترى إلى قوله تعالى (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي). وقرئ : وبأعينا ، بالإدغام (حِينَ تَقُومُ) من أى مكان قمت. وقيل : من منامك (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) وإذا أدبرت النجوم من آخر الليل. وقرئ : وأدبار ، بالفتح بمعنى في أعقاب النجوم وآثارها إذا غربت ، والمراد الأمر بقول : سبحان الله وبحمده في هذه الأوقات. وقيل التسبيح : الصلاة إذا قام من نومه ، ومن الليل : صلاة العشاءين ، وأدبار النجوم : صلاة الفجر.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة الطور كان حقا على الله أن يؤمنه من عذابه وأن ينعمه في جنته» (١).

__________________

(١) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبى بن كعب رضى الله عنه.

٤١٥

سورة النجم

مكية [إلا آية ٣٢ فمدنية] وآياتها ٦٢ وقيل ٦١ آية

[نزلت بعد الإخلاص]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى)(١٨)

النجم : الثريا ، وهو اسم غالب لها. قال :

إذا طلع النّجم عشاء

ابتغى الرّاعى كساء (١)

__________________

(١) هذا تقوله العرب عند الشتاء ، وتقول عند الصيف :

طلع النجم غدية

وابتغى الراعي شكية

والنجم : اسم غالب على الثريا ، قيل : إنها تخفى في السنة أربعين يوما يسترها ضوء الشمس ، وتظهر عند دخول الشتاء عشاء ، وعند دخول الصيف صباحا ، والكساء : ثوب سابغ. والغدية : تصغير غدوة : وهي أول النهار. والشكية : تصغير شكوة ، وهي قرية صغيرة جرداء ، لأنه في الشتاء يطلب كساء بدنية لكثرة البرد ، وفي الصيف يطلب قربة يشرب منها لكثرة الحر ، والأول كناية عن دخول البرد ، والثاني كناية عن دخول الحر.

٤١٦

أو جنس النجوم. قال :

فباتت تعد النّجم

في مستحيرة (١)

يريد النجوم (إِذا هَوى) إذا غرب أو انتثر يوم القيامة. أو النجم الذي يرجم به إذا هوى : إذا انقض. أو النجم من نجوم القرآن ، وقد نزل منجما في عشرين سنة ، إذا هوى : إذا نزل. أو النبات إذا هوى : إذا سقط على الأرض. وعن عروة بن الزبير أنّ عتبة بن أبى لهب وكانت تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى الشام ، فقال : لآتين محمدا فلأوذينه ، فأتاه فقال : يا محمد ، هو كافر بالنجم إذا هوى ، وبالذي دنا فتدلى ، ثم تفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وردّ عليه ابنته وطلقها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ، وكان أبو طالب حاضرا ، فوجم (٢) لها وقال : ما كان أغناك يا ابن أخى عن هذه الدعوة! فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره ، ثم خرجوا إلى الشام فنزلوا منزلا ، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم : إن هذه أرض مسبعة ، فقال أبو لهب لأصحابه : أغيثونا يا معشر

__________________

(١) فقد علموا أنى وفيت لربها

فراح على عنس بأخرى يقودها

قريت الكلابي الذي يبتغى القرى

وأمك إذ يحدى إلينا قعودها

فباتت تعد النجم في مستحيرة

سريع بأيدى الآكلين جمودها

فلما سقيناها العكيس تملأت

مذاخرها وارفض منها وريدها

ولما قضت من ذى الإناء لبانة

أرادت إلينا حاجة لا نريدها

للراعي النميري من بنى قطن بن ربيعة : نزل به أضياف من بنى كلاب وقد غابت إبله ، فنحر لهم ناقة من ركابهم ، فلما أصبح أقبلت عليه إبله ، فأعطى صاحب الناقة مثلها ، وأعطاه ثنية زيادة عليها ، نذمه خنزر بن أرقم من بنى بدر ابن ربيعة على ذبحها ، فأجابه الراعي بقصيدة منها ذلك. والعنس : الناقة الصلبة. وأمك : عطف على الكلابي.

ويحدى : مبنى للمجهول ، أى : يساق بالغناء له. والقعود ـ كصبور ـ : البكر من الإبل ، لأنه لا يمكن الراكب من القعود على ظهره. وروى : إذ يحدى إليك ، بدل إلينا. ولعله بعد الضيافة الآتية أو تحريف ، فباتت أمك تعد النجم ، أى : تحسب صور النجوم ، أو تحسب فقاقع المرق في الجفنة ، فاستعار لها النجم على سبيل التصريحية. أو تحسب الثريا ، لأن النجم اسم غالب عليها ، وهي سبعة نجوم : ترى صورتها في ليالي الشتاء. وقيل : المراد بالعد هنا : الظن ، أى باتت تظنا فيها. والمستحيرة : المتحيرة بامتلائها من المرق. ويروى : مستجرة لأنها تجر الناس للأكل منها والعكس : المرق الممزوج باللبن الحليب. وتملأت : امتلأت. ويروى : تمدحت ، بالدال المهملة ، أى : اتسعت من الشبع. ويروى بالمعجمة ، أى : اصطكت واضطربت. والمذاخر : مواضع الذخائر : والمراد بها المعدة والأمعاء. ويروى : خواصرها ، أى : جوانبها. وارفض : رشح وترشرش وارتعد ونفر ، ويروى : وازداد رشحا وريدها. أى : باتت تنظر النجوم في جفنة كثيرة المرق والدسم ، سريع جمود دسمها على أيدى الآكلين من برد الشتاء ، حتى إذا امتلأت بطنها ونفرت عروق عنقها وقضت لبانة ، أى : حاجة من صاحب الإناء وهو المرق واللبن : طلبت منا حاجة لا نريدها ولا نرضاها ، لأنها فاحشة وكأنه صمن أرادت معنى التضرع أو الميل أو النسبة فعداء بإلى. ويجوز أنها بمعنى من ، كما أوضحناه في آخر حرف الباء.

(٢) قوله «فوجم لها» أى اشتد حزنه. أفاده الصحاح. (ع)

٤١٧

قريش هذه الليلة ، فإنى أخاف على ابني دعوة محمد ، فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم ، وأحدقوا بعتبة ، فجاء الأسد يتشمم وجوههم ، حتى ضرب عتبة فقتله (١). وقال حسان :

من يرجع العام إلى أهله

فما أكيل السّبع بالرّاجع (٢)

(ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم : والخطاب لقريش ، وهو جواب القسم ، والضلال : نقيض الهدى ، والغى نقيض الرشد ، أى : هو مهتد راشد وليس كما تزعمون من نسبتكم إياه إلى الضلال والغى ، وما أتاكم به من القرآن ليس بمنطق يصدر عن هواه ورأيه ، وإنما هو وحى من عند الله يوحى إليه. ويحتج بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء ، ويجاب بأنّ الله تعالى إذا سوّغ لهم الاجتهاد ، كان الاجتهاد وما يستند إليه كله وحيا لا نطقا عن الهوى (شَدِيدُ الْقُوى) ملك شديد قواه ، والإضافة غير حقيقية ، لأنها إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها ، وهو جبريل عليه السلام ، ومن قوّته أنه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود ، وحملها على جناحه ، ورفعها إلى السماء ثم قلبها ، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين ، وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده في أوحى من رجعة الطرف (٣) ، ورأى إبليس يكلم عيسى عليه السلام على

__________________

(١) أخرجه أبو نعيم في الدلائل من طريق ابن إسحاق عن عثمان بن عروة عن أبيه فذكر مثله. إلا أنه قال «فضربه الأسد بذنبه ضربة واحدة فمات مكانه» ورواه البيهقي في الدلائل والطبراني من طريق سعيد عن قتادة مطولا نحوه. لكن قال عنبسة : ورواه الحاكم والبيهقي في الدلائل أيضا. من رواية أبى نوفل بن أبى عقرب عن أبيه. قال «كان لهب بن أبى لهب» فذكره مختصرا. وقال البيهقي : هكذا قال عباس بن الفضل الأزرق. وليس بالقوى. وأهل المغازي يقولونه عتبة أو عتيبة.

(٢) لا يرفع الرحمن مصروعكم

ولا يوهن قوة الصارع

وكان فيه لكم عبرة

السيد المتبوع والتابع

من يرجع العلم إلى أهله

فما أكيل السبع بالراجع

من عاد فالليث له عائد

أعظم به من خبر شائع

لحسان بن ثابت. روى عن عروة بن الزبير أن عتبة بن أبى لهب كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذهب إليه وقال : إنه كافر بالنجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى ثم تفل في وجهه وطلق ابنته وخرج إلى الشام فقال صلى الله عليه وسلم : اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ، فبينما هم يحرسونه ذات ليلة في سفر ، إذ جاء أسد يتشمم وجوههم حتى ضرب عتبة فقتله ، فقال حسان ذلك ، والفعلان مجزومان بلا الدعائية. ويوهن بالتشديد ، والمعنى الدعاء على القتيل والدعاء للقاتل. والمصروع : المطروح. والعبرة : الاعتبار أو ما يعتبر به. والتابع عطف على السيد. من يرجع في هذا العام إلى أهله فلن يوجب رجوع غيره ، لأن من أكله السبع لا يرجع فلا يتمن أهله رجوعه ، لاستحالته وسكون السبع لغة ، ثم قال : من عاد لمثل فعل عتبة فالأسد عائد له ، وأعظم به : صيغة تعجب ، من خبر : تمييز مقترن بمن ، شائع : ذائع منتشر.

(٣) قوله «في أوحى من رجعة الطرف» أى : أسرع من الوحى وهو السرعة ، يمد ويقصر ، كذا في الصحاح. وفيه أيضا : نفحت الناقة : ضربت برجلها ، ونفحه بالسيف : تناوله. (ع)

٤١٨

بعض عقاب الأرض المقدّسة ، فنفحه بجناحه نفحة فألقاه في أقصى جبل بالهند (ذُو مِرَّةٍ) ذو حصافة في عقله (١) ورأيه ومتانة في دينه (فَاسْتَوى) فاستقام على صورة نفسه الحقيقية دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي ، وكان ينزل في صورة دحية ، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها ، فاستوى له في الأفق الأعلى وهو أفق الشمس فملأ الأفق (٢). وقيل : ما رآه أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد صلى الله عليه وسلم مرتين : مرة في الأرض ، ومرة في السماء (٣) (ثُمَّ دَنا) من رسول الله صلى الله عليه وسلم (فَتَدَلَّى) فتعلق عليه في الهواء. ومنه : تدلت الثمرة ، ودلى رجليه من السرير. والدوالي : الثمر المعلق. قال :

تدلّى عليها بين سب وخيطة (٤)

ويقال : هو مثل القرلى : إن رأى خيرا تدلى ، وإن لم يره تولى (قابَ قَوْسَيْنِ) مقدار قوسين عربيتين : والقاب والقيب ، والقاد والقيد ، والقيس : المقدار. وقرأ زيد بن على : قاد. وقرئ : قيد ، وقدر. وقد جاء التقدير بالقوس والرمح ، والسوط ، والذراع ، والباع ، والخطوة ، والشبر ، والفتر ، والأصبع. ومنه «لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين» (٥). وفي الحديث «لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قدّه خير من الدنيا وما فيها (٦)» والقدّ : السوط. ويقال : بينهما خطوات يسيرة. وقال :

__________________

(١) قوله «ذو حصافة في عقله» أى : استحكام» أفاده الصحاح. (ع)

(٢) لم أجده هكذا. وفي الصحيحين من رواية مسروق عن عائشة «أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إنما هو جبريل لم أره على صورته التي رأيته عليها غير هاتين المرتين : رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض» وللترمذي وابن حبان «ولكنه رأى جبريل ، لم يره في صورته إلا مرتين :

مرة عند سدرة المنتهى. ومرة في أجياد ، له ستمائة جناح ، وقد سد الأفق».

(٣) لم أجده. هكذا. وذكر المرتين ، تقدم في الذي قبله.

(٤) تدلى عليها بين سب وخيطة

تدلى دلو المائج المنشمر

يروى لأبى ذؤيب بدل الشطر الثاني : بجرداء مثل الوكف يكبو غرابها. والسب ـ بالكسر ـ : الحبل ، والخمار ، والعمامة ، والخيطة كذلك الوتد ونحوه : في لغة هذيل. والمائح : مالئ الدلو من أسفل البئر. والمائح ـ بالتاء ـ : المستقى ، يصف جانى العسل بأنه تدلى على النحل أو العسل ، لأنه يؤنث أيضا ، أى : نزل متمسكا بحبل مشدود في وتد ، كتدلى دلو المالئ النشيط. والجرداء : فرس قليلة الشعر. والوكف : النطع. وكبا الجواد يكبو : سقط على وجهه. وغراب الدابة : أعلى ظهرها ، أى : كأن غرابها ينحدر لسرعة سيرها.

(٥) أخرجه الحاكم من حديث عمرو بن عبسة في حديث طويل ورواه إسحاق والدارقطني من حديث كعب بن مرة نحوه في حديث ، ورواه الطبراني من حديث عبد الرحمن بن عوف مختصرا.

(٦) أخرجه البخاري من طريق حميد عن أنس أتم من هذا.

٤١٩

وقد جعلتني من حزيمة أصبعا (١)

فإن قلت : كيف تقدير قوله (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ)؟ قلت : تقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين (٢) ، فحذفت هذه المضافات كما قال أبو على في قوله : وقد جعلتني من حزيمة أصبعا أى : ذا مقدار مسافة أصبع (أَوْ أَدْنى) أى على تقديركم ، كقوله تعالى (أَوْ يَزِيدُونَ). (إِلى عَبْدِهِ) إلى عبد الله ، وإن لم يجر لاسمه عزّ وجل ذكر ، لأنه لا يلبس ، كقوله (عَلى ظَهْرِها). (ما أَوْحى) تفخيم للوحى الذي أوحى (٣) إليه : قيل أوحى إليه «إنّ الجنة محرّمة على الأنبياء حتى تدخلها وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك» (ما كَذَبَ) فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام ، أى : ما قال فؤاده لما رآه : لم أعرفك ، ولو قال ذلك لكان كاذبا ، لأنه عرفه ، يعنى : أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه ، ولم يشك في أنّ ما رآه حق وقرئ : ما كذب ، أى صدقه ولم يشك أنه جبريل عليه السلام بصورته (أَفَتُمارُونَهُ) من المراء وهو الملاحاة والمجادلة واشتقاقه من مرى الناقة ، (٤) كأن كل واحد من المتجادلين يمرى ما عند صاحبه. وقرئ : أفتمرونه : أفتغلبونه في المراء ، من ماريته فمريته ، ولما فيه من معنى الغلبة عدّى بعلى ، كما تقول : غلبته على كذا : وقيل : أفتمرونه : أفتجحدونه. وأنشدوا :

لئن هجوت أخا صدق ومكرمة

لقد مريت أخا ما كان يمريكا (٥)

__________________

(١) فأدرك إبقاء العراوة ظلعها

وقد جعلتني من حزيمة أصبعا

للكلحية ، وهو لقب لعبد الله بن هبيرة. وقيل : جرير بن هبيرة. وقيل : هبيرة بن عبد مناف. وقيل : هو للأسود بن يعفر. وقيل : لرؤبة وليس بشيء. والإبقاء : ما تبقيه الفرس من الهمة لتبذله قرب بلوغ المقصد. والعراوة كجرادة. وقيل : بالكسر اسم فرسه. والظلع ـ بالفتح ـ : غمز في المشية من وجع الرجل ، أى : أدرك الظلع ما أبقته الفرس فلم تقدر على بذله ، والحال أنها جعلتني قريبا من عدوى حزيمة بمهملة مفتوحة فمعجمة مكسورة : رجل كان قد أغار على إبل الشاعر فتبعه. وقيل : قبيلته وليس بذاك. ويروى : فأدرك إرقال العراوة. والإرقال : الاسراع في السير ، أى : أبطل إسراعها العرج ، ولا بد من تأويل قوله : جعلتني أصبعا أى : جعلتني ذا مسافة أصبع. أو جعلت مسافتي مقدار أصبع.

(٢) قال محمود : «تقديره : فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين إلى آخره» قال أحمد : وقد قال بعضهم: إنه كناية عن المعاهدة على لزوم الطاعة ، لأن الحليفين في عرف العرب إذا تحالفا على الوفاء والصفاء ألصقا وترى قوسيهما» قال أحمد : وفيه ميل لقوله (أَوْ أَدْنى).

(٣) قال محمود : «هذا تفخيم للوحى الذي أوحى الله إليه» قال أحمد : التفخيم لما فيه من الإبهام ، كأنه أعظم من أن يحيط به بيان ، وهو كقوله : (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) وقوله (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ).

(٤) قوله «من مرى الناقة» في الصحاح : مريت الناقة ، إذا مسحت ضرعها لتدر. (ع)

(٥) يقول لصاحبه : لئن ذممت أخا صدق ومكرمة ، يعنى : نفسه. ويقال : مرى الناقة ، أى : حلبها. ومنه المماراة. كأن كلا من المتجادلين يمرى ما عند صاحبه. ومنه : فقد مريت أخا صدق ، أى : غلبته في الجدال وأنفذت ـ

٤٢٠