الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ)(٨١)

الأنعام : الإبل خاصة. فإن قلت : لم قال (لِتَرْكَبُوا مِنْها) ولتبلغوا عليها ، ولم يقل ، لتأكلوا منها ولتصلوا إلى منافع؟ أو هلا قال : منها تركبون ومنها تأكلون وتبلغون (١) عليها حاجة في صدوركم؟ قلت : في الركوب : الركوب في الحج والغزو ، وفي بلوغ الحاجة : الهجرة من بلد إلى بلد لإقامة دين أو طلب علم ، وهذه أغراض دينية إمّا واجبة أو مندوب إليها مما يتعلق به إرادة الحكيم. وأما الأكل وإصابة المنافع : فمن جنس المباح الذي لا يتعلق (٢) به إرادته : ومعنى قوله (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) وعلى الأنعام وحدها لا تحملون ، ولكن عليها وعلى الفلك في البر والبحر. فإن قلت : هلا قيل : وفي الفلك ، كما قال (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)؟ قلت : معنى الإيعاء (٣) ومعنى الاستعلاء : كلاهما مستقيم ، لأنّ الفلك وعاء لمن يكون فيها حمولة له يستعليها ، فلما صح المعنيان صحت العبارتان. وأيضا فليطابق قوله (وَعَلَيْها) ويزاوجه (فَأَيَّ آياتِ اللهِ) جاءت على اللغة المستفيضة. وقولك : فأية آيات الله قليل ، لأنّ التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب ، وهي في أى أغرب لإبهامه.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

__________________

(١) قال محمود : «فان قلت : هلا قيل لتركبوا منها ولتأكلوا منها ولتبلغوا ، ومنها تركبون ومنها تأكلون ، وعليها تبلغون؟ وأجاب بأن في الركوب الركوب في الغزو والحج ، وفي بلوغ الحاجة الهجرة من بلد إلى بلد لاقامة دين أو علم ، وهذه أغراض دينية : إما واجبة أو مندوبة مما يتعلق به إرادة الحكيم. وأما الأكل وإصابة المنافع فمن جنس المباح الذي لا يتعلق به الارادة» قال أحمد : جواب متداع للسقوط مؤسس على قاعدة واهية ، وهي أن الأمر راجع إلى الارادة ، فالواجب والمندوب مرادان ، لأنهما مندرجان في الأمر ، والمباح غير مراد ، لأنه غير مأمور به ، وهذا من هنيات المعتزلة في إنكار كلام النفس ، فلا نطيل فيه النفس. وقاعدة أهل الحق أنه لا ربط بين الأمر والارادة ، فقد يأمر بخلاف ما يريد ، ويريد خلاف ما يأمر به ، فالجواب الصحيح إذا أن المقصود المهم من الأنعام والمنفعة المشهورة فيها إنما هي الركوب وبلوغ الحوائج عليها بواسطة الأسفار والانتقال في ابتغاء الأوطار ، فلذلك ذكرهما هنا مقرونين باللام الدالة على التعليل والغرض. وأما الأكل وبقية المنافع كالأصواف والأوبار والألبان وما يجرى مجراها فهي وإن كانت حاصلة منها فغير خاصة بها خصوص الركوب والحمل وتوابع ذلك ، بل الأكل بالغنم خصوصا الضأن أشهر ، فلذلك اختيرت الضحايا منها على الغنم ، فلذلك جردت هذه المنافع بالأخبار عن وجودها فيها غير مقرونة بما يدل على أنها المقصود.

(٢) قوله «المباح الذي لا يتعلق به» مبنى على مذهب المعتزلة : أن الارادة بمعنى الأمر فلا تتعلق إلا بالمطلوب. وعند أهل السنة : هي صفة تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه ، فتتعلق بجميع الممكنات ، كما تقرر في علم التوحيد. (ع)

(٣) قوله «معنى الايعاء» في الصحاح : أوعيت الزاد والمتاع : إذا جعلته في الوعاء. (ع)

١٨١

كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٨٣)

(وَآثاراً) قصورهم ومصانعهم. وقيل : مشيهم بأرجلهم لعظم أجرامهم (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) ما نافية أو مضمنة معنى الاستفهام ، ومحلها النصب ، والثانية موصولة أو مصدرية ومحلها الرفع ، يعنى أى شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) فيه وجوه : منها أنه أراد العلم الوارد على طريق التهكم في قوله تعالى (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) : وعلمهم في الآخرة أنهم كانوا يقولون لا نبعث ولا نعذب ، (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) ، (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به البينات وعلم الأنبياء ، كما قال عز وجل (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) ومنها : أن يريد علم الفلاسفة والدهريين من بنى يونان ، وكانوا إذا سمعوا بوحي الله : دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم. وعن سقراط : أنه سمع بموسى صلوات الله عليه وسلامه ، وقيل له. لو هاجرت إليه فقال : نحن قوم مهذبون فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا. ومنها : أن يوضع قوله (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) ولا علم عندهم البتة ، موضع قوله : يفرحوا بما جاءهم من العلم ، مبالغة في نفى فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والمسرة ، مع تهكم بفرط جهلهم وخلوهم من العلماء. ومنها أن يراد : فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به ، كأنه قال : استهزؤا بالبينات وبما جاءوا به من علم الوحى فرحين مرحين. ويدل عليه قوله تعالى (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ومنها : أن يجعل الفرح للرسل. ومعناه : أن الرسل لما رأوا جهلهم المتمادى واستهزائهم بالحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم : فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله عليه ، وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم. ويجوز أن يريد بما فرحوا به من العلم : علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها ، كما قال تعالى (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) ، (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) فلما جاءهم الرسل بعلوم الديانات ـ وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف (١) عن الملاذ والشهوات ـ لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزؤا بها ، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ، ففرحوا به.

__________________

(١) قوله «والظلف» في الصحاح : ظلفت نفسي عن كذا ـ بالكسر ـ تظلف ظلفا ، أى : كفت. (ع)

١٨٢

(فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ)(٨٥)

البأس : شدّة العذاب. ومنه قوله تعالى (بِعَذابٍ بَئِيسٍ). فإن قلت : أى فرق بين قوله تعالى (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ) وبينه لو قيل : فلم ينفعهم إيمانهم؟ قلت : هو من كان في نحو قوله (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) والمعنى : فلم يصح ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم (١). فإن قلت : كيف ترادفت هذه الفاءات؟ قلت : أما قوله تعالى (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) فهو نتيجة قوله (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) وأما قوله (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) فجار مجرى البيان والتفسير ، لقوله تعالى (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) كقولك : رزق زيد المال فمنع المعروف فلم يحسن إلى الفقراء. وقوله (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) تابع لقوله (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ) كأنه قال : فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا ، وكذلك : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ) تابع لإيمانهم لما رأوا بأس الله (سُنَّتَ اللهِ) بمنزلة (وَعَدَ اللهُ) وما أشبهه من المصادر المؤكدة. و (هُنالِكَ) مكان مستعار للزمان ، أى : وخسروا وقت رؤية البأس ، وكذلك قوله (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) بعد قوله (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِ) أى : وخسروا وقت مجيء أمر الله ، أو وقت القضاء بالحق.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة المؤمن لم يبق روح نبى ولا صديق ولا شهيد ولا مؤمن إلا صلى عليه واستغفر له» (٢)

__________________

(١) قال محمود : «فان قلت : أى فرق بين قوله : فلم يك بنفعهم إيمانهم. وبينه لو قيل : فلم بنفعهم ، وأجاب بأن معنى (كانَ) هنا معناها في قوله (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) بمعنى : فلم يستقم ولم يصح أن ينفعهم إيمانهم ، قال أحمد : كان الذي ثبت التصرف فيها بإجراء نونها مجرى حروف العلة حتى حذفت للجازم هي (كانَ) الكثير استعمالها ، المكرر دورانها في الكلام. وأما (كانَ) هذه فليست كثيرة التصرف حتى يتسع فيها بالحذف ، بل هي مثل : صان ، وحان» في القلة ، فالأولى بقاؤها على بابها المعروف ، وفائدة دخولها في هذه الآية وأمثالها : المبالغة في نفى الفعل الداخلة عليه بتعديد جهتى نفيه عموما باعتبار الكون ، وخصوصا باعتباره في هذه الآية مثلا ، فكأنه نفى مرتين ، والله أعلم.

(٢) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.

١٨٣

سورة [فصلت ، وتسمى] السجدة

مكية ، وآياتها ٥٤ وقيل ٥٣ آية [نزلت بعد غافر]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ)(٤)

إن جعلت (حم) اسما للسورة كانت في موضع المبتدأ. و (تَنْزِيلٌ) خبره. وإن جعلتها تعديد للحروف كان (تَنْزِيلٌ) خبرا لمبتدأ محذوف و (كِتابٌ) بدل من تنزيل. أو خبر بعد خبر. أو خبر مبتدأ محذوف. وجوز الزجاج أن يكون (تَنْزِيلٌ) مبتدأ ، و (تابٌ) خبره. ووجهه أن تنزيلا تخصص بالصفة فساغ وقوعه مبتدأ (فُصِّلَتْ آياتُهُ) ميزت وجعلت تفاصيل في معان مختلفة : من أحكام وأمثال ومواعظ ، ووعد ووعيد ، وغير ذلك. وقرئ : فصلت ، أى : فرقت بين الحق والباطل. أو فصل بعضها من بعض باختلاف معانيها ، من قولك : فصل من البلد (قُرْآناً عَرَبِيًّا) نصب على الاختصاص والمدح ، أى: أريد بهذا الكتاب المفصل قرآنا من صفته كيت وكيت. وقيل : هو نصب على الحال ، أى : فصلت آياته في حال كونه قرآنا عربيا (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أى لقوم عرب يعلمون ما نزل عليهم من الآيات المفصلة المبينة بلسانهم العربي المبين ، لا يلتبس عليهم شيء منه. فإن قلت : بم يتعلق قوله (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)؟ قلت : يجوز أن يتعلق بتنزيل أو بفصلت ، أى : تنزيل من الله لأجلهم. أو فصلت آياته لهم. والأجود أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده ، أى قرآنا عربيا كائنا لقوم عرب ، لئلا يفرق بين الصلات والصفات. وقرئ : بشير ونذير ، صفة للكتاب. أو خبر مبتدأ محذوف (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) لا يقبلون ولا يطيعون ، من قولك. تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولي ، ولقد سمعه ولكنه لما لم يقبله ولم يعمل بمقتضاه ، فكأنه لم يسمعه.

١٨٤

(وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ)(٥)

والأكنة : جمع كنان ، وهو الغطاء. والوقر ـ بالفتح ـ الثقل. وقرئ بالكسر. وهذه تمثيلات لنبوّ قلوبهم عن تقبل الحق واعتقاده ، كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها ، كقوله تعالى (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) ومج أسماعهم له كأن بها صمما عنه ، ولتباعد المذهبين والدينين كأن بينهم وما هم عليه ، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو عليه : حجابا ساترا وحاجزا منيعا من جبل أو نحوه ، فلا تلاقى ولا ترائى (فَاعْمَلْ) على دينك (إِنَّنا عامِلُونَ) على ديننا. أو فاعمل في إبطال أمرنا ، إننا عاملون في إبطال أمرك. وقرئ إنا عاملون. فإن قلت : هل لزيادة (مِنْ) في قوله (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) فائدة؟ قلت : نعم ، لأنه لو قيل : وبيننا وبينك حجاب : لكان المعنى : أن حجابا حاصل وسط الجهتين ، وأما بزيادة (مِنْ) فالمعنى : أن حجابا ابتدأ منا وابتدأ منك ، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ (١)

__________________

(١) قال محمود : «فان قلت : ما فائدة (مِنْ) في قوله (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) وأجاب بأن فائدتها الدلالة على أن من جهتهم ابتدأ الحجاب ، ومن جهته أيضا ابتدأ حجاب ، فيلزم أن المسافة المتوسطة بينهما مملوءة بالحجاب لا فراغ فيها ، ولو لا ذكر من فيها لكان المعنى : على أن في المسافة بينهما حجابا فقط» قال أحمد : ولا ينفك المعنى بدخول (مِنْ) عما كان عليه قبل ، ولو كان لأمر كما ذكر لكانت من مقدرة مع بين الثانية ، لأنه جعلها مفيدة للابتداء في الثانية كما هي مفيدة للابتداء في الأولى ، فيكون التقدير إذا : ومن بيننا وبينك حجاب ، وهذا يخل بمعنى «بين» إخلالا بينا ، فإنها تأبى تكرار العامل معها ، حتى لو قال القائل : جلست بين زيد ، وجلست بين عمرو : لم يكن مستقيما ، لأن تكرار العامل يصيرها داخلة على مفرد فقط ، ويقطعه عن قرينه المتقدم. ومن شأنها الدخول على متعدد ، لأن في ضمن معناها التوسط ، وزاد الزمخشري على هذا فجعل «بين» الثانية غير الأولى لأنه جعل الأولى بجهتهم والثانية بجهته ، وليس الأمر كما ظنه ، بل «بين» الأولى هي الثانية بعينها ، وهي عبارة عن الجهة المتوسطة بين المضافين ، وتكرارها إنما كان لأن المعطوف مضمر محفوظ ، فوجب تكرار حافظه وهو بين ، والدليل على هذا : أنه لا تفاوت باتفاق بين أن تقول : جلست بين زيد وعمرو ، وبين أن تقول : جلست بين زيد وبين عمرو. وإنما كان ذكرها مع الظاهر جوازا ومع المضمر وجوبا لما بيناه ؛ فإذا وضح ذلك فالظاهر ـ والله أعلم ـ أن موقع من هاهنا كموقعها في قوله تعالى (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) وذلك للاشعار بأن الجهة المتوسطة مثلا بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام مبدأ الحجاب لا غير ، ووجود من قريب من عدمها ، ألا ترى إلى آخر هذه الآية كيف لم يستعمل فيها من ، وهي قوله تعالى (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً. وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) وكلام الزمخشري هذا إذا امتحنته بالتحقيق الذي ذكرناه : تبين ضعفه ، والله الموفق. وفي هذه الآية وأختها من المبالغة والبلاغة ما لا يليق أن ينتظم إلا في درر الكتاب العزيز ، فإنها اشتملت على ذكر حجب ثلاثة متوالية : كل واحد منها كاف في فنه ، فأولها الحجاب الحائل الخارج ، ويليه حجاب الصمم. وأقصاها الحجاب الذي أكن القلب والعياذ بالله ، فلم تدع هذه الآية حجابا مرتخيا إلا أسبلته ولم تبق لهؤلاء الأشقياء مطمعا ولا صريخا الا استلبته ، فنسأل الله كفايته.

١٨٥

فيها. فإن قلت : هلا قيل : على قلوبنا أكنة ، كما قيل : وفي آذاننا وقر ، ليكون الكلام على نمط واحد؟ قلت : هو على نمط واحد ، لأنه لا فرق في المعنى بين قولك : قلوبنا في أكنة. وعلى قلوبنا أكنة. والدليل عليه قوله تعالى (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) ولو قيل : إنا جعلنا قلوبهم في أكنة : لم يختلف المعنى ، وترى المطابيع منهم لا يراعون الطباق والملاحظة (١) إلا في المعاني.

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ)(٧)

فإن قلت : من أين كان قوله (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) جوابا لقولهم (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) (٢)؟ قلت : من حيث أنه قال لهم : إنى لست بملك ، وإنما أنا بشر مثلكم ، وقد أوحى إلىّ دونكم فصحت ـ بالوحي إلىّ وأنا بشر ـ نبوّتى ، وإذا صحت نبوّتى : وجب عليكم اتباعى ، وفيما يوحى إلىّ : أن إلهكم إله واحد (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) فاستووا إليه بالتوحيد وإخلاص العبادة غير ذاهبين يمينا ولا شمالا ، ولا ملتفتين إلى ما يسوّل لكم الشيطان من اتخاذ الأولياء والشفعاء ، وتوبوا إليه مما سبق لكم من الشرك (وَاسْتَغْفِرُوهُ). وقرئ : قال إنما أنا بشر. فإن قلت : لم خص من بين أوصاف المشركين منع الزكاة مقرونا بالكفر بالآخرة؟ قلت : لأن أحب شيء إلى الإنسان ما له وهو شقيق روحه ، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على ثباته واستقامته وصدق نيته ونصوع طويته. ألا ترى إلى قوله عز وجل (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أى : يثبتون أنفسهم ويدلون على ثباتها بإنفاق الأموال ، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة (٣) من الدنيا فقرّت عصبيتهم ولانت شكيمتهم وأهل الردّة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تظاهروا إلا بمنع الزكاة ، فنصبت لهم الحرب ،

__________________

(١) قوله «والملاحظة» لعله : والملاحة. (ع)

(٢) قال محمود : «فان قلت : كيف كان هذا جوابا لما تقدمه» قال أحمد : وأجاب بما نلخصه فتقول : لما أبوا القبول منه عليه الصلاة والسلام كل الاباء ، بدأهم باقامة الحجة على وجوب القبول منه ، فانه بشر مثلهم لا قدرة له على إظهار المعجزات التي ظهرت. وإنما القادر على إظهارها هو الله تعالى تصديقا له عليه الصلاة والسلام ، ثم بين لهم بعد قيام الحجة عليهم أهم ما بعث به وهو التوحيد ، واندرج تحت الاستقامة جميع تفاصيل الشرع وتمم ذلك بإنذارهم على ترك القبول بالويل الطويل.

(٣) قوله «إلا بلمظة من الدنيا» في الصحاح «لمظ» إذا تتبع بلسانه بقية الطعام في فمه اه فلمظة : بمعنى ملموظ كمضغة بمعنى ممضوغ. (ع)

١٨٦

وجوهدوا (١). وفيه بعث للمؤمنين على أداء الزكاة ، وتخويف شديد من منعها ، حيث جعل المنع من أوصاف المشركين ، وقرن بالكفر بالآخرة. وقيل : كانت قريش يطعمون الحاج ، ويحرمون من آمن منهم برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل : لا يفعلون ما يكونون به أزكياء ، وهو الإيمان.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)(٨)

الممنون : المقطوع. وقيل : لا يمنّ عليهم لأنه إنما يمنّ التفضل. فأما الأجر فحق أداؤه.

وقيل : نزلت في المرضى والزمنى والهرمى : إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر ، كأصح ما كانوا يعملون.

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)(١٢)

(أَإِنَّكُمْ) بهمزتين (٢) : الثانية بين بين. وءائنكم ، بألف بين همزتين (ذلِكَ) الذي قدر على خلق الأرض في مدة يومين. هو (رَبُّ الْعالَمِينَ ...... رَواسِيَ) جبالا ثوابت. فإن قلت : ما معنى قوله (مِنْ فَوْقِها) وهل اختصر على قوله (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) كقوله تعالى (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) ، (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) ، (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ)؟ قلت : لو كانت تحتها كالأساطين لها تستقر عليها ، أو مر كوزة فيها كالمسامير : لمنعت من الميدان أيضا ، وإنما اختار إرساءها فوق الأرض ،

__________________

(١) قال محمود : «فان قلت : لم خص الزكاة وأجاب بأن أحب الأشياء إلى الإنسان ماله وهو شقيق روحه ، فبذله مصداق لاستقامته ونصوع طويته ، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا ، وأهل الردة ما تظاهروا إلا بمنع الزكاة فنصبت لهم الحرب وجوهدوا» قال أحمد : كلام حسن بعد تبديل قوله : وما خدع المؤلفة ، فان استعماله الخداع غير لائق ، لأنهم إنما تألفهم عليه الصلاة والسلام على الايمان من قبيل الملاطفة ودفع السيئة بالحسنة ومانحا هذا النحو.

(٢) قوله «أإنكم بهمزتين» لعله : قرئ بهمزتين ... الخ. (ع)

١٨٧

لتكون المنافع في الجبال معرضة لطالبيها ، حاضرة محصليها ، وليبصر أن الأرض والجبال أثقال على أثقال ، كلها مفتقرة إلى ممسك لا بد لها منه ، وهو ممسكها عز وعلا بقدرته (وَبارَكَ فِيها) وأكثر خيرها وأنماه (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) أرزاق أهلها ومعايشهم وما يصلحهم. وفي قراءة ابن مسعود : وقسم فيها أقواتها (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً) فذلكة لمدة خلق الله الأرض وما فيها ، كأنه قال : كل ذلك في أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان. قيل : خلق الله الأرض في يوم الأحد ويوم الاثنين ، وما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء. وقال الزجاج. في أربعة أيام في تتمة أربعة أيام ، يريد بالتتمة اليومين. وقرئ : سواء ، بالحركات الثلاث : الجر على الوصف والنصب على : استوت سواء ، أى : استواء : والرفع على : هي سواء. فإن قلت : بم تعلق قوله (لِلسَّائِلِينَ)؟ قلت : بمحذوف ، كأنه قيل : هذا الحصر لأجل من سأل : في كم خلقت الأرض وما فيها؟ أو يقدر : أى : قدر فيها الأقوات لأجل الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين. وهذا الوجه الأخير لا يستقيم إلا على تفسير الزجاج (١). فإن قلت : هلا قيل في يومين؟ وأى فائدة في هذه الفذلكة؟ قلت : إذا قال في أربعة أيام وقد ذكر أن الأرض خلقت في يومين ، علم أن ما فيها خلق في يومين ، فبقيت المخايرة بين أن تقول في يومين وأن تقول في أربعة أيام سواء ، فكانت في أربعة أيام سواء فائدة ليست في يومين ، وهي الدلالة على أنها كانت أياما كاملة بغير زيادة ولا نقصان. ولو قال : في يومين ـ وقد يطلق اليومان على أكثرهما ـ لكان يجوز أن يريد باليومين الأولين والآخرين أكثرهما (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) من قولك :

__________________

(١) قال محمود : «إن قوله (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) فذلكة بمدة خلق الله الأرض وما فيها ، كأنه قال : وقدر فيها أقواتها في يومين آخرين ، فذلك أربعة أيام سواء. وقال : ومعنى سواء : كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان. ونقل عن الزجاج أن معنى الآية في تتمة أربعة أيام ، يريد بالتتمة : اليومين ، ثم قال : فان قلت بم تعلق قوله (لِلسَّائِلِينَ)؟ وأجاب بأنه متعلق بمحذوف ، كأنه قيل : هذا الحصر لأجل من سأل : في كم خلقت الأرض وما فيها؟ أو يقدر ، أى : قدر فيها الأقوات لأجل السائلين المحتاجين إليها من المقتاتين ، ثم قال : وهذا الوجه الأخير. لا يستقيم إلا على تفسير الزجاج» قال أحمد : لم يبين استناعه على التفسير الأول ونحن نبينه فنقول : مقتضى التفسير الأول أن قوله في أربعة أيام فذلكة ، ومن شأنها الوقوع في طرف الكلام بعد تمامه ، فلو جعل قوله (لِلسَّائِلِينَ) متعلقا بمقدر : لزم وقوع الفذلكة في حشو الكلام ، ولا كذلك على تفسير الزجاج ، فان الأربعة على قوله من تتمة الأول ، وهي متعلقة بمقدر على تأويل حذف التتمة تعلق الظرف بالمظروف ، ليلائم ذلك إتمام الكلام ببيان المقصود من خلق الأقوات بعد بيان من خلقها. وتفسير الزجاج ـ والله أعلم ـ أرجح ، فإنه يشتمل على ذكر مدة خلق الأقوات بالتأويل القريب الذي قدره ، ومتضمن لما يقوم مقام الفذلكة ، إذ ذكر جملة العدد الذي هو ظرف لخلقها وخلق أقواتها ، وعلى تفسير الزمخشري تكون الفذلكة مذكورة من غير تقدم تصريح بجملة تفاصيلها ، فانه لم يذكر منها سوى يومين خاصة ، ومن شأن الفذلكة أن يتقدم النص على جميع أعدادها مفصلة ، ثم تأتى هي على الجملة كقوله (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ).

١٨٨

استوى إلى مكان كذا ، إذا توجه إليه توجها لا يلوى على شيء ، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج ، ونحوه قولهم : استقام إليه وامتد إليه. ومنه قوله تعالى (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) والمعنى : ثم دعاه داعى الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها من غير صارف يصرفه عن ذلك. قيل : كان عرشه قبل خلق السماوات والأرض على الماء ، فأخرج من الماء دخانا ، فارتفع فوق الماء وعلا عليه ، فأيبس الماء فجعله أرضا واحدة ، ثم فتقها فجعلها أرضين ، ثم خلق السماء من الدخان المرتفع. ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما : أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه ، ووجدتا كما أرادهما ، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه فعل الآمر المطاع ، (١) وهو من المجاز الذي يسمى التمثيل. ويجوز أن يكون تخييلا ويبنى الأمر فيه على أن الله تعالى كلم السماء والأرض وقال لهما : ائتيا شئتما ذلك أو أبيتماه ، فقالتا. أتينا على الطوع لا على الكره. والغرض تصوير (٢) أثر قدرته في المقدورات لا غير ، من غير أن يحقق شيء من الخطاب والجواب. ونحوه قول القائل : قال الجدار للوتد : لم تشقني؟ قال الوتد : اسأل من يدقني ، فلم يتركني ، ورائي الحجر الذي ورائي (٣). فإن قلت ، لم ذكر الأرض مع السماء وانتظمها في الأمر بالإتيان ، والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين؟ قلت : قد خلق جرم الأرض أولا غير مدحوّة ، ثم دحاها بعد خلق السماء ، كما قال تعالى (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) فالمعنى. ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف : ائتى يا أرض مدحوّة قرارا ومهادا لأهلك ، وائتي يا سماء مقببة سقفا لهم. ومعنى الإتيان : الحصول والوقوع ، كما تقول : أتى عمله مرضيا ، وجاء مقبولا. ويجوز أن يكون المعنى : لتأت كل واحدة منكما صاحبتها الإتيان الذي أريده ونقتضيه الحكمة والتدبير : من كون الأرض قرارا للسماء ، وكون السماء سقفا للأرض. وتنصره قراءة من قرأ : آتيا ، وآتينا : من المؤاتاة وهي الموافقة : أى : لتوات كل واحدة أختها ولتوافقها. قالتا ، وافقنا وساعدنا. ويحتمل وافقا أمرى ومشيئتى ولا تمتنعا. فإن قلت : ما معنى طوعا أو كرها؟ قلت : هو مثل للزوم تأثير قدرته فيهما ، وأن امتناعهما

__________________

(١) قوله «فعل الآمر المطاع» لعله : أمر الآمر. (ع)

(٢) قوله «تصوير أثر قدرته» لعله : تأثير. (ع)

(٣) قال محمود : «إما أن يكون هذا من مجاز التمثيل كأن عدم امتناعهما على قدرته امتثال المأمور المطيع إذا ورد عليه الأمر المطاع ، فهذا وجه. واما أن يكون تخييلا فيبنى الأمر فيه على أن الله تعالى كلم السماوات والأرض فأجابتاه ، والغرض منه تصوير أثر القدرة في المقدور من غير أن يحقق شيئا من الخطاب والجواب ، ومثله قول القائل : قال الحائط للوتد لم تشقني؟ فقال الوتد : اسأل من يدفنى لم يتركني ورائي الحجر الذي ورائي» قال أحمد : قد تقدم إنكارى عليه إطلاق التخييل على كلام الله تعالى ، فان معنى هذا الإطلاق لو كان صحيحا والمراد منه التصوير لوجب اجتناب التعبير عنه بهذه العبارة ، لما فيها من إيهام وسوء أدب ، والله أعلم.

١٨٩

من تأثير قدرته محال ، كما يقول الجبار لمن تحت يده : لتفعلن هذا شئت أو أبيت ، ولتفعلنه طوعا أو كرها. وانتصابهما على الحال ، بمعنى : طائعتين أو مكرهتين. فإن قلت : هلا قيل : طائعتين على اللفظ؟ أو طائعات على المعنى؟ لأنها سماوات وأرضون. قلت : لما جعلن مخاطبات ومجيبات ، ووصفن بالطوع والكره قيل : طائعين ، في موضع : طائعات ، نحو قوله (السَّاجِدِينَ) (١). (فَقَضاهُنَ) يجوز أن يرجع الضمير فيه إلى السماء على المعنى كما قال (طائِعِينَ) ونحوه (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) ويجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسرا بسبع سماوات ، والفرق بين النصبين أن أحدهما على الحال ، والثاني على التمييز ، قيل خلق الله السماوات وما فيها في يومين : في يوم الخميس والجمعة ، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة ، فخلق فيها آدم وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة. وفي هذا دليل على ما ذكرت ، من أنه لو قيل : في يومين في موضع أربعة أيام سواء ، لم يعلم أنهما يومان كاملان أو ناقصان (٢). فإن قلت : فلو قيل : خلق الأرض في يومين كاملين وقدر فيها أقواتها

__________________

(١) قال محمود : فان قلت لم ذكر الأرض مع السماء وانتظمها في الأمر بالإتيان معها والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين؟ وأجاب بأنه قد خلق جرم الأرض أو لا غير مدحوة ، ثم دحاها بعد خلق السماء كما قال (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) فالمعنى : ائتيا على ما ينبغي من الشكل : ائتي يا أرض مدحوة وفرارا ومهادا ، واثنى يا سماء سقفا مقبية. ثم قال : فان قلت ما معنى طوعا أو كرها ، وأجاب بأنه تمثيل للزوم تأثير القدرة فيهما ، كما يقول الجبار لمن تحت يده : افعل هذا شئت أو أبيت. ثم قال : فان قلت : هلا قيل طائعتين ، على اللفظ. وطائعات ، على المعنى ، لأنها سماوات وأرضون. وأجاب بأنه لما جعلن مخاطبات ومجيبات وموصوفات بالطوع والكره. قيل : طائعين في موضع طائعات ، نحو قوله ساجدين» قال أحمد : لم يحقق الجواب عن السؤال الآخر ، وذلك أن في ضمن الآية سؤالين : أحدهما لم ذكرها وهي مؤنثة ، وهذا هو السؤال الذي أورده. الثاني أنى بها على جمع العقلاء وهي لا تعقل ، وهذا لم يذكره ، فالجواب الذي ذكره مختص بالسؤال الذي لم يذكره ، ولهذا نظره بقوله (السَّاجِدِينَ) فان تلك الآية ليس فيها سوى السؤال عن كونها جمعت جمع العقلاء ، فأما السؤال الآخر فلا ، لأن الكلام راجع إلى الكواكب وهي مذكرة ، والشمس وإن كانت مؤنثة إلا أنه غلب في الكلام المذكر على المؤنث على المنهاج المعروف ، فأما هذه الآية فتزيد على تلك بهذا السؤال الآخر : وهو أن جميع ما تقدم ذكره من السماوات والأرض مؤنثة ، فيقال أولا : لم ذكرها ، وثانيا : لم أتى جمعها المذكر على جمع نعت جمع العقلاء ، ليتحقق نسبة السؤال والجواب ، والطوع اللاتي تختص بالعقلاء لا بها ، ولم يوجد في جمع المؤنث عدول إلى جمع المذكر لوجود الصيغة المرشدة إلى العقل فيه ، فتمت الفائدة بذلك على تأويل السماوات والأرض بالأفلاك مثلا وما في معناه من المذكر ، ثم يغلب المذكر على المؤنث ولا يعدم مثل هذا التأويل في الأرضين أيضا.

(٢) قال محمود : «قيل : إن الله تعالى خلق السماوات وما فيها في يوم الخميس ويوم الجمعة ، وفرغ آخر ساعة من يوم الجمعة ، وخلق آدم في تتمة اليوم ، وفيه تقوم القيامة ثم استدل بذلك على ما ذكره من أنه لو قال : في يومين ، في موضع أربعة أيام سواء ، لم يعلم أنهما يومان كاملان أو ناقصان» قال أحمد : كأنه يستدل بإهمال اليومين عن التأكيد ، حيث لم يكن خلق السماوات بما فيها في جملة اليومين ، على أنه إنما فذلك أيام خلق الأرض بما فيها : لأنه لو فصلها لم يكن فيها دليل على استيعاب الخلق لكل يومين منها ، بل كان يجوز أن يكون الخلق في أحد اليومين وبعض الآخر ، كما كان في هذه الآية على النقل الذي ذكر ، وهذا لا يتم له منه غرض ، فان للقائل أن يقول : إنما كان خلق السماوات بما فيها في يومين كاملين ، لأن آدم لم يكن في السماوات حينئذ ويخلقه كمل اليومان على مقتضى ما نقله ، فتأمله.

١٩٠

في يومين كاملين. أو قيل بعد ذكر اليومين : تلك أربعة سواء؟ قلت : الذي أورده سبحانه أخصر وأفصح وأحسن طباقا لما عليه التنزيل من مغاصاة القرائح ومصاك المركب ، (١) ليتميز الفاضل من الناقص ، والمتقدم من الناكص ، وترتفع الدرجات ، ويتضاعف الثواب (أَمْرَها) ما أمر به فيها ودبره من خلق الملائكة والنيرات وغير ذلك. أو شأنها وما يصلحها (وَحِفْظاً) وحفظناها حفظا ، يعنى من المسترقة بالثواقب. ويجوز أن يكون مفعولا له على المعنى ، كأنه قال : وخلقنا المصابيح زينة وحفظا.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ)(١٤)

(فَإِنْ أَعْرَضُوا) بعد ما تتلو عليهم من هذه الحجج على وحدانيته وقدرته ، فحذرهم أن تصيبهم صاعقة : أى عذاب شديد الوقع كأنه صاعقة. وقرئ : صعقة (مِثْلَ) صعقة عاد وثمود : وهي المرة من الصعق أو الصعق. يقال : صعقته الصاعقة صعقا فصعق صعقا ، وهو من باب : فعلته ففعل (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أى أتوهم من كل جانب ، واجتهدوا بهم ، وأعملوا فيهم كل حيلة ، فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض ، كما حكى الله تعالى عن الشيطان (لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) يعنى لآتينهم من كل جهة ، ولأعملن فيهم كل حيلة ، وتقول : استدرت بفلان من كل جانب ، فلم يكن لي فيه حيلة. وعن الحسن أنذروهم من وقائع الله فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة ، لأنهم إذا حذروهم ذلك فقد جاءوهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي وما حرى فيه على الكفار ، ومن جهة المستقبل وما سيجرى عليهم. وقيل : معناه إذ جاءتهم الرسل من قبلهم ومن بعدهم. فإن قلت : الرسل الذين من قبلهم ومن بعدهم كيف يوصفون بأنهم جاءوهم ، وكيف يخاطبونهم بقولهم (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ)؟ قلت : قد جاءهم هود وصالح داعيين إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل ممن جاء من بين أيديهم ، أى من قبلهم وممن يجيء من خلفهم ، أى من بعدهم ، فكان الرسل جميعا قد جاءوهم. وقولهم (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) خطاب منهم لهود وصالح ولسائر الأنبياء الذين دعوا إلى الإيمان بهم. أن في (أَلَّا تَعْبُدُوا) بمعنى أى ، أو مخففة من الثقيلة ، أصله : بأنه لا تعبدوا ، أى : بأنّ الشأن والحديث قولنا لكم لا تعبدوا ، ومفعول شاء محذوف أى (لَوْ شاءَ

__________________

(١) قوله «من مغاصاة القرائح ومصاك الركب» أى أمكنة الغوص على اللؤلؤ ، وأمكنة اصطكاك الركب. (ع)

١٩١

رَبُّنا) إرسال الرسل (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) معناه : فإذ أنتم بشر ولستم بملائكة ، فإنا لا نؤمن بكم وبما جئتم به ، وقولهم (أُرْسِلْتُمْ بِهِ) ليس بإقرار بالإرسال ، وإنما هو على كلام الرسل ، وفيه تهكم ، كما قال فرعون (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ). روى أنّ أبا جهل قال في ملأ من قريش : قد التبس علينا أمر محمد ، فلو التمستم لنا رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم أتانا ببيان عن أمره (١) ، فقال عتبة بن ربيعة : والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علما ، وما يخفى علىّ ، فأتاه فقال : أنت يا محمد خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فبم تشتم آلهتنا وتضللنا ، فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء فكنت رئيسنا ، وإن تك بك الباءة زوّجناك عشر نسوة تختار من أى بنات قريش شئت ، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به ، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساكت ، فلما فرغ قال : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم ...) إلى قوله ... (صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم ، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش ، فلما احتبس عنهم قالوا : ما نرى عتبة إلا قد صبأ ، فانطلقوا إليه وقالوا : يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت ، فغضب وأقسم لا يكلم محمدا أبدا ، ثم قال : والله لقد كلمته فأجابنى بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ، ولما بلغ صاعقة عاد وثمود : أمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف ، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ، فخفت أن ينزل بكم العذاب.

(فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ)(١٦)

(فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ) أى تعظموا فيها على أهلها بما لا يستحقون به التعظم وهو القوّة وعظم الأجرام. أو استعلوا في الأرض واستولوا على أهلها بغير استحقاق للولاية (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) كانوا ذوى أجسام طوال وخلق عظيم ، وبلغ من قوّتهم أن الرجل كان ينزع الصخرة

__________________

(١) أخرجه ابن إسحاق في السيرة : حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب بهذا نحوه مرسلا ، ووصله ابن أبى شيبة. وعنه أبو يعلى وعبد بن حميد وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل ، كلهم من رواية الأجلح الكندي عن الزبال ابن حرملة عن جابر مطولا.

١٩٢

من الجبل فيقتلعها بيده. فإن قلت : القوّة هي الشدّة والصلابة في البنية ، وهي نقيضة الضعف. وأما القدرة فما لأجله يصح الفعل من الفاعل من تميز بذات أو بصحة بنية (١) وهي نقيضة العجز والله سبحانه وتعالى لا يوصف بالقوّة إلا على معنى القدرة ، فكيف صحّ قوله (هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) وإنما يصح إذا أريد بالقوّة في الموضعين شيء واحد؟ قلت : القدرة في الإنسان هي صحة البنية والاعتدال والقوّة والشدّة والصلابة في البنية ، وحقيقتها : زيادة القدرة (٢) ، فكما صحّ أن يقال : الله أقدر منهم ، جاز أن يقال : أقوى منهم ، على معنى : أنه يقدر لذاته على ما لا يقدرون عليه بازدياد قدرهم (يَجْحَدُونَ) كانوا يعرفون أنها حق ، ولكنهم جحدوها كما يجحد المودع الوديعة ، وهو معطوف (٣) على فاستكبروا ، أى كانوا كفرة فسقة. الصرصر : العاصفة التي تصرصر ، أى : تصوّت في هبوبها. وقيل : الباردة التي تحرق بشدّة بردها ، تكرير لبناء الصر وهو البرد الذي يصر أى يجمع ويقبض (نَحِساتٍ) قرئ بكسر الحاء وسكونها. ونحس نحسا : نقيض سعد سعدا ، وهو نحس. وأما نحس ، فإمّا مخفف نحس ، أو صفة على فعل ، كالضخم وشبهه. أو وصف بمصدر. وقرئ : لنذيقهم ، على أنّ الإذاقة للريح أو للأيام النحسات. وأضاف العذاب إلى الخزي وهو الذل والاستكانة على أنه وصف للعذاب ، كأنه قال : عذاب خزى ، كما تقول : فعل السوء ، تريد : الفعل السيئ ، والدليل عليه قوله تعالى (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) وهو من الإسناد المجازى ، ووصف العذاب بالخزي : أبلغ من وصفهم به.

__________________

(١) قوله «من تمييز بذات أو لصحة بنية» هذا كقوله الآتي : إنه يقدر لداته ، تمحل لتطبيق الآية على مذهب المعتزلة على أنه تعالى قادر بذاته ، لكن مذهب أهل السنة أنه تعالى قادر بقدرة قائمة بذاته ، وكذا بقية الصفات كما في التوحيد. (ع)

(٢) قال محمود : «القوة : الشدة في البنية ونقيضها الضعف ، والقدرة ما لأجله يصح الفعل من الفاعل ، وهي نقيضة العجز ، فان وصف الله تعالى بالقوة فذاك بمعنى القدرة وليست القوة على حقيقتها ، فكيف صح قوله (هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) ولا بد أن يراد بالقوة في الموضعين شيء واحد ، وأجاب عنه بأن القدرة في الإنسان صحة البنية والاعتدال والشدة ، والقوة زيادة في القدرة ، فكما صح أن يقال : أقدر منهم ، صح أن يقال : أقوى منهم ، على معنى أنه يقدر لذاته على ما لا يقدرون عليه بازدياد قدرتهم» قال أحمد ، فسر القدرة على خلاف ما هي في اعتقاد المتكلمين ، فان سلم له من حيث اللغة فقد نكص عنه إلى حمل القدرة في الآية على مقتضاها في فن الكلام ، وجعل التفضيل من حيث أن الله تعالى قادر لذاته. أى : بلا قدرة ، والمخلوق قادر بقدرة على القاعدة الفاسدة للقدرية ، ونظير هذا التفسير في الفساد تفسير قول القائل : زيد أعلم من عمرو ، بإثبات صفة العلم للمفضول ، وسلبها بالكلية عن الأفضل ، وهل هذا إلا عنه وعمى في اتباع الهوى وعمه؟ فالحق أن التفضيل إنما جاء من جهة أن القدرة الثابتة للعبد قدرة مقارنة لفعله ، معلومة قبله وبعده ، مفقودة غير مؤثرة في العقل الراجح في محلها» فضلا عن تجاوزها إلى غيره ، وقدرة الله جلت قدرته مؤثرة في المقدورات ، موجودة أزلا وأبدا ، عامة التعلق بجميع الكائنات من الممكنات ، فهذا هو النور الذي لا يلوح إلا من إثبات عقائد السنة لمن سبقت له من الله المنة.

(٣) قوله «وهو معطوف على فاستكبروا» أى : قوله تعالى (وَكانُوا ...) الخ (ع)

١٩٣

ألا ترى إلى البون بين قوليك : هو شاعر ، وله شعر شاعر.

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)(١٨)

وقرئ : ثمود ، بالرفع والنصب منونا وغير منون ، والرفع أفصح لوقوعه بعد حرف الابتداء. وقرئ بضم الثاء (فَهَدَيْناهُمْ) فدللناهم على طريقى الضلالة والرشد ، كقوله تعالى (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ). (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) فاختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد. فإن قلت : أليس معنى هديته : حصلت فيه الهدى ، والدليل عليه قولك : هديته فاهتدى ، بمعنى : تحصيل البغية وحصولها ، كما تقول : ردعته فارتدع ، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجرّدة؟ قلت : للدلالة على أنه مكنهم وأزاح عللهم ولم يبق له عذرا ولا علة ، فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها (صاعِقَةُ الْعَذابِ) داهية العذاب وقارعة العذاب. و (الْهُونِ) الهوان ، وصف به العذاب مبالغة. أو أبدله منه ، ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة (١) بشهادة نبيها صلى الله عليه وسلم ـ وكفى به شاهدا ـ إلا هذه الآية ، لكفى بها حجة(٢).

__________________

(١) قوله «حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة» يريد أهل السنة ، سماهم المعتزلة بذلك لقولهم : جميع الحوادث ـ خيرا كانت أو شرا من أفعال العباد الاختيارية أو غيرها ـ فهي بقضاء الله تعالى وقدره ، خلافا للمعتزلة : حيث ذهبوا إلى أن جميع الأفعال الاختيارية ليست بقضائه تعالى وقدره ، ولا تأثير له فيها أصلا. وهذا أحق بالتنقيص الذي يفيده الحديث. وفسروا الإضلال والهدى في قوله تعالى (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بخلق الضلال وخلق الاهتداء ، خلافا للمعتزلة : حيث فسروا الإضلال بالخذلان وترك العبد وشأنه ، والهدى بالبيان ونقل النسفي عن أبى منصور الماتريدى : أن الهدى المضاف للخالق يكون تارة بمعنى البيان كما في هذه الآية وتارة بمعنى خلق الاهتداء كما في قوله تعالى (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) والمضاف للمخلوق بمعنى البيان فقط ، ويحتمل أن يكون هدى ثمود بمعنى خلق الاهتداء فيهم. وأنهم آمنوا قبل عقر الناقة ، ثم كفروا وعقروها اه (ع) (٢) قال محمود : «فدللناهم على طريقى الضلالة والرشد ، ثم قال : فان قلت أليس معنى هديته حصلت له الهدى والدليل عليه قولك : هديته فاهتدى ، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة؟ وأجاب بأنه مكنهم وأزاح عللهم ، ولم يبق لهم عذرا ولا علة ، فكأنه حصل البغية فيهم بحصول موجبها ، ثم قال : ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبينا عليه الصلاة والسلام ـ وكفى به شهيدا ـ إلا هذه الآية ، لكفى بها حجة» قال أحمد : قد أنطقه الله الذي أنطق كل شيء ، فان القدرية مجوس هذه الأمة بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد شهد صحبه الأكرمون أن الطائفة الذين قفا الزمخشري أثرهم القدرية المتمجسة ، الذين أديانهم بأدناس الفساد متنجسة فهم أول منخرط في هذا السلك ، ومنهبط في مهواة هذا الهلك ، ولترجع إلى أصل الكلام فنقول : الهدى من الله تعالى عند أهل السنة حقيقة : هو خلق الهدى في قلوب المؤمنين ، والإضلال : خلق الضلال في قلوب الكافرين ، ثم ورد الهدى على غير ذلك من الوجوه مجازا واتساعا ، نحو هذه الآية ، فان المراد فيها بالهدى الدلالة على طريقه كما ـ

١٩٤

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٢١)

قرئ يحشر على البناء للمفعول. ونحشر بالنون وضم الشين وكسرها ، ويحشر : على البناء للفاعل ، أى : يحشر الله عز وجل (أَعْداءُ اللهِ) الكفار من الأوّلين والآخرين (يُوزَعُونَ) أى يحبس أوّلهم على آخرهم ، أى : يستوقف سوابقهم حتى يلحق بهم تواليهم ، وهي عبارة عن كثرة أهل النار ، نسأل الله أن يجيرنا منها بسعة رحمته : فإن قلت : (ما) في قوله (حَتَّى إِذا ما جاؤُها) ما هي؟ قلت : مزيدة للتأكيد ، ومعنى التأكيد فيها : أنّ وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم ، ولا وجه لأن يخلو منها. ومثله قوله تعالى (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) أى لا بدّ لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به شهادة الجلود بالملامسة للحرام ، وما أشبه ذلك مما يفضى إليها من المحرّمات. فإن قلت : كيف تشهد عليهم أعضاؤهم وكيف تنطق؟ قلت : الله عز وجل ينطقها كما أنطق الشجرة (١) بأن يخلق فيها كلاما. وقيل ، المراد بالجلود : الجوارح. وقيل : هي كناية عن الفروج ، أراد بكل شيء : كل شيء من الحيوان ، كما أراد به في قوله تعالى (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كل شيء من المقدورات ، والمعنى : أنّ نطقنا ليس بعجب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان ، وعلى خلقكم وإنشائكم أوّل مرّة ، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه ـ وإنما قالوا لهم : (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) لما تعاظمهم من شهادتها وكبر عليهم من الافتضاح على ألسنة جوارحهم.

(وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٢٣)

__________________

ـ فسره الزمخشري. وقد اتفق الفريقان : أهل السنة وأهل البدعة على أن استعمال الهدى هاهنا مجاز ، ثم إن أهل السنة يحملونه على المجاز في جميع موارده في الشرع ، فأى الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ، وأى دليل في هذه الآية على أهل السنة لأهل البدعة ، حتى يرميهم بما ينعكس إلى نحره ، ويذيقه وبال أمره.

(١) قوله «كما أنطق الشجرة» على زعم المعتزلة أن تكليمه مع موسى عليه السلام هو خلقه الكلام في الشجرة التي كانت عند الطور. وعند أهل السنة : هو بأن كشف له عن كلامه القديم وأسمعه إياه كما بين في محله. (ع)

١٩٥

والمعنى : أنكم كنتم تستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب الفواحش ، وما كان استتاركم ذلك خيفة أن يشهد عليكم جوارحكم ، لأنكم كنتم غير عاملين بشهادتها عليكم ، بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء أصلا ، ولكنكم إنما استترتم لظنكم (أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا) كنتم (تَعْمَلُونَ) وهو الخفيات من أعمالكم ، وذلك (١) الظنّ هو الذي أهلككم. وفي هذا تنبيه على أن من حق المؤمن أن لا يذهب عنه ، ولا يزل عن ذهنه أن عليه من الله علينا كالئة ورقيبا مهيمنا ، حتى يكون في أوقات خلواته من ربه أهيب وأحسن احتشاما وأوفر تحفظا وتصونا منه مع الملأ ، ولا يتبسط في سره مراقبة (٢) من التشبه بهؤلاء الظانين. وقرئ : ولكن زعمتم (وَذلِكُمْ) رفع بالابتداء ، و (ظَنُّكُمُ) و (أَرْداكُمْ) خبران ، ويجوز أن يكون (ظَنُّكُمُ) بدلا من (ذلِكُمْ) و (أَرْداكُمْ) الخبر.

(فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ)(٢٥)

(فَإِنْ يَصْبِرُوا) لم ينفعهم الصبر ولم ينفكوا به من الثواء في النار ، (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا) وإن يسألوا العتبى وهي الرجوع لهم إلى ما يحبون جزعا مما هم فيه : لم يعتبوا : لم يعطوا العتبى ولم يجابوا إليها ، ونحوه قوله عز وعلا (أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) وقرئ : وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين ، أى : إن سئلوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون ، أى : لا سبيل لهم إلى ذلك (وَقَيَّضْنا لَهُمْ) وقدّرنا لهم ، يعنى لمشركي مكة : يقال : هذان ثوبان قيضان : إذا كانا متكافئين. والمقايضة : المعاوضة (قُرَناءَ) أخدانا (٣) من الشياطين جمع قرين ، كقوله تعالى (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) فإن قلت : كيف جاز أن يقيض لهم القرناء من الشياطين وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم؟ قلت : معناه أنه خذلهم (٤) ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر ، فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين (٥). والدليل عليه (وَمَنْ يَعْشُ) نقيض (ما بَيْنَ

__________________

(١) قوله «وذلك الظن هو الذي أهلككم» لعله. وذلكم. (ع)

(٢) قوله «في سره مراقبة من التشبه» أى مخافة ، كما أفاده الصحاح. (ع)

(٣) قوله «قرناأ أخدانا» أى أصدقاء. أفاده الصحاح. (ع)

(٤) قوله «قلت معناه أنه خذلهم» هذا على مذهب المعتزلة أنه تعالى لا يقدر الشر. أما على مذهب أهل السنة أنه تعالى يقدره كالخير ، فلا داعى إلى هذا التكلف. قال تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ) الخ. (ع)

(٥) قال محمود : «كيف جاز أن يقيض لهم قرناء من الشياطين وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم؟ وأجاب بأن ـ

١٩٦

أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ما تقدّم من أعمالهم وما هم عازمون عليها. أو بين أيديهم من أمر الدنيا واتباع الشهوات ، وما خلفهم : من أمر العاقبة ، وأن لا بعث ولا حساب (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) يعنى كلمة العذاب (فِي أُمَمٍ) في جملة أمم. ومثل في هذه ما في قوله :

إن تك عن أحسن الصّنيعة مأ

فوكا ففي آخرين قد أفكوا (١)

يريد : فأنت في جملة آخرين ، وأنت في عداد آخرين لست في ذلك بأوحد. فإن قلت : (فِي أُمَمٍ) ما محله؟ قلت : محله النصب على الحال من الضمير في عليهم القول كائنين في جملة أمم (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) تعليل لاستحقاقهم العذاب. والضمير لهم وللأمم.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ)(٢٨)

قرئ : والغوا فيه ، بفتح الغين وضمها. يقال : لغى يلغى ، ولغا يلغو. واللغو : الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته. قال : من اللغا ورفث التكلم. والمعنى : لا تسمعوا له إذا قرئ ، وتشاغلوا عند قراءته برفع الأصوات بالخرافات والهذيان والزمل (٢) وما أشبه ذلك ، حتى تخلطوا على القارئ وتشوّشوا عليه وتغلبوه على قراءته. كانت قريش يوصى بذلك بعضهم

__________________

ـ معناه أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر ، فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين. والدليل عليه قوله تعالى (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ ...) الآية قال أحمد : جواب هذا السؤال على مذهب أهل السنة : أن الأمر على ظاهره ، فان قاعدة عقيدتهم أن الله تعالى قد ينهى عما يريد وقوعه ، ويأمر بما لا يريد حصوله ، وبذلك نطقت هذه الآية وأخواتها ، وإنما تأولها الزمخشري ليتبعها هواه الفاسد في اعتقاده أن الله تعالى لا ينهى عما يريد ، وإن وقع النهى عنه فعلى خلاف الارادة ـ تعالى الله عن ذلك وبه نستعيذ من جعل القرآن تبعا للهوى ، وحينئذ فنقول : لو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبيها عليه الصلاة والسلام سوى هذه الآية ، لكفى بها ، فهذا موضع هذه المقالة التي أنطقه الله بها الذي أنطق كل شيء في الآية التي قبل هذه.

(١) لعروة بن أذينة ، يقول : إن تك مأقوكا ـ أى : مصروفا ومنقلبا عن أحسن العطاء ـ فلا عجب ، فأنت في جملة ناس آخرين قد أفكوا وصرفوا عن الإحسان. ومنه : المؤتفكات ، وهي المدن المنقلبة على قوم لوط وتقول العرب : إذا كثرت المؤتفكات زكت الأرض ، يعنون : الرياح المختلفة المهاب.

(٢) قوله «والزمل» الذي في الصحاح «الأزمل» الصوت : والأزمولة ـ بالضم ـ : المصوت من الوعول وغيرها. (ع)

١٩٧

بعضا (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) يجوز أن يريد بالذين كفروا : هؤلاء اللاغين والآمرين لهم باللغو خاصة ، وأن يذكر الذين كفروا عامة لينطووا تحت ذكرهم. قد ذكرنا إضافة أسوأ بما أغنى عن إعادته. وعن ابن عباس (عَذاباً شَدِيداً) يوم بدر. و (أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) في الآخرة (ذلِكَ) إشارة إلى الأسوإ ، ويجب أن يكون التقدير : أسوأ جزاء الذين كانوا يعملون ، حتى تستقيم هذه الإشارة. و (النَّارُ) عطف بيان للجزاء. أو خبر مبتدإ محذوف. فإن قلت : ما معنى قوله تعالى (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ)؟ قلت : معناه أن النار في نفسها دار الخلد ، كقوله تعالى (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) والمعنى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ، وتقول : لك في هذه الدار دار السرور. وأنت تعنى الدار بعينها (جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) أى جزاء بما كانوا يلغون فيها ، فذكر الجحود الذي هو سبب اللغو.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ)(٢٩)

(الَّذَيْنِ أَضَلَّانا) أى الشيطانين اللذين أضلانا (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) لأنّ الشيطان على ضربين : جنى وإنسى. قال الله تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) وقال تعالى (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) وقيل : هما إبليس وقابيل ، لأنهما سنا الكفر والقتل بغير حق. وقرئ : أرنا ، بسكون الراء لثقل الكسرة ، كما قالوا في فخذ : فخذ. وقيل : معناه أعطنا للذين أضلانا. وحكوا عن الخليل : أنك إذا قلت : أرنى ثوبك بالكسر ، فالمعنى : بصرنيه. وإذا قلته بالسكون ، فهو استعطاء ، معناه : أعطنى ثوبك : ونظيره : اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء. وأصله : الإحضار

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)(٣٢)

(ثُمَ) لتراخى الاستقامة عن الإقرار في المرتبة. وفضلها عليه ، لأنّ الاستقامة لها الشأن كله. ونحوه قوله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) والمعنى : ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته. وعن أبى بكر الصديق رضى الله عنه : استقاموا فعلا كما استقاموا قولا.

١٩٨

وعنه : أنه تلاها ثم قال : ما تقولون فيها؟ قالوا : لم يذنبوا. قال حملتم الأمر على أشدّه. قالوا : فما تقول؟ قال : لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان. وعن عمر رضى الله عنه : استقاموا على الطريقة لم يروغوا روغان الثعالب. وعن عثمان رضى الله عنه : أخلصوا العمل. وعن على رضى الله عنه : أدّوا الفرائض. وقال سفيان بن عبد الله الثقفي رضى الله عنه : قلت يا رسول الله ، أخبرنى بأمر أعتصم به. قال : «قل ربىّ الله ، ثم استقم» قال فقلت : ما أخوف ما تخاف علىّ؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه فقال «هذا» (١) (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) عند الموت بالبشرى. وقيل البشرى في ثلاثة مواطن : عند الموت ، وفي القبر ، وإذا قاموا من قبورهم (أَلَّا تَخافُوا) أن بمعنى أى. أو مخففة من الثقيلة. وأصله : بأنه لا تخافوا ، والهاء ضمير الشأن. وفي قراءة ابن مسعود رضى الله عنه : لا تخافوا ، أى : يقولون لا تخافوا ، والخوف : غم يلحق لتوقع المكروه ، والحزن : غم يلحق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضارّ. والمعنى : أنّ الله كتب لكم الأمن من كل غم ، فلن تذوقوه أبدا. وقيل لا تخافوا ما تقدمون عليه ، ولا تحزنوا على ما خلفتم. كما أنّ الشياطين قرناء العصاة وإخوانهم ، فكذلك الملائكة أولياء المتقين وأحباؤهم في الدارين (تَدَّعُونَ) تتمنون: والنزل : رزق النزيل وهو الضيف ، وانتصابه على الحال.

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٣٣)

(مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) عن ابن عباس رضى الله عنهما : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى الإسلام (وَعَمِلَ صالِحاً) فيما بينه وبين ربه ، وجعل الإسلام نحلة له. وعنه : أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن عائشة رضى الله عنها : ما كنا نشك أنّ هذه الآية نزلت في المؤذنين ، وهي عامة في كل من جمع بين هذه الثلاث : أن يكون موحدا معتقدا لدين الإسلام ، عاملا بالخير داعيا إليه ، وما هم إلا طبقة العالمين العاملين من أهل العدل والتوحيد ، الدعاة إلى دين الله (٢) وقوله (وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ليس الغرض أنه تكلم بهذا الكلام ، ولكن جعل دين الإسلام مذهبه ومعتقده ، كما تقول : هذا قول أبى حنيفة ، تريد مذهبه.

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)(٣٥)

__________________

(١) أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وابن حبان بتمامه ، وأصله في مسلم.

(٢) قوله «العاملين من أهل العدل والتوحيد الدعاة» إن أراد بهم المعتزلة سموا أنفسهم بذلك ، فلا وجه التخصيص. (ع)

١٩٩

يعنى أنّ الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما فخذ بالحسنة التي هي أحسن من أختها ـ إذا اعترضتك حسنتان ـ فادفع بها السيئة التي ترد عليك من بعض أعدائك. ومثال ذلك : رجل أساء إليك إساءة ، فالحسنة : أن تعفو عنه ، والتي هي أحسن : أن تحسن إليه مكان إساءته إليك ، مثل أن يذمك فتمدحه ويقتل ولدك فتفتدى ولده من يد عدوه ، فإنك إذا فعلت ذلك انقلب عدوك المشاقّ مثل الولي الحميم مصافاة لك. ثم قال : وما يلقى هذه الخليقة أو السجية التي هي مقابلة الإساءة بالإحسان إلا أهل الصبر ، وإلا رجل خير وفق لحظ عظيم من الخير. فإن قلت : فهلا قيل : فادفع بالتي هي أحسن؟ قلت : هو على تقدير قائل قال : فكيف أصنع؟ فقيل : ادفع بالتي هي أحسن. وقيل (لا) مزيدة. والمعنى : ولا تستوي الحسنة والسيئة ، فإن قلت : فكان القياس على هذا التفسير أن يقال : ادفع بالتي هي حسنة : قلت : أجل ، ولكن وضع التي هي أحسن موضع الحسنة ، ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة ، لأنّ من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما هو دونها. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة ، وفسر الحظ بالثواب. وعن الحسن رحمه الله : والله ما عظم حظ دون الجنة ، وقيل : نزلت في أبى سفيان بن حرب وكان عدوا مؤذيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصار وليا مصافيا.

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٣٦)

النزغ والنسغ بمعنى ، وهو شبه النخس. والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه ببعثه على ما لا ينبغي. وجعل النزغ نازغا ، كما قيل : جد جدّه. أو أريد : وإما ينزغنك نازغ وصفا للشيطان بالمصدر. أو لتسويله. والمعنى : وإن صرفك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) من شرّه ، وامض على شأنك ولا تطعه.

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ)(٣٨)

الضمير في (خَلَقَهُنَ) لليل والنهار والشمس والقمر ، لأنّ حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث. يقال : الأقلام بريتها وبريتهنّ : أو لما قال (وَمِنْ آياتِهِ) كن في معنى الآيات ، فقيل : خلقهنّ. فإن قلت. أين موضع السجدة؟ قلت : عند الشافعي رحمه الله تعالى (تَعْبُدُونَ) وهي رواية مسروق عن عبد الله لذكر لفظ السجدة قبلها. وعند أبى حنيفة رحمه الله : يسأمون ،

٢٠٠