الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(١٣٨)

(مُصْبِحِينَ) داخلين في الصباح ، يعنى : تمرون على منازلهم في متاجركم إلى الشام ليلا ونهارا ، فما فيكم عقول تعتبرون بها.

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ)(١٤٨)

قرئ : يونس ، بضم النون وكسرها. وسمى هربه من قومه بغير إذن ربه : إباقا على طريقة المجاز. والمساهمة : المقارعة. ويقال : استهم القوم ، إذا اقترعوا. والمدحض : المغلوب المقروع. وحقيقته : المزلق عن مقام الظفر والغلبة. روى أنه حين ركب في السفينة وقفت ، فقالوا : هاهنا عبد أبق من سيده ، وفيما يزعم البحارون أنّ السفينة إذا كان فيها آبق لم تجر ، فاقترعوا ، فخرجت القرعة على يونس فقال : أنا الآبق ، وزجّ بنفسه في الماء (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) داخل في الملامة. يقال : ربّ لائم مليم ، أى يلوم غيره وهو أحق منه باللوم. وقرئ : مليم ، بفتح الميم ، من ليم فهو مليم ، كما جاء : مشيب في مشوب ، مبنيا على شيب. ونحوه : مدعى ، بناء على دعى (مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) من الذاكرين الله كثيرا بالتسبيح والتقديس. وقيل : هو قوله في بطن الحوت (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وقيل : من المصلين. وعن ابن عباس : كل تسبيح في القرآن فهو صلاة (١). وعن قتادة : كان كثير الصلاة في الرخاء. قال : وكان يقال : إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر ، وإذا صرع وجد متكأ. وهذا ترغيب من الله عز وجل في إكثار المؤمن من ذكره بما هو أهله ، وإقباله على عبادته ، وجمع همه لتقييد

__________________

(١) أخرجه الطبري وابن مردويه من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما ـ قوله ورواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة موقوفا

٦١

نعمته بالشكر في وقت المهلة والفسحة ، لينفعه ذلك عنده تعالى في المضايق والشدائد (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ) الظاهر لبثه فيه حيا إلى يوم البعث. وعن قتادة : لكان بطن الحوت له قبرا إلى يوم القيامة. وروى أنه حين ابتلعه أوحى الله إلى الحوت : إنى جعلت بطنك له سجنا ، ولم أجعله لك طعاما. واختلف في مقدار لبثه ، فعن الكلبي : أربعون يوما ، وعن الضحاك : عشرون يوما. وعن عطاء سبعة. وعن بعضهم : ثلاثة. وعن الحسن : لم يلبث إلا قليلا ، ثم أخرج من بطنه بعيد الوقت الذي التقم فيه. وروى أنّ الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح ، ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر ، فلفظه سالما لم يتغير منه شيء ، فأسلموا : وروى أن الحوت قذفه بساحل قرية من الموصل. والعراء : المكان الخالي لا شجر فيه ولا شيء يغطيه (وَهُوَ سَقِيمٌ) اعتلّ مما حلّ به. وروى أنه عاد بدنه كبدن الصبى حين يولد. واليقطين : كل ما ينسدح على وجه الأرض ولا يقوم على ساق كشجر البطيخ والقثاء والحنظل ، وهو «يفعيل» من قطن بالمكان إذا أقام به. وقيل : هو الدباء. وفائدة الدباء أن الذباب لا يجتمع عنده ـ وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك لتحب القرع. قال «أجل هي شجرة أخى يونس» (١) وقيل : هي التين ، وقيل : شجرة الموز ، تغطى بورقها ، واستظلّ بأغصانها ، وأفطر على ثمارها. وقيل : كان يستظل بالشجرة وكانت وعلة (٢) تختلف إليه ، فيشرب من لبنها. وروى أنه مرّ زمان على الشجرة فيبست ، فبكى جزعا ، فأوحى الله إليه : بكيت على شجرة ولا تبكى على مائة ألف في يد الكافر ، فإن قلت : ما معنى (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً)؟ قلت : أنبتناها فوقه مظلة له ، كما يطنب البيت على الإنسان (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ) المراد به ما سبق من إرساله إلى قومه وهم أهل نينوى. وقيل : هو إرسال ثان بعد ما جرى عليه إلى الأولين. أو إلى غيرهم وقيل : أسلموا فسألوه أن يرجع إليهم فأبى ، لأن النبىّ إذا هاجر عن قومه لم يرجع إليهم مقيما فيهم ، وقال لهم : إن الله باعث إليكم نبيا (أَوْ يَزِيدُونَ) في مرأى الناظر ؛ أى. إذا رآها الرائي قال : هي مائة ألف أو أكثر ، والغرض : الوصف بالكثرة (إِلى حِينٍ) إلى أجل مسمى وقرئ : ويزيدون ، بالواو. وحتى حين.

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ

__________________

(١) لم أجده. وأخرجه ابن مردويه عن ابن مسعود في قصة يونس قال عبد الله : قال النبي صلى الله عليه وسلم ... واليقطين القرع.

(٢) قوله «وكانت وعلة» يقال : هي شاة جبلية. (ع)

٦٢

مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١٥٧)

(فَاسْتَفْتِهِمْ) معطوف على مثله في أوّل السورة ، وإن تباعدت بينهما المسافة : أمر رسوله باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أوّلا ، ثم ساق الكلام موصولا بعضه ببعض ، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى التي قسموها ، حيث جعلوا لله الإناث ولأنفسهم الذكور في قولهم : الملائكة بنات الله ، مع كراهتهم الشديدة لهنّ ، ووأدهم ، واستنكافهم من ذكرهنّ. ولقد ارتكبوا في ذلك ثلاثة أنواع من الكفر ، أحدها : التجسيم ، لأن الولادة مختصة بالأجسام والثاني : تفضيل أنفسهم على ربهم حين جعلوا أوضع الجنسين له وأرفعهما لهم ، كما قال (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) ، (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) والثالث : أنهم استهانوا بأكرم خلق الله عليه وأقربهم إليه ، حيث أنثوهم ولو قيل لأقلهم وأدناهم : فيك أنوثة. أو شكلك شكل النساء ، للبس لقائله جلد النمر ، ولانقلبت حماليقه (١) وذلك في أهاجيهم بين مكشوف ، فكرّر الله سبحانه الأنواع كلها في كتابه مرّات ، ودل على فظاعتها في آيات : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) ، (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) ، (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ) ، (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) ، (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) ، (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) ، (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) ، (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) ، (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) ، (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً). (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ). فإن قلت. لم قال و (هُمْ شاهِدُونَ) فخصّ علم المشاهدة؟ قلت : ما هو إلا استهزاء بهم وتجهيل ، وكذلك قوله (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) ونحوه قوله (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) وذلك أنهم كما لم يعلموا ذلك بطريق المشاهدة ، لم يعلموه بخلق الله علمه في قلوبهم ، ولا بإخبار صادق ، ولا بطريق استدلال ونظر. ويجوز أن يكون المعنى : أنهم يقولون ذلك ، كالقائل قولا عن ثلج صدر وطمأنينة نفس لإفراط جهلهم ، كأنهم قد شاهدوا خلقهم. وقرئ : ولد الله ، أى الملائكة ولده. والولد

__________________

(١) قوله «ولانقلبت حماليقه» في الصحاح «حملاق العين» : باطن أجفانها الذي يسوده الكحل اه. (ع)

٦٣

«فعل» بمعنى مفعول ، يقع على الواحد والجمع ، والمذكر والمؤنث. تقول : هذه ولدى ، وهؤلاء ولدى. فإن قلت : (أَصْطَفَى الْبَناتِ) بفتح الهمزة : استفهام على طريق الإنكار والاستبعاد ، فكيف صحت قراءة أبى جعفر بكسر الهمزة على الإثبات؟ قلت : جعله من كلام الكفرة بدلا عن قولهم (وَلَدَ اللهُ) وقد قرأ بها حمزة والأعمش رضى الله عنهما. وهذه القراءة ـ وإن كان هذا محملها ـ فهي ضعيفة ، والذي أضعفها : أن الإنكار قد اكتنف هذه الجملة من جانبيها ، وذلك قوله (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ). (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)؟ فمن جعلها للإثبات ، فقد أوقعها دخيلة بين نسيبين. وقرئ تذكرون ، من ذكر (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ) أى حجة نزلت عليكم من السماء وخبر بأن الملائكة بنات الله (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ) الذي أنزل عليكم في ذلك ، كقوله تعالى (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) وهذه الآيات صادرة عن سخط عظيم ، وإنكار فظيع ، واستبعاد لأقاويلهم شديد ، وما الأساليب التي وردت عليها إلا ناطقة بتسفيه أحلام قريش ، وتجهيل نفوسها ، واستركاك عقولها ، مع استهزاء وتهكم وتعجيب ، من أن يخطر مخطر مثل ذلك على بال ويحدّث به نفسا ، فضلا أن يجعله معتقدا ويتظاهر به مذهبا.

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ)(١٦٠)

(وَجَعَلُوا) بين الله وبين الجنة وأراد الملائكة (نَسَباً) وهو زعمهم أنهم بناته ، والمعنى : وجعلوا بما قالوا نسبة بين الله وبينهم ، وأثبتوا له بذلك جنسية جامعة له وللملائكة. فإن قلت : لم سمى الملائكة جنة؟ قلت : قالوا الجنس واحد ، ولكن من خبث من الجن ومرد وكان شرا كله فهو شيطان ، ومن طهر منهم ونسك وكان خيرا كله فهو ملك ، فذكرهم في هذا الموضع باسم جنسهم ، وإنما ذكرهم بهذا الاسم وضعا منهم وتقصيرا بهم. وإن كانوا معظمين في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة التي أضافوها إليهم. وفيه إشارة إلى أن من صفته الاجتنان والاستتار ، وهو من صفات الأجرام لا يصلح أن يناسب من لا يجوز عليه ذلك. ومثاله : أن تسوّى بين الملك وبين بعض خواصه ومقرّبيه ، فيقول لك : أتسوّي بيني وبين عبدى. وإذا ذكره في غير هذا المقام وقره وكناه. والضمير في (إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) للكفرة. والمعنى : أنهم يقولون ما يقولون في الملائكة ، وقد علم الملائكة أنهم في ذلك كاذبون مفترون ، وأنهم محضرون النار معذبون بما يقولون ، والمراد المبالغة في التكذيب. حيث أضيف إلى علم الذين ادّعوا لهم تلك النسبة. وقيل : قالوا إنّ الله صاهر الجن فخرجت الملائكة. وقيل : قالوا. إنّ الله والشيطان أخوان.

٦٤

وعن الحسن : أشركوا الجن في طاعة الله. ويجوز إذا فسر الجنة بالشياطين : أن يكون الضمير في (إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) لهم ، والمعنى أن الشياطين عالمون بأنّ الله يحضرهم النار ويعذبهم ، ولو كانوا مناسبين له أو شركاء في وجوب الطاعة لما عذبهم (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) استثناء منقطع من المحضرين : معناه ولكن المخلصين ناجون. وسبحان الله : اعتراض بين الاستثناء وبين ما وقع منه. ويجوز أن يقع الاستثناء من الواو في يصفون ، أى : يصفه هؤلاء بذلك ، ولكن المخلصون برآء من أن يصفوه به.

(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ)(١٦٣)

والضمير في (عَلَيْهِ) لله عز وجلّ ومعناه : فإنكم ومعبوديكم ما أنتم وهم جميعا بفاتنين على الله إلا أصحاب النار الذين سبق في علمه أنهم لسوء أعمالهم يستوجبون أن يصلوها. فإن قلت : كيف يفتنونهم على الله؟ قلت. يفسدونهم عليه بإغوائهم واستهزائهم ، من قولك يفتن فلان على فلان امرأته ، كما تقول : أفسدها عليه وخيبها عليه. ويجوز أن يكون الواو في (وَما تَعْبُدُونَ) بمعنى مع ، مثلها في قولهم : كل رجل وضيعته ، فكما جاز السكوت على كل رجل وضيعته ، وأنّ كل رجل وضيعته ، جاز أن يسكت على قوله (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) لأن قوله (وَما تَعْبُدُونَ) سادّ مسدّ الخبر ، لأن معناه : فإنكم مع ما تعبدون. والمعنى : فإنكم مع آلهتكم ، أى : فإنكم قرناؤهم وأصحابهم لا تبرحون تعبدونها ، ثم قال : ما أنتم عليه ، أى على ما تعبدون (بِفاتِنِينَ) بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال (إِلَّا مَنْ هُوَ) ضال مثلكم. أو يكون في أسلوب قوله :

فإنّك والكتاب إلى علىّ

كدا بغة وقد حلم الأديم (١)

وقرأ الحسن : صال الجحيم ، بضم اللام. وفيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أن يكون جمعا وسقوط واوه لالتقاء الساكنين هي ولام التعريف «فإن قلت» كيف استقام الجمع مع قوله (مَنْ هُوَ)؟ قلت من موحد اللفظ مجموع المعنى فحمل هو على لفظه والصالحون على معناه كما حمل في مواضع من التنزيل

__________________

(١) لعمرو بن العاص. وقيل للوليد بن عقبة بن أبى معيط ، يحرض معاوية على حرب على بن أبى طالب ، وحلم الجلد حلما ، كتعب تعبا : إذا فسد ودود وتنقب. وحلم بالضم ، حلما بالكسر : عفى مع القدرة. وحلم بالفتح ، حلما بالضم : رأى في منامه شيئا. يقول : فإنك وكتابك الواصل إلى على ترجو به استقامته ، كرجل كثير الدبغ للجلد ، أو كامرأة دابغة له والحال أنه قد فسد ولم ينفع فيه الدبغ. والمقصود : تشبيه حالة بأخرى. ويجوز أن الواو للمعية لا للعطف ، فالمعنى تشبيه معاوية بالدابغة.

٦٥

على لفظ من ومعناه في آية واحدة. والثاني أن يكون أصله صائل على القلب ، ثم يقال صال في صائل ، كقولهم شاك في شائك. والثالث أن تحذف لام صال تخفيفا ويجرى الإعراب على عينه ، كما حذف من قولهم : ما باليت به بالة ، وأصلها بالية من بالي ، كعافية من عافى. ونظيره قراءة من قرأ : (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ) بإجراء الإعراب على العين.

(وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ)(١٦٦)

(وَما مِنَّا) أحد (إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ، كقوله :

أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا (١)

بكفّى كان من أرمى البشر (٢)

مقام معلوم في العبادة ، والانتهاء إلى أمر الله مقصور عليه لا يتجاوزه ، كما روى : فمنهم راكع لا يقيم صلبه ، وساجد لا يرفع رأسه (لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) نصف أقدامنا في الصلاة ، أو أجنحتنا في الهواء. منتظرين ما نؤمر. وقيل : نصف أجنحتنا حول العرش داعين للمؤمنين. وقيل : إنّ المسلمين إنما اصطفوا في الصلاة منذ نزلت هذه الآية. وليس يصطف أحد من أهل الملل في صلاتهم غير المسلمين (الْمُسَبِّحُونَ) المنزهون أو المصلون. والوجه أن يكون هذا وما قبله من قوله (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) من كلام الملائكة حتى يتصل بذكرهم في قوله (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ) كأنه قيل : ولقد علم الملائكة وشهدوا أن المشركين مفترون عليهم في مناسبة رب العزة وقالوا : سبحان الله ، فنزهوه عن ذلك ، واستثنوا عباد الله المخلصين وبرؤهم منه ، وقالوا للكفرة فإذا صحّ ذلك فإنكم وآلهتكم لا تقدرون أن تفتنوا على الله أحدا من خلقه وتضلوه ، إلا من كان مثلكم ممن علم الله ـ لكفرهم ، لا لتقديره وإرادته (٣) ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ـ أنهم من أهل النار ، وكيف نكون مناسبين لرب العزة ويجمعنا وإياه جنسية واحدة؟ وما نحن إلا عبيد أذلاء بين يديه ، لكل منا مقام من الطاعة لا يستطيع أن يزل عنه ظفرا ، خشوعا لعظمته

__________________

(١) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ٣٠٥ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٢) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ٦١٦ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٣) قوله «لا لتقديره وإرادته تعالى» مبنى على مذهب المعتزلة أن الله لا يقدر الشر ولا يريده. وقال أهل السنة : إن كل كائن فهو بقضاء الله وقدره كما بين في علم التوحيد. (ع)

٦٦

وتواضعا لجلاله ، ونحن الصافون أقدامنا لعبادته وأجنحتنا ، مذعنين خاضعين مسبحين ممجدين ، وكما يجب على العباد (١) لربهم. وقيل : هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعنى : وما من المسلمين أحد إلا له مقام معلوم يوم القيامة على قدر عمله ، من قوله تعالى (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) ثم ذكر أعمالهم وأنهم هم الذين يصطفون في الصلاة يسبحون الله وينزهونه مما يضيف إليه من لا يعرفه مما لا يجوز عليه.

(وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(١٧٠)

هم مشركو قريش كانوا يقولون (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً) أى كتابا (مِنَ) كتب (الْأَوَّلِينَ) الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل ، لأخلصنا العبادة لله ، ولما كذبنا كما كذبوا ، ولما خالفنا كما خالفوا ، فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار ، والكتاب الذي هو معجز من بين الكتب ، فكفروا به. ونحوه (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) فسوف يعلمون مغبة تكذيبهم وما يحل بهم من الانتقام. وإن : هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة. وفي ذلك أنهم كانوا يقولونه مؤكدين للقول جادّين فيه ، فكم بين أوّل أمرهم وآخره.

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ)(١٧٣)

الكلمة : قوله : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) وإنما سماها كلمة وهي كلمات عدّة ، لأنها لما انتظمت في معنى واحد كانت في حكم كلمة مفردة. وقرئ : كلماتنا : والمراد الموعد بعلوهم على عدوهم في مقاوم الحجاج وملاحم القتال في الدنيا ، وعلوهم عليهم في الآخرة ، كما قال (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ولا يلزم انهزامهم (٢) في بعض المشاهد ، وما جرى عليهم من القتل فإن الغلبة كانت لهم ولمن بعدهم في العاقبة ، وكفى بمشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين مثلا يحتذى عليها وعبرا يعتبر بها. وعن الحسن رحمه الله : ما غلب نبىّ في حرب ولا قتل فيها ، ولأن قاعدة أمرهم وأساسه والغالب منه : الظفر والنصرة ـ وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من الابتلاء والمحنة ـ والحكم للغالب. وعن ابن عباس رضى الله

__________________

(١) قوله «وكما يجب على العباد لربهم» لعله كما يجب. كعبارة النسفي. (ع)

(٢) قوله «ولا يلزم انهزامهم» أى لا يرد نقضا للغلبة والنصر. (ع)

٦٧

عنهما : إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في الآخرة. وفي قراءة ابن مسعود : على عبادنا ، على تضمين سبقت معنى حقت.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ)(١٧٥)

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) فأعرض عنهم وأغض (١) على أذاهم (حَتَّى حِينٍ) إلى مدة يسيرة وهي مدّة الكف عن القتال. وعن السدى : إلى يوم بدر. وقيل إلى الموت. وقيل : إلى يوم القيامة (وَأَبْصِرْهُمْ) وما يقضى عليهم من الأسر والقتل والعذاب في الآخرة ، فسوف يبصرونك وما يقضى لك من النصرة والتأييد والثواب في العاقبة. والمراد بالأمر بإبصارهم على الحال المنتظرة الموعودة : الدلالة على أنها كائنة واقعة لا محالة ، وأنّ كينونتها قريبة كأنها قدام ناظريك. وفي ذلك تسلية له وتنفيس عنه. وقوله (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) للوعيد كما سلف لا للتبعيد.

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ)(١٧٩)

مثل العذاب النازل بهم بعد ما أنذروه فأنكروه بجيش أنذر بهجومه قومه بعض نصاحهم فلم يلتفتوا إلى إنذاره ، ولا أخذوا أهبتهم ، ولا دبروا أمرهم تدبيرا ينجيهم ، حتى أناخ بفنائهم بغتة ، فشنّ عليهم الغارة وقطع دابرهم ، وكانت عادة مغاويرهم أن يغيروا صباحا ، فسميت الغارة صباحا وإن وقعت في وقت آخر ، وما فصحت هذه الآية ولا كانت لها الروعة التي تحس بها ويروقك موردها على نفسك وطبعك ، إلا لمجيئها على طريقة التمثيل ، وقرأ ابن مسعود : فبئس صباح. وقرئ : نزل بساحتهم ، على إسناده إلى الجار والمجرور كقولك : ذهب بزيد ونزل ، على : ونزل العذاب. والمعنى : فساء صباح المنذرين صباحهم ، واللام في المنذرين مبهم في جنس من أنذروا ، لأنّ ساء وبئس يقتضيان ذلك. وقيل : هو نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بمكة. وعن أنس رضى الله عنه : لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ـ وكانوا خارجين إلى مزارعهم وممهم المساحي ـ قالوا : محمد والخميس ، ورجعوا إلى حصنهم. فقال عليه الصلاة والسلام : «الله أكبر خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» (٢) وإنما ثنى (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ) ليكون تسلية على تسلية ، وتأكيدا لوقوع الميعاد إلى تأكيد. وفيه فائدة زائدة وهي إطلاق الفعلين معا عن التقييد بالمفعول ، وأنه يبصروهم يبصرون ما لا يحيط به الذكر من صنوف

__________________

(١) قوله «وأغض على أذاهم» في الصحاح «الاغضاء» : إدناء الجفون. (ع)

(٢) متفق عليه

٦٨

المسرة وأنواع المساءة. وقيل : أريد بأحدهما عذاب الدنيا ، وبالآخر عذاب الآخرة.

(سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١٨٢)

أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه بها كأنه قيل : ذو العزة ، كما تقول : صاحب صدق ، لاختصاصه بالصدق. ويجوز أن يراد أنه ما من عزة لأحد من الملوك وغيرهم إلا وهو ربها ومالكها ، كقوله تعالى (تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) : اشتملت السورة على ذكر ما قاله المشركون في الله ونسبوا إليه مما هو منزه عنه ، وما عاناه المرسلون من جهتهم ، وما خوّلوه في العاقبة من النصرة عليهم ، فختمها بجوامع ذلك من تنزيه ذاته عما وصفه به المشركون ، والتسليم على المرسلين (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على ما قيض لهم من حسن العواقب ، والغرض تعليم المؤمنين أن يقولوا ذلك ولا يخلوا به ولا يغفلوا عن مضمنات كتابه الكريم ومودعات قرآنه المجيد. وعن علىّ رضى الله عنه : «من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة ، فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه : سبحان ربك رب العرة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين (١)

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ والصافات أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد كل جنى وشيطان وتباعدت عنه مردة الشياطين وبريء من الشرك وشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمنا بالمرسلين» (٢).

__________________

(١) أخرجه عبد الرزاق والثعلبي من رواية الأصبغ بن نباتة عن على موقوفا. ورواه ابن أبى حاتم من رواية الشعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا.

(٢) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من طرف عن أبى بن كعب رضى الله عنه.

٦٩

سورة ص

مكية ، وهي ست وثمانون آية ، وقيل ثمان وثمانون آية

[نزلت بعد القمر]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ)(٢)

(ص) على الوقف وهي أكثر القراءة. وقرئ بالكسر والفتح لالتقاء الساكنين ، ويجوز أن ينتصب بحذف حرف القسم وإيصال فعله ، كقولهم : الله لأفعلنّ ، كذا بالنصب ، أو بإضمار حرف القسم ، والفتح في موضع الجرّ ، كقولهم : الله لأفعلنّ ، بالجرّ وامتناع الصرف للتعريف والتأنيث ، لأنها بمعنى السورة ، وقد صرفها من قرأ (ص) بالجرّ والتنوين على تأويل الكتاب والتنزيل : وقيل : فيمن كسر هو من المصاداة وهي المعارضة والمعادلة. ومنها الصدى وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الخالية من الأجسام الصلبة ، ومعناه : ما عارض القرآن بعملك فاعمل بأوامره وانته عن نواهيه. فإن قلت : قوله : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) كلام ظاهره متنافر غير منتظم ، فما وجه انتظامه؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون قد ذكر اسم هذا الحرف من حروف المعجم على سبيل التحدّى والتنبيه على الإعجاز كما مرّ في أوّل الكتاب ، ثم أتبعه القسم محذوف الجواب لدلالة التحدّى عليه ، كأنه قال (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) إنه لكلام معجز. والثاني : أن يكون (ص) خبر مبتدأ محذوف ، على أنها اسم للسورة ، كأنه قال : هذه ص ، يعنى : هذه السورة التي أعجزت العرب ، والقرآن ذى الذكر ، كما تقول : هذا حاتم والله ، تريد : هذا هو المشهور بالسخاء والله ، وكذلك إذا أقسم بها كأنه قال : أقسمت بص والقرآن ذى الذكر إنه لمعجز ، ثم قال : بل الذين كفروا في عزة واستكبار عن الإذعان لذلك والاعتراف بالحق وشقاق لله ورسوله ، وإذا جعلتها مقسما بها وعطفت عليها (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) جاز لك أن تريد بالقرآن التنزيل كله ، وأن تريد السورة بعينها. ومعناه : أقسم بالسورة الشريفة والقرآن ذى الذكر ، كما تقول : مررت بالرجل الكريم وبالنسمة المباركة ، ولا تريد بالنسمة غير الرجل. والذكر : الشرف والشهرة ، من قولك : فلان مذكور ، وإنه

٧٠

لذكر لك ولقومك. أو الذكرى والموعظة ، أو ذكر ما يحتاج إليه في الدين من الشرائع وغيرها ، كأقاصيص الأنبياء والوعد والوعيد. والتنكير في (عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) للدّلالة على شدّتهما وتفاقمهما. وقرئ : في غرّة ، أى : في غفلة عما يجب عليهم من النظر واتباع الحق.

(كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ)(٣)

(كَمْ أَهْلَكْنا) وعيد لذوي العزة والشقاق (فَنادَوْا) فدعوا واستغاثوا ، وعن الحسن. فنادوا بالتوبة (وَلاتَ) هي لا المشبهة بليس ، زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على رب ، وثم للتوكيد ، وتغير بذلك حكمها حيث لم تدخل إلا على الأحيان ولم يبرز إلا أحد مقتضيها : إمّا الاسم وإما الخبر ، وامتنع بروزهما جميعا ، وهذا مذهب الخليل وسيبويه. وعند الأخفش : أنها لا النافية للجنس زيدت عليها التاء ، وخصت بنفي الأحيان. و (حِينَ مَناصٍ) منصوب بها ، كأنك قلت : ولا حين مناص لهم. وعنه : أنّ ما ينتصب بعده بفعل مضمر ، أى : ولا أرى حين مناص ، ويرتفع بالابتداء : أى ولا حين مناص كائن لهم ، وعندهما أنّ النصب على : ولات الحين حين مناص أى وليس حين مناص ، والرفع على ولات حين مناص حاصلا لهم. وقرئ : حين مناص ، بالكسر ، ومثله قول أبى زبيد الطائي :

طلبوا صلحنا ولات أوان

فأجبنا أن لات حين بقاء (١)

فإن قلت : ما وجه الكسر في أوان؟ قلت : شبه بإذ في قوله : وأنت إذ صحيح ، في أنه زمان قطع منه المضاف إليه وعوض التنوين : لأنّ الأصل : ولات أوان صلح. فإن قلت : فما تقول في حين مناص والمضاف إليه قائم؟ قلت : نزل قطع المضاف إليه من مناص ، لأنّ

__________________

(١) بعثوا حربنا عليهم وكانوا

في مقام لو أبصروا ورخاء

ثم لما تشذرت وأنافت

وتصلوا منها كريه الصلاء

طلبوا صلحتا ولات أوان

فأجبنا أن لات حين بقاء

لأبى زبيد الطائي ، استعار البعث للتسبب. وتنوين مقام ورخاء للتعظيم. والتشذر : التهيؤ للقتال ، والتشمر بأطراف الثوب ، والتطاول ، والوعيد ، والركوب من خلف المركوب. والانافة : الارتفاع ، وكل هذا ترشيح لاستعارة البعث. ويجوز أنه شبه الحرب بفارس على طريق المكنية. والبعث والتشذر والانافة : تخييل. وشبهها بالنار أيضا فأثبت لهاء التصلى وهو التدفؤ بالنار تخييلا. أو استعار التصلى لاقتحام المكاره تصريحية ، وطلبوا : جواب لما ، أى : لما ذاقوا بأسنا طلبوا صلحنا ، والحال أنه ليس الأوان أوان صلح ، فأجبناهم بأن هذا ليس وقت بقاء ، بل وقت فناء. وأوان : منى على الكسر لنية الاضافة. وقيل : إنه مبنى على الكسر أيضا لنية الاضافة ، ونون للضرورة. وشبهه بنزال في الوزن. وقيل : مجرور على إضمار «من» الاستغراقية الزائدة. وزعم الفراء أن لات هنا حرف جر ، وعليها فتنوين أوان للتمكين. وزعم الزمخشري أنه على البناء تنوين عوض ، ورد بأنه لو كان كذلك لأعرب ، وحين نصب على أنه خبر لات في بقاء ، ثم تنزيلها منزلة نيتها في حين ، لأن التقدير : أن لات حين بقائكم ، وهو بعيد عن المعنى الجزل.

٧١

أصله حين مناصهم منزلة قطعه من حين ، لاتحاد المضاف والمضاف إليه ، وجعل تنوينه عوضا من الضمير المحذوف ، ثم بنى الحين لكونه مضافا إلى غير متمكن. وقرئ : ولات بكسر التاء على البناء ، كجير. فإن قلت : كيف يوقف على لات؟ قلت : يوقف عليها بالتاء ، كما يوقف على الفعل الذي يتصل به تاء التأنيث. وأمّا الكسائي فيقف عليها بالهاء كما يقف على الأسماء المؤنثة. وأمّا قول أبى عبيد : إنّ التاء داخلة على حين فلا وجه له. واستشهاده بأنّ التاء ملتزقة بحين في الإمام لا متشبث به ، فكم وقعت في المصحف أشياء خارجة عن قياس الخط. والمناص : المنجا والفوت. يقال : ناصه ينوصه إذا فاته. واستناص : طلب المناص. قال حارثة بن بدر :

غمر الجراء إذا قصرت عنانه

بيدي استناص ورام جري المسحل (١)

(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (٥)

(مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) رسول من أنفسهم (وَقالَ الْكافِرُونَ) ولم يقل : وقالوا ، إظهارا للغضب عليهم ، ودلالة على أنّ هذا القول لا يجسر عليه إلا الكافرون المتوغلون في الكفر المنهمكون في الغىّ الذين قال فيهم (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) وهل ترى كفرا أعظم وجهلا أبلغ من أن يسموا من صدّقه الله بوحيه كاذبا ، ويتعجبوا من التوحيد ، وهو الحق الذي لا يصح غيره ، ولا يتعجبوا من الشرك وهو الباطل الذي لا وجه لصحته. روى أنّ إسلام عمر رضى الله تعالى عنه فرح به المؤمنون فرحا شديدا ، وشق على قريش وبلغ منهم ، فاجتمع خمسة وعشرون نفسا من صناديدهم ومشوا إلى أبى طالب وقالوا : أنت شيخنا وكبيرنا (٢) ، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء ، يريدون : الذين دخلوا في الإسلام ، وجئناك لتقضى بيننا وبين ابن أخيك ، فاستحضر أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا ابن أخى ، هؤلاء قومك يسألونك السؤال (٣) فلا تمل كل الميل على قومك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ذا يسألوننى؟ قالوا ارفضنا

__________________

(١) لحارثة بن بدر ، يصف فرسا بأنه كثير المجاراة لغيره من الأفراس ، إذا قصرت : أى جذبت عنانه ، استناص : أى طلب النوص والهرب والنجاء من الأعداء. وشبه الفرس بمن تصح منه الارادة على طريق المكنية ، والروم تخييل ، أى : أراد جريا كجرى السحل وهو حمار الوحش ، سمي به لكثرة سحاله ، أى شهيقه.

(٢) ذكره الثعلبي بغير سند. وروى الترمذي والنسائي وابن حبان وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والطبري وابن أبى حاتم وغيرهم من طريق يحيى بن عمارة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال «مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ....... الحديث نحوه» وليس فيه أوله.

(٣) قوله «يسألونك السؤال فلا تمل» لعله السواء ، كما في عبارة النسفي. (ع)

٧٢

وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك ، فقال عليه السلام : أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أمعطىّ أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟ فقالوا : نعم وعشرا ، أى نعطيكها وعشر كلمات معها ، فقال : قولوا لا إله إلا الله فقاموا وقالوا (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) أى : بليغ في العجب. وقرئ : عجاب ، بالتشديد ، كقوله تعالى (مَكْراً كُبَّاراً) وهو أبلغ من المخفف. ونظيره : كريم وكرام وكرام : وقوله (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) مثل قوله (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) في أن معنى الجعل التصيير في القول على سبيل الدعوى والزعم ، كأنه قال : أجعل الجماعة واحدا في قوله ، لأنّ ذلك في الفعل محال.

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ)(٧)

(الْمَلَأُ) أشراف قريش ، يريد : وانطلقوا عن مجلس أبى طالب بعد ما بكتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجواب العتيد ، قائلين بعضهم لبعض (امْشُوا وَاصْبِرُوا) فلا حيلة لكم في دفع أمر محمد (إِنَّ هذا) الأمر (لَشَيْءٌ يُرادُ) أى يريده الله تعالى ويحكم بإمضائه ، وما أراد الله كونه فلا مردّ له ولا ينفع فيه إلا الصبر ، أو أن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا فلا انفكاك لنا منه : أو أن دينكم لشيء يراد ، أى : يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه. و (أَنِ) بمعنى أى ، لأنّ المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم ، فكان انطلاقهم مضمنا معنى القول. ويجوز أن يراد بالانطلاق : الاندفاع في القول ، وأنهم قالوا : امشوا ، أى أكثروا واجتمعوا ، من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها. ومنه : الماشية ، للتفاؤل ، كما قيل لها : الفاشية : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (١) «ضموا فواشيكم» (٢) ومعنى (وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) : واصبروا على عبادتها والتمسك بها حتى لا تزالوا عنها ، وقرئ : وانطلق الملأ منهم امشوا ، بغير (أَنِ) على إضمار القول. وعن ابن مسعود : وانطلق الملأ منهم يمشون أن اصبروا (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) في ملة عيسى التي هي آخر الملل ، لأنّ النصارى يدعونها وهم مثلثة غير موحدة. أو في ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا. أو ما سمعنا بهذا كائنا في الملة الآخرة ، على أن يجعل في الملة الآخرة حالا من هذا ولا تعلقه بما سمعنا كما في الوجهين. والمعنى : أنا لم نسمع من أهل الكتاب ولا من الكهان أنه يحدث في الملة الآخرة توحيد الله. ما (هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) أى : افتعال وكذب.

__________________

(١) أخرجه ابن حبان من حديث جابر رضى الله عنه بلفظ «كفوا» وأصله في مسلم.

(٢) قوله «ضموا فواشيكم» بقيته في الصحاح : «حتى تذهب فحمة العشاء» (ع)

٧٣

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ)(١١)

أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم ورؤسائهم وينزل عليه الكتاب من بينهم ، كما قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) وهذا الإنكار ترجمة عما كانت تغلى به صدورهم من الحسد على ما أوتى من شرف النبوّة من بينهم (بَلْ هُمْ فِي شَكٍ) من القرآن ، يقولون في أنفسهم : إما وإما. وقولهم (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) كلام مخالف لاعتقادهم فيه يقولونه على سبيل الحسد (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) بعد فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الشك والحسد (١) حينئذ ، يعنى : أنهم لا يصدقون به إلا أن يمسهم العذاب مضطرين إلى تصديقه (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ) يعنى ما هم بما لكي خزائن الرحمة حتى يصيبوا بها من شاءوا ويصرفوها عمن شاءوا ، ويتخيروا للنبوّة بعض صناديدهم ، ويترفعوا بها عن محمد عليه الصلاة والسلام. وإنما الذي يملك الرحمة وخزائنها : العزيز القاهر على خلقه ، الوهاب الكثير المواهب المصيب بها مواقعها ، الذي يقسمها على ما تقتضيه حكمته وعدله ، كما قال (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا) ثم رشح هذا المعنى فقال (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) حتى يتكلموا في الأمور الربانية والتدابير الإلهية التي يختص بها رب العزة والكبرياء ، ثم تهكم بهم غاية التهكم فقال : وإن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق والتصرف في قسمة الرحمة ، وكانت عندهم الحكمة التي يميزون بها بين من هو حقيق بإيتاء النبوّة دون من لا تحق له (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى العرش ، حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم وملكوت الله ، وينزلوا الوحى إلى من يختارون ويستصوبون ، ثم خسأهم خساءة (٢) عن ذلك بقوله

__________________

(١) قال محمود : «معناه لم يذوقوه بعد ، فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم ... الخ» قلت : ويؤخذ منه أن لما لائقة بالجواب ، وإنما ينفى بها فعل يتوقع وجوده ، كما يقول سيبويه ، وفرق بينها وبين لم بأن لم نفى لفعل يتوقع وجوده لم يقبل مثبته قد ، ولما نفى لما يتوقع وجوده أدخل على مثبته قد ، وإنما ذكرت ذلك لأنى حديث عهد بالبحث في قوله عليه الصلاة والسلام «الشفعة فيما لم يقسم» فانى استدللت به على أن الشفعة خاصة بما يقبل القسمة ، فقيل لي : إن غايته أنه أثبت الشفعة فيما نفى عنه القسمة ، فاما أنها لا تقبل قسمة ، وإما أنها تقبل ولم تقع القسمة ، فأبطلت ذلك بأن آلة النفي المذكورة «لم» ومقتضاها قبول المحل الفعل المنفي وتوقع وجوده. ألا تراك تقول : الحجر لا يتكلم» ولو قلت : الحجر لم يتكلم ، لكان ركيكا من القول ، لافهامه قبوله للكلام ،

(٢) قوله «ثم خسأهم خسأة» في الصحاح : خسأت الكلب خسأ : طردته. وخسأ بنفسه يتعدى ولا يتعدى. (ع)

٧٤

(جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) يريد ما هم إلا جيش من الكفار المتحزبين على رسل الله ، مهزوم مكسور عما قريب (١) فلا تبال بما يقولون ، ولا تكترث لما به يهذون. و (ما) مزيدة ، وفيها معنى الاستعظام ، كما في قول امرئ القيس :

وحديث ما على قصره (٢)

إلا أنه على سبيل الهزء ، و (هُنالِكَ) إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم ، من قولهم لمن ينتدب لأمر ليس من أهله : لست هنالك.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ)(١٥)

(ذُو الْأَوْتادِ) أصله من ثبات البيت المطنب بأوتاده ، قال :

والبيت لا يبتنى إلّا على عمد

ولا عماد إذا لم ترس أوتاد (٣)

__________________

(١) قال محمود : «ثم تهكم بهم غاية التهكم فقال : إن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق والتصرف في قسمة الرحمة فكانت عندهم المعرفة التي يميزون بها بين من هو حقيق بإيتاء النبوة دون من لا يستحق ، فليرتقوا في المعارج والطرق الموصلة إلى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم وملكوت الله تعالى ، وينزلوا الوحى على من يختارونه. قال : ثم خسأهم بقوله (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) معناه : إن هؤلاء إلا جند متحزبون على النبي صلى الله عليه وسلم عما قليل يهزمون ويولون الأدبار» قال أحمد : الاستواء المنسوب لله : ليس مما يتوصل إليه بالصعود في المعارج والوصول إلى العرش والاستقرار عليه والتمكن فوقه ، لأن الاستواء المنسوب إلى الله تعالى ليس استواء استقرار بجسم ـ تعالى الله عن ذلك ـ وإنما هو صفة فعل ، أى فعل فيه فعلا سماء استواء ، هذا تأويل القاضي أبى بكر. وليست عبارة الزمخشري في هذا الفصل مطابقة للمفصل على جارى عاداته في تحرير العبارة على مراده.

(٢) جد بالوفاق لمشتاق إلى سهره

إن لم تجد فحديث ما على قصره

المراد بالوفاق : الوصال. وضمير «سهره» للمشتاق أو للوفاق. وحديث : مبتدأ خبره محذوف ، أى : تجود به.

وما زائدة التعميم. ويجوز أنها للتعظيم. لكن الأول أوفق بالمقام. وعلى بمعنى مع ، وضمير «قصره» : للحديث.

(٣) والبيت لا يبتنى إلا بأعمدة

ولا عماد إذا لم ترس أوتاد

فان تجمع أسباب وأعمدة

وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا

للرافدة الأودى ، يقول : لا ينال الأمر إلا بتوافر أسبابه ، فالبيت من باب التمثيل : شبه توقف الأمر على أسبابه وتوقف أسبابه على أسبابها ، يتوقف ضرب الخيمة على انتصاب الأعمدة ، وتوقف انتصابها على إثبات الأوتاد المشدودة بالحبال ، ثم قال : فان اجتمعت الحبال المشدودة بالأوتاد الثابتة وانتصبت الأعمدة ووجد الساكن بلغ مراده ، وهو بمعنى الجمع ، فصح جمع ضميره ، وكاده كيدا عالجه علاجا ، أى : بلغوا الأمر الذي كادوه ، أي عالجوه لتحصيله.

٧٥

فاستعير لثبات العز والملك واستقامة الأمر ، كما قال الأسود :

في ظل ملك ثابت الأوتاد (١)

وقيل : كان يشبح (٢) المعذب بين أربع سوار : كل طرف من أطرافه إلى سارية مضروب فيه وتد من حديد ، ويتركه حتى يموت. وقيل : كان يمدّه بين أربعة أوتاد في الأرض ويرسل عليه العقارب والحيات. وقيل : كانت له أوتاد وحبال يلعب بها بين يديه (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) قصد بهذه لإشارة الإعلام بأنّ الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هم ، وأنهم هم الذين وجد منهم التكذيب (٣). ولقد ذكر تكذيبهم أولا في الجملة الخبرية على وجه الإبهام ، ثم جاء بالجملة الاستثنائية فأوضحه فيها : بأنّ كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل ، لأنهم إذا كذبوا واحدا منهم فقد كذبوهم جميعا. وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه ، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أوّلا وبالاستثنائية ثانيا ، وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص : أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد العقاب وأبلغه ، ثم قال (فَحَقَّ عِقابِ) أى فوجب لذلك أن أعاقبهم حق عقابهم (هؤُلاءِ) أهل مكة. ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأحزاب

__________________

(١) ما ذا أؤمل بعد آل محرق

تركوا منازلهم وبعد أياد

جرت الرياح على مقر ديارهم

فكأنهم كانوا على ميعاد

ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة

في ظل ملك ثابت الأوتاد

فإذا النعيم وكل ما يلهي به

يوما يصير إلى بلى ونفاد

للأسود بن يعفر. يقول : لا أتمنى شيئا بعدهم من الدنيا. ومحرق : هو امرؤ القيس بن عمرو بن عدى اللخمي. والاياد ـ في الأصل ـ : تراب يجمع حول الحوض والبيت ، يحفظه عن المطر والسيول ، من الأيدى : وهو القوة. وإياد : علم على ابن نزار بن معد ، فهو أخو مضر وربيعة. والمراد به هنا القبيلة. وروى : وآل إياد ، عطفا على آل محرق. وغنى بالمكان ، كرضى : أقام به. والبلى : الانمحاق. والنفاد : الفناء. يقول : تركوا منازلهم : جملة مستأنفة لبيان نفى التأميل ، واعتراضية بين المتعاطفين. وقوله «جرت الرياح» مستأنف لبيان حال القبيلتين ، يقول : تفانوا فجرت الرياح على محل ديارهم ، وجريان الرياح على مقر الديار ، لانهدام الجدران التي كانت تمنع الرياح ، وذلك كناية عن موتهم ، وأفاد أن فناءهم كان سريعا كأنه دفعة واحدة بقوله : فكأنهم كانوا على ميعاد واحد ، ولقد أقاموا بأرغد عيشة ، وشبه الملك الذي به عزهم وصونهم بخيمة مضروبة عليهم ، والظل : الترشيح ، والأوتاد تخييل. وإذا معناها المفاجأة. أى فظهر بغتة أن كل نعيم لا محالة زائل ، أى : فأدركهم المحاق والفناء.

(٢) قوله «وقيل كان يشبح المعذب» أى يمده ، أفاده الصحاح. (ع)

(٣) قال محمود : «قصد بهذه الاشارة الاعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هم ، وأنهم الذين وجد التكذيب منهم» قال أحمد : وفي تكرار تكذيبهم فائدة أخرى : وهي أن الكلام لما طال بتعديد آحاد المكذبين ، ثم أريد ذكر ما حاق بهم من العذاب جزاء لتكذيبهم ، كرر ذلك مصحوبا بالزيادة المذكورة ، ليلي قوله تعالى (فَحَقَّ عِقابِ) على سبيل التطرية المعتادة عند طول الكلام وهو كما قدمته في قوله (وَكُذِّبَ مُوسى) حيث كرر الفعل ليقترن بقوله (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ).

٧٦

لاستحضارهم بالذكر. أو لأنهم كالحضور عند الله. والصيحة : النفخة (ما لَها مِنْ فَواقٍ) وقرئ بالضم : ما لها من توقف مقدار فواق ، وهو ما بين حلبتى الحالب ورضعتى الراضع. يعنى : إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان ، كقوله تعالى (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً) وعن ابن عباس : مالها من رجوع ، وترداد ، من أفاق المريض إذا رجع إلى الصحة. وفواق الناقة : ساعة ترجع الدرّ إلى ضرعها ، يريد : أنها نفخة واحدة فحسب لا تثنى ولا تردد.

(وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ)(١٦)

القط : القسط من الشيء ، لأنه قطعة منه ، من قطه إذا قطعه. ويقال لصحيفة الجائزة : قط ، لأنها قطعة من القرطاس ، وقد فسر بهما قوله تعالى (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) أى نصيبنا من العذاب الذي وعدته ، كقوله تعالى (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) وقيل : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد الله المؤمنين الجنة ، فقالوا على سبيل الهزء : عجل لنا نصيبنا منها. أو عجل لنا صحيفة أعمالنا ننظر فيها.

(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ)(٢٠)

فإن قلت : كيف تطابق قوله (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) وقوله (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) حتى عطف أحدهما على صاحبه؟ قلت : كأنه قال لنبيه عليه الصلاة والسلام : اصبر على ما يقولون ، وعظم أمر معصية الله في أعينهم بذكر قصة داود ، وهو أنه نبىّ من أنبياء الله تعالى قد أولاه ما أولاه من النبوّة والملك ، لكرامته عليه وزلفته لديه ، ثم زل زلة فبعث إليه الملائكة ووبخه عليها. على طريق التمثيل والتعريض ، حتى فطن لما وقع فيه فاستغفر وأناب ، ووجد منه ما يحكى من بكائه الدائم وغمه الواصب (١) ، ونقش جنايته في بطن كفه حتى لا يزال يجدد النظر إليها والندم عليها فما الظنّ بكم مع كفركم ومعاصيكم؟ أو قال له صلى الله عليه وسلم : اصبر على ما يقولون وصن نفسك وحافظ عليها أن تزل فيما كلفت من مصابرتهم وتحمل أذاهم ، واذكر أخاك داود وكرامته على الله كيف زلّ تلك الزلة اليسيرة فلقى من توبيخ الله وتظليمه ونسبته إلى البغي ما لقى (ذَا الْأَيْدِ) ذا القوّة في الدين المضطلع بمشاقه وتكاليفه ، كان على نهوضه بأعباء

__________________

(١) قوله «وغمه الواصب» أى : الدائم. (ع)

٧٧

النبوّة والملك يصوم يوما ويفطر يوما وهو أشدّ الصوم ، ويقوم نصف الليل. يقال : فلان أيد ، وذو أيد ، وذو آد. وأياد كل شيء : ما يتقوّى به (أَوَّابٌ) توّاب رجاع إلى مرضاة الله فإن قلت : ما ذلك على أنّ الأيد القوّة في الدين؟ قلت : قوله تعالى (إِنَّهُ أَوَّابٌ) لأنه تعليل لذي الأيد (وَالْإِشْراقِ) وقت الإشراق ، وهو حين تشرق الشمس ، أى : تضيء ويصفو شعاعها وهو وقت الضحى. وأما شروقها فطلوعها ، يقال : شرقت الشمس ، ولما تشرق (١). وعن أمّ هانئ : دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى وقال : يا أمّ هانئ هذه صلاة الإشراق (٢). وعن طاوس عن ابن عباس قال : هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن؟ قالوا لا ، فقرأ : إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق وقال : كانت صلاة يصليها داود عليه السلام. وعنه : ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية. وعنه : لم يزل في نفسي من صلاة الضحى شيء حتى طلبتها فوجدتها بهذه الآية (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) وكان لا يصلى صلاة الضحى ، ثم صلاها بعد. وعن كعب أنه قال لابن عباس : إنى لا أجد في كتب الله صلاة بعد طلوع الشمس ، فقال : أنا أوجدك ذلك في كتاب الله تعالى ، يعنى هذه الآية. ويحتمل أن يكون من أشرق القوم إذا دخلوا في الشروق ، ومنه قوله تعالى (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) وقول أهل الجاهلية : أشرق (٣) ثبير ، ويراد وقت صلاة الفجر لانتهائه بالشروق. ويسبحن : في معنى ومسبحات على الحال. فإن قلت : هل من فرق بين يسبحن ومسبحات (٤)؟ قلت : نعم ، وما اختير يسبحن على مسبحات إلا لذلك ، وهو الدلالة

__________________

(١) قال محمود : «الاشراق حين تشرق الشمس ، أى يصفو نورها وهو وقت الضحى. وأما شروقها فطلوعها. يقال : شرقت الشمس ولما تشرق. ومنه أخذ ابن عباس صلاة الضحى. قال : ويحتمل أن يكون من أشرق القوم إذا دخلوا في وقت الشروق ، ويكون المراد وقت صلاة الفجر لانتهائه بشروق الشمس» قال أحمد : الوجه الثاني يفرق بين العشى والاشراق ، فان العشى ظرف بلا إشكال ، فلو حمل الاشراق على الدخول في وقت الشروق لكان مصدرا ، مع أن المراد به الظرف ، لأنه فعل الشمس وصفتها التي تستعمل ظرفا كالطلوع والغروب وشبههما.

(٢) أخرجه ابن مردويه والثعلبي والواحدي والبغوي والطبراني كلهم من رواية أبى بكر الهذلي عن عطاء عن ابن عباس : حدثتني أم هانئ. ورواه الحاكم من وجه آخر عن عبد الله بن الحرث عن ابن عباس «كان لا يصلى الضحى حتى أدخلناه على أم هانئ فقلت لها : أخبرى ابن عباس قالت : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فصلى صلاة الضحى ثمان ركعات. قال : فخرج ابن عباس وهو يقول : هذه صلاة الاشراق» هذا موقوف وهو أصح.

(٣) قوله «أشرق ثبير» كانوا يقولون : أشرق ثبير كيما نغير ، كما في الصحاح. (ع)

(٤) قال محمود : «إن قلت لم اختار يسبحن على مسبحات وأيهما وقع كان حالا ، وأجاب بأن اختيارهما لمعنى وهو الدلالة على حدوث التسبيح شيئا بعد شيء كأن السامع محاضر لها فيسمعها تسبح. ومنه قول الأعشى :

إلى ضوء نار في يفاع تحرق

ولو قال : محرقة لم يكن شيئا. قال أحمد : ولهذه النكتة فرق سحنون من أصحابنا بين : أنا محرم يوم أفعل كذا «بصيغة

٧٨

على حدوث التسبيح من الجبال شيئا بعد شيء وحالا بعد حال ، وكأن السامع محاضر تلك الحال يسمعها تسبح. ومثله قول الأعشى :

إلى ضوء نار في يفاع تحرق (١)

ولو قال : محرقة ، لم يكن شيئا. وقوله (مَحْشُورَةً) في مقابلة : يسبحن : إلا أنه لما لم يكن في الحشر ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئا بعد شيء ، جيء به اسما لا فعلا. وذلك أنه لو قيل : وسخرنا الطير يحشرن ـ على أنّ الحشر يوجد من حاشرها شيئا بعد شيء. والحاشر هو الله عز وجل ـ لكان خلفا ، لأنّ حشرها جملة واحدة أدلّ على القدرة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح ، واجتمعت إليه الطير فسبحت ، فذلك حشرها. وقرئ : والطير محشورة. بالرفع (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) كل واحد من الجبال والطير لأجل داود ، أى : لأجل تسبيحه مسبح ، لأنها كانت تسبح بتسبيحه. ووضع الأوّاب موضع المسبح : إمّا لأنها كانت ترجع التسبيح ، والمرجع رجاع ، لأنه يرجع إلى فعله رجوعا بعد رجوع وإمّا لأن الأواب ـ وهو التوّاب الكثير الرجوع إلى الله وطلب مرضاته ـ من عادته أن يكثر ذكر الله ويديم تسبيحه وتقديسه. وقيل : الضمير لله ، أى : كل من داود والجبال والطير لله أؤاب ، أى مسبح مرجع للتسبيح (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) قوّيناه ، قال تعالى (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ) وقرئ شددنا على المبالغة. قيل : كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مستلئم (٢) يحرسونه وقيل : الذي شدّ الله به ملكه وقذف في قلوب قومه الهيبة : أنّ رجلا ادّعى عنده على آخر بقرة ، وعجز عن إقامة البينة ، فأوحى الله تعالى إليه في المنام : أن اقتل المدّعى عليه ، فقال : هذا منام ، فأعيد الوحى في اليقظة ، فأعلم الرجل فقال : إنّ الله عزّ وجلّ لم يأخذنى بهذا الذنب ، ولكن بأنى قتلت أبا هذا غيلة ، فقتله ، فقال الناس : إن أذنب أحد ذنبا أظهره الله عليه ، فقتله ،

__________________

(١) تقدم شرح هذا الشاهد ضمن أبيات بالجزء الثالث صفحة ٦٣ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٢) قوله «مستلئم» أى : لا بس اللأمة ، وهي الدرع. أفاده الصحاح. (ع)

٧٩

فهابوه (الْحِكْمَةَ) الزبور وعلم الشرائع. وقيل : كل كلام وافق الحق فهو حكمة. الفصل : التمييز بين الشيئين. وقيل للكلام البين : فصل ، بمعنى المفصول كضرب الأمير ، لأنهم قالوا : كلام ملتبس ، وفي كلامه لبس. والملتبس : المختلط ، فقيل في نقيضه : فصل ، أى مفصول بعضه من بعض ، فمعنى فصل الخطاب : البين من الكلام الملخص الذي يتبينه من يخاطب به لا يلتبس عليه ، ومن فصل الخطاب وملخصه : أن لا يخطئ صاحبه مظانّ الفصل والوصل ، فلا يقف في كلمة الشهادة على المستثنى منه ، ولا يتلو قوله (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) إلا موصولا بما بعده ، ولا (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ) حتى يصله بقوله (لا تَعْلَمُونَ) ونحو ذلك ، وكذلك مظانّ العطف وتركه ، والإضمار والإظهار والحذف والتكرار ، وإن شئت كان الفصل بمعنى الفاصل ، كالصوم والزور ، وأردت بفصل الخطاب : الفاصل من الخطاب الذي يفصل بين الصحيح والفاسد ، والحق والباطل ، والصواب والخطأ ، وهو كلامه في القضايا والحكومات وتدابير الملك والمشورات. وعن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه. هو قوله : البينة على المدّعى واليمين على المدّعى عليه ، وهو من الفصل بين الحق والباطل ، ويدخل فيه قول بعضهم : هو قوله «أمّا بعد» لأنه يفتتح إذا تكلم في الأمر الذي له شأن بذكر الله وتحميده ، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق إليه : فصل بينه وبين ذكر الله بقوله : أمّا بعد. ويجوز أن يراد الخطاب القصد الذي ليس فيه اختصار مخلّ ولا إشباع مملّ. ومنه ما جاء في صفة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم : فصل لا نذر ولا هذر (١).

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ)(٢٢)

كان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته ، فيتزوّجها إذا أعجبته وكانت لهم عادة في المواساة بذلك قد اعتادوها. وقد روينا أن الأنصار كانوا يواسون المهاجرين بمثل ذلك ، فاتفق أن عين داود وقعت على امرأة رجل يقال له أوريا ، فأحبها ، فسأله النزول له عنها ، فاستحيا أن يردّه ، ففعل ، فتزوّجها وهي أمّ سليمان ، فقيل له : إنك مع عظم منزلتك وارتفاع مرتبتك وكبر شأنك وكثرة نسائك : لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة النزول ، بل كان الواجب عليك مغالبة هواك وقهر نفسك والصبر

__________________

(١) هو حديث أم معيد. وقد تقدم في سورة الأعراف ، وفي الأدب لأبى داود من حديث عائشة «كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلا يفهمه من سمعه».

٨٠