الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

على معنى : أنّ نعم الله عليهم لا تحصى ، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه ، فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة. وقيل المعنى : عجبوا لإيلاف قريش. وقيل : هو متعلق بما قبله ، أى : فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش ، وهذا بمنزلة التضمين في الشعر : وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقا لا يصح إلا به ، وهما في مصحف أبىّ سورة واحدة بلا فصل. وعن عمر : أنه قراهما في الثانية من صلاة المغرب ، وقرأ في الأولى : والتين (١). والمعنى أنه أهلك الحبشة الذين قصدوهم ليتسامع الناس بذلك ، فيتهيبوهم زيادة تهيب ، ويحترموهم فضل احترام ، حتى ينتظم لهم الأمن في رحلتيهم ، فلا يجترئ أحد عليهم. وكانت لقريش رحلتان : يرحلون في الشتاء إلى اليمن ، وفي الصيف إلى الشام ، فيمتارون ويتجرون ، وكانوا في رحلتيهم آمنين لأنهم أهل حرم الله وولاة بيته ، فلا يتعرّض لهم ، والناس غيرهم يتخطفون ويغار عليهم. والإيلاف من قولك : آلفت المكان أولفه إيلافا : إذا ألفته ، فأنا مؤلف. قال:

من المؤلفات الرّهو غير الأوارك (٢)

وقرئ : لئلاف قريش ، أى : لمؤالفة قريش. وقيل : يقال ألفته إلفا وإلافا. وقرأ أبو جعفر : لإلف قريش ، وقد جمعهما من قال :

زعمتم أنّ إخوتكم قريش

لهم إلف وليس لكم إلاف (٣)

__________________

(١) هكذا وقع في الثعلبي. وقال عمرو بن ميمون : صليت خلف عمر المغرب. فذكر الحديث. وكذا وصله عبد الرزاق وابن أبى شيبة من رواية أبى إسحاق عن عمرو بن ميمون قال «صلى بنا عمر المغرب. فقرأ في الأولى بالتين. وفي الثانية ألم تر ولإيلاف قريش».

(٢) شددت إليك الرحل فوق شملة

من المؤلفات الرهو غير الأوارك

الشملة بالتشديد. والشملال والشميل : الخفيفة السريعة السير ، أى : شددت الرحل فوق نافة سريعة السير ذاهبا إليك ، وتلك الناقة من النوق المؤلفات المعتادات الرهو ، أى : السير السهل المستقيم. ويروى : الزهو ، بالزاي وهو سيرها بعد ورودها الماء. والأوارك : جمع آركة : المقيمات موضع الأراك ، ترعاه. أو ترعى نبتا يقال له الحمض ، أى : ليست كذلك يلي معلوفة ومكرمة السفر.

(٣) زعمتم أن إخوتكم قريش

لهم إلف وليس لكم إلاف

أولئك أومنوا جوعا وخوفا

وقد جاعت بنو أسد وخافوا

لمساور بن هند بن قيس يخاطب بنى أسد. وقريش خبر. وقولهم «لهم إلف» استئناف لبيان كذبهم. والالف والالاف : مصدر ألفه ، إذا أحبه واعتاده ولم ينفر منه. وآلف إيلافا بينهما : جعل بينهما إلفا. وقد جمعت قريش بين رحلة الشتاء والصيف ، فتارة فرحل هذه وتارة هذه بلا خوف ولا فزع «أولئك» إشارة لقريش «أومنوا» مبنى للمجهول ، أى آمنهم ربهم عن الجوع والخوف ، وقد جاعت وخافت بنو أسد : التفت إلى الغيبة دلالة على الاعراض عنهم ، وتعجيب غيرهم من شأنهم.

٨٠١

وقرأ عكرمة : ليألف قريش إلفهم رحلة الشتاء والصيف. وقريش : ولد النضر بن كنانة سموا بتصغير القرش : وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن ، ولا تطاق إلا بالنار. وعن معاوية أنه سأل ابن عباس رضى الله عنهما : بم سميت قريش؟ قال : بدابة في البحر تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تعلى. وأنشد :

وقريش هي الّتي تسكن البحر

بها سمّيت قريش قريشا (١)

والتصغير للتعظيم. وقيل : من القرش وهو الكسب : لأنهم كانوا كسابين بتجاراتهم وضربهم في البلاد. أطلق الإيلاف ثم أبدل عنه المقيد بالرحلتين ، تفخيما لأمر الإيلاف ، وتذكيرا بعظيم النعمة فيه ، ونصب الرحلة بإيلافهم مفعولا به ، كما نصب (يَتِيماً) بإطعام ، وأراد رحلتي الشتاء والصيف ، فأفرد لأمن الإلباس ، كقوله.

كلوا في بعض بطنكم .... (٢) ..

__________________

(١) وقريش هي التي تسكن البحر

بها سميت قريش قريشا

تأكل الغث والسمين ولا تترك

يوما لذي جناحين ريشا

هكذا في الكتاب نالت قريش

يأكلون البلاد أكلا كشيشا

ولهم آخر الزمان نبى

يكثر القتل فيهم والخموشا

يملأ الأرض خيلة ورجالا

يحشرون المطر حشرا كميشا

لتبع. وقريش : تصغير قرش. قال ابن عباس : اسم دابة في البحر تأكل ولا تؤكل اه فصغر وسمي به النضر بن كنانة ، ثم سمى به أولاده. والمحدثون على أنه اسم لفهر بن مالك بن النضر ، وقال الروافض : هو اسم لقصي بن كلاب ، وتوصلوا بذلك إلى نفى إمامة أبى بكر وعمر لكونهما ليسا قرشيين ، لأنهما يجتمعان معه صلى الله عليه وسلم بعد قصي ، والامامة من قريش ، وقريش مبتدأ ، والجملة بعدها مستأنفة مبينة لها ، وبها سميت خبر ، أى : بسببها ، سميت هذه القبيلة قريشا تأكل ، أى قريش البحرية. ويؤيده ما روى قبل هذا البيت وهو :

سلطت بالعلو في لجة البحر

على سائر البحور جيوشا ... تأكل

ويحتمل أنها الضبيلة. والغث الخبيث. والسمين ، الطيب وصاحب الجناحين ، كناية عن الطير. أو استعارة الغنى ، وبالغ في أنها لا تبقى ولا تذر شيئا مما تظفر به بقوله : إنها لا تترك ريش ذى الجناحين. ويروى «فيه» بدل يوما وهو يعنى قريش البحرية. وهكذا : إشارة لحال دابة البحر ، أو لما قاله هو. والكتاب : التوراة أو الإنجيل. أو كتب التاريخ. وقريش هنا : القبيلة ، ويروى :

هكذا في البلاد حى قريش

يأكلون البلاد ......

أى : يأخذون أموالها. والكشيش في الأصل : الصوت الخفي ، أى : أكلا بسهولة ، بلا إرهاب ولا إنعاب ، فهو مجاز ، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم. وخمشه خمشا : خدشه. والخموش : الخدوش. والخيلة : الشبح البعيد. والخيل : الخيالة. والرجال : المشاة على أرجلهم. ويحشرون : صفة لرجال ، ويبعد رجوعه لقريش ، والكميش : السريع. والمنضم : القاطع ، أى : يجمعونها بسرعة ، لكن المراد بالخموش هنا : الجروح.

(٢) قوله «كلوا في بعض بطنكم» بقيته : «تعفوا» وقد تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٤٧٩ فراجعه إن شئت اه مصححه. (ع)

٨٠٢

وقرئ : رحلة ، بالضم : وهي الجهة التي يرحل إليها : والتنكير في (جُوعٍ) و (خَوْفٍ) لشدتهما ، يعنى : أطعمهم بالرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما ، وآمنهم من خوف عظيم وهو خوف أصحاب الفيل ، أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم. وقيل : كانوا قد أصابتهم شدة حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة ، وآمنهم من خوف الجذام فلا يصيبهم ببلدهم. وقيل ذلك كله بدعاء إبراهيم صلوات الله عليه. ومن بدع التفاسير : وآمنهم من خوف ، من أن تكون الخلافة في غيرهم. وقرئ : من خوف ، بإخفاء النون.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة لإيلاف قريش أعطاه الله عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها» (١).

سورة الماعون

مكية ثلاث آيات الأول ، مدنية البقية ، وآياتها ٧ «نزلت بعد التكاثر»

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ)(٤) (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ)(٧)

قرئ : أريت ، بحذف الهمزة ، وليس بالاختيار ، لأن حذفها مختص بالمضارع ، ولم يصح عن العرب : ريت ، ولكن الذي سهل من أمرها وقوع حرف الاستفهام في أوّل الكلام. ونحوه :

صاح هل ريت أو سمعت براع

ردّ الضّرع ما قرى في الحلاب (٢)

__________________

(١) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.

(٢) لإسماعيل بن بشار ، وفي حياة الحيوان ما هو صريح في أنه لنفيلة بن عبد المدان بن خرشم بن عبد ياليل بن جرهم بن قحطان ابن هود عليه السلام وصاح مرخم ، فان كان أصله يا صاحبي ، فترخيمه شاذ من وجهين ، لأن فيه حذف المضاف ـ

٨٠٣

وقرأ ابن مسعود : أرأيتك ، بزيادة حرف الخطاب ، كقوله (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) والمعنى : هل عرفت الذي يكذب بالجزاء من هو؟ إن لم تعرفه (فَذلِكَ الَّذِي) يكذب بالجزاء ، هو الذي (يَدُعُّ الْيَتِيمَ) أى : يدفعه دفعا عنيفا بجفوة وأذى ، وبردّه ردّا قبيحا بزجر وخشونة. وقرئ : يدع ، أى : يترك ويجفو (وَلا يَحُضُ) ولا يبعث أهله على بذل طعام المسكين ، جعل علم التكذيب بالجزاء منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف ، يعنى : أنه لو آمن بالجزاء وأيقن بالوعيد ، لخشى الله تعالى وعقابه ولم يقدم على ذلك ، فحين أقدم عليه : علم أنه مكذب ، فما أشده من كلام ، وما أخوفه من مقام ، وما أبلغه في التحذير من المعصية وأنها جديرة بأن يستدل بها على ضعف الإيمان ورخاوة عقد اليقين ، ثم وصل به قوله (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) كأنه قال : فإذا كان الأمر كذلك ، فويل للمصلين الذين يسهون عن الصلاة قلة مبالاة بها ، حتى تفوتهم أو يخرج وقتها ، أو لا يصلونها كما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف ولكن ينقرونها نقرأ من غير خشوع وإخبات ، ولا اجتناب لما يكره فيها : من العبث باللحية والثياب وكثرة التثاؤب والالتفات ، لا يدرى الواحد منهم عن كم انصرف ، ولا ما قرأ من السور ، كما ترى صلاة أكثر من ترى الذين عادتهم الرياء بأعمالهم ومنع حقوق أموالهم. والمعنى : أنّ هؤلاء أحق بأن يكون سهوهم عن الصلاة ـ التي هي عماد الدين ، والفارق بين الإيمان والكفر والرياء الذي هو شعبة من الشرك ، ومنع الزكاة التي هي شقيقة الصلاة وقنطرة الإسلام ـ علما على أنهم مكذبون بالدين. وكم ترى من المتسمين بالإسلام ، بل من العلماء منهم من هو على هذه الصفة ، فيا مصيبتاه. وطريقة أخرى : أن يكون (فَذلِكَ) عطفا على (الَّذِي يُكَذِّبُ) إمّا عطف ذات على ذات ، وصفة على صفة ، ويكون جواب (أَرَأَيْتَ) محذوفا لدلالة ما بعده عليه ، كأنه قيل : أخبرنى ، وما تقول فيمن يكذب بالجزاء؟ وفيمن يؤذى اليتيم ولا يطعم المسكين؟ أنعم ما يصنع؟ ثم قال (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) أى إذا علم أنه مسيء ، فويل للمصلين ، على معنى : فويل لهم ، إلا أنه وضع صفتهم موضع ضميرهم ، لأنهم كانوا مع التكذيب وما أضيف

__________________

ـ إليه وحذف بعض المضاف وكلاهما شاذ وإن كان أصله يا صاحب بلا إضافة. فهو شاذ من جهة أنه ليس علما ولا مؤنثا بالهاء. وقيل : ترخيم النكرة المقصودة جائز ، وريت : أصله رأيت ، فخفف بحذف الهمزة للضرورة ، وكان قياس تخفيفها جعلها بين بين. لعدم سكون ما قبلها. وقرى يقرى قريا : جمع جمعا. ويروى : ثوى ، أى تمكن واستقر. والحلاب : إناء الحلب ، وروى : العلاب ، جمع علبة ، وهي محلب من جلد. يقول : يا صاحبي هل رأيت أو سمعت أن راعيا رجع في الضرع ما جمع في المحلب من اللبن. وعدى لفعلين ، أو بأحدهما بالباء ، لتضمين معنى المعلم ويجوز أن الباء زائدة. وحسن حذف همزة رأيت أن «هل» بمعنى «قد» في الأصل وهمزة الاستفهام منوية قبله وورد ذكرها قبلها قليلا ، بل قيل إنها مقدرة أيضا قيل أسماء الاستفهام كلها ، والبيت من باب التمثيل ، والمعنى : أن الماضي لا يعود ، والواقع لا يرتفع.

٨٠٤

إليهم ساهين عن الصلاة مرائين ، غير مزكين أموالهم. فإن قلت : كيف جعلت المصلين قائما مقام ضمير الذي يكذب ، وهو واحد؟ قلت : معناه الجمع ، لأنّ المراد به الجنس. فإن قلت : أىّ فرق بين قوله (عَنْ صَلاتِهِمْ) وبين قولك (فِي صَلاتِهِمْ)؟ قلت : معنى (عَنْ) : أنهم ساهون عنها سهو ترك لها وقلة التفات إليها ، وذلك فعل المنافقين أو الفسقة الشطار من المسلمين. ومعنى (فِي) : أنّ السهو يعتريهم فيها بوسوسة شيطان أو حديث نفس ، وذلك لا يكاد يخلو منه مسلم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع له السهو في صلاته فضلا عن غيره (١) ، ومن ثم أثبت الفقهاء باب سجود السهو في كتبهم. وعن أنس رضى الله عنه : الحمد لله على أن لم يقل في صلاتهم. وقرأ ابن مسعود : لاهون. فإن قلت : ما معنى المراءاة؟ قلت : هي مفاعلة من الإراءة ، لأنّ المرائى يرى الناس عمله ، وهم يرونه الثناء عليه والإعجاب به ، ولا يكون الرجل مرائيا بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة ، فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها ، لقوله عليه الصلاة والسلام «ولا غمة في فرائض (٢) الله ، لأنها أعلام الإسلام وشعائر الدين ، ولأن تاركها يستحق الذم والمقت ، فوجب إماطة التهمة بالإظهار ، وإن كان تطوعا ، فحقه أن يخفى ، لأنه مما لا يلام بتركه ولا تهمة فيه ، فإن أظهره قاصدا للاقتداء به كان جميلا ، وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين ، فيثنى عليه بالصلاح. وعن بعضهم : أنه رأى رجلا في المسجد قد سجد سجدة الشكر وأطالها ، فقال : ما أحسن هذا لو كان في بيتك ، وإنما قال هذا لأنه توسم فيه الرياء والسمعة ، على أن اجتناب الرياء صعب إلا على المرتاضين بالإخلاص. ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة المظلمة على المسح. الأسود (٣)» (الْماعُونَ) الزكاة ، قال الراعي :

قوم على الإسلام لمّا يمنعوا

ماعونهم ويضيّعوا التّهليلا (٤)

__________________

(١) قال المخرج : ورد في ذلك خمسة أحاديث «الأولى» قصة ذى اليدين. متفق عليها من حديث أبى هريرة من طرق عنه ومحصله أنه صلى ركعتين في الظهر أو العصر ثم سلم سهوا «الثاني» حديث عبد الله بن بحينة. متفق عليه أيضا في قيامه بغير تشهد أول وسجوده للسهو قبل السلام. وفيه عن سعد عن أبى يعلى «الثالث» حديث ابن مسعود متفق عليه أيضا أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسا. فقيل له في ذلك. فسجد سجدتين بعد ما سلم» «الرابع» حديث عمران بن حسين «أنه صلى الله عليه وسلم صلى العصر ثلاث ركعات فقام رجل يقال له الخرباق ـ الحديث» «الخامس» حديث معاوية بن خديج قال «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب. فسها فيها. فسلم في ركعتين ثم انصرف» الحديث أخرجه ابن خزيمة وأبو داود وابن حبان وجزم بأن هذه القصة مغايرة لقصة عمران. وأنهما مغايرتان لقصة أبى هريرة : قلت وقد بسط العلائى القول فيه في جزء مفرد.

(٢) هو في الحديث المتقدم في سورة يونس.

(٣) لم أجده.

(٤) يقول : هم قوم ثابتون على الإسلام ، أو مع إسلامهم وزيادة عليه ، لم يمنعوا الزكاة ولا غيرها من ـ

٨٠٥

وعن ابن مسعود : ما يتعاون في العادة من الفأس والقدر والدلو والمقدحة ونحوها. وعن عائشة الماء والنار والملح ، وقد يكون منع هذه الأشياء محظورا في الشريعة إذا استعيرت عن اضطرار ، وقبيحا في المروءة في غير حال الضرورة.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة أرأيت غفر الله له إن كان للزكاة مؤديا (١)»

سورة الكوثر

مكية ، وآياتها ٣ «نزلت بعد العاديات»

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(٣)

في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا أعطيناك ، بالنون (٢). وفي حديثه صلى الله عليه وسلم (٣) : «وأنطوا الثبجة» (٤) والكوثر : فوعل من الكثرة وهو المفرط الكثرة. قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر : بم آب ابنك؟ قالت : آب بكوثر. وقال :

وأنت كثير يا ابن مروان طيّب

وكان أبوك ابن العقائل كوثرا (٥)

__________________

ـ الخيرات ، فلما لاستغراق النفي في الماضي ، وإما ترقب حصول المنفي بها فهو غالب وليس مرادا هنا ، ولم يضيعوا التهليلا : أى الصلاة ، لاشتمالها على لا إله إلا الله.

(١) أخرجه ابن مردويه والثعلبي والواحدي باسنادهم إلى أبى بن كعب.

(٢) أخرجه الطبراني والدارقطني في المؤتلف والحاكم وابن مردويه والثعلبي من رواية عمرو بن عبيد عن الحسن عن أمه عن أم سلمة وعمرو بن عبيد واهى الحديث.

(٣) هو في الحديث المتقدم في سورة يونس.

(٤) قوله «وأنطوا الثبجة» في القاموس «الشبجة» محركة : المتوسطة بين الخيار والرذال اه. (ع)

(٥) للكميت. وأنت كثير : أى كثير الخير والبر. ويروى بدله : كوثر. وفي الهداء تنويه باسمه وتعظيم ـ

٨٠٦

وقيل (الْكَوْثَرَ) نهر في الجنة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها حين أنزلت عليه فقال : «أتدرون ما الكوثر؟ إنه نهر في الجنة وعدنيه ربى ، فيه خير كثير (١)» وروى في صفته : أحلى من العسل ، وأشد بياضا من اللبن ، وأبرد من الثلج ، وألين من الزبد ، حافتاه الزبرجد ، وأوانيه من فضة عدد نجوم السماء (٢). وروى : لا يظمأ من شرب منه أبدا : أول وارديه : فقراء المهاجرين : الدنسو الثياب ، الشعث الرؤوس ، الذين لا يزوجون المنعمات ، ولا تفتح لهم أبواب السدد ، يموت أحدهم وحاجته تتلجلج في صدره ، لو أقسم على الله لأبرّه» (٣) وعن ابن عباس أنه فسر الكوثر بالخير الكثير ، فقال له سعيد بن جبير : إن ناسا يقولون : هو نهر في الجنة! فقال : هو من الخير الكثير. والنحر : نحر البدن ، وعن عطية : هي صلاة الفجر بجمع ، والنحر بمنى. وقيل : صلاة العيد والتضحية. وقيل. هي جنس الصلاة. والنحر : وضع اليمين على الشمال ، والمعنى : أعطيت مالا غاية لكثرته من خير الدارين الذي لم يعطه أحد غيرك ، ومعطى ذلك كله أنا إله العالمين ، فاجتمعت لك الغبطتان السنيتان (٤) : إصابة أشرف عطاء وأوفره ، من أكرم معط وأعظم منعم ، فاعبد ربك الذي أعزك بإعطائه ، وشرفك وصانك من منن الخلق ، مراغما لقومك الذين يعبدون غير الله ، وانحر لوجهه وباسمه إذا نحرت ، مخالفا لهم في النحر للأوثان (إِنَ) من أبغضك من قومك لمخالفتك لهم (هُوَ الْأَبْتَرُ) لا أنت ، لأنّ كل من يولد إلى يوم القيامة من المؤمنين فهم أولادك وأعقابك ، وذكرك مرفوع على المنابر والمنار ، وعلى لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر ، يبدأ بذكر الله ويثنى بذكرك ، ولك في الآخرة مالا يدخل تحت الوصف ، فمثلك لا يقال له أبتر : وإنما الأبتر هو شانئك المنسى في

__________________

ـ لقدره. واستعار الطيب لحسن السيرة. ويجوز أنه ضد الخبيث. والعقائل : خيار النساء ، والمراد جنسهن أو ما يشمل الجدات. والكوثر : بليغ النهاية في الخير.

(١) أخرجه مسلم من رواية المختار بن فلفل عن أنس في أثناء حديث ذكره في أوائل الصلاة.

(٢) أخرجه الحاكم من حديث أبى برزة رفعه «حوضي ما بين أيلة إلى صنعاء : عرضه كطوله. فيه ميزابان يصبان من الجنان أحلى من العسل ، وأبرد من الثلج وأشد بياضا من اللبن ، وألين من الزبد فيه أباريق عدد نجوم السماء ـ الحديث» وفي ابن مردويه من حديث ابن عباس في قصة الاسراء ـ فذكر حديثا طويلا جدا. وفيه ذكر الكوثر وحافتاه من زبرجد.

(٣) أخرجه ابن ماجة وأحمد والطبراني من حديث ثوبان. وفيه «أن حوضي ما بين عدن إلى أيلة. أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل ، أكوابه عدد نجوم السماء من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا وأول من يدخل عليه فقراء المهاجرين الدنس ثيابا الشعث رءوسا الذين لا ينكحون المنعمات ولا يفتح لهم السدد»

(٤) قال محمود : «أى جمعنا لك الغبطتين السنيتين أحدهما إصابة أشرف عطاء وهو الكوثر ... الخ» قال أحمد» جعل الزمخشري توسط الضمير بين الجزءين مقيد للاختصاص لأن إفادته هاهنا لذلك بيتة مكشوفة.

٨٠٧

الدنيا والآخرة ، وإن ذكر ذكر باللعن. وكانوا يقولون : إنّ محمدا صنبور (١) : إذا مات مات ذكره. وقيل : نزلت في العاص بن وائل ، وقد سماه الأبتر ، والأبتر : الذي لا عقب له. ومنه: الحمار الأبتر الذي لا ذنب له.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة الكوثر سقاه الله من كل نهر في الجنة ويكتب له عشر حسنات بعدد كل قربان قربه العباد في يوم النحر أو يقربونه (٢)».

سورة الكافرون

مكية ، وهي ست آيات «نزلت بعد الماعون»

ويقال لها ولسورة الإخلاص : المقشقشتان ، أى المبرئتان من النفاق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ)(٤) (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(٦)

المخاطبون كفرة مخصوصون قد علم الله منهم أنهم لا يؤمنون. روى أنّ رهطا من قريش قالوا : يا محمد ، هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك : تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة ، فقال معاذ الله أن أشرك بالله غيره : فقالوا : فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك ، فنزلت ، فغدا إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم فقرأها عليهم ، فأيسوا. (لا أَعْبُدُ) أريدت به العبادة فيما يستقبل ، لأن «لا» لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال ، كما أن «ما» لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال ، ألا ترى أن «لن» تأكيد فيما تنفيه «لا»

__________________

(١) قوله «إن محمدا صنبور» ذكر في القاموس معانيه : الرجل الفرد الضعيف الذليل بلا أهل وعقب وناصر اه.(ع)

(٢) أخرجه الثعلبي وابن مردويه بسندهم إلى أبى بن كعب.

٨٠٨

وقال الخليل في «لن» : أنّ أصله «لا أن» والمعنى : لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه منى من عبادة آلهتكم ، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهى (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) أى : وما كنت قط عابدا فيما سلف ما عبدتم (١) فيه ، يعنى لم تعهد منى عبادة صنم في الجاهلية ، فكيف ترجى منى في الإسلام (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أى : وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته. فإن قلت : فهلا قيل : ما عبدت ، كما قيل : ما عبدتم؟ قلت : لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل المبعث ، وهو لم يكن يعبد الله تعالى في ذلك الوقت. فإن قلت : فلم جاء على «ما» دون «من»؟ قلت ، لأن المراد الصفة ، كأنه قال : لا أعبد الباطل ، ولا تعبدون الحق. وقيل : إن «ما» مصدرية ، أى : لا أعبد عبادتكم ، ولا تعبدون عبادتي (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) لكم شرككم ، ولى توحيدي. والمعنى : أنى نبىّ مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة ، فإذا لم تقبلوا منى ولم تتبعوني ، فدعوني كفافا ولا تدعوني إلى الشرك.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة الكافرين فكأنما قرأ ربع القرآن وتباعدت منه مردة الشياطين ، وبريء من الشرك ويعافى من الفزع الأكبر» (٢).

__________________

(١) قال محمود : «معناه في المستقبل ، لأن «لا» تنفى المستقبل ، ولا أنتم عابدون ما أعبد : كذلك ، ولا أنا عابد ما عبدتم : أى فيما سلف ... الخ» قال أحمد : هذا الذي قاله خطأ على الأصل والفرع جميعا : أما على أصله القدري ، فانه وان كان مقتضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قبل البعث على دين نبى قبله ، لاعتقاد القدرية أن ذلك غميزة في منصبه ، ومنفر من اتباعه ، فيستحيل وقوعه للمفسدة ، إلا أنهم يعتقدون أن الناس كلهم متعبدون بمقتضى العقل بوجوب النظر في آيات الله تعالى وأدلة توحيده ومعرفته ، وأن وجوب النظر بالعقل لا بالسمع فتلك عبادة قبل البعث يلزمهم ألا يظنوا به صلى الله عليه وسلم الإخلال بها ، فحينئذ يقتضى أصلهم أنه كان قبل البعث يعبد الله تعالى ، فالزمخشرى حافظ على الوفاء بأصله في عدم اتباعه لنبي سابق ، فأخل بالتفريع على أصله الآخر في وجوب العبادة بالعقل. والحق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعبد قبل الوحى ويتحنث في غار حراء ، فان كان مجيء قوله أعبد ـ لأن الماضي لم يحصل فيه هذه العبادة المرادة في الآية ـ فيحمل الأمر فيها والله أعلم على مجموع العبادات الخاصة التي لم تعلم إلا بالوحي ، لا على مجرد توحيد الله تعالى ومعرفته ؛ فإن ذلك لم يزل ثابتا له صلى الله عليه وسلم قبل البعث ، والله أعلم. أو يكون مجيئه مضارعا لقصد تصوير عبادته في نفس السامع وتمكينها من فهمه ، كقوله (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) والأصل : فأصبحت ، وإنما عدل عنه للمعنى المذكور ، وهو وجه حسن ، فتأمله ، والله أعلم.

(٢) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بسندهم إلى أبى بن كعب. قلت : وصدره رواه الترمذي. حديث أنس رضى الله عنه.

٨٠٩

سورة النصر

نزلت بمنى في حجة الوداع ، فتعد مدنية ، وهي آخر ما نزل من السور

وآياتها ٣ «نزلت بعد التوبة»

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً)(٣)

(إِذا جاءَ) منصوب بسبح ، وهو لما يستقبل. والاعلام بذلك قبل كونه من أعلام النبوّة. روى أنها نزلت في أيام التشريق بمنى في حجة الوداع. فإن قلت : ما الفرق بين النصر والفتح حتى عطف عليه؟ قلت : النصر الاغاثة والاظهار على العدوّ. ومنه : نصر الله الأرض غاثها. والفتح : فتح البلاد. والمعنى : نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على العرب. أو على قريش وفتح مكة. وقيل : جنس نصر الله للمؤمنين وفتح بلاد الشرك عليهم ، وكان فتح مكة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان ، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف العرب ، وأقام بها خمس عشرة ليلة ، ثم خرج إلى هوازن ، وحين دخلها وقف على باب الكعبة ، ثم قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، ثم قال : يا أهل مكة ، ما ترون أنى فاعل بكم؟ قالوا : خيرا أخ كريم وابن أخ كريم. قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (١) ، وقد كان الله تعالى أمكنه من رقابهم عنوة ، وكانوا له فيئا ، فلذلك سمى أهل مكة الطلقاء ، ثم بايعوه على الإسلام (فِي دِينِ اللهِ) في ملة الإسلام التي لا دين له يضاف إليه غيرها (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ). (أَفْواجاً) جماعات كثيفة كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها

__________________

(١) أخرجه ابن إسحاق في السيرة. وروى البخاري عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من مكة في رمضان ـ الحديث ، قال : فصبحها لثلاث عشرة خلت من رمضان» وفي الدلائل من طريق ابن إسحاق عن الزهري وغيره قال : فتحت لعشر بقين».

٨١٠

بعد ما كانوا يدخلون فيه واحدا واحدا واثنين اثنين. وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه أنه بكى ذات يوم ، فقيل له (١). فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «دخل الناس في دين الله أفواجا وسيخرجون منه أفواجا (٢)» وقيل : أراد بالناس أهل اليمن. قال أبو هريرة : لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الله أكبر جاء نصر الله والفتح ، وجاء أهل اليمن : قوم رقيقة قلوبهم ، الإيمان يمان ، والفقه يمان ، والحكمة يمانية» (٣)» وقال أجد نفير ربكم من قبل اليمن» (٤) وعن الحسن : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أقبلت العرب بعضها على بعض ، فقالوا : أما إذ ظفر بأهل الحرم فليس به يدان ، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل وعن كل من أرادهم ، فكانوا يدخلون في الإسلام أفواجا من غير قتال. وقرأ ابن عباس : فتح الله والنصر : وقرئ : يدخلون ، على البناء للمفعول. فإن قلت : ما محل يدخلون؟ قلت : النصب إما على الحال ، على أن رأيت بمعنى أبصرت أو عرفت. أو هو مفعول ثان على أنه بمعنى علمت (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) فقل سبحان الله : حامدا له ، أى : فتعجب لتيسير الله ما لم يخطر ببالك وبال أحد من أن يغلب أحد على أهل الحرم ، واحمده على صنعه. أو : فاذكره مسبحا حامدا ، زيادة في عبادته والثناء عليه ، لزيادة إنعامه عليك. أو فصل له. روت أمّ هانئ : أنه لما فتح باب الكعبة صلى صلاة الضحى ثماني ركعات (٥) وعن عائشة : كان عليه الصلاة والسلام يكثر قبل موته أن يقول : «سبحانك اللهم وبحمدك ، أستغفرك وأتوب إليك» (٦) والأمر بالاستغفار مع التسبيح تكميل للأمر بما هو قوام أمر الدين : من الجمع بين الطاعة والاحتراس

__________________

(١) قوله «فقيل له» لعله : فقيل له في ذلك. (ع)

(٢) أخرجه أحمد وإسحاق وابن مردويه والثعلبي من رواية الأوزاعي : حدثني أبو عمار حدثني جار لجابر ابن عبد الله قال «قدمت من سفر فجاءني جابر بن عبد الله فسلم علىّ فجعلت أحدثه عن افتراق الناس وما أحدثوا. فجعل يبكى. ثم قال : سمعت ـ فذكره» وله شاهد عن أبى هريرة في العين من المستدرك.

(٣) أخرجه ابن مردويه من طريق عبد الرازق أخبرنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عنه. وأصله في مسلم دون ما في أوله. وله شاهد في ابن حبان والنسائي من حديث ابن عباس رضى الله عنهما.

(٤) أخرجه الطبراني في الأوسط ومسند الشاميين من طريق جرير بن عثمان عن شبيب بن روح عن أبى هريرة به في حديث أوله «الايمان يمان» ولا بأس بإسناده. وله شاهد من حديث سلمة بن نفيل السكوني في مسند البزار والطبراني الكبير والبيهقي في الأسماء. وفي إسناده إبراهيم بن سليمان الأفطس. قال البزار : إنه غير مشهور.

(٥) لم أجده هكذا : فان ظاهره يوهم أنه صلاها داخل الكعبة وفي الصحيحين من حديث أم هانئ «أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة اغتسل في بيتها وصلى ثمان ركعات» ورواه أبو داود بلفظ «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى سبحة الضحى ثماني ركعات يسلم في كل ركعتين» إسناده صحيح ، وأخرجه أحمد وابن أبى شيبة والطبراني وابن حبان وأبو يعلى والبيهقي والحاكم والطبري من طرق كثيرة تزيد على ثلاثين وجها ، لم يذكر أحد منهم هذه الزيادة.

(٦) متفق عليه واللفظ لمسلم.

٨١١

من المعصية ، وليكون أمره بذلك مع عصمته لطفا لأمته ، ولأنّ الاستغفار من التواضع لله وهضم النفس ، فهو عبادة في نفسه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «إنى لأستغفر في اليوم والليلة مائة مرة (١)» وروى أنه لما قرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه استبشروا وبكى العباس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما يبكيك يا عم»؟ قال : نعيت إليك نفسك. قال : «إنها لكما تقول» (٢) فعاش بعدها سنتين لم يرفيهما ضاحكا مستبشرا. وقيل : إن ابن عباس هو الذي قال ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، «لقد أوتى هذا الغلام علما كثيرا» (٣) وروى أنها لما نزلت خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين لقائه ، فاختار لقاء الله» فعلم أبو بكر رضى الله عنه ، فقال : فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا (٤). وعن ابن عباس أن عمر رضى الله عنهما كان يدنيه ويأذن له مع أهل بدر ، فقال عبد الرحمن : أتأذن لهذا الفتى معنا وفي أبنائنا من هو مثله؟ «فقال إنه ممن قد علمتم (٥)» قال ابن عباس : فأذن لهم ذات يوم ، وأذن لي معهم ، فسألهم عن قول الله تعالى (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) ولا أراه سألهم إلا من أجلى ، فقال بعضهم : أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه ، فقلت : ليس كذلك ، ولكن نعيت إليه نفسه ، فقال عمر : ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم ، ثم قال : كيف تلومونني عليه بعد ما ترون؟ وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا فاطمة رضى الله عنها فقال : «يا بنتاه إنه نعيت إلىّ نفسي ، فبكت ، فقال : لا تبكى ، فإنك أوّل أهلى لحوقا بي (٦)» وعن ابن مسعود أنّ هذه السورة تسمى سورة التوديع (كانَ تَوَّاباً) أى كان في الأزمنة الماضية منذ خلق المكلفين توابا عليهم إذا استغفروا ، فعلى كل مستغفر ، أن يتوقع مثل ذلك.

__________________

(١) أخرجه مسلم من حديث الأغر المزني.

(٢) ذكره الثعلبي عن مقاتل وسنده إليه دون الكتاب.

(٣) لم أجده.

(٤) متفق عليه أصله من حديث أبى سعيد الخدري دون أوله من كونه كان عند نزول السورة. نعم فيه ما يشعر بأن ذلك كان في أواخر عمره ونزولها كان في أواخر عمره بلا نزاع.

(٥) أخرجه البخاري من حديث ابن عباس معناه. وليس فيه تعيين عبد الرحمن بن عوف. واستدركه الحاكم فوهم. وأخرجه البزار وآخر لفظه موافق لآخر لفظ المصنف.

(٦) أخرجه البيهقي في أواخر الدلائل وابن مردويه من رواية هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما قال «لما نزلت إذا جاء نصر الله والفتح دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فقال لها إنه قد نعبت إلى نفسي فبكت فقال لها : اصبري فإنك أول أهلى لحوقا بى. فقال لها بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. الحديث وشاهده في الصحيحين من حديث عائشة رضى الله عنها من رواية مسروق عنها مطولا.

٨١٢

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة إذا جاء نصر الله أعطى من الأجر كمن شهد مع محمد يوم فتح مكة» (١).

سورة المسد

مكية ، وآياتها ٥ [نزلت بعد الفاتحة]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ)(٥)

التباب : الهلاك. ومنه قولهم : أشابة أم تابة ، أى : هالكة من الهرم والتعجيز. والمعنى:هلكت يداه ، لأنه فيما يروى : أخذ حجرا ليرمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَتَبَ) وهلك كله. أو جعلت يداه هالكتين. والمراد : هلاك جملته ، كقوله تعالى (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) ومعنى (وَتَبَ) : وكان ذلك وحصل ، كقوله :

جزانى جزاه الله شرّ جزائه

جزاء الكلاب العاويات وقد فعل (٢)

__________________

(١) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بالسند إلى أبى بن كعب.

(٢) كأن قد فعل به خيرا فجزاء شرا ، فدعا عليه بقوله : جزاه الله شر جزائه. جزاء الكلاب : بدل من «شر جزائه» وضمير «جزائه» لله. أو للرجل المدعو عليه. وجزاء الكلاب العاويات : رجمها. ويروى «العاديات» بالدال ، بدل الواو. وقد فعل : أى فعل الله ذلك الجزاء في الواقع ، حيث أوقعه. وفيه من أنواع البديع : الرجوع ، وهو العود إلى الكلام السابق بالنقض لنكتة ، لأن مقتضى الدعاء أن المدعو به لم يحصل ، فنقضه بقوله «وقد فصل». ويروى بدل الشطر الأول : جزى ربه عنى عدى بن حاتم. وضمير «ربه» لحاتم ، وإن تأخر لفظا ورتبة للضرورة ، وأجازه الأخفش وابن جنى وابن مالك في السعة ، لأن المفعول به كان متقدما لشدة اقتضاء الفعل إياه. وقيل عائد الجزاء المعلوم من جزى. ويروى بدل الشطر الأول أيضا : جزى الله عبسا عبس ـ

٨١٣

ويدل عليه قراءة ابن مسعود : وقد تب ، وروى أنه لما نزل (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) رقى الصفا وقال. يا صباحاه ، فاستجمع إليه الناس من كل أوب. فقال : يا بنى عبد المطلب ، يا بنى فهر ، إن أخبرتكم أنّ بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدقىّ؟ قالوا : نعم ، قال : فإنى نذير لكم بين يدي الساعة ، فقال أبو لهب : تبا لك ، ألهذا دعوتنا (١)؟ فنزلت. فإن قلت : لم كناه ، والتكنية تكرمة؟ قلت : فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أن يكون مشتهرا بالكنية دون الاسم ، فقد يكون الرجل معروفا بأحدهما ، ولذلك تجرى الكنية على الاسم ، أو الاسم على الكنية عطف بيان ، فلما أريد تشهيره بدعوة السوء وأن تبقى سمة له ، ذكر الأشهر من علميه ويؤيد ذلك قراءة من قرأ ، يدا أبو لهب (٢) ، كما قيل ، على بن أبو طالب. ومعاوية بن أبو سفيان ، لئلا يغير منه شيء فيشكل على السامع ، ولفليتة بن قاسم أمير مكة ابنان ، أحدهما : عبد الله ـ بالجرّ ، والآخر عبد الله ـ بالنصب. كان بمكة رجل يقال له : عبد الله ـ بجرّة الدال ، لا يعرف إلا هكذا. والثاني : أنه كان اسمه عبد العزى ، فعدل عنه إلى كنيته. والثالث : أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب ، وافقت حاله كنيته ، فكان جديرا بأن يذكر بها. ويقال : أبو لهب ، كما يقال : أبو الشر للشرير. وأبو الخير للخير ، وكما كنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا المهلب : أبا صفرة ، بصفرة في وجهه. وقيل كنى بذلك لتلهب وجنتيه وإشراقهما ، فيجوز أن يذكر بذلك تهكما به ، وبافتخاره بذلك. وقرئ أبى لهب ، بالسكون. وهو من تغيير الأعلام ، كقولهم : شمس بن مالك بالضم (ما أَغْنى) استفهام في معنى الإنكار ، ومحله النصب أو نفى (وَما كَسَبَ) مرفوع. وما موصولة أو مصدرية بمعنى : ومكسوبه. أو : وكسبه. والمعنى : لم ينفعه ماله وما كسب بماله ، يعنى : رأس المال والأرباح. أو ماشيته وما كسب من نسلها ومنافعها ، وكان ذا سابياء (٣). أو ماله الذي ورثه

__________________

ـ آل بغيض. وهي قبيلة معروفة ، ولعل شاعر متعدد ، وما حكاه بعض شراح شواهد الجامى من أن عدى بن حاتم رجل روى بنى قصرا النعمان بن امرئ القيس بظهر الكوفة ، فأعجبه فسأله : هل بنيت مثله فقال : لا ، وبنيته على حجر لو سقط سقط القصر ، فألقاه من أعلاه فخر ميتا : فهو خطأ. والصواب أن هذه الحكاية إنما وقعت لسنمار المذكور في قوله :

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر

وحسن فعل كما يجزى سنمار

لأن عدى بن حاتم صحابى من لب العرب ، وضمير «بنوه» : لأبى الغيلان بالكسر. وسنمار بكسرتين فتشديد.

و «عن» متعلقة بجزى ، أى : جزاء ناشئا عن كبر ، وفيه معنى التهكم. ويجوز أنها بمعنى البدل ، والأوجه أنها بمعنى بعد. وقيل : إنها بمعنى في ، وليس بشيء ، وعبر بالمضارع بدل الماضي استحضارا لما مضى ، لأنه عجيب.

(١) متفق عليه من حديث ابن عباس رضى الله عنهما.

(٢) قال محمود : «ويؤيد ذلك قراءة من قرأ يدا أبو لهب» قال أحمد : وفي هذا دليل لأن الرفع أسبق وجوه الاعراب وأولها. ألا تراهم إنما حافظوا على صيغته التي بها اشتهر الاسم ، وكانت أول أحواله.

(٣) قوله «وكان ذا سابياء» ذكر في القاموس من هاتبها : المال الكثير والنتاج ، والإبل النتاج والغنم التي كثر نسلها. «التالد» القديم. والطارق المستحدث (ع)

٨١٤

من أبيه والذي كسبه بنفسه. أو ماله التالد والطارف. وعن ابن عباس : ما كسب ولده. وحكى أن بنى أبى لهب احتكموا إليه ، فاقتتلوا ، فقام يحجز بينهم ، فدفعه بعضهم فوقع ، فغضب ، فقال : أخرجوا عنى الكسب الخبيث : ومنه قوله عليه السلام «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه» وعن الضحاك : ما ينفعه ماله وعمله الخبيث ، يعنى كيده في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن قتادة : عمله الذي ظن أنه منه على شيء ، كقوله (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) وروى أنه كان يقول : إن كان ما يقول ابن أخى حقا فأنا أفتدى منه نفسي بمالي وولدى (سَيَصْلى) قرئ بفتح الياء وبضمها : مخففا ومشددا ، والسين للوعيد ، أى : هو كائن لا محالة وإن تراخى وقته (وَامْرَأَتُهُ) هي أم جميل بنت حرب أخت أبى سفيان ، وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك (١) والسعدان فتنثرها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل : كانت تمشى بالنميمة : ويقال للمشاء بالنمائم المفسد بين الناس : يحمل الحطب بينهم ، أى : يوقد بينهم النائرة ويورّث الشر. قال :

من البيض لم تصطد على ظهر لأمة

ولم تمش بين الحىّ بالحطب الرّطب (٢)

جعله رطبا ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشر ، ورفعت عطفا على الضمير في (سَيَصْلى) أى : سيصلى هو وامرأته. و (فِي جِيدِها) في موضع الحال. أو على الابتداء ، وفي جيدها : الخبر. وقرئ : حمالة الحطب ، بالنصب على الشتم ، وأنا أستحب هذه القراءة ، وقد توسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميل : من أحب شتم أم جميل. وقرئ : حمالة للحطب. وحمالة للحطب : بالتنوين ، والرفع والنصب. وقرئ : ومريته بالتصغير. المسد : الذي فتل من الحبال فتلا شديدا ، من ليف كان أو جلد ، أو غيرهما. قال :

__________________

(١) قوله «من الشوك والحسك» في الصحاح «الحسك» : حسك السعدان. وفيه «السعدان» : نبت شوك ، ولهذا النيت شوك يقال : حسك السعدان. (ع)

(٢) أنشده يعقوب. والبياض : مجاز عن الخلوص من أسباب الذم. وتصطد من الصيد ، أى : الوجدان والإدراك ، وزنه يفتعل : فلبت تاء الافتعال طاء على القياس. ورواه بعضهم يضدد. وبعضهم : يضطد ، بالضاد المعجمة فيهما ، على أنه من الضد ، ولينظر وجه الثاني ، لأن الدال فيه حقها التشديد ، فلعله خففها للضرورة. واللامة : اللوم وسببه : شبهها بالمطية التي اعتاد صاحبها ركوبها على طريق المكنية ، فأثبت لها الظهر تخييلا لذلك. وروى ، بالخطر ، بدل الحطب : وهو الخشب ، والحطب الذي يحظر به ، والمراد النميمة : استعير لها ذلك بجامع ثوران المكروه من كل ، لأن الحطب الرطب إذا أوقدت فيه النار كثر دخانه. وروى : لم يضدد ، ولم يمش بالياء على أنها صفة لمذكر.

٨١٥

ومسد أمرّ من أيانق (١)

ورجل ممسود الخلق مجدوله. والمعنى : في جيدها حبل مما مسد من الحبال ، وأنها تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها كما يفعل الحطابون : تخسيسا لحالها ، وتحقيرا لها ، وتصويرا لها بصورة بعض الحطابات من المواهن ، لتمتعض (٢) من ذلك ويمتعض بعلها ، وهما في بيت العز والشرف. وفي منصب الثروة والجدة. ولقد عير بعض الناس الفضل بن العباس ابن عتبة ابن أبى لهب بحمالة الحطب ، فقال :

ما ذا أردت إلى شتمي ومنقصتي

أم ما تعيّر من حمّالة الحطب

غرّاء شادخة في المجد غرّتها

كانت سليلة شيخ ناقب الحسب (٣)

__________________

(١) إن سرك الارواء غير سائق

فاعجل بغرب مثل غرب طارق

ومسد أمر من أيانق

ليس بأنياب ولا حقائق

ولا ضعاف مخهن زاهق

لعمارة بن طارق. يقول : إن سرك الاستسقاء حال كونك غير سائق للإبل التي يسقى عليها ، فأسرع إلى ماء بئر بدلو عظيمة مثل دلو طارق أبى. وبحبل أمر : بالبناء للمجهول ، أى : فتل فتلا شديدا. من أيافق ، أى : من أوبارها ، أو من جلودها. والأيانق : جمع أينق. والأينق : جمع نوق والنوق : جمع ناقة ، ليس ذلك الحبل أنيابا ، أى ، نوقا مسنة ، ولا حقائق : أى فتيات ، ولا ضعافا : أى ليس من هذه الأنواع التي تساق بمشقة ففي هذا التنويع تتغير عنها. ويروى : لسن ، أى : النوق التي يفتل منها. والأشبه : أن حق الرواية مع أيانق ، أى : أعجل بحبل مفتول من الليف الأبيض. ونوق شداد : لا تحتاج إلى السوق. ومخهن زاهق : قال الفراء : هو مرفوع ، والشعر مكفا. يقول : بل مخهن مكتنز سمين على الابتداء ، وهذا مما يؤيد رواية : لسن بالنوق. وقال غيره : الزاهق هنا الذاهب ، وهو مجرور بالعطف ، أى : ولا ضعاف مخهن. وزاهق بالجر ردا على ضعاف ، فكأنه رفع مخهن بضعاف.

(٢) قوله «من المواهن لتمتعض» جمع ماهن وهي الخادم. والامتعاض : الغضب. أفاده الصحاح. (ع)

(٣) هو تعبير الفضل بن العباس بن عتبة بن أبى لهب. وحمالة الحطب : زوجة أبى لهب ، فهي جدته. والغراء البيضاء. والشادخة : المتسعة ، وذلك مجاز عن الظهور وارتفاع المقدار. والسليلة من سل من غيره ، والمراد بالشيخ : أبوها حرب ، لأنها أم جميل أخت أبى سفيان بن حرب ، كانت عوراء ، وماتت مخنوقة بحبلها الذي كانت تحمل فيه الحطب. وقيل : حمل الحطب مجاز عن إثارة الفتنة ، لأنها كانت نمامة. وإلى شتمي : متعلق بمحذوف أو بأردت على طريق التضمين ، أى : أى شيء أردته مائلا أنت إلى شتمي ، أو منضما هو إلى شتمي. أو ما الذي أردته من شتمي أو مع شتمي؟ هل أردت أنك شريف لا عيب فيك. ويحوز أن إلى بمعنى من كما قال النحاة ، واشتشهدوا عليه بقوله :

تقول وقد عاليت بالكور فوقها

السقي فلا يروى إلى ابن أحمرا

ويمكن أنها للمصاحبة ، كما قالوه أيضا في قوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) وتعير : أصله تتعير ، فحذف منه إحدى التائين. أما تتعير من جدتك التمامة لا ينبغي عدم ذلك. وروى : ثاقب الحسب. والمعنى : أن حسبه أصيل ، فكأنه داخل في أجداد السابقين «أو سائر بين الناس ، وذمها الآن مع رفعة شأنها فيما كان : أشد في الامتهان.

٨١٦

ويحتمل أن يكون المعنى : أن حالها تكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك ، فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم أو من الضريع ، وفي جيدها حبل من ما مسد من سلاسل النار : كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة تبت رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبى لهب في دار واحدة (١)».

سورة الإخلاص

مكية ، وقيل مدنية ، وآياتها ٤ «نزلت بعد الناس»

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)(٤)

(هُوَ) ضمير الشأن ، و (اللهُ أَحَدٌ) هو الشأن ، كقولك : هو زيد منطلق ، كأنه قيل : الشأن هذا ، وهو أنّ الله واحد لا ثانى له. فإن قلت : ما محل هو؟ قلت : الرفع على الابتداء والخبر الجملة. فإن قلت : فالجملة الواقعة خبرا لا بد فيها من راجع إلى المبتدإ ، فأين الراجع؟ قلت : حكم هذه الجملة حكم المفرد في قولك «زيد غلامك» في أنه هو المبتدأ في المعنى ، وذلك أن قوله (اللهُ أَحَدٌ) هو الشأن الذي هو عبارة عنه ، وليس كذلك «زيد أبوه منطلق» فإنّ زيدا والجملة يدلان على معنيين مختلفين ، فلا بد مما يصل بينهما. وعن ابن عباس : قالت قريش : يا محمد ، صف لنا ربك الذي تدعونا إليه ، فنزلت : يعنى : الذي سألتمونى وصفه هو الله ، وأحد : بدل من قوله ، الله. أو على : هو أحد ، وهو بمعنى واحد ، وأصله وحد. وقرأ عبد الله وأبىّ : هو الله أحد ، بغير (قُلْ) وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم : الله أحد ، بغير (قُلْ هُوَ) وقال من

__________________

(١) أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه من حديث أبى بن كعب.

٨١٧

قرأ : الله أحد ، كان بعدل القرآن. وقرأ الأعمش : قل هو الله الواحد. وقرئ : أحد الله ، بغير تنوين : أسقط لملاقاته لام التعريف. ونحوه

ولا ذاكر الله إلّا قليلا (١)

والجيد هو التنوين ، وكسره لالتقاء الساكنين. و (الصَّمَدُ) فعل بمعنى مفعول ، من صمد إليه إذا قصده ، وهو السيد المصمود إليه في الحوائج. والمعنى : هو الله الذي تعرفونه وتقرّون بأنه خالق السماوات والأرض وخالقكم ، وهو واحد متوحد بالإلهية لا يشارك فيها ، وهو الذي يصمد إليه كل مخلوق لا يستغنون عنه ، وهو الغنى عنهم (لَمْ يَلِدْ) لأنه لا يجانس ، حتى تكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا. وقد دل على هذا المعنى بقوله (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ). (وَلَمْ يُولَدْ) لأنّ كل مولود محدث وجسم ، وهو قديم لا أوّل لوجوده وليس يجسم ولم يكافئه أحد ، أى : لم يماثله ولم يشاكله. ويجوز أن يكون من الكفاءة في النكاح ، نفيا للصاحبة : سألوه أن يصفه لهم ، فأوحى إليه ما يحتوى على صفاته ، فقوله (هُوَ اللهُ) إشارة لهم إلى من هو خالق الأشياء وفاطرها ، وفي طىّ ذلك وصفه بأنه قادر عالم ، لأن الخلق يستدعى القدرة والعلم ، لكونه واقعا على غاية إحكام واتساق وانتظام. وفي ذلك وصفه بأنه حى سميع بصير. وقوله (أَحَدٌ) وصف بالوحدانية ونفى الشركاء. وقوله (الصَّمَدُ) وصف بأنه ليس إلا محتاجا إليه ، وإذا لم يكن إلا محتاجا إليه : فهو غنى. وفي كونه غنيا مع كونه عالما : أنه عدل غير فاعل للقبائح (٢) ، لعلمه بقبح القبيح وعلمه بغناه عنه. وقوله (لَمْ يُولَدْ) وصف بالقدم والأوّلية. وقوله (لَمْ يَلِدْ) نفى للشبه والمجانسة. وقوله (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) تقرير لذلك وبت للحكم به : فإن قلت : الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم ، وقد نص سيبويه على ذلك في كتابه (٣) ، فما باله مقدّما في أفصح كلام وأعربه؟ قلت هذا الكلام إنما سيق لنفى المكافأة عن ذات الباري سبحانه ، وهذا المعنى مصبه ومركزه هو هذا

__________________

(١) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٤٤٨ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٢) قوله «إنه عدل غير فاعل للقبائح» هذا مذهب المعتزلة ، وذهب أهل السنة إلى أنه تعالى هو الخالق لجميع الأشياء خيرها وشرها قبيحها وحسنها. قال تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) وعلمه بقبح القبيح لا يمنعه من خلقه ، لأنه لحكمة وإن لم يعلمها غيره. (ع)

(٣) قال محمود : «إن قلت الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف وقد نص سيبويه على ذلك» قال أحمد : نقل سيبويه أنه سمع بعض الجفاة من العرب يقرأ : ولم يكن أحدا كفوا له ، وجرى هذا الجلف على عادته فجفا طبعه عن لطف المعنى الذي لأجله اقتضى تقديم الظرف مع الخبر على الاسم ، وذلك أن الغرض الذي سيقت له الآية نفى المكافأة والمساواة عن ذات الله تعالى ، فكان تقديم المكافأة المقصود بأن يسلب عنه أولى ، ثم لما قدمت لتسلب ذكر معها الظرف ليبين الذات المقدسة بسلب المكافأة ، والله أعلم.

٨١٨

الظرف ، فكان لذلك أهم شيء وأعناه ، وأحقه بالتقدم وأحراه. وقرئ : كفؤا ، بضم الكاف والفاء. وبضم الكاف وكسرها مع سكون الفاء : فإن قلت. لم كانت هذه السورة عدل القرآن كله على قصر متنها وتقارب طرفيها؟ قلت : لأمر ما يسود من يسود ، وما ذاك إلا لاحتوائها على صفات الله تعالى وعدله وتوحيده ، وكفى دليلا من اعترف بفضلها وصدق بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها : إنّ علم التوحيد من الله تعالى بمكان ، وكيف لا يكون كذلك والعلم تابع للمعلوم : يشرف بشرفه ، ويتضع بضعه ، ومعلوم هذا العلم هو الله تعالى وصفاته ، وما يجوز عليه وما لا يجوز ، فما ظنك بشرف منزلته وجلالة محله ، وإنافته على كل علم ، واستيلائه على قصب السبق دونه ، ومن ازدراه فلضعف علمه بمعلومه ، وقلة تعظيمه له ، وخلوه من خشيته ، وبعده من النظر لعاقبته. اللهم احشرنا في زمرة العالمين بك العاملين لك ، القائلين بعدلك وتوحيدك ، الخائفين من وعيدك. وتسمى سورة الأساس لاشتمالها على أصول الدين. وروى أبىّ وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : «أسست السماوات السبع والأرضون السبع على قل هو الله أحد» (١) يعنى ما خلقت إلا لتكون دلائل على توحيد الله ومعرفة صفاته التي نطقت بها هذه السورة. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلا يقرأ قل هو الله أحد فقال : «وجبت». قيل : يا رسول الله وما وجبت؟ قال : «وجبت له الجنة» (٢)

__________________

(١) لم أجده مرفوعا «وأخرجه ابن أبى شيبة في فضائل القرآن من رواية عبد الله بن غيلان الثقفي عن العب الأحبار موقوفا.

(٢) أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم من حديث عبيد بن حنين عن أبى هريرة. وله شاهد في الطبراني الكبير من حديث أبى أمامة.

٨١٩

سورة الفلق

مكية ، وقيل مدنية ، وآياتها ٥ «نزلت بعد الفيل»

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ)(٥)

الفلق والفرق : الصبح ، لأن الليل يفلق عنه ويفرق : فعل بمعنى مفعول. يقال في المثل : هو أبين من فلق الصبح ، ومن فرق الصبح. ومنه قولهم : سطع الفرقان ، إذا طلع الفجر. وقيل : هو كل ما يفلقه الله ، كالأرض عن النبات ، والجبال عن العيون ، والسحاب عن المطر ، والأرحام عن الأولاد ، والحب والنوى وغير ذلك. وقيل : هو واد في جهنم أوجب فيها من قولهم لما اطمأن من الأرض : الفلق. والجمع : فلقان. وعن بعض الصحابة أنه قدم الشأم فرأى دور أهل الذمّة وما هم فيه من خفض العيش وما وسع عليهم من دنياهم ، فقال : لا أبالى ، أليس من ورائهم الفلق؟ فقيل : وما الفلق؟ قال : بيت في جهنم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدّة حرّه (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) من شر خلقه. وشرهم (١) : ما يفعله المكلفون (٢) من الحيوان من المعاصي والمآثم ، ومضارّة بعضهم بعضا من ظلم وبغى وقتل وضرب وشتم وغير ذلك ، وما يفعله غير المكلفين منه عن الأكل والنهس واللدغ والعض كالسباع والحشرات ، وما وضعه الله في الموات من أنواع الضرر كالإحراق في النار والقتل في السم. والغاسق : الليل

__________________

(١) قوله «من شر خلقه وشرهم» لعله وشره ، أى : شر خلقه حيوانا أو مواتا. (ع)

(٢) قال محمود : «معناه من شر خلقه» أى من شر ما يفعله المكلفون ... الخ» قال أحمد : لا يسعه على قاعدته الفاسدة التي هي من جملة ما يدخل تحت هذه الاستعاذة إلا صرف الشر إلى ما يعتقده خالقا لأفعاله ، أو لما هو غير فاعل له البتة كالموات : وأما صرف الاستعاذة إلى ما يفعله الله تعالى بعباده من أنواع المحن والبلايا وغير ذلك ، فلا ، لأنه يعتقد أن الله لا يخلق أفعال الحيوانات ، وإنما هم يخلقونها لأنها شر ، والله تعالى لا يخلقه لقبحه : كل ذلك تفريع على قاعدة الصلاح والأصلح التي وضح فسادها ، حتى حرف بعض القدرية الآية ، فقرأ : من شر ما خلق بتنوين شر وجعل ما نافية.

٨٢٠