الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

الباعث ، إن هذا هو البعث الأكبر ذو الأهوال والأفزاع ، وهو الذي وعده الله في كتبه المنزلة على ألسنة رسله الصادقين.

(إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ)(٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ)(٥٨)

(إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) قرئت منصوبة ومرفوعة (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ... إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ) (١) حكاية ما يقال لهم في ذلك اليوم. وفي مثل هذه الحكاية زيادة تصوير للموعود ، وتمكين له في النفوس ، وترغيب في الحرص عليه وعلى ما يثمره (فِي شُغُلٍ) في أى شغل وفي شغل لا يوصف ، وما ظنك بشغل من سعد بدخول الجنة التي هي دار المتقين ، ووصل إلى نيل تلك الغبطة وذلك الملك الكبير والنعيم المقيم ، ووقع في تلك الملاذ التي أعدّها الله للمرتضين من عباده ، ثوابا لهم على أعمالهم مع كرامة وتعظيم ، وذلك بعد الوله والصبابة ، والتفصي من مشاق التكليف ومضايق التقوى والخشية ، وتخطى الأهوال ، وتجاوز الأخطار وجواز الصراط. ومعاينة ما لقى العصاة من العذاب ، وعن ابن عباس : في افتضاض الأبكار. وعنه : في ضرب الأوتار. وعن ابن كيسان : في التزاور. وقيل : في ضيافة الله. وعن الحسن : شغلهم عما فيه أهل النار التنعم بما هم فيه. وعن الكلبي : هم في شغل عن أهاليهم من أهل النار ، لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم : لئلا يدخل عليهم تنغيص في نعيمهم. قرئ : في شغل ، بضمتين وضمة وسكون ، وفتحتين ، وفتحة وسكون. والفاكه والفكه : المتنعم والمتلذذ : ومنه الفاكهة ، لأنها مما يتلذذ به. وكذلك الفكاهة ، وهي المزاحة. وقرئ فاكهون ، وفكهون ، بكسر الكاف وضمها ، كقولهم : رجل حدث وحدث (٢) ، ونطس ونطس. وقرئ : فاكهين وفكهين ،

__________________

(١) قال أحمد : هذا مما التنكير فيه للتفخيم ، كأنه قيل : في شغل أى شغل ، وكذا قوله تعالى : سلام قولا من رب رحيم.

(٢) قوله «كقولهم رجل حدث وحدث» أى حسن الحديث ، والنطس البالغ في التطهر والمدقق في العلم. أفاده الصحاح. (ع)

٢١

على أنه حال والظرف مستقر (هُمْ) يحتمل أن يكون مبتدأ وأن يكون تأكيدا للضمير في (فِي شُغُلٍ) وفي (فاكِهُونَ) على أنّ أزواجهم يشاركنهم في ذلك الشغل والتفكه والاتكاء على الأرائك تحت الظلال. وقرئ : في ظلل ، والأريكة : السرير في الحجلة (١). وقيل : الفراش فيها. وقرأ ابن مسعود : متكين (يَدَّعُونَ) يفتعلون من الدعاء ، أى : يدعون به لأنفسهم ، كقولك : اشتوى واجتمل ، إذا شوى (٢) وجمل لنفسه. قال لبيد :

فاشتوى ليلة ريح واجتمل (٣)

ويجوز أن يكون بمعنى يتداعونه ، كقولك : ارتموه ، وتراموه. وقيل : يتمنون ، من قولهم : ادّع علىّ ما شئت ، بمعنى تمنه علىّ ، وفلان في خير ما ادّعى ، أى في خير ما تمنى. قال الزجاج : وهو من الدعاء ، أى : ما يدعو به أهل الجنة يأتيهم. و (سَلامٌ) بدل مما يدعون ، كأنه قال لهم : سلام يقال لهم (قَوْلاً مِنْ) جهة (رَبٍّ رَحِيمٍ) والمعنى : أنّ الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة ، أو بغير واسطة ، مبالغة في تعظيمهم وذلك متمناهم ، ولهم ذلك لا يمنعونه. قال ابن عباس : فالملائكة يدخلون عليهم بالتحية من رب العالمين. وقيل : (ما يَدَّعُونَ) ، مبتدأ وخبره سلام ، بمعنى : ولهم ما يدعون سالم خالص لا شوب فيه. و (قَوْلاً) مصدر مؤكد لقوله تعالى (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ سَلامٌ) أى : عدة من رب رحيم. والأوجه : أن ينتصب على الاختصاص ، وهو من مجازه. وقرئ : سلم ، وهو بمعنى السلام في المعنيين. وعن ابن مسعود : سلاما نصب على الحال ، أى لهم مرادهم خالصا.

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ)(٥٩)

(وَامْتازُوا) وانفردوا عن المؤمنين ، وكونوا على حدة ، وذلك حين يحشر المؤمنون ويسار بهم إلى الجنة. ونحوه قوله تعالى (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا

__________________

(١) قوله «السرير في الحجلة» هي بيت العروس يزين بالثياب والستور ، كذا في الصحاح. (ع)

(٢) قوله و «اجتمل إذا شوى» في الصحاح : جملت الشحم أجمله جملا ، واجتملته : إذا أذبته. (ع)

(٣) وغلام أرسلته أمه

بألوك فبذلنا ما سأل

أرسلته فأتاه رزقه

فاشتوى ليلة ريح واحتمل

للبيد بن ربيعة. والألوك : الرسالة ، أى : ورب غلام أرسلته أمه إلينا برسالة وهي هنا السؤال ، فبذلنا ما سأله من الطعام عقب سؤاله ، وبين ذلك بقوله : أرسلته فأتاه رزقه ، وفيه دلالة على أنه لم يكن عندهم طعام حين أتاهم العلام ، أى : فأتاه رزقه من الصيد ، فاشتوى لنفسه من اللحم في ليلة ريح مظلمة يقل فيها الجود ، واحتمل : أى حمل كثيرا منه بنفسه لنفسه ، ولأمه التي أرسلته. ويروى : اجتمل ، بالجيم : وفي الصحاح : جملت الشحم واجتملته إذا أذبته ، وهذه الروآية أنسب وأفيد.

٢٢

وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ...) الآية يقال : مازه فانماز وامتاز. وعن قتادة : اعتزلوا عن كل خير. وعن الضحاك : لكل كافر بيت من النار يكون فيه ، لا يرى ولا يرى. ومعناه : أنّ بعضهم يمتاز من بعض.

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)(٦١)

العهد : الوصية ، وعهد إليه : إذا وصاه. وعهد الله إليهم : ما ركزه فيهم من أدلة العقل وأنزل عليهم من دلائل السمع. وعبادة الشيطان : طاعته فيما يوسوس به إليهم ويزينه لهم. وقرئ : اعهد ، بكسر الهمزة. وباب «فعل» كله يجوز في حروف مضارعته الكسر (١) ، إلا في الياء. وأعهد ، بكسر الهاء. وقد جوز الزجاج أن يكون من باب نعم ينعم وضرب يضرب. وأحهد : بالحاء. وأحد : وهي لغة تميم. ومنه قولهم : دحا محا (٢) (هذا) إشارة إلى ما عهد إليهم من معصية الشيطان وطاعة الرحمن ، إذا لا صراط أقوم منه ، ونحو التنكير فيه ما في قول كثير :

لئن كان يهدى برد أنيابها العلا

لأفقر منى إنّنى لفقير (٣)

أراد : إننى لفقير بليغ الفقر ، حقيق بأن أوصف به لكمال شرائطه فىّ ، وإلا لم يستقم معنى البيت ، وكذلك قوله (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) يريد : صراط بليغ في بابه ، بليغ في استقامته ، جامع لكل شرط يجب أن يكون عليه. ويجوز أن يراد : هذا بعض الصراط المستقيمة ،

__________________

(١) قوله «في حروف مضارعته الكسر» لعله مضارعه. (ع)

(٢) قوله «ومنه قولهم دحا محا» أى : دعها معها. (ع)

(٣) دعوت إلهى دعوة ما جهلتها

وربى بما تخفى الصدور بصير

لئن كان يهدى برد أنيابها العلا

لأفقر منى إننى لفقير

فما أكثر الأخبار أن قد تزوجت

فهل يأتينى بالطلاق بشير

لكثير عزة. وقيل : لمجنون ليلى. وقوله «ما جهلتها» معناه : أنها عن قصد وحضور قلب. وقوله : لئن كان يهدى ، بيان للدعوة ، وما بينهما اعتراض للتأكيد وإفادة أن الدعوة كانت في السر ، أى : لئن كان يعطى برد أسنانها العليا ، خصها لأنها التي تبدو كثيرا. وقيل : العلا الشريفة ، لأحوج منى إننى لبليغ في الفقر فأنا أحق بها من كل محتاج ، لأنى أحوج الناس إليها. ويجوز أن يرد أنيابها : كناية عن ذاتها كلها ، وإننى لفقير : خبر بمعنى الإنشاء مجازا مرسلا ، لأن إظهار شدة الاحتياج يلزمه الطلب. ويجوز أنه كناية عنه وهو جواب القسم المدلول عليه باللام ، وجواب الشرط محذوف وجوبا لدلالة المذكور عليه ، وما تعجبية ، وأكثر فعل تعجب ، والأخبار مفعوله ، وأن مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن ، وهي على تقدير حرف الجر ، أى : أتعجب من كثرة الأخبار المخبرة بزواجها ، وهل استفهام بمعنى التمني أو التعجب مجازا مرسلا لعلاقة مطلق الطلب ، أى : أتمني ذلك أو أتعجب من عدمه.

٢٣

توبيخا لهم على العدول عنه ، والتفادى عن سلوكه ، كما يتفادى الناس عن الطريق المعوج الذي يؤدى إلى الضلالة والتهلكة ، كأنه قيل : أقل أحوال الطريق الذي هو أقوم الطرق : أن يعتقد فيه كما يعتقد في الطريق الذي لا يضل السالك ، كما بقول الرجل لولده وقد نصحه النصح البالغ الذي ليس بعده : هذا فيما أظنّ قول نافع غير ضار ، توبيخا له على الإعراض عن نصائحه.

(وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ)(٦٤)

قرئ : جبلا ، بضمتين ، وضمة وسكون ، وضمتين وتشديدة ، وكسرتين ، وكسرة وسكون ، وكسرتين وتشديدة. وهذه اللغات في معنى الخلق. وقرئ : جبلا ، جمع جبلة ، كفطر وخلق. وفي قراءة على رضى الله عنه : جيلا واحدا ، لا أجيال.

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ)(٦٦)

يروى أنهم يجحدون ويخاصمون ، فتشهد عليهم جيرانهم وأهاليهم وعشائرهم ، فيحلفون ما كانوا مشركين ، فحينئذ يختم على أفواههم وتكلم أيديهم وأرجلهم. وفي الحديث : (١) «يقول العبد يوم القيامة : إنى لا أجيز علىّ شاهدا إلا من نفسي ، فيختم على فيه ، ويقال لأركانه : انطقى فتنطق بأعماله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول : بعدا لكنّ وسحقا. فعنكن كنت أناضل» (٢) وقرئ : يختم على أفواههم ، وتتكلم أيديهم. وقرئ : ولتكلمنا أيديهم وتشهد ، بلام كى والنصب على معنى : ولذلك تختم على أفواههم : وقرئ : ولتكلمنا أيديهم ولتشهد ، بلام الأمر والجزم على أنّ الله يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة.

(وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ)(٦٧)

الطمس : تعفية شق العين حتى تعود ممسوحة (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) لا يخلو من أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل. والأصل : فاستبقوا إلى الصراط. أو يضمن معنى ابتدروا.

__________________

(١) أخرجه مسلم والنسائي من طريق الشعبي عن أنس ، ووهم الحاكم فاستدركه ،

(٢) قوله «كنت أناضل» أى أجادل. (ع)

٢٤

أو يجعل الصراط مسبوقا لا مسبوقا إليه. أو ينتصب على الظرف. والمعنى : أنه لو شاء لمسح أعينهم ، فلو راموا أن يستبقوا إلى الطريق المهيع (١) الذي اعتادوا سلوكه إلى مساكنهم وإلى مقاصدهم المألوفة التي تردّدوا إليها كثيرا ـ كما كانوا يستبقون إليه ساعين في متصرفاتهم موضعين (٢) في أمور دنياهم ـ لم يقدروا ، وتعايى عليهم أن يبصروا ويعلموا جهة السلوك فضلا عن غيره. أو لو شاء لأعماهم ، فلو أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف ـ كما كان ذلك هجيراهم ـ لم يستطيعوا. أو لو شاء لأعماهم ، فلو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوا المشي فيه لعجزوا ولم يعرفوا طريقا ، يعنى أنهم لا يقدرون إلا على سلوك الطريق المعتاد دون ما وراءه من سائر الطرق والمسالك ، كما ترى العميان يهتدون فيما ألفوا وضروا (٣) به من المقاصد دون غيرها (عَلى مَكانَتِهِمْ) وقرئ ، على مكاناتهم. والمكانة والمكان واحد ، كالمقامة والمقام. أى : لمسخناهم مسخا يجمدهم مكانهم لا يقدرون أن يبرحوه بإقبال ولا إدبار ولا مضىّ ولا رجوع واختلف في المسخ ، فعن ابن عباس : لمسخناهم قردة وخنازير. وقيل : حجارة. وعن قتادة : لأقعدناهم على أرجلهم وأزمناهم. وقرئ : مضيا بالحركات الثلاث ، فالمضىّ والمضي كالعتىّ والعتي. والمضىّ كالصبىّ.

(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ)(٦٨)

(نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) نقلبه فيه فنخلقه على عكس ما خلقناه من قبل ، وذلك أنا خلقناه على ضعف في جسده ، وخلو من عقل وعلم ، ثم جعلناه يتزايد وينتقل من حال إلى حال ويرتقى من درجة إلى درجة ، إلى أن يبلغ أشده ويستكمل قوته ، ويعقل ويعلم ما له وما عليه ، فإذا انتهى نكسناه في الخلق فجعلناه يتناقص ، حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبىّ في ضعف جسده وقلة عقله وخلوّه من العلم ، كما ينكس السهم فيجعل أعلاه أسفله. قال عزّ وجلّ (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) ، (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) وهذه دلالة على أنّ من ينقلهم من الشباب إلى الهرم ومن القوّة إلى الضعف ومن رجاحة العقل إلى الخرف وقلة التمييز ومن العلم إلى الجهل بعد ما نقلهم خلاف هذا النقل وعكسه ـ قادر على أن يطمس على

__________________

(١) قوله «إلى الطريق المهيع» الهيوع : الجبن ، والهيعة : الذوبان والسيلان وكل ما أفزعك من صوت ، كذا في الصحاح. ولعل المراد الذي سهله كثرة سلوكه. (ع)

(٢) قوله «موضعين» في الصحاح : وضع البعير وغيره : أسرع من سيره وأوضعه راكبه. (ع)

(٣) قوله «وضروا به» أى : مرنوا. (ع)

٢٥

أعينهم ويمسخهم على مكانتهم ويفعل بهم ما شاء وأراد : وقرئ بكسر الكاف (١). وننكسه وننكسه ، من التنكيس والإنكاس (أَفَلا يَعْقِلُونَ) بالياء والتاء.

(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ)(٧٠)

كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : شاعر ، وروى أنّ القائل : عقبة بن أبى معيط ، فقيل (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) أى : وما علمناه بتعليم القرآن الشعر ، على معنى : أن القرآن ليس بشعر وما هو من الشعر في شيء. وأين هو عن الشعر ، والشعر إنما هو كلام موزون مقفى ، يدل على معنى ، فأين الوزن؟ وأين التقفية؟ وأين المعاني التي ينتحيها الشعراء عن معانيه؟ وأين نظم كلامهم من نظمه وأساليبه؟ فإذا لا مناسبة بينه وبين الشعر إذا حققت ، اللهمّ إلا أنّ هذا لفظه عربى ، كما أنّ ذاك كذلك (وَما يَنْبَغِي لَهُ) وما يصح له ولا يتطلب لو طلبه ، أى : جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأت له ولم يتسهل ، كما جعلناه أمّيا لا يتهدّى للخط ولا يحسنه ، لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض. وعن الخليل : كان الشعر أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام ، ولكن كان لا يتأتى له. فإن قلت : فقوله :

أنا النّبي لا كذب

أنا ابن عبد المطّلب (٢)

وقوله : (٣)

هل أنت إلّا أصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت (٤)

__________________

(١) قوله «وقرئ بكسر الكاف» يفيد أن القراءة المشهورة بضم الكاف ، وهما من النكس. (ع)

(٢) متفق عليه من حديث البراء بن عازب في حديث.

(٣) متفق عليه من حديث جندب بن سفيان في حديث.

(٤) هل أنت إلا أصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت

يا نفس لا تقنطى بموتى

هذى حياض الموت قد صليت

وما تمنيت فقد لقيت

إن تفعلي فعلهما هديت

لعبد الله بن رواحة حين حمل اللواء بعد قتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبى طالب فأصيبت أصبعه في الحرب فدميت وروى البخاري عن جندب أنه قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم يمشى إذ أصابه حجر ، فعثر ، فدميت أصبعه فقال «هل أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت» فأفاد أنه صلى الله عليه وسلم يتمثل بشعر غيره ، وهو بكسر التاء على وفق القافية ، وقال الكرماني : التاء في الرجز مكسورة ، وفي الحديث ساكنة. وقال عياض غفل بعض الناس فروى : دميت : ولقيت ، بغير مد وخالف الرواية. وروى أحمد والطيالسي أنه صلى الله عليه وسلم قاله حين كان خارجا إلى الصلاة ، ودميت : صفة أصبع ، والمعنى : لم يحصل لك شيء من الأذى إلا أنك دميت ولم يكن ذلك هدرا بل كان في سبيل الله ومرضاته لا غير ، أى : الذي لقيته من الأذى في سبيل الله ، فلا تحزني ، ـ

٢٦

قلت : ما هو إلا كلام من جنس كلامه الذي كان يرمى به على السليقة ، من غير صنعة ولا تكلف ، إلا أنه اتفق ذلك من غير قصد إلى ذلك ولا التفات منه إليه إن جاء موزونا ، كما يتفق في كثير من إنشاءات الناس في خطبهم ورسائلهم ومحاوراتهم أشياء موزونة لا يسميها أحد شعرا ولا يخطر ببال المتكلم ولا السامع أنها شعر ، وإذا فتشت في كل كلام عن نحو ذلك وجدت الواقع في أوزان البحور غير عزيز ، على أن الخليل ما كان يعدّ المشطور من الرجز شعرا ، ولما نفى أن يكون القرآن من جنس الشعر قال (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) يعنى : ما هو إلا ذكر من الله تعالى يوعظ به الإنس والجنّ ، كما قال (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) وما هو إلا قرآن كتاب سماوي ، يقرأ في المحاريب ، ويتلى في المتعبدات ، وينال بتلاوته والعمل بما فيه فوز الدارين ، فكم بينه وبين الشعر الذي هو من همزات الشياطين؟ (لِيُنْذِرَ) القرآن أو الرسول وقرئ : لتنذر ، بالتاء. ولينذر : من نذر به إذا علمه (مَنْ كانَ حَيًّا) أى عاقلا متأملا ، لأن الغافل كالميت. أو معلوما منه أنه يؤمن فيحيا بالإيمان (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ) وتجب كلمة العذاب (عَلَى الْكافِرِينَ) الذين لا يتأمّلون ولا يتوقع منهم الإيمان.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ)(٧٣)

(مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) مما تولينا نحن إحداثه ولم يقدر على توليه غيرنا ، وإنما قال ذلك لبائع الفطرة والحكمة فيها ، التي لا يصح أن يقدر عليها إلا هو. وعمل الأيدى : استعارة من عمل من يعملون بالأيدى (فَهُمْ لَها مالِكُونَ) أى خلقناها لأجلهم فملكناها إياهم ، فهم متصرفون فيها تصرف الملاك ، مختصون بالانتفاع فيها لا يزاحمون. أو فهم لها ضابطون قاهرون ، من قوله :

__________________

ـ ونزلها منزلة العاقل فخاطبها بذلك تسلية وتثبيتا لها ، وهو في الحقيقة لنفسه «ثم صرح بخطاب النفس مثبتا لها. بقوله إن لم تقتلي في الحرب فلا بد لك من الموت وهذه حياضه فلا تفرى منها لأن الوقوع في البلاء أهون من انتظاره وشبه الموت بسيل على سبيل المكنية ، فأثبت له الحياض تخييلا ، وشبهه بالنار كذلك ، فأثبت له الصلى وهو اقتحام النار ، ولا مانع من تشبيه الشيء بأمرين مختفين مع الرمز لكل منهما بما يلائمه ، ويجوز استعارة الحياض للمعرفة تصريحا ، والذي تمنيته من الحرب المؤدى إلى الشهادة فقد لقيته ، إن تفعلي كفعل زيد وجعفر ، هديت إلى طريق الخير.

٢٧

أصبحت لا أحمل السلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا (١)

أى لا أضبطه ، وهو من جملة النعم الظاهرة ، وإلا فمن كان يقدر عليها لو لا تذليله وتسخيره لها ، كما قال القائل :

يصرفه الصّبى بكل وجه

ويحبسه على الخسف الجرير

وتضربه الوليدة بالهراوى

فلا غير لديه ولا نكير (٢)

ولهذا ألزم الله سبحانه الراكب أن يشكر هذه النعمة ويسبح بقوله : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. وقرئ : ركوبهم. وركوبتهم. وهما ما يركب ، كالحلوب والحلوبة. وقيل : الركوبة جمع. وقرئ : ركوبهم ، أى ذو ركوبهم. أو فمن منافعها ركوبهم (مَنافِعُ) من الجلود والأوبار والأصواف وغير ذلك (وَمَشارِبُ) من اللبن ، ذكرها مجملة ، وقد فصلها في قوله تعالى (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً ...) الآية والمشارب : جمع مشرب وهو موضع الشرب ، أو الشرب

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ

__________________

(١) أصبح متى الشباب مبتكرا

إن ينأ عنى فقد ثوى عصرا

فارقنا قبل أن نفارقه

لما قضى من جماعنا وطرا

أصبحت لا أملك السلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا

والذئب أخشاه إن مررت به

وحدي وأخشى الرياح والمطرا

للربيع بن منيع ، قاله حين بلغ مائة وأربعين عاما ، عاش بعده مائة وستين. والمبتكر : المسافر أول النهار ، فهو تشبيه بليغ ، ثم تسلى بقوله : إن ينأ ، أى بعد عنى فقد أقام عندي أزمنة طويلة فارقنا ، أى : ذهب عنا قبل أن نموت ، فقوله «نفارقه» مجاز عن ذلك ، أو كناية عنه ، أو مجاز عن البغض ، والجماع : معناه الاجتماع والمصاحبة ، والوطر : الحاجة ، وهذا كله ترشيح للتشبيه أول الكلام ، ولا يخفى ما في البيت من إبهام ما كان ينبغي الاحتراس منه ، فان قضاء الوطر من الجماع اشتهر استعماله في مقام الوطء ، ثم قال : صرت لا أضبط السلاح بيدي ولا رأس البعير إن ندمنى ولا أقدر عليهما. ويروى : لا أحمل السلاح ، أى : لا أقدر على حمله ، وأخشاه : أى أخافه ، إن مررت به وحدي وأخاف الرياح والمطر ولو مع غيرى ، وكل هذا كناية عن بلوغه غاية الضعف والهرم.

(٢) لقد عظم البعير بغير لب

فلم يستغن بالعظم البعير

يصرفه الصبى بكل وجه

ويحبسه على الخسف الجرير

وتضربه الوليدة بالهراوى

فلا غير لديه ولا نكير

لكثير عزة حين رآه عبد الملك بن مروان قصيرا حقيرا ، فقال : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. وقيل : للعباس ابن مرداس. وقيل : لمعاوية بن مالك الكلابي ، وعظم : ضخم وطال. واللب : العقل ، وأتى بالظاهر موضع المضمر للتهويل في الطول والجسامة ، بكل وجه : في كل جهة. والخسف : الذل. والجرير : حبل غير الزمام يربط به. والهراوى : جمع هراوة وهي العصا ، وجمعها دلالة على كثرة الضرب. والغير ـ بالتحريك ـ الغيرة. والنكير : الإنكار ، يعنى أن العبرة بالألباب والعقول ، لا بالغلظ والطول.

٢٨

وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)(٧٦)

اتخذوا الآلهة طمعا في أن يتقوّوا بهم ويعتضدوا بمكانهم ، والأمر على عكس ما قدّروا ، حيث هم جند لآلهتهم معدّون (مُحْضَرُونَ) يخدمونهم ويذبون عنهم ، ويغضبون لهم ، والآلهة لا استطاعة بهم ولا قدرة على النصر ، أو اتخذوهم لينصروهم عند الله ويشفعوا لهم ، والأمر على خلاف ما توهموا ، حيث هم يوم القيامة جند معدّون لهم محضرون لعذابهم ، لأنهم يجعلون وقودا للنار. وقرئ : فلا يحزنك ، بفتح الياء وضمها ، من حزنه وأحزنه. والمعنى : فلا يهمنك تكذيبهم وأذاهم وجفاؤهم ، فإنا عالمون بما يسرون لك من عداوتهم (وَما يُعْلِنُونَ) وإنا مجازوهم عليه ، فحق مثلك أن يتسلى بهذا الوعيد ويستحضر في نفسه صورة حاله وحالهم في الآخرة حتى ينقشع عنه الهمّ ولا يرهقه الحزن. فإن قلت : ما تقول فيمن يقول : إن قرأ قارئ : أنا نعلم ، بالفتح : انتقضت صلاته ، وإن اعتقد ما يعطيه من المعنى : كفر؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون على حذف لام التعليل ، وهو كثير في القرآن وفي الشعر ، وفي كل كلام وقياس مطرد ، وهذا معناه ومعنى الكسر سواء ، وعليه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ الحمد والنعمة (١) لك ، كسر أبو حنيفة وفتح الشافعي ، وكلاهما تعليل. والثاني : أن يكون بدلا من (قَوْلُهُمْ) كأنه قيل : فلا يحزنك ، إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون. وهذا المعنى قائم مع المكسورة إذا جعلتها مفعولة للقول ، فقد تبين أن تعلق الحزن بكون الله عالما وعدم تعلقه لا يدوران على كسر إن وفتحها ، وإنما يدوران على تقديرك ، فتفصل إن فتحت بأن تقدّر معنى التعليل ولا تقدّر البدل ، كما أنك تفصل بتقدير معنى التعليل إذا كسرت ولا تقدّر معنى المفعولية ، ثم إن قدّرته كاسرا أو فاتحا على ما عظم فيه الخطب ذلك القائل ، فما فيه إلا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن على كون الله عالما بسرهم وعلانيتهم ، وليس النهى عن ذلك مما يوجب شيئا. ألا ترى إلى قوله تعالى (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) ، (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ)

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ

__________________

(١) متفق عليه من حديث ابن عمر في أثناء حديث.

٢٩

مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٨٣)

قبح الله عزّ وجل إنكارهم البعث تقبيحا لا ترى أعجب منه وأبلغ ، وأدل على تمادى كفر الإنسان وإفراطه في جحود النعم وعقوق الأيادى ، وتوغله في الخسة وتغلغله في القحة (١) ، حيث قرره بأن عنصره الذي خلقه منه هو أخسّ شيء وأمهنه ، وهو النطفة المذرة الخارجة من الإحليل الذي هو قناة النجاسة ، ثم عجب من حاله بأن يتصدّى مثله على مهانة أصله ودناءة أوّله لمخاصمة الجبار ، وشرز صفحته (٢) لمجادلته ، ويركب متن الباطل ويلج ، ويمحك ويقول : من يقدر على إحياء الميت بعد ما رمت عظامه ، ثم يكون خصامه في ألزم وصف له وألصقه به ، وهو كونه منشأ من موات ، وهو ينكر إنشاءه من موات ، وهي المكابرة التي لا مطمح وراءها ، وروى أن جماعة من كفار قريش منهم أبىّ بن خلف الجمحي وأبو جهل والعاصي بزوائل والوليد ابن المغيرة تكلموا في ذلك ، فقال لهم أبىّ : ألا ترون إلى ما يقول محمد ، إنّ الله يبعث الأموات ، ثم قال : واللات والعزى لأصيرنّ إليه ولأخصمنه ، وأخذ عظما باليا فجعل يفته بيده وهو يقول : يا محمد ، أترى الله يحيى هذا بعد ما قد رمّ ، قال صلى الله عليه وسلم : نعم ويبعثك ويدخلك جهنم (٣) وقيل : معنى قوله (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) فإذا هو بعد ما كان ماء مهينا رجل مميز منطبق قادر على الخصام ، مبين : معرب عما في نفسه فصيح ، كما قال تعالى (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ). فإن قلت : لم سمى قوله (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) مثلا؟ قلت : لما دل عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل ، وهي إنكار قدرة الله تعالى على إحياء الموتى. أو لما فيه من التشبيه ، لأن ما أنكر من قبيل ما يوصف الله بالقدرة عليه ، بدليل النشأة الأولى ، فإذا قيل :

__________________

(١) قوله «وتغلغله في القحة» في الصحاح : وقح الرجل قحة ووقاحة ، إذا صار قليل الحياء. (ع)

(٢) قوله «وشرز صفحته ... الخ» في الصحاح «الشرز» الشرس ، وهو الغلظ. والمحك : اللجاج. (ع)

(٣) هكذا ذكره الحلبي عن قتادة بغير سند ، وأخرجه الحاكم من رواية أبى بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس «أن العاص بن وائل أخذ عظما من البطحاء ، ففتته بيده ، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أيحيي الله هذا بعد ما رم؟ فقال : نعم ، يميتك الله ـ الحديث» وروى البيهقي في الشعب من طريق حصين عن أبى مالك. قال : جاء أبى بن خلف بعظم نخر ـ الحديث» وروى ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس قال : «جاء أبو جهل بعظم حائل».

٣٠

من يحيى العظام على طريق الإنكار لأن يكون ذلك مما يوصف الله تعالى بكونه قادرا عليه ، كان تعجيزا لله وتشبيها له بخلقه في أنهم غير موصوفين بالقدرة عليه. والرميم : اسم لما بلى من العظام غير صفة ، كالرمة والرفات ، فلا يقال : لم لم يؤنث وقد وقع خبر المؤنث؟ ولا هو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول ، ولقد استشهد بهذه الآية من يثبت الحياة في العظام ويقول : إن عظام الميتة نجسة لأنّ الموت يؤثر فيها من قبل أن الحياة تحلها. وأما أصحاب أبى حنيفة فهي عندهم طاهرة ، وكذلك الشعب والعصب ، ويزعمون أنّ الحياة لا تحلها فلا يؤثر فيها الموت ، ويقولون : المراد بإحياء العظام في الآية ردّها إلى ما كانت عليه غضة رطبة في بدن حىّ حساس (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) يعلم كيف يخلق ، لا يتعاظمه شيء من خلق المنشآت والمعادات ومن أجناسها وأنواعها وجلائلها ودقائقها. ثم ذكر من بدائع خلقه انقداح النار من الشجر الأخضر ، مع مضادة النار الماء وانطفائها به وهي الزناد التي تورى بها الأعراض وأكثرها من المرخ والعفار ، وفي أمثالهم : في كل شجر نار. واستمجد المرخ والعفار ، يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان ، يقطر منهما الماء فيسحق المرخ وهو ذكر ، على العفار وهي أنثى فتنقدح النار بإذن الله. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : ليس من شجرة إلا وفيها النار إلا العناب (١). قالوا : ولذلك تتخذ منه كذينقات القصارين. قرئ : الأخضر ، على اللفظ. وقرئ : الخضراء ، على المعنى. ونحوه قوله تعالى (مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) من قدر على خلق السماوات والأرض مع عظم شأنهما فهو على خلق الأناسى أقدر ، وفي معناه قوله تعالى (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) وقرئ : يقدر ، وقوله (أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) يحتمل معنيين : أن يخلق مثلهم في الصغر والقماءة (٢) بالإضافة إلى السماوات والأرض أو أن يعيدهم ، لأن المعاد مثل للمبتدإ وليس به (وَهُوَ الْخَلَّاقُ) الكثير المخلوقات (الْعَلِيمُ) الكثير المعلومات. وقرئ : الخالق (إِنَّما أَمْرُهُ) إنما شأنه (إِذا أَرادَ شَيْئاً) إذا دعاه داعى حكمة إلى تكوينه ولا صارف (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ) أن يكونه من غير توقف (فَيَكُونُ) فيحدث ، أى : فهو كائن موجود لا محالة. فإن قلت : ما حقيقة قوله (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)؟ قلت : هو مجاز من الكلام وتمثيل ، لأنه لا يمتنع عليه شيء من المكونات ، وأنه بمنزلة المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع. فإن قلت : فما وجه القراءتين في فيكون؟ قلت : أما الرفع فلأنها جملة من مبتدإ وخبر ، لأن تقديرها : فهو يكون ، معطوفة على مثلها ، وهي أمره أن يقول له كن. وأما النصب فللعطف على يقول ، والمعنى : أنه لا يجوز عليه شيء مما يجوز على الأجسام

__________________

(١) لم أجده.

(٢) قوله «والقماءة» الصغر والذلة. أفاده الصحاح. (ع)

٣١

إذا فعلت شيئا مما تقدر عليه ، من المباشرة بمحال القدرة ، واستعمال الآلات ، وما يتبع ذلك من المشقة والتعب واللغوب إنما أمره وهو القادر العالم لذاته أن يخلص داعيه إلى الفعل ، فيتكون فمثله كيف يعجز عن مقدور حتى يعجز عن الإعادة؟ (فَسُبْحانَ) تنزيه له مما وصفه به المشركون ، وتعجيب من أن يقولوا فيه ما قالوا (بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) هو مالك كل شيء والمتصرف فيه بمواجب مشيئته وقضايا حكمته. وقرئ : ملكة كل شيء. وملك كل شيء. والمعنى واحد (تُرْجَعُونَ) بضم التاء وفتحها. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : كنت لا أعلم ما روى في فضائل يس وقراءتها كيف خصت ، بذلك ، فإذا أنه لهذه الآية.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن لكل شيء قلبا ، وإن قلب القرآن يس ، من قرأ يس يريد بها وجه الله ، غفر الله تعالى له ، وأعطى من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة ، وأيما مسلم قرئ عنده إذا نزل به ملك الموت سورة يس نزل بكل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفا يصلون عليه ويستغفرون له ويشهدون غسله ويتبعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه ، وأيما مسلم قرأ يس وهو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يحييه رضوان خازن الجنة بشربة من شراب الجنة يشربها وهو على فراشه ، فيقبض ملك الموت روحه وهو ريان ، ويمكث في قبره وهو ريان ، ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان (١). وقال عليه الصلاة والسلام «إن في القرآن سورة يشفع قارئها ويغفر لمستمعها. ألا وهي سورة يس» (٢).

__________________

(١) أخرجه ابن مردويه والثعلبي من حديث أبى بن كعب ، وأوله في الترمذي من رواية هرون أبى محمد عن مقاتل بن حيان عن قتادة عن أنس. وقال : غريب. وهرون مجهول «وفي الباب عن أبى بكر وأبى هريرة. فأما حديث أبى هريرة فأخرجه البزار وفيه حميد المكي مولى آل علقمة. وهو ضعيف. وحديث أبى بكر : أخرجه الحكيم الترمذي.

(٢) أخرجه الثعلبي من طريق محمد بن عمير عن هشام عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها.

٣٢

سورة الصافات

مكية ، وهي مائة وإحدى وثمانون آية ، وقيل : واثنتان وثمانون

[نزلت بعد الأنعام]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ)(٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ)(٥)

أقسم الله سبحانه بطوائف الملائكة أو بنفوسهم الصافات أقدامها في الصلاة ، من قوله تعالى (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) أو أجنحتها في الهواء واقفة منتظرة لأمر الله (فَالزَّاجِراتِ) السحاب سوقا (فَالتَّالِياتِ) لكلام الله من الكتب المنزلة وغيرها. وقيل (الصَّافَّاتِ) : الطير ، من قوله تعالى (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) والزاجرات : كل ما زجر عن معاصى الله. والتاليات : كل من تلا كتاب الله. ويجوز أن يقسم بنفوس العلماء العمال الصافات أقدامها في التهجد وسائر الصلوات وصفوف الجماعات ، فالزاجرات بالمواعظ والنصائح ، فالتاليات آيات الله والدارسات شرائعه. أو بنفوس قواد الغزاة في سبيل الله التي تصف الصفوف وتزجر الخيل للجهاد ، وتتلو الذكر (١) مع ذلك لا تشغلها

__________________

(١) قال محمود : «المقسم به طوائف الملائكة أو نفوسهم ، والمراد صفهم في الصلاة وزجرهم السحاب أى سوقهم وتلاوتهم ذكر الله أو العلماء والمراد تصافف أقدامهم في الصلاة وزجرهم بالمواعظ عن المعاصي وتلاوتهم الذكر ...... إلى أن قال : ... «ويكون التفاصل بين الطوائف إما على أن الأول هو الأفضل أو على العكس» قال أحمد : قد جوز أن يكون ترتيبها في التفاضل على أن الأول وهو الأفضل وعلى العكس ، ولم يبين وجه كل واحد منهما من حيث صنعة البديع ، ونحن نبينه فنقول : وجه البداءة بالأفضل الاعتناء بالأهم. فقدم ، ووجه عكس هذا الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، ومنه قوله :

بها ليل منهم جعفر وابن أمه

على ومنهم أحمد المنخير

ولا يقال : إن هذا إنما ساغ لأن الواو لا تقتضي رتبة ، فان هذا غايته أنه عذر ، وما ذكرناه بيان لما فيه من مقتضى البديع والبلاغة ، وفي هذه الآية دلالة على مذهب سيبويه والخليل في مثل (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) فإنهما يقولان : الواو الثانية وما بعدها عواطف ، وغيرهما يذهب إلى أنها حروف قسم ، فوقوع الفاء في هذه الآية موقع الواو والمعنى واحد ، إلا أن ما تزيده الفاء من ترتيبها دليل واضح على أن الواو الواقعة في مثل هذا السياق للعطف لا للقسم.

٣٣

عنه تلك الشواغل ، كما يحكى عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه. فإن قلت : ما حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات؟ قلت : إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود ، كقوله :

يا لهف زيّابة للحرث الصّابح

فالغانم فالآيب (١)

كأنه قيل : الذي صبح فغنم فآب. وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه ، كقولك : خذ الأفضل فالأكمل ، واعمل الأحسن فالأجمل. وإما على ترتب موصوفاتها في ذلك ، كقوله : رحم الله المحلقين فالمقصرين ، فعلى هذه القوانين الثلاثة ينساق أمر الفاء العاطفة في الصفات. فإن قلت : فعلى أى هذه القوانين هي فيما أنت بصدده؟ قلت : إن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتب الصفات في التفاضل ، وإن ثلثته ، فهي للدلالة على ترتب الموصوفات فيه ، بيان ذلك : أنك إذا أجريت هذه الأوصاف على الملائكة وجعلتهم جامعين لها ، فعطفها بالفاء يفيد ترتبا لها في الفضل : إما إن يكون الفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة ، وإما على العكس ، وكذلك إن أردت العلماء وقواد الغزاة. وإن أجريت الصفة الأولى على طوائف والثانية والثالثة على أخر ، فقد أفادت ترتب الموصوفات في الفضل ، أعنى أن الطوائف الصافات ذوات فضل والزاجرات أفضل ، والتاليات أبهر فضلا ، أو على العكس ، وكذلك إذا أردت بالصافات : الطير ، وبالزاجرات : كل ما يزجر عن معصية. وبالتاليات : كل نفس تتلو الذكر ، فإن الموصوفات مختلفة. وقرئ بإدغام التاء في الصاد والزاى والذال (رَبُّ السَّماواتِ) خبر بعد خبر. أو خبر مبتدإ محذوف. و (الْمَشارِقِ) ثلاثمائة وستون مشرقا ، وكذلك المغارب : تشرق الشمس كل يوم في مشرق منها وتغرب في مغرب ، ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين. فإن قلت : فما ذا أراد بقوله (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ)؟ قلت : أراد مشرقى الصيف والشتاء ومغربيهما.

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ)(٧)

(الدُّنْيا) القربى منكم. والزينة : مصدر كالنسبة ، واسم لما يزان به الشيء ، كالليقة اسم لما تلاق به الدواة ، ويحتملهما قوله (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) فإن أردت المصدر ، فعلى إضافته إلى الفاعل ، أى : بأن زانتها الكواكب ، وأصله : بزينة الكواكب : أو على إضافته إلى المفعول ، أى : بأن زان الله الكواكب وحسنها ، لأنها إنما زينت السماء لحسنها في أنفسها ، وأصله (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) وهي قراءة أبى بكر والأعمش وابن وثاب ، وإن أردت الاسم فللإضافة وجهان : أن تقع الكواكب بيانا للزينة ، لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها مما يزان به ، وأن يراد

__________________

(١) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٤١ فراجعه إن شئت اه مصححه.

٣٤

ما زينت به الكواكب. وجاء عن ابن عباس رضى الله عنهما : بزينة الكواكب : بضوء الكواكب : ويجوز أن يراد أشكالها المختلفة ، كشكل الثريا وبنات نعش والجوزاء ، وغير ذلك ، ومطالعها ومسايرها. وقرئ على هذا المعنى : بزينة الكواكب ، بتنوين زينة وجر الكواكب على الإبدال. ويجوز في نصب الكواكب : أن يكون بدلا من محل بزينة (وَحِفْظاً) مما حمل على المعنى ؛ لأنّ المعنى : إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا من الشياطين ، كما قال تعالى (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) ويجوز أن يقدر الفعل المعلل ، كأنه قيل : وحفظا (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ) زيناها بالكواكب ، وقيل : وحفظناها حفظا. والمارد : الخارج من الطاعة المتملس (١) منها.

(لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ)(١٠)

الضمير في (لا يَسَّمَّعُونَ) لكل شيطان ، لأنه في معنى الشياطين. وقرئ بالتخفيف والتشديد ، وأصله : يتسمعون. والتسمع : تطلب السماع. يقال : تسمع فسمع ، أو فلم يسمع. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : هم يتسمعون ولا يسمعون ، وبهذا ينصر التخفيف على التشديد ، فإن قلت : لا يسمعون كيف اتصل بما قبله؟ قلت : لا يخلو من أن يتصل بما قبله على أن يكون صفة لكل شيطان ، أو استئنافا فلا تصحّ الصفة ؛ لأنّ الحفظ من شياطين لا يسمعون ولا يستمعون لا معنى له ، وكذلك الاستئناف ؛ لأنّ سائلا لو سأل : لم تحفظ من الشياطين؟ فأجيب بأنهم لا يسمعون : لم يستقم ، فبقى أن يكون كلاما منقطعا مبتدأ اقتصاصا ، لما عليه حال المسترقة للسمع (٢) ، وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة. أو يتسمعوا وهم

__________________

(١) قوله «من الطاعة المتملس منها» في الصحاح : يقال : انملس من الأمر ، إذا أقلت منه. (ع)

(٢) أبطل الزمخشري أن يكون (لا يَسَّمَّعُونَ) صفة لأن الحفظ من شيطان لا يسمع لا معنى له وأبطل أن يكون أصله لئلا يسمعوا ، فحذف اللام وحذفها كثير ، ثم حذف أن وأهدر عملها مثل :

ألا أيها ذا الزاجري أحضر الوغي

وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى

واستبعد اجتماع هذين الحذفين ، وإن كان كل واحد منهما بانفراده سائغا ، ولما أبطل هذين الوجهين تعين عنده أن يكون ابتداء كلام اقتصاصا لما عليه أحوال المسترقة للسمع» قال أحمد : كلا الوجهين مستقيم ، والجواب عن إشكاله الوارد على الوجه الأول : أن عدم سماع الشيطان سببه الحفظ منه ، فحال الشيطان حال كونه محفوظا منه هي حاله حال كونه لا يسمع ، وإحدى الحالين لازمة للأخرى ، فلا مانع أن يجتمع الحفظ منه ، وكونه موصوفا بعدم السماع في حالة واحدة لا على أن عدم السماع ثابت قبل الحفظ بل معه وقسيمه ، ونظير هذه الآية على هذا التقدير قوله تعالى (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) فقوله تعالى (مُسَخَّراتٌ) حال مما تقدمه العامل فيه الفعل الذي هو سخر. ومعناه مستقيم ، لأن تسخيرها يستلزم كونها مسخرة ، فالحال التي ـ

٣٥

مقذوفون بالشهب مدحورون عن ذلك ، إلا من أمهل حتى خطف خطفة واسترق استراقة ، فعندها تعاجله الهلكة بإتباع الشهاب الثاقب. فإن قلت : هل يصح قول من زعم أن أصل : لئلا يسمعوا فحذفت اللام كما حذفت في قولك : جئتك أن تكرمني ، فبقى أن لا يسمعوا فحذفت أن وأهدر عملها ، كما في قول القائل :

ألا أيها ذا الزّاجرى أحضر الوغى (١)

قلت : كل واحد من هذين الحذفين غير مردود على انفراده ، فأما اجتماعهما فمنكر من المنكرات ، على أن صون القرآن عن مثل هذا التعسف واجب. فإن قلت : أى فرق بين سمعت فلانا يتحدّث ، وسمعت إليه يتحدّث ، وسمعت حديثه ، وإلى حديثه؟ قلت : المعدّى بنفسه يفيد الإدراك ، والمعدى بإلى يفيد الإصغاء مع الإدراك ، والملأ الأعلى : الملائكة ، لأنهم يسكنون السماوات. والإنس والجن : هم الملأ الأسفل ، لأنهم سكان الأرض. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : هم الكتبة من الملائكة. وعنه : أشراف الملائكة (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) من جميع جوانب السماء من أى جهة صعدوا للاستراق (دُحُوراً) مفعول له ، أى : ويقذفون للدحور وهو الطرد ، أو مدحورين على الحال. أو لأنّ القذف والطرد متقاربان في المعنى ، فكأنه قيل : يدحرون أو قذفا. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمى بفتح الدال على : قذفا دحورا طرودا. أو على أنه قد جاء مجيء القبول والولوع. والواصب : الدائم ، وصب الأمر وصوبا ، يعنى أنهم في الدنيا مرجومون بالشهب ، وقد أعدّ لهم في الآخرة نوع من العذاب دائم غير منقطع (مَنْ) في محل الرفع بدل من الواو في لا يسمعون ، أى : لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي (خَطِفَ الْخَطْفَةَ) وقرئ : خطف بكسر الخاء والطاء وتشديدها ، وخطف بفتح الخاء وكسر الطاء وتشديدها ، وأصلهما : اختطف. وقرئ : فأتبعه ، وفاتبعه.

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ)(١١)

الهمزة وإن خرجت إلى معنى التقرير فهي بمعنى الاستفهام في أصلها ، فلذلك قيل

__________________

ـ سخرت فيها هي الحال التي كانت فيها مسخرة ، لا على معنى تسخيرها مع كونها مسخرة قبل ذلك ، وما أشار له الزمخشري في هذه الآية قريب من هذا التفسير ، إلا أنه ذكر معه تأويلا آخر كالمستشكل لهذا الوجه ، فجعل مسخرات جمع مسخر مصدر كممزق ، وجعل المعنى : وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر أنواعا من التسخير ، وفيما ذكرناه كفاية ، ومن هذا النمط (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا) وهم ما كانوا رسلا إلا بالإرسال ، وهؤلاء ما كانوا لا يسمعون إلا بالحفظ. وأما الجواب عن إشكاله الثاني فورود حذفين في مثل قوله تعالى (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) وأصله لئلا تضلوا ، فحذف اللام و «لا» جميعا من محليهما.

(١) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ١٥٩ فراجعه إن شئت اه مصححه.

٣٦

(فَاسْتَفْتِهِمْ) أى استخبرهم (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) ولم يقل : فقرّرهم ، والضمير لمشركي مكة. قيل : نزلت في أبى الأشد بن كلدة ، وكنى بذلك لشدّة بطشه وقوته (أَمْ مَنْ خَلَقْنا) يريد : ما ذكر من خلائقه : من الملائكة ، والسماوات والأرض ، والمشارق ، والكواكب ، والشهب الثواقب ، والشياطين المردة ، وغلب أولى العقل على غيرهم ، فقال : من خلقنا ، والدليل عليه قوله بعد عدّ هذه الأشياء : فاستفتهم أهم أشدّ خلقا أم من خلقنا ، بالفاء المعقبة. وقوله : أم من خلقنا ، مطلقا من غير تقييد بالبيان ، اكتفاء ببيان ما تقدّمه ، كأنه قال : خلقنا كذا وكذا من عجائب الخلق وبدائعه ، فاستفتهم أهم أشدّ خلقا أم الذي خلقناه من ذلك ، ويقطع به قراءة من قرأ : أم من عددنا ، بالتخفيف والتشديد. وأشدّ خلقا : يحتمل أقوى خلقا من قولهم : شديد الخلق. وفي خلقه شدّة ، وأصعب خلقا وأشقه ، على معنى الرد لإنكارهم البعث والنشأة الأخرى ، وأنّ من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة ولم يصعب عليه اختراعها كان خلق البشر عليه أهون. وخلقهم (مِنْ طِينٍ لازِبٍ) إما شهادة عليهم بالضعف والرخاوة لأنّ ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوّة ، أو احتجاج عليهم بأنّ الطين اللازب الذي خلقوا منه تراب ، فمن أين استنكروا أن يخلقوا من تراب مثله حيث قالوا : أئذا كنا ترابا. وهذا المعنى يعضده ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث. وقيل : من خلقنا من الأمم الماضية ، وليس هذا القول بملائم. وقرئ : لازب ولاتب ، والمعنى واحد ، والثاقب : الشديد الإضاءة.

(بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ)(١٤)

(بَلْ عَجِبْتَ) من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة (وَ) هم (يَسْخَرُونَ) منك ومن تعجبك ومما تريهم من آثار قدرة الله ، أو من إنكارهم البعث وهم يسخرون من أمر البعث. وقرئ بضم التاء ، أى : بلغ من عظم آياتي وكثرة خلائقى أنى عجبت منها ، فكيف بعبادي وهؤلاء يجهلهم وعنادهم يسخرون من آياتي أو عجبت من أن ينكروا البعث ممن هذه أفعاله ، وهم يسخرون ممن يصف الله بالقدرة عليه. فإن قلت : كيف يجوز العجب على الله تعالى ، وإنما هو روعة تعترى الإنسان عند استعظامه الشيء ، والله تعالى لا يجوز عليه الروعة؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يجرد العجب لمعنى الاستعظام : والثاني : أن يتخيل العجب ويفرض. وقد جاء في الحديث : عجب ربكم من ألكم (١) وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم (٢). وكان شريح

__________________

(١) قوله «من ألكم وقنوطكم» الأل : يأتى بمعنى السرعة والأنين والفساد. أفاده الصحاح. (ع)

(٢) أخرجه أبو عبيد في الغريب عن محمد بن عمرو يرفعه ، ثم قال : فقال : الأل رفع الصوت بالدعاء. وقال بعضهم : يرويه الأول ، وهو الشدة.

٣٧

يقرأ بالفتح ويقول : إنّ الله لا يعجب من شيء ، وإنما يعجب من لا يعلم ، فقال إبراهيم النخعي : إنّ شريحا كان يعجبه علمه وعبد الله أعلم ، يريد عبد الله بن مسعود ، وكان يقرأ بالضم. وقيل معناه : قل يا محمد بل عجبت. (وَإِذا ذُكِّرُوا) ودأبهم أنهم إذا وعظوا بشيء لا يتعظون به (وَإِذا رَأَوْا آيَةً) من آيات الله البينة كانشقاق القمر ونحوه (يَسْتَسْخِرُونَ) يبالغون في السخرية. أو يستدعى بعضهم من بعض أن يسخر منها.

(وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ)(١٩)

(وَآباؤُنَا) معطوف على محل (إِنْ) واسمها. أو على الضمير في مبعوثون ، والذي جوّز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفهام. والمعنى : أيبعث أيضا آباؤنا على زيادة الاستبعاد ، يعنون أنهم أقدم ، فبعثهم أبعد وأبطل. وقرئ أو آباؤنا (قُلْ نَعَمْ) وقرئ : نعم بكسر العين وهما لغتان. وقرئ : قال نعم ، أى الله تعالى أو الرسول صلى الله عليه وسلم. والمعنى : نعم تبعثون (وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) صاغرون (فَإِنَّما) جواب شرط مقدّر تقديره : إذا كان ذلك فما (هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) وهي لا ترجع إلى شيء ، إنما هي مبهمة موضحها خبرها. ويجوز : فإنما البعثة زجرة واحدة وهي النفخة الثانية. والزجرة : الصيحة ، من قولك : زجر الراعي الإبل أو الغنم : إذا صاح عليها فريعت لصوته. ومنه قوله :

زجر أبى عروة السباع إذا

أشفق أن يختلطن بالغنم (١)

يريد تصوينه بها (فَإِذا هُمْ) أحياء بصراء (يَنْظُرُونَ).

(وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)(٢١)

يحتمل أن يكون (هذا يَوْمُ الدِّينِ) إلى قوله (احْشُرُوا) من كلام الكفرة بعضهم مع بعض

__________________

(١) للنابغة الجعدي. وأبو عروة : كنية العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم ، كانوا يزعمون أنه يصيح بالسباع فينفق مرارة الأسد في جوفه ، وروى أن غارة أتتهم يوم حنين فصاح : يا صباحاه فأسقطت الحوامل ، وكان يسمع صوته من مسافة ثمانية أميال. وزجره يزجره ، إذا صاح بمنعه ، أى : كزجر أبى عروة السباع عن الغنم إذا خاف اختلاطهن بها في البادية.

٣٨

وأن يكون من كلام الملائكة لهم ، وأن يكون (يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ) كلام الكفرة. و (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) من كلام الملائكة جوابا لهم. ويوم الدين : اليوم الذي ندان فيه ، أى نجازى بأعمالنا. ويوم الفصل : يوم القضاء ، والفرق بين فرق الهدى والضلالة.

(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ)(٢٦)

(احْشُرُوا) خطاب الله للملائكة ، أو خطاب بعضهم مع بعض (وَأَزْواجَهُمْ) وضرباءهم عن النبي صلى الله عليه وسلم : وهم نظراؤهم وأشباههم من العصاة : أهل الزنا مع أهل الزنا ، وأهل السرقة مع أهل السرقة. وقيل : قرناؤهم من الشياطين. وقيل : نساؤهم اللاتي على دينهم (فَاهْدُوهُمْ) فعرّفوهم طريق النار حتى يسلكوها. هذا تهكم بهم وتوبيخ لهم بالعجز عن التناصر بعد ما كانوا على خلاف ذلك في الدنيا متعاضدين متناصرين (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) قد أسلم بعضهم بعضا وخذله عن عجز ، فكلهم مستسلم غير منتصر. وقرئ : لا تتناصرون ولا تناصرون ، بالإدغام.

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ)(٣١)

(فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ)(٣٥)

اليمين لما كانت أشرف العضوين وأمتنهما وكانوا يتيمنون بها ، فبها يصافحون ويماسحون ويناولون ويتناولون ، ويزاولون أكثر الأمور ، ويتشاءمون بالشمال ، ولذلك سموها : الشؤمى ،

٣٩

كما سموا أختها اليمنى ، وتيمنوا بالسانح ، (١) وتطيروا بالبارح ، وكان الأعسر معيبا عندهم ، وعضدت الشريعة ذلك ، فأمرت بمباشرة أفاضل الأمور باليمين ، وأراذلها بالشمال. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في كل شيء (٢). وجعلت اليمين لكاتب الحسنات ، والشمال لكاتب السيئات ، ووعد المحسن أن يؤتى كتابه بيمينه ، والمسيء أن يؤتاه بشماله : استعيرت لجهة الخير وجانبه ، فقيل : أتاه عن اليمين ، أى : من قبل الخير وناحيته ، فصدّه عنه وأضله. وجاء في بعض التفاسير : من أتاه الشيطان من جهة اليمين : أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق. ومن أتاه من جهة الشمال : أتاه من قبل الشهوات. ومن أتاه من بين يديه : أتاه من قبل التكذيب بالقيامة وبالثواب والعقاب. ومن أتاه من خلفه : خوّفه الفقر على نفسه وعلى من يخلف بعده ، فلم يصل رحما ولم يؤد زكاة. فإن قلت : قولهم : أتاه من جهة الخير وناحيته : مجاز في نفسه ، فكيف جعلت اليمين مجازا عن المجاز؟ قلت : من المجاز ما غلب في الاستعمال حتى لحق بالحقائق ، وهذا من ذاك ، ولك أن تجعلها مستعارة للقوّة والقهر ، لأنّ اليمين موصوفة بالقوة ، وبها يقع البطش. والمعنى : أنكم كنتم تأتوننا عن القوّة والقهر ، وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتقسرونا عليه. وهذا من خطاب الأتباع لرؤسائهم ، والغواة لشياطينهم (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) بل أبيتم أنتم الإيمان وأعرضتم عنه ، مع تمكنكم منه مختارين له على الكفر. غير ملجئين إليه (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ) من تسلط نسلبكم به تمكنكم واختياركم (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً) مختارين الطغيان (فَحَقَّ عَلَيْنا) فلزمنا (قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) يعنى : وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة ، لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة ، ولو حكى الوعيد كما هو لقال : إنكم لذائقون ، ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم ، لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم. ونحوه قول القائل :

لقد زعمت هوازن قلّ مالى (٣)

__________________

(١) قوله «وتيمنوا بالسانح» السانح : المار من اليسار إلى اليمين. والبارح عكسه. أفاده الصحاح. (ع)

(٢) متفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها أتم من هذا.

(٣) ألا زعمت هوازن قل مالى

وهل لي غير ما أنفقت مال

أسربه نعم ونعم قديما

على ما كان هن مال وبال

ألا استفتاحية ، وهوازن : امرأته ، وضمن زعمت معنى قالت ، فعداه إلى الجملة ، ولو حكى قولها بلفظه لقال : قل مالك ، ولكن جاء بياء المتكلم لجواز الحكاية بالمعنى ، وهل : استفهام إنكارى ، وغير : حال مقدمة ، أى : ليس لي مال غير ما أنفقته في المكارم ، وأسربه. مبنى للمجهول صفة لمال ، أى : لا يسرني غير ما أنفقته ، وبين جهة الإنفاق بقوله : نعم ونعم ، أى جوابي للسائلين بذلك من قديم الزمان : هو وبال ومضرة على ما كان لي من مال ، ويجوز أن أسر مبنى للفاعل. ونعم الأولى مفعوله ، أى : هل لي مال أسربه من يجاب بنعم ، والحال أن نعم وبال على المال ، ومهلكة له قديما ، حيث أخيب السائل بها.

٤٠