الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

ولا فعلنا نكرا من الفعل ، فإنّ النصارى جعلوا المسيح ابن الله وعبدوه ، ونحن أشف (١) منهم قولا وفعلا ، فإنا نسبنا إليه الملائكة وهم نسبوا إليه الأناسى ، فقيل لهم : مذهب النصارى شرك بالله ، ومذهبكم شرك مثله ، وما تنصلكم مما أنتم عليه بما أوردتموه إلا قياس باطل بباطل ، وما عيسى (إِلَّا عَبْدٌ) كسائر العبيد (أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) حيث جعلناه آية : بأن خلقناه من غير سبب ، كما خلقنا آدم وشرفناه بالنبوّة وصيرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر لبنى إسرائيل.

(وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ)(٦٠)

(وَلَوْ نَشاءُ) لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر (لَجَعَلْنا مِنْكُمْ) لولدنا منكم يا رجال (مَلائِكَةً) يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم ، كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل ، لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة ، ولتعلموا أن الملائكة أجسام لا تتولد إلا من أجسام ، وذات القديم متعالية عن ذلك.

(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)(٦١)

(وَإِنَّهُ) وإن عيسى عليه السلام (لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) أى شرط من أشراطها تعلم به ، فسمى الشرط علما لحصول العلم به. وقرأ ابن عباس : لعلم ، وهو العلامة. وقرئ : للعلم. وقرأ : أبىّ : لذكر ، على تسمية ما يذكر به ذكرا ، كما سمى ما يعلم به علما. وفي الحديث : أن عيسى عليه الصلاة والسلام ينزل على ثنية بالأرض المقدّسة : يقال لها أفيق وعليه ممصرتان ، وشعر رأسه دهين ، وبيده حربة ، وبها يقتل الدجال ، فيأتى بيت المقدس والناس في صلاة الصبح والإمام يؤم بهم ، فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى ويصلى خلفه على شريعة محمد عليه الصلاة والسلام ، ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب ، ويخرب البيع والكنائس ، ويقتل النصارى إلا من آمن (٢) به. وعن الحسن : أن الضمير للقرآن ، وأن القرآن به تعلم الساعة ، لأن فيه الإعلان بها (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) من المرية وهي الشك (وَاتَّبِعُونِ) واتبعوا هداي وشرعي. أو رسولي. وقيل : هذا أمر لرسول الله أن يقوله (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أى هذا الذي أدعوكم إليه. أو هذا القرآن إن جعل الضمير في (وَإِنَّهُ) للقرآن.

__________________

(١) قوله «ونحن أشف منهم» أى : أرق. أفاده الصحاح. (ع)

(٢) أخرجه الثعلبي بغير سند. وهو موجود في أحاديث متفرقة. فقوله «ثنية أفيق» عند الحاكم من حديث عثمان بن أبى العاص. وقوله «وعليه ممصرتان» عند أحمد والحاكم من حديث أبى هريرة. وقوله والناس في صلاة الصبح ، عند ابن ماجة من حديث أبى أسامة. وقوله «فيقتل الخنزير ويكسر الصليب» في الصحيح من حديث أبى هريرة.

٢٦١

(وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)(٦٢)

(عَدُوٌّ مُبِينٌ) قد بانت عداوته لكم (١) : إذ أخرج أباكم من الجنة ونزع عنه لباس النور.

(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ)(٦٥)

(بِالْبَيِّناتِ) المعجزات. أو بآيات الإنجيل والشرائع البينات الواضحات (بِالْحِكْمَةِ) يعنى الإنجيل والشرائع. فإن قلت : هلا بين لهم كل الذي يختلفون فيه ولكن بعضه؟ قلت : كانوا يختلفون في الديانات وما يتعلق بالتكليف وفيما سوى ذلك مما لم يتعبدوا بمعرفته والسؤال عنه ، وإنما بعث ليبين لهم ما اختلفوا فيه مما يعنيهم من أمر دينهم (الْأَحْزابُ) الفرق المتحزبة بعد عيسى وقيل : اليهود والنصارى (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) وعيد للأحزاب. فإن قلت : (مِنْ بَيْنِهِمْ) إلى من يرجع الضمير فيه؟ قلت : إلى الذين خاطبهم عيسى في قوله (قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) وهم قومه المبعوث إليهم.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ)(٧٣)

__________________

(١) قوله «قد بانت عداوته لكم» في الصحاح «بان الشيء بيانا» : اتضح فهو بين ، كذلك أيان فهو مبين. (ع)

٢٦٢

(أَنْ تَأْتِيَهُمْ) بدل من الساعة. والمعنى : هل ينظرون إلا إتيان الساعة. فإن قلت : أما أدى قوله (بَغْتَةً) مؤدّى قوله (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) فيستغنى عنه؟ قلت : لا ، لأنّ معنى قوله تعالى (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) : وهم غافلون لاشتغالهم بأمور دنياهم ، كقوله تعالى (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) ويجوز أن تأتيهم بغتة وهم فطنون (يَوْمَئِذٍ) منصوب بعدوّ ، أى : تنقطع في ذلك اليوم كل خلة بين المتخالين في غير ذات الله ، وتنقلب عداوة ومقتا ، إلا خلة المتصادقين في الله ، فإنها الخلة الباقية المزدادة قوّة إذا رأوا ثواب التحاب في الله تعالى والتباغض في الله. وقيل (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) إلا المجتنبين أخلاء السوء. وقيل : نزلت في أبىّ بن خلف وعقبة ابن أبى معيط (يا عِبادِ) حكاية لما ينادى به المتقون المتحابون في الله يومئذ ، و (الَّذِينَ آمَنُوا) منصوب المحل صفة لعبادي ، لأنه منادى مضاف ، أى : الذين صدّقوا (بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) مخلصين وجوههم لنا ، جاعلين أنفسهم سالمة لطاعتنا. وقيل : إذا بعث الله الناس فزع كل أحد ، فينادى مناد : يا عبادي فيرجوها الناس كلهم ، ثم يتبعها الذين آمنوا فييأس الناس منها غير المسلمين. وقرئ : يا عباد (تُحْبَرُونَ) تسرون سرورا يظهر حباره ـ أى : أثره ـ على وجوهكم ، كقوله تعالى (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) وقال الزجاج : تكرمون إكراما يبالغ فيه. والحبرة : المبالغة فيما وصف بجميل. والكوب : الكوز لا عروة له (وَفِيها) الضمير للجنة. وقرئ تشتهي وتشتهيه. وهذا حصر لأنواع النعم ، لأنها إما مشتهاة في القلوب ، وإما مستلذة في العيون. (وَتِلْكَ) إشارة إلى الجنة المذكورة. وهي مبتدأ ، و (الْجَنَّةُ) خبر. و (الَّتِي أُورِثْتُمُوها) صفة الجنة. أو الجنة صفة للمبتدإ الذي هو اسم الإشارة. والتي أورثتموها : خبر المبتدإ. أو التي أورثتموها : صفة ، و (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الخبر ، والباء تتعلق بمحذوف كما في الظروف التي تقع أخبار. وفي الوجه الأول تتعلق بأورثتموها. وشبهت في بقائها على أهلها بالميراث الباقي على الورثة. وقرئ : ورّثتموها (مِنْها تَأْكُلُونَ) من للتبعيض ، أى : لا تأكلون إلا بعضها ، وأعقابها باقية في شجرها ، فهي مزينة بالثمار أبدا موقرة بها ، لا ترى شجرة عريانة من ثمرها كما في الدنيا. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها (١) إلا نبت مكانها مثلاها (٢)

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ

__________________

(١) قوله «من ثمرها إلا نبت مكانها» في الخازن : ورد في الحديث «أنه لا ينزع أحد في الجنة من ثمرها ثمرة إلا نبت مكانها مثلاها». (ع)

(٢) أخرجه البزار عن ثوبان. وقد تقدم في البقرة.

٢٦٣

مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨))

(لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) لا يخفف ولا ينقص ، من قولهم : فترت عنه الحمى إذا سكنت عنه قليلا ونقص حرّها. والمبلس : اليائس الساكت سكوت يأس من فرج. وعن الضحاك : يجعل المجرم في تابوت من نار ثم يردم عليه فيبقى فيه خالدا : لا يرى ولا يرى (هُمْ) فصل عند البصريين ، عماد عند الكوفيين. وقرئ : وهم فيها ، أى : في النار (١) وقرأ على وابن مسعود رضى الله عنهما : يا مال ، بحذف الكاف للترخيم ، كقول القائل :

والحق يا مال غير ما تصف (٢)

وقيل لابن عباس : إن ابن مسعود قرأ : ونادوا يا مال ، فقال : ما أشغل أهل النار عن الترخيم (٣). وعن بعضهم : حسن الترخيم أنهم يقتطعون بعض الاسم لضعفهم وعظم ما هم فيه. وقرأ أبو السرار الغنوي : يا مال ، بالرفع كما يقال : يا حار (٤) (لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) من قضى عليه إذا أمانه (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) والمعنى : سل ربك أن يقضى علينا. فإن قلت : كيف قال (وَنادَوْا يا مالِكُ) بعد ما وصفهم بالإبلاس؟ قلت : تلك أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة ، فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتا لغلبة اليأس عليهم ، وعلمهم أنه لا فرج لهم ، ويغوّثون (٥) أوقاتا لشدّة ما بهم (ماكِثُونَ) لابثون. وفيه استهزاء. والمراد : خالدون. عن ابن عباس رضى الله عنهما : إنما يجيبهم بعد ألف سنة (٦). وعن النبي صلى الله عليه وسلم «يلقى على أهل

__________________

(١) قوله «وقرئ (وَهُمْ فِيهِ) أى في النار» لعل تأخير الكلام على هذه القراءة عن الكلام على الضمير السابق من تصرف الناسخ. لأنه مخالف لترتيب التلاوة. (ع)

(٢) يحيى رفات العظام بالية

والحق يا مال غير ما تصف

أى : يحيى الله المتفتت من العظام حال كونها بالية ، يقال : رفته رفتا ، إذا فتته. والرفات : اسم منه كالفتات ، قال : والحق غير ما تذكره يا مالك ، فرخمه بحذف الكاف ، كأنه كان أخبره بموت أحد ثم ظهرت حياته.

(٣) لم أجده بإسناد. وفي البخاري عن يعلى بن أمية «أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها كذلك».

(٤) قوله «كما يقال يا حار» في نداء حارث. (ع)

(٥) قوله «ويغوثون» في الصحاح «غوث الرجل» : قال وا غوثاه. (ع)

(٦) أخرجه الحاكم من رواية سفيان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله (وَنادَوْا يا مالِكُ) قال : مكث عنهم ألف سنة ثم يقول : إنكم ماكثون ، وروى الترمذي من رواية قطبة بن عبد العزيز عن

٢٦٤

النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب ، فيقولون : ادعوا مالكا ، فيدعون يا مالك ليقض علينا ربك (١)». (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ) كلام الله عز وجل : بدليل قراءة من قرأ : لقد جئتكم. ويجب أن يكون في قال ضمير الله عز وجل. لما سألوا مالكا أن يسأل الله تعالى القضاء عليهم : أجابهم الله بذلك (كارِهُونَ) لا تقبلونه وتنفرون منه وتشمئزون منه ، لأنّ مع الباطل الدعة ، ومع الحق التعب.

(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) (٨٠)

(أَمْ) أبرم مشركو مكة (أَمْراً) من كيدهم ومكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) كيدنا كما أبرموا كيدهم ، كقوله تعالى (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ)؟ وكانوا يتنادون فيتناجون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلت : ما المراد بالسر والنجوى؟ قلت : السر ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال. والنجوى : ما تكلموا به فيما بينهم (بَلى) نسمعهما ونطلع عليهما (وَرُسُلُنا) يريد الحفظة عندهم (يَكْتُبُونَ) ذلك. وعن يحيى بن معاذ الرازي : من ستر من الناس ذنوبه وأبداها للذي لا يخفى عليه شيء في السماوات فقد جعله أهون الناظرين إليه ، وهو من علامات النفاق.

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)(٨٢)

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها (فَأَنَا أَوَّلُ) من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له : (٢) كما يعظم الرجل

__________________

ـ الأعمش عن سمرة بن عطية عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبى الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون. فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغنى من جوع ـ الحديث : وفيه قال الأعمش بين أن ينزل عليهم وإجابة مالك ألف عام» وقال الترمذي : قطبة ثقة. وبعض أهل الحديث كان يرفع هذا. وهذا أخرجه الطيراني والبيهقي في الشعب ورواه الطبري من رواية شريك عن الأعمش موقوف ولم يفصل الكلام الأخير. ثم رواه من طريق قطبة مرفوعا ، ولم يفعل أيضا.

(١) هو في الحديث الذي قبله.

(٢) قال محمود : «معناه إن صح وثبت برهان قاطع ، فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له ... الخ» قال أحمد : لقد اجترأ عظيما وافتحم مهلكة في تمثيله ذلك بقول من سماه عدليا : إن كان الله خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه فأنا أول القائلين إنه شيطان وليس باله ، فلينقم عليه ذلك بقول القائل : قد

٢٦٥

ولد الملك لتعظيم أبيه ، وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض ، وهو المبالغة في نفى الولد والإطناب فيه ، وأن لا يترك الناطق به شبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد ، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها ، فكان المعلق بها محالا مثلها ، فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة ، وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها. ونظيره أن يقول العدلى للمجبر (١). إن كان الله تعالى خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه عذابا سرمدا ، فأنا أول من يقول : هو شيطان وليس بإله ، فمعنى هذا الكلام وما وضع له أسلوبه ونظمه نفى أن يكون الله تعالى خالقا للكفر ، وتنزيهه عن ذلك وتقديسه ، ولكن على طريق المبالغة فيه من الوجه الذي ذكرنا ، مع الدلالة على سماجة المذهب وضلالة الذاهب إليه ، والشهادة القاطعة بإحالته والإفصاح عن نفسه بالبراءة منه ، وغاية النفار والاشمئزاز من ارتكابه. ونحو هذه الطريقة قول سعيد بن جبير رحمه الله للحجاج حين قال له ـ : أما والله (٢) لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى ـ : لو عرفت أن ذلك إليك ما عبدت إلها غيرك. وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد المستقل بإثبات التوحيد على أبلغ وجوهه ، فقيل : إن كان للرحمن ولد في زعمكم ، فأنا أول العابدين الموحدين لله ، المكذبين قولكم بإضافة الولد إليه. وقيل : إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد : إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد. وقرأ بعضهم : العبدين. وقيل : هي إن النافية ، أى : ما كان للرحمن ولد ، فأنا أول من قال بذلك وعبد ووحد ، وروى أنّ النضر بن عبد الدار بن قصى قال : إن الملائكة بنات الله فنزلت ، فقال النضر : ألا ترون أنه قد صدقنى. فقال له الوليد بن المغيرة : ما صدقك ولكن قال : ما كان للرحمن ولد فأنا أول الموحدين من أهل مكة : أن لا ولد له. وقرئ : ولد ، بضم الواو. ثم نزه ذاته موصوفة بربوبية السماوات والأرض والعرش عن اتخاذ الولد ، ليدل على أنه من صفة الأجسام.

__________________

ـ ثبت قطعا عقلا وشرعا أنه تعالى خالق لذلك في القلوب كما خلق الايمان ، وفاء بمقتضى دليل العقل الدال على أن لا خالق إلا الله ، وتصديقا بمضمون قوله تعالى (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) وقوله (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) وإذا ثبتت هذه المقدمة عقلا ونقلا : لزمه فرك أذنه وغل عنقه ، إذ يلحد في الله إلحادا لم يسقه إليه أحد من عباده الكفرة ، ولا تجرأ عليه مارد من مردة الفجرة. ومن خالف في كفر القدرية فقد وافق على كفر من تجرأ فقال هذه المقالة واقتحم هذه الضلالة بلا محالة ، فانه قد صرح بكلمة الكفر على أقبح وجوهها وأشنع أنحائها : والله المسئول أن يعصمنا وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(١) قوله «ونظيره أن يقول العدلى للمجبر» يريد : أحد المعتزلة لأحد أهل السنة ، وفي هذا التنظير من سوء الأدب في حقه تعالى ما لا يخفى. (ع)

(٢) قوله «قال له : أما والله» في الصحاح : «أما» مخفف تحقيق للكلام الذي يتلوه اه. ولعل حذف الألف لغة ، فليحرر. (ع)

٢٦٦

ولو كان جسما لم يقدر على خلق هذا العالم وتدبير أمره.

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)(٨٣)

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا) في باطلهم (وَيَلْعَبُوا) في دنياهم (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ) وهذا دليل على أنّ ما يقولونه من باب الجهل والخوض واللعب ، وإعلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم من المطبوع على قلوبهم الذين لا يرجعون البتة ، وإن ركب في دعوتهم كل صعب وذلول ، وخذلان لهم وتخلية بينهم وبين الشيطان ، كقوله تبارك تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) وإيعاد بالشقاء في العاقبة.

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٨٥)

ضمن اسمه تعالى معنى وصف ، فلذلك علق به الظرف في قوله (فِي السَّماءِ وَفِي الْأَرْضِ) (١) كما تقول ، هو حاتم في طىّ حاتم في تغلب ، على تضمين معنى الجواد الذي شهر به ، كأنك قلت : هو جواد في طى جواد في تغلب. وقرئ : وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله. ومثله قوله تعالى (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) كأنه ضمن معنى المعبود أو المالك أو نحو ذلك. والراجع إلى الموصول محذوف لطول الكلام ، كقولهم : ما أنا بالذي قائل لك شيئا ، وزاده طولا أنّ المعطوف داخل في حيز الصلة. ويحتمل أن يكون (فِي السَّماءِ) صلة الذي وإله خبر مبتدإ محذوف ، على أنّ الجملة بيان للصلة. وأنّ كونه في السماء على سبيل الإلهية والربوبية ، لا على معنى الاستقرار. وفيه نفى الآلهة التي كانت تعبد في الأرض (تُرْجَعُونَ) قرئ بضم التاء وفتحها. ويرجعون ، بياء مضمومة. وقرئ : تحشرون ، بالتاء.

(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)(٨٧)

__________________

(١) قال محمود : «ضمن اسمه عز وجل معنى وصف ، فعلق به الظرف ، وهو قوله (فِي السَّماءِ) ... الخ» قال أحمد : ومما سهل حذف الراجع مضافا إلى الطول الذي ذكره : وقوع الموصول خبرا عن مضمر لو ظهر الراجع لكان كالتكرار المستكره ، إذ كان أصل الكلام : وهو الذي هو في السماء إله. ولا ينكر أن الكلام مع المحذوف الراجع أخف وأسهل ، وأن الراجع إنما حذف على فلة حذف مثله لأمر متأكد ، فانه لم يرد في الكتاب العزيز إلا في قوله (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) ومع أى في موضعين على رأى.

٢٦٧

ولا يملك آلهتهم الذين يدعون من دون الله الشفاعة ، كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله ، ولكن من (شَهِدَ بِالْحَقِ) وهو توحيد الله ، وهو يعلم ما يشهد به عن بصيرة وإيقان وإخلاص : هو الذي يملك الشفاعة ، وهو استثناء منقطع. ويجوز أن يكون متصلا ، لأنّ في جملة الذين يدعون من دون الله : الملائكة ، وقرئ : تدعون بالتاء. وتدّعون ، بالتاء وتشديد الدال.

(وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(٨٩)

(وَقِيلِهِ) قرئ بالحركات الثلاث ، وذكر في النصب عن الأخفش أنه حمله على : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وقيله : وعنه : وقال قيله. وعطفه الزجاج على محل الساعة ، كما تقول : عجبت من ضرب زيد وعمرا ، وحمل الجرّ على لفظ الساعة ، والرفع على الابتداء ، والخبر ما بعده : وجوّز عطفه على علم الساعة على تقدير حذف المضاف. معناه : عنده علم الساعة وعلم قيله. والذي قالوه ليس بقوى في المعنى مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضا ، ومع تنافر النظم. وأقوى من ذلك وأوجه : أن يكون الجرّ والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه ، والرفع على قولهم : أيمن الله ، وأمانة الله ، ويمين الله ، ولعمرك : ويكون قوله (إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) جواب القسم ، كأنه قيل : وأقسم بقيله يا رب. أو وقيله يا رب قسمي إنّ هؤلاء قوم لا يؤمنون (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) فأعرض عن دعوتهم يائسا عن إيمانهم ، وودعهم وتاركهم ، (وَقُلْ) لهم (سَلامٌ) أى تسلم منكم ومتاركة (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) وعيد من الله لهم وتسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم. والضمير في (وَقِيلِهِ) لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإقسام الله بقيله رفع منه وتعظيم لدعائه والتجائه إليه.

عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الزخرف كان ممن يقال له يوم القيامة يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون. ادخلوا الجنة بغير حساب» (١)

__________________

(١) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.

٢٦٨

سورة الدخان

مكية ، إلا قوله (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً ...) الآية

وهي سبع وخمسون آية. وقيل تسع وخمسون [نزلت بعد سورة الزخرف]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (٨)

الواو في (وَالْكِتابِ) واو القسم ، إن جعلت حم تعديدا للحروف أو اسما للسورة ، مرفوعا على خبر الابتداء المحذوف وواو العطف إن كانت حم مقسما بها. وقوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) جواب القسم ، والكتاب المبين القرآن. والليلة المباركة : ليلة القدر. وقيل : ليلة النصف من شعبان ، ولها أربعة أسماء : الليلة المباركة ، وليلة البراءة ، وليلة الصكّ ، وليلة الرحمة وقيل : بينها وبين ليلة القدر أربعون ليلة. وقيل في تسميتها : ليلة البراءة. والصكّ : أن البندار إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة ، كذلك الله عز وجل يكتب لعباده المؤمنين البراءة في هذه الليلة. وقيل : هي مختصة بخمس خصال : تفريق كل أمر حكيم وفضيلة العبادة فيها : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من صلى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله إليه مائة ملك : ثلاثون يبشرونه بالجنة ، وثلاثون يؤمنون من عذاب النار ، وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا. وعشرة يدفعون عنه مكايد الشيطان (١)». ونزول الرحمة : قال عليه الصلاة والسلام : «إنّ الله يرحم أمّتى (٢) في هذه

__________________

(١) ذكره صاحب الفردوس من حديث ابن عمر هكذا وأخرجه أبو الفتح سليم بن أيوب في الترغيب له من رواية جعفر بن محمد عن أبيه عن على موقوفا. وأخرجه ابن الأخضر من رواية جعفر المدائني عن أبى يحيى العتابى حدثني بضعة وثلاثون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ـ فذكره

(٢) قوله «يرحم أمتى في هذه الليلة» لعله : من أمتى. (ع)

٢٦٩

الليلة بعدد شعر أغنام بنى كلب (١)» وحصول المغفرة : قال عليه الصلاة والسلام : «إنّ الله تعالى يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلا لكاهن أو ساحر أو مشاحن أو مدمن خمر أو عاق للوالدين ، أو مصرّ على الزنا» (٢) وما أعطى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من تمام الشفاعة ، وذلك أنه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمّته ، فأعطى الثلث منها ، ثم سأل ليلة الرابع عشر فأعطى الثلثين ، ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطى الجميع ، إلا من شرد عن الله شراد البعير. ومن عادة الله في هذه الليلة : أن يزيد فيها ماء زمزم زيادة ظاهرة ، والقول الأكثر : أنّ المراد بالليلة المباركة : ليلة القدر ، لقوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ولمطابقة قوله : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) لقوله : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) وقوله تعالى (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) وليلة القدر في أكثر الأقاويل في شهر رمضان. فإن قلت : ما معى إنزال القرآن في هذه الليلة؟ قلت : قالوا أنزل جملة واحدة من السماء السابعة إلى السماء الدنيا ، وأمر السفرة الكرام بانتساخه في ليلة القدر وكان جبريل عليه السلام ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوما نجوما. فإن قلت : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) ما موقع هاتين الجملتين؟ قلت : هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان (٣). فسر بهما جواب القسم الذي هو قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) كأنه قيل : أنزلناه ، لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب ، وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصا ، لأنّ إنزال القرآن من الأمور الحكيمة ، وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم. والمباركة : الكثيرة الخير لما يتيح (٤) الله فيها من الأمور التي يتعلق بها منافع العباد في دينهم ودنياهم ، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن وحده لكفى به بركة. ومعنى (يُفْرَقُ) يفصل ويكتب كل أمر حكيم من أرزاق العباد وآجالهم ، وجميع أمورهم منها إلى

__________________

(١) أخرجه الترمذي وابن ماجة من حديث عائشة مرفوعا «إن الله ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا. فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب. قال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديث الحجاج؟ وسمعت محمدا يضعفه. وقال : ابن يحيى لم يسمع من عروة ، والحجاج لم يسمع من يحيى ، وفي الباب عن أنس عن عائشة في الدعوات البيهقي. وفي روايته مجاهيل. ومن وجه آخر عن عائشة في الافراد للدارقطني. وفيه عطاء بن عجلان. وهو متروك.

(٢) لم أجد ، هكذا. وفي ابن حبان من حديث معاذ بن جبل وقال يطلع إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن» وفي ابن ماجة من حديث أبى موسى كذلك. والبزار من حديث أبى بكر وفي إسناده ضعف والبزار أيضا من حديث عوف بن مالك. وفيه ابن لهيعة. ومن حديث أبى هريرة وفيه من لا يعرف. ورواه البيهقي في الشعب من حديث أبى سعيد عن عائشة. وفيها لا ينظر الله فيها إلى مشرك ولا إلى مشاحن ولا إلى قاطع رحم ولا إلى عاق ولا إلى مدمن خمر وفي رواية أنس عن عائشة التي ذكرناها في التي قبلها «المدمن والعاق والمصر على الزنا وزادوا : ولا مصور ولا قتار.

(٣) قوله «ملفوفتان» لعله من اللف والنشر المقرر في البيان ، وبيانه ما بعده. (ع)

(٤) قوله «لما يتيح الله فيها» أى يقدر. (ع)

٢٧٠

الأخرى القابلة. وقيل : يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ، ويقع الفراغ في ليلة القدر ، فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ، ونسخه الحروب إلى جبريل ، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف ، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ونسخة المصائب إلى ملك الموت. وعن بعضهم : يعطى كل عامل بركات أعماله ، فيلقى على ألسنة الخلق مدحه ، وعلى قلوبهم هيبته. وقرئ : (يُفْرَقُ) بالتشديد. و (يُفْرَقُ) كل على بنائه للفاعل ونصب كل ، والفارق : الله عزّ وجلّ ، وقرأ زيد بن على رضى الله عنه : نفرق ، بالنون ، كل أمر حكيم : كل شأن ذى حكمة ، أى : مفعول على ما تقتضيه الحكمة ، وهو من الإسناد المجازى ، لأنّ الحكيم صفة صاحب الأمر على الحقيقة ، ووصف الأمر به مجاز (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) نصب على الاختصاص. جعل كل أمر جزلا فخما بأن وصفه بالحكيم ، ثم زاده جزالة وكسبه فخامة بأن قال : أعنى بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا ، كائنا من لدنا ، وكما اقتضاء علمنا وتدبيرنا. ويجوز أن يراد به الأمر الذي هو ضد النهى ، ثم إما أن يوضع موضع فرقانا الذي هو مصدر يفرق ، لأنّ معنى الأمر والفرقان واحد ، من حيث أنه إذا حكم بالشيء وكتبه فقد أمر به وأوجبه. أو يكون حالا من أحد الضميرين في أنزلناه : إما من ضمير الفاعل ، أى : أنزلناه آمرين أمرا. أو من ضمير المفعول أى أنزلناه في حال كونه أمرا من عندنا بما يجب أن يفعل فإن قلت : (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) بم يتعلق؟ قلت : يجوز أن يكون بدلا من قوله (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) و (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) مفعولا له ، على معنى : إنا أنزلنا القرآن ، لأنّ من شأننا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا لأجل الرحمة عليهم ، وأن يكون تعليلا ليفرق. أو لقوله (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) ورحمة : مفعولا به ، وقد وصف الرحمة بالإرسال كما وصفها به في قوله تعالى (وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) أى يفصل في هذه الليلة كل أمر. أو تصدر الأوامر من عندنا ، لأنّ من عادتنا أن نرسل رحمتنا. وفصل كل أمر من قسمة الأرزاق وغيرها من باب الرحمة ، وكذلك الأوامر الصادرة من جهته عز وعلا ، لأنّ الغرض في تكليف العباد تعريضهم للمنافع. والأصل : إنا كنا مرسلين رحمة منا ، فوضع الظاهر موضع الضمير إيذانا بأنّ الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين ، وفي قراءة زيد بن على : أمر من عندنا ، على : هو أمر ، وهي تنصر انتصابه على الاختصاص. وقرأ الحسن : رحمة من ربك. على : تلك رحمة ، وهي تنصر انتصابها بأنها مفعول له (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وما بعده تحقيق لربوبيته ، وأنها لا تحق إلا لمن هذه أوصافه. وقرئ : رب السماوات ... ربكم ورب آبائكم ، بالجر بدلا من ربك. فإن قلت : ما معنى الشرط الذي هو قوله (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ)؟ قلت : كانوا يقرون بأن للسماوات والأرض ربا وخالقا ، فقيل لهم : إنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة من الرب ، ثم قيل : إن هذا

٢٧١

الرب هو السميع العليم الذي أنتم مقرون به ومعترفون بأنه رب السماوات والأرض وما بينهما إن كان إقراركم عن علم وإيقان ، كما تقول : إنّ هذا إنعام زيد الذي تسامع الناس بكرمه واشتهر وإسخاؤه إن بلغك حديثه وحدثت بقصته.

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ)(١٢)

ثم ردّ أن يكونوا موقنين بقوله (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) وأن إقرارهم غير صادر عن علم وتيقن ، ولا عن جدّ وحقيقة : بل قول مخلوط بهزء ولعب (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ) مفعول به مرتقب. يقال : رقبته وارتقبته. نحو : نظرته وانتظرته. واختلف في الدخان ، فعن على بن أبى طالب رضى الله عنه وبه أخذ الحسن : أنه دخان يأتى من السماء قبل يوم القيامة يدخل في أسماع الكفرة ، حتى يكون رأس الواحد منهم كالرأس الحنيذ (١) ، ويعترى المؤمن منه كهيئة الزكام ، وتكون الأرض كلها كبيت أو قد فيه ليس فيه خصاص (٢). وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أوّل الآيات : الدخان ، ونزول عيسى ابن مريم ، ونار تخرج من قعر عدن أبين (٣) تسوق الناس إلى المحشر (٤) «قال حذيفة : يا رسول الله ، وما الدخان؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية وقال : «يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة. أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمّة ، وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره» وعن ابن مسعود رضى الله عنه : خمس قد مضت : الروم ، والدخان ، والقمر ، والبطشة. واللزام. ويروى أنه قيل لابن مسعود : إن قاصا عند أبواب كندة يقول : إنه دخان يأتى يوم القيامة فيأخذ بأنفاس الخلق ، فقال : من علم علما فليقل به ، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم ، فإن من علم الرجل أن يقول لشيء لا يعلمه : الله أعلم ، ثم قال : ألا وسأحدّثكم أنّ قريشا لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال : «اللهم اشدد وطأتك على مضر ، (٥)

__________________

(١) قوله «كالرأس الحنيذ» أى المشوى ، كما في الصحاح. (ع)

(٢) قوله «ليس فيه خصاص» أى : فرج. أفاده الصحاح. (ع)

(٣) قوله «أبين» في الصحاح : «أبين» : اسم رجل نسب إليه عدن. (ع)

(٤) هذا أولى. وفي إسناده رواه ابن الجراح وهو متروك. وقد اعترف بأنه لم يسمع هذا الحديث.

(٥) متفق عليه دون قوله «حتى أكلوا الجيف والعلهز» وقد رواه النسائي والحاكم والطبراني من حديث ابن عباس قال «جاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أنشدك الله والرحم لقد أكلنا العلهز يعنى الوبر والدم فأنزل الله (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ ـ) الآية.

٢٧٢

واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف» فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف (١) والعلهز ، وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان ، وكان يحدّث الرجل (٢) فيسمع كلامه ولا يراه من الدخان ، فمشى إليه أبو سفيان ونفر معه وناشدوه الله والرحم وواعدوه إن دعا لهم وكشف عنهم أن يؤمنوا ، فلما كشف عنهم رجعوا إلى شركهم (بِدُخانٍ مُبِينٍ) ظاهر حاله لا يشك أحد في أنه دخان (يَغْشَى النَّاسَ) يشملهم ويلبسهم ، وهو في محل الجر صفة لدخان. و (هذا عَذابٌ) إلى قوله (مُؤْمِنُونَ) منصوب المحل بفعل مضمر ، وهو : يقولون. ويقولون : منصوب على الحال ، أى : قائلين ذلك. (إِنَّا مُؤْمِنُونَ) موعدة بالإيمان إن كشف عنهم العذاب.

(أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ)(١٦)

(أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) كيف يذكرون ويتعظون ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب (وَقَدْ جاءَهُمْ) ما هو أعظم وأدخل في وجوب الادّكار من كشف الدخان ، وهو ما ظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات من الكتاب المعجز وغيره من المعجزات ، فلم يذكروا وتولوا عنه ، وبهتوه (٣) بأن عداسا غلاما أعجميا لبعض ثقيف هو الذي علمه ، ونسبوه إلى الجنون ، ثم قال (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) أى ريثما نكشف عنكم العذاب تعودون إلى شرككم لا تلبثون غب الكشف على ما أنتم عليه من التضرع والابتهال. فإن قلت : كيف يستقيم على قول من جعل الدخان قبل يوم القيامة قوله (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً)؟ قلت : إذا أتت السماء بالدخان تضور (٤) المعذبون به من الكفار والمنافقين وغوّثوا وقالوا (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) منيبون ، فيكشفه الله عنهم بعد أربعين يوما ، فريثما يكشفه عنهم يرتدون لا يتمهلون ، ثم قال : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) يريد

__________________

(١) قوله «حتى أكلوا الجيف والعلهز» في الصحاح «العلهز» ـ بالكسر ـ : طعام كانوا يتخذونه من الدم ووبر البعير في زمن المجاعة. (ع)

(٢) قوله «وكان يحدث الرجل فيسمع» لعله : يحدث الرجل الرجل ، ويمكن أن يجعل الفاعل ضميرا يعود على الرجل السابق. (ع)

(٣) قوله وتولوا عنه وبهتوه» رموه بما ليس فيه والتغويث قولها : وا غوثاه ، كما في الصحاح أيضا. (ع)

(٤) قوله «تضور المعذبون به» التضور : الصياح والتلوي عند الألم. أفاده الصحاح. (ع)

٢٧٣

يوم القيامة ، كقوله تعالى (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى). (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) أى ننتقم منهم في ذلك اليوم. فإن قلت : بم انتصب يوم نبطش؟ قلت : بما دل عليه (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) وهو ننتقم. ولا يصح أن ينتصب بمنتقمون ، لأن «إن» تحجب عن ذلك. وقرئ : نبطش ، بضم الطاء. وقرأ الحسن : نبطش بضم النون ، كأنه يحمل الملائكة على أن يبطشوا بهم البطشة الكبرى. أو يجعل البطشة الكبرى باطشة بهم. وقيل (الْبَطْشَةَ الْكُبْرى): يوم بدر.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ)(٢١)

وقرئ : ولقد فتنا ، بالتشديد للتأكيد. أو لوقوعه على القوم. ومعنى الفتنة : أنه أمهلهم ووسع عليهم في الرزق ، فكان ذلك سببا في ارتكابهم المعاصي واقترافهم الاثام. أو ابتلاهم بإرسال موسى إليهم ليؤمنوا ، فاختاروا الكفر على الإيمان. أو سلبهم ملكهم وأغرقهم (كَرِيمٌ) على الله وعلى عباده المؤمنين. أو كريم في نفسه ، لأنّ الله لم يبعث نبيا إلا من سراة قومه وكرامهم (أَنْ أَدُّوا إِلَيَ) هي أن المفسرة ، لأن مجيء الرسول من بعث إليهم متضمن لمعنى القول لأنه لا يجيئهم إلا مبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله. أو المخففة من الثقيلة ومعناه : وجاءهم بأن الشأن والحديث أدّوا إلىّ (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) مفعول به وهم بنو إسرائيل ، يقول : أدوهم إلىّ وأرسلوهم معى ، كقوله تعالى (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ) ويجوز أن يكون نداء لهم على : أدوا إلىّ يا عباد الله ما هو واجب لي عليكم من الإيمان لي وقبول دعوتي واتباع سبيلي ، وعلل ذلك بأنه (رَسُولٌ أَمِينٌ) غير ظنين قد ائتمنه الله على وحيه ورسالته (وَأَنْ لا تَعْلُوا) أن هذه مثل الأولى في وجهيها ، أى : لا تستكبروا (عَلَى اللهِ) بالاستهانة برسوله ووحيه. أو لا تستكبروا على نبىّ الله (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) بحجة واضحة (أَنْ تَرْجُمُونِ) أن تقتلون. وقرئ : عت ، بالإدغام. ومعناه أنه عائذ بربه متكل على أنه يعصمه منهم ومن كيدهم ، فهو غير مبال بما كانوا يتوعدونه به من الرجم والقتل (فَاعْتَزِلُونِ) يريد : إن لم تؤمنوا لي فلا موالاة بيني وبين من لا يؤمنوا ، فتنحوا عنى واقطعوا أسباب الوصلة عنى ، أى : فخلوني كفافا لا لي ولا علىّ ، ولا تتعرضوا لي بشركم وأذاكم ، فليس جزاء من دعاكم إلى ما فيه فلاحكم ذلك.

٢٧٤

(فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ)(٢٤)

(أَنَّ هؤُلاءِ) بأن هؤلاء ، أى : دعا ربه بذلك. قيل : كان دعاؤه : اللهم عجل لهم ما يستحقونه بإجرامهم : وقيل هو قوله (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وإنما ذكر الله تعالى السبب الذي استوجبوا به الهلاك ، وهو كونهم مجرمين. وقرئ : إنّ هؤلاء ، بالكسر على إضمار القول ، أى : فدعا ربه فقال : إن هؤلاء (فَأَسْرِ) قرئ بقطع الهمزة من أسرى ، ووصلها من سرى. وفيه وجهان : إضمار القول بعد الفاء ، فقال : أسر بعبادي. وأن يكون جواب شرط محذوف ، كأنه قيل : قال إن كان الأمر كما تقول فأسر (بِعِبادِي) يعنى : فأسر ببني إسرائيل ، فقد دبر الله أن تتقدموا ويتبعكم فرعون وجنوده ، فينجى المتقدمين ويغرق التابعين. الرهو فيه وجهان ، أحدهما : أنه الساكن. قال الأعشى :

يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة

ولا الصدور على الأعجاز تتّكل (١)

أى مشيا ساكنا على هينة. أراد موسى لما جاوز البحر أن يضربه بعصاه فينطبق ، كما ضربه فانفلق ، فأمر بأن يتركه ساكنا على هيئته ، قارّا على حاله : من انتصاب الماء ، وكون الطريق يبسا لا يضربه بعصاه ولا يغير منه شيئا ليدخله القبط ، فإذا حصلوا فيه أطبقه الله عليهم. والثاني :

__________________

(١) يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة

ولا الصدور على الأعجاز تتكل

فهن معترضات والحصى رمض

والريح ساكنة والظل معتدل

يتبعن سامية العينين تحسبها

مجنونة أو ترى ما لا ترى الإبل

تهدى لنا كلما كانت علاوتنا

ريح الخزامى جرى فيها الندى الخضل

للقطافى ، يصف إبلا يمشين مشيا رهوا على هينة وسكينة ، فلا أعجازها خادلة أى تاركة لصدورها متكلة عليها بحيث تضعف من ورائها ، ولا صدورها تتكل على أعجازها بأن تضعف من قدامها ، فأطلق الخذلان والاتكال وأراد لازمهما ، وهو الضعف : مجازا مرسلا. وأصل تتكل توتكل ، فقلبت الواو تاء وأدغمت فيما بعدها ، فهن سائرات في عرض الفلوات. والحال أن الحصى حار من شدة وقع الشمس عليه. ورمض الحصى والرمل رمضا كتعب تعبا : اشتد حره من الشمس ، فأطلق المصدر على اسم الفاعل مبالغة. ويجوز أنه رمض كحذر والريح ساكنة ، فلا نسيم يأتى بالبرودة. أو فلا غبار يضر بالسفر والظل معتدل : كناية عن اشتداد الحر ، لأنه لا يعتدل إلا بتوسط الشمس في كبد السماء يتبعن تلك المطايا ناقة حديدة البصر رافعة طرفها لتبصر أمامها ، تظنها يا من تراها مجنونة. أو رائية شيئا لا تراه بقية الإبل. أو شيئا لا تراه الإبل عادة ، فلذلك استغربته ، تهدى لنا تلك الناقة أو الإبل بمشيها كلما وجد ارتفاعنا في الطريق ريح الخزامى. والعلاوة ـ بالضم ـ : ضد السفالة. وأما بالكسر فهي ما يعلق على البعير بعد حمله. والخزامى : نبت طيب الرائحة. والخضل : الرطب والمبتل والناعم. وضمير فيها عائد على الخزامى. أو على الريح ، لكن هذا يفيد أن السفر كان صباحا.

٢٧٥

أن الرهو الفجوة الواسعة. وعن بعض العرب : أنه رأى جملا فالجا (١) فقال : سبحان الله ، رهو بين سنامين ، أى : اتركه مفتوحا على حاله منفرجا (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) وقرئ بالفتح ، بمعنى : لأنهم.

(كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ)(٢٧)

والمقام الكريم : ما كان لهم من المجالس والمنازل الحسنة. وقيل : المنابر. والنعمة ـ بالفتح ـ من التنعم ، وبالكسر ـ من الإنعام. وقرئ : فاكهين وفكهين.

(كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ)(٢٩)

(كَذلِكَ) الكاف منصوبة على معنى : مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها (وَأَوْرَثْناها) أو في موضع الرفع على الأمر كذلك (قَوْماً آخَرِينَ) ليسوا منهم في شيء من قرابة ولا دين ولا ولاء ، وهم بنو إسرائيل : كانوا متسخرين مستعبدين في أيديهم ، فأهلكهم الله على أيديهم ، وأورثهم ملكهم وديارهم. إذا مات رجل خطير قالت العرب في تعظيم مهلكه : بكت عليه السماء والأرض ، وبكته الريح ، وأظلمت له الشمس. وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض» (٢) وقال جرير :

تبكى عليك نجوم اللّيل والقمرا (٣)

__________________

(١) قوله «أنه رأى جملا فالجا» في الصحاح «الفالج» ؛ الضخم ذو السنامين. (ع)

(٢) أخرجه البيهقي في الشعب في السبعين منه والطبري والثعلبي من حديث شريح بن عبيد الحضرمي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الإسلام بدأ غريبا ، وسيعود غريبا إلا غربة على مؤمن. ما مات مؤمن في غربة غائب عنه فيها بواكيه ـ الحديث»

(٣) نعى النعاة أمير المؤمنين لنا

يا خير من حج بيت الله واعتمرا

حملت أمرا عظيما فاصطبرت له

وقمت فيه بأمر الله يا عمرا

الشمس طالعة ليست بكاسفة

تبكى عليك نجوم الليل والقمرا

لجرير ، يرثى عمر بن عبد العزيز. والنعي : النداء بالموت. وقوله «يا خير» حكاية قول النعاة ، أى : قائلين يا خير ، ويحتمل أنه من كلام الشاعر ، ففيه التفات. والأمر العظيم : الخلافة ومشاقها : شبهها بالمحسوس على طريق المكنية. والتحصيل : تخييل. وأمر الله : شرعه ، أو اكتفى به عن ذكر النهى لدلالته عليه. وعمرا : منادى مندوب ، وألف

٢٧٦

وقالت الخارجية :

أيا شجر الخابور مالك مورقا

كأنّك لم تجزع على ابن طريف (١)

وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه ، وكذلك ما يروى عن ابن عباس رضى الله عنهما : من بكاء مصلى المؤمن ، وآثاره في الأرض ، ومصاعد عمله ، ومهابط رزقه في السماء : تمثيل ، ونفى ذلك عنهم في قوله تعالى (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) فيه تهكم بهم وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده : فيقال فيه : بكت عليه السماء والأرض. وعن الحسن : فما بكى عليهم الملائكة والمؤمنون ، بل كانوا بهلاكهم مسرورين ، يعنى : فما بكى عليهم

__________________

ـ الندبة منعت ضمة وجلبت فتحة. واستعمال «يا» في الندبة مع أن الأصل فيها «وا» لعدم اللبس في النداء بعد ذكر النعي. ويقال : كسفت الشمس كسوفا ، وكسفها الله كسفا ، وبكى على زيد وبكاء ، وباكاء فبكاه ، أى غلبه في البكاء ، كفاخره ففخره إذا غلبه في الفخر ، فكسف ، وبكى : متعديان ولازمان ، وطالعة : خبر الشمس. وليست بكاسفة : خبر ثان. وتبكى عليك : حال أو خبر ثالث. ونجوم الليل : مفعول كاسفة ، أى : لم تكسف الشمس نجوم الليل لانطماسها وقلة ضوئها من كثرة بكائها ، فلا تقدر على منع الكواكب من الظهور. ويحتمل أن نجوم الليل مفعول تبكى. أى : تغلب نجوم الليل في البكاء عليك. وقيل : روايته هكذا وهم ، والرواية : الشمس كاسفة ليست بطالعة : أى لا تطلع أبدا من حينئذ ، فالأوجه أن نجوم الليل مفعول تبكى. وقيل : ظرف له ، أى :

مدة نجوم ... الخ. وقيل «نجوم» مرفوع على الفاعلية ، والقمر : مفعول معه ، ثم إن المراد بهذا حزن جميع المخلوقات عليه ، لا سيما الناس العقلاء.

أيا شجر الخابور مالك مورقا

كأنك لم تجزع على ابن طريف

فتى لا يحب الزاد إلا من التقى

ولا المال إلا من قنا وسيوف

حليف الندى ما عاش يرضى به الندى

فان مات لم يرض الندى بحليف

فقد ناء فقدان الربيع وليتنا

فديناه من ساداتنا بألوف

لليلى بنت طريف ترثى أخاها الوليد. وأيا : حرف نداء. والخابور : موضع كثير الشجر ، نزلت شجرة منزلة العاقل ، فنادته واستفهمته عن سبب إخراجه الورق ، من باب تجاهل العارف ساقت المعلوم مساق المجهول ، واستفهمت عنه لفرط ما بها من الجزع تيقنت أن كل الأشياء جزعت عليه حتى الشجر ، فخاطبته بقولها : كأنك لم تجزع على أخى ، وذكرته بكنيته تعظيما لقدره وتنويها بذكره. ومورقا : حال من كاف الخطاب ، ثم قالت : هو فتى لا يحب أن يتزود إلا من التقى ، ولا يحب المال إلا من الغنائم بالحرب ، فقولها «إلا من قنا وسيوف» : كناية عن ذلك. والقناة : الرماح ، واحده : قناة. حليف الندى : أى ملازم له تلازم المتحالفين على الاجتماع ، فهو استعارة مصرحة ، ثم قالت : يرضى به أى بصحبته الندى : مدة حياته وإن طالت. وهذا ترشيح للاستعارة. وقولها : فان مات «إن» فيه بمعنى إذ ، فهي لمجرد الربط لا للشك ، كما ذهب إليه الكوفيون في نحو قوله تعالى (وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وهذا على أنه كان قد مات كما هو ظاهر قولها فقدناه. ويحتمل أنه كان في مرض الموت ، أى : شارفنا فقده مجازا ، كأنه قد حصل. وشبهته بالربيع في ضمن تشبيه فقدانه فقدان الربيع يجامع عموم نفع كل : مدحته بالتقوى والشجاعة والكرم وعموم النفع والسيادة ، وتنكير ألوف للتكثير ، ويروى : دهمائنا ، بدل سادتا. والدهماء : السواد العظيم. وظاهر التمني يدل أيضا على أنه كان قد مات ، إلا أن يكون المعنى : ليتنا فديناه مما أصابه فأمرضه. وتكرير «حليف» من باب رد العجز على الصدر

٢٧٧

أهل السماء وأهل الأرض (وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) لما جاء وقت هلاكهم لم ينظروا إلى وقت آخر ، ولم يمهلوا إلى الآخرة ، بل عجل لهم في الدنيا.

(وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ)(٣١)

(مِنْ فِرْعَوْنَ) بدل من العذاب المهين ، كأنه في نفسه كان عذابا مهينا ، لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم. ويجوز أن يكون المعنى : من العذاب المهين واقعا من جهة فرعون. وقرئ من عذاب المهين. ووجهه أن يكون تقدير قوله (مِنْ فِرْعَوْنَ) : من عذاب فرعون ، حتى يكون المهين هو فرعون. وفي قراءة ابن عباس : من فرعون ، لما وصف عذاب فرعون بالشدة والفظاعة قال : من فرعون ، على معنى : هل تعرفونه من هو في عتوّه وشيطنته ، ثم عرف حاله في ذلك بقوله (إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) أى كبيرا رفيع الطبقة ، ومن بينهم فائقا لهم ، بليغا في إسرافه. أو عاليا متكبرا ، كقوله تعالى (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ). و (مِنَ الْمُسْرِفِينَ) خبر ثان ، كأنه قيل : إنه كان متكبرا مسرفا.

(وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ)(٣٤)

الضمير في (اخْتَرْناهُمْ) لبنى إسرائيل. و (عَلى عِلْمٍ) في موضع الحال ، أى : عالمين بمكان الخيرة ، وبأنهم أحقاء بأن يختاروا. ويجوز أن يكون المعنى : مع علم منا بأنهم يزيغون ويفرط منهم الفرطات في بعض الأحوال (عَلَى الْعالَمِينَ) على عالمى زمانهم. وقيل : على الناس جميعا لكثرة الأنبياء منهم (مِنَ الْآياتِ) من نحو فلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المنّ والسلوى ، وغير ذلك من الآيات العظام التي لم يظهر الله في غيرهم مثلها (بَلؤُا مُبِينٌ) نعمة ظاهرة ، لأن الله تعالى يبلو بالنعمة كما يبلو بالمصيبة. أو اختبار ظاهر لننظر كيف تعملون ، كقوله تعالى (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ).

(إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٣٦)

٢٧٨

(هؤُلاءِ) إشارة إلى كفار قريش فإن قلت : كان الكلام واقعا في الحياة الثانية (١) لا في الموت (٢) ، فهلا قيل : إن هي إلا حياتنا الأولى وما نحن بمنشرين؟ كما قيل : إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين؟ وما معنى قوله (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى)؟ وما معنى ذكر الأولى؟ كأنهم وعدوا موتة أخرى حتى نفوها وجحدوها وأثبتوا الأولى؟ قلت : معناه ـ والله الموفق للصواب ـ : أنه قيل لهم : إنكم تموتون موتة تتعقبها حياة ، كما تقدّمتكم موتة قد تعقبتها حياة ، وذلك قوله عزّ وجل (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) فقالوا (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) يريدون : ما الموتة التي من شأنها أن يتعقبها حياة إلا الموتة الأولى دون الموتة الثانية ، وما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقب الحياة لها إلا للموتة الأولى خاصة ، فلا فرق إذا بين هذا وبين قوله (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) في المعنى. يقال : أنشر الله الموتى ونشرهم : إذا بعثهم (فَأْتُوا بِآبائِنا) خطاب للذين كانوا يعدونهم النشور : من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، أى : إن صدقتم فيما تقولون فعجلوا لنا إحياء من مات من آبائنا بسؤالكم ربكم ذلك حتى يكون دليلا على أنّ ما تعدونه من قيام الساعة وبعث الموتى حق ، وقيل كانوا يطلبون اليهم أن يدعوا الله وينشر لهم قصىّ بن كلاب ليشاوروه ، فإنه كان كبيرهم ومشاورهم في النوازل ومعاظم الشئون.

(أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ)(٣٧)

هو تبع الحميري : كان مؤمنا وقومه كافرين ، ولذلك ذمّ الله قومه ولم يذمّه ، وهو الذي سار بالجيوش وحير الحيرة وبنى سمرقند. وقيل : هدمها وكان إذا كتب قال : بسم الله الذي ملك برّا وبحرا. وعنى النبي صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم» (٣) وعنه عليه الصلاة

__________________

(١) قوله «واقعا في الحياة الثانية» أى التي ينكرونها. (ع)

(٢) قال محمود : «فان قلت : كان الكلام معهم واقعا في الحياة الثانية لا في الموت ... الخ» قال أحمد : وأظهر من ذلك أنهم لما وعدوا بعد الحياة الدنيا حالتين أخريين : الأولى منهما الموت ، والأخرى حياة البعث : أثبتوا الحالة الأولى وهي الموت ، ونفوا ما بعدها ، وسموها أولى مع أنهم اعتقدوا أن لا شيء بعدها ، لأنهم نزلوا جحدهم على الإثبات فجعلوها أولى على ما ذكرت لهم ، وهذا أولى من حمل الموتة الأولى على السابقة على الحياة الدنيا لوجهين ، أحدهما : أن الاقتصار عليها لا يعتقدونه ، لأنهم يثبتون الموت الذي يعقب حياة الدنيا ، وحمل الحصر المباشر للموت في كلامهم على صفة لم تذكر لا على نفس الموت المشاهد لهم : فيه عدول عن الظاهر بلا حاجة. الثاني : أن الموت السابق على الحياة الدنيا لا يعبر عنه بالموتة ، فان الموتة فعلة فيها إشعار بالتجدد والطريان. والموت السابق على الحياة الدنيا أمر مستصحب لم تتقدمه حياة طرأ عليها هذا ، مع أن في بقية السورة قوله تعالى (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) وإنما عنى ب (الْمَوْتَةَ الْأُولى) هنا : الموت المتعقب للحياة الدنيا فقط ، ففيه إرشاد لما ذكرته ، والله أعلم.

(٣) أخرجه أحمد والطبراني والطبري وابن أبى حاتم من حديث سهل بن سعد وفيه ابن لهيعة عن عمرو بن جابر. وهما ضعيفان. وروى حبيب عن مالك عن أبى حازم عن سهل مثله قال الدارقطني : تفرد به حبيب وهو

٢٧٩

والسلام «ما أدرى أكان تبع نبيا أو غير (١) نبى» وعن ابن عباس رضى الله عنهما : كان نبيا. وقيل : نظر إلى قبرين بناحية حمير قال : هذا قبر رضوى وقبر حبى بنت تبع لا تشركان بالله شيئا. وقيل : هو الذي كسا البيت. وقيل لملوك اليمن : التبابعة ، لأنهم يتبعون ، كما قيل : الأقيال ، لأنهم يتقيلون (٢). وسمى الظل «تبعا» لأنه يتبع الشمس. فإن قلت : ما معنى قوله تعالى (أَهُمْ خَيْرٌ) ولا خير في الفريقين؟ قلت : معناه أهم خير في القوّة والمنعة ، كقوله تعالى (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) بعد ذكر آل فرعون. وفي تفسير ابن عباس رضى الله عنهما : أهم أشدّ أم قوم تبع.

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(٤٢)

(وَما بَيْنَهُما) وما بين الجنسين. وقرأ عبيد بن عمير : وما بينهن. وقرأ : ميقاتهم بالنصب على أنه اسم إن ، ويوم الفصل : خبرها ، أى : إنّ ميعاد حسابهم وجزائهم في يوم الفصل (لا يُغْنِي مَوْلًى) أىّ مولى كان من قرابة أو غيرها (عَنْ مَوْلًى) عن أى مولى كان (شَيْئاً) من إغناء ، أى : قليلا منه (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) الضمير للموالي ، لأنهم في المعنى كثير ، لتناول اللفظ على الإبهام والشياع كل مولى (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) في محل الرفع على البدل من الواو في (يُنْصَرُونَ) أى : لا لا يمنع من العذاب إلا من رحمه الله. ويجوز أن ينتصب على الاستثناء (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) لا ينصر منه من عصاه (الرَّحِيمُ) لمن أطاعه.

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ)(٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ

__________________

ـ متروك. وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الطبراني في معجمه وابن مردويه قال محمد بن زكريا. عن أبى حذيفة عن سفيان.

(١) أخرجه الثعلبي من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبى ذئب عن المقبري عن أبى هريرة بهذا.

والمعروف بهذا الاسناد «ما أدرى العيني هو أم لا ، وما أدرى أعزير نبى أم لا» أخرجه أبو داود. وكذا الحاكم لكن قال : ذو القرنين بدل «عزير» قال الدارقطني تفرد به عبد الرزاق وغيره أرسله.

(٢) قوله «لأنهم يتقيلون» في الصحاح : تقيل شرب نصف النهار ، وتقيل فلان أباه : تبعه. (ع)

٢٨٠