الكشّاف - ج ٤

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٨٢٦

مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هَٰذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ)(٥٠)

قرئ : إنّ شجرت الزقوم ، بكسر الشين ، وفيها ثلاث لغات : شجرة ، بفتح الشين وكسرها وشيرة ، بالياء. وروى أنه لما نزل (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) قال ابن الزبعرى : إنّ أهل اليمن يدعون أكل الزبد والتمر : التزقم ، فدعا أبو جهل بتمر وزبد فقال : تزقموا فإنّ هذا هو الذي يخوّفكم به محمد ، فنزل (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) وهو الفاجر الكثير الآثام. وعن أبى الدرداء أنه كان يقرئ رجلا فكان يقول طعام اليثيم ، فقال : قل طعام الفاجر (١) يا هذا. وبهذا يستدل على أنّ إبدال كلمة مكان كلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها. ومنه أجاز أبو حنيفة القراءة بالفارسية على شريطة ، وهي : أن يؤدى القارئ المعاني على كمالها من غير أن يخرم منها شيئا. قالوا : وهذه الشربطة تشهد أنها إجازة كلا إجازة ، لأنّ في كلام العرب خصوصا في القرآن الذي هو معجز بفصاحته وغرابة نظمه وأساليبه من لطائف المعاني والأغراض ما لا يستقل بإذائه لسان من فارسية وغيرها ، وما كان أبو حنيفة رحمه الله يحسن الفارسية ، فلم يكن ذلك منه عن تحقق وتبصر وروى على بن الجعد عن أبى يوسف عن أبى حنيفة مثل قول صاحبيه في إنكار القراءة بالفارسية (كَالْمُهْلِ) قرئ بضم الميم وفتحها ، وهو دردى (٢) الزيت. ويدل عليه قوله تعالى (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) مع قوله (فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) وقيل : هو ذائب الفضة والنحاس ، والكاف رفع خبر بعد خبر ، وكذلك (يَغْلِي) وقرئ بالتاء للشجرة ، وبالياء للطعام. و (الْحَمِيمِ) الماء الحار الذي انتهى غليانه : يقال للزبانية (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ) فقودوه بعنف وغلظة ، وهو أن يؤخذ بتلبيب (٣) الرجل فيجر إلى حبس أو قتل. ومنه : العتلّ وهو الغليظ الجافي. وقرئ بكسر التاء وضمها (إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) إلى وسطها ومعظمها. فإن قلت : هلا قيل : صبوا فوق رأسه من الحميم ، كقوله تعالى (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) لأنّ الحميم هو المصبوب لا عذابه؟ قلت : إذا صب عليه الحميم فقد صب عليه عذابه وشدّته ، إلا أن صب العذاب طريقة الاستعارة ، كقوله :

__________________

(١) قال محمود : «نقل أن أبا الدرداء أقرأها رجلا فلم يقم النطق بالأثيم وجعل يقول طعام اليثيم ... الخ» قال أحمد : لا دليل فيه لذلك. وقول أبى الدرداء محمول على إيضاح المعنى ليكون وضوح المعنى عند المتعلم عونا على أن يأتى بالقراءة كما أنزلت. على هذا حمله القاضي أبو بكر في كتاب الانتصار ، وهو الوجه ، والله أعلم.

(٢) قوله «وهو دردى الزيت» لعله : ردى الزيت كعبارة النسفي. (ع)

(٣) قوله «وهو أن يؤخذ بتلبيب الرجل» الذي في الصحاح : لبهت الرجل تلبيبا ، إذا جمعت ثيابه عند صدره ونحره في الخصومة ، ثم جررته اه ويجوز أنه أراد بتلبيب الرجل : ثيابه من عند صدره ونحره. (ع)

٢٨١

صبّت عليه صروف الدّهر من صبب (١)

وكقوله تعالى (أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) فذكر العذاب معلقا به الصب ، مستعارا له ، ليكون أهول وأهيب يقال (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) على سبيل الهزؤ والتهكم بمن كان يتعزز ويتكرم على قومه. وروى أنّ أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بين جبليها أعز ولا أكرم منى ، فو الله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بى شيئا. وقرئ : إنك ، بمعنى : لأنك. وعن الحسن ابن على رضى الله عنهما أنه قرأ به على المنبر (إِنَّ هذا) العذاب. أو إن هذا الأمر هو (ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) أى تشكون. أو تتمارون وتتلاجون.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ)(٥٥) (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٥٧)

قرئ : في مقام ، بالفتح : وهو موضع القيام ، والمراد المكان ، وهو من الخاص الذي وقع مستعملا في معنى العموم. وبالضم : وهو موضع الإقامة. و (أَمِينٍ) من قولك : أمن الرجل أمانة فهو أمين. وهو ضد الخائن ، فوصف به المكان استعارة ، لأنّ المكان المخيف كأنما يخون صاحبه بما يلقى فيه من المكاره. قيل : السندس : ما رق من الديباج. والإستبرق: ما غلظ منه وهو تعريب استبر. فإن قلت : كيف ساغ أن يقع في القرآن العربي المبين لفظ أعجمى؟ قلت : إذا عرب خرج من أن يكون عجميا ، لأن معنى التعريب أن يجعل عربيا بالتصرف فيه ، وتغييره عن منهاجه ، وإجرائه على أوجه الإعراب (كَذلِكَ) الكاف مرفوعة على : الأمر كذلك. أو منصوب على : مثل ذلك أثبناهم (وَزَوَّجْناهُمْ) وقرأ عكرمة : بحور عين ، على الإضافة : والمعنى : بالحور من العين ، لأن العين إما أن تكون حورا أو غير حور ، فهؤلاء

__________________

(١) كم امرئ كان في خفض وفي دعة

صبت عليه صروف الدهر من صبب

الصبب : مكان الصباب الماء وانحداره. يقول : كثير من الناس كان في لين عيش وفي راحة ، توالت عليه حوادث الدهر كأنها سيل منحدر من صبب ، فاستعار الصب لنزول الحوادث بالشخص على طريق التصريح ، والصب ترشيح أو شبه الحوادث بالسيل على سبيل المكنية. والصبب : تخييل. والصب : ترشيح. والصروف : جمع صرف ، كحروف جمع حرف : مكاره الزمن ومصائبه.

٢٨٢

من الحور العين (١) لا من شهلهن مثلا. وفي قراءة عبد الله : بعيس عين : والعيساء : البيضاء تعلوها حمرة وقرأ عبيد بن عمير : لا يذاقون فيها الموت. وقرأ عبد الله : لا يذوقون فيها طعم الموت. فإن قلت : كيف استثنيت الموتة الأولى ـ المذوقة قبل دخول الجنة ـ من الموت المنفي ذوقه فيها؟ قلت : أريد أن يقال : لا يذوقون فيها الموت البتة ، فوضع قوله (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) موضع ذلك ؛ لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل ، فهو من باب التعليق بالمحال ، كأنه قيل : إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها (٢). وقرئ ووقاهم بالتشديد (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ) عطاء من ربك وثوابا ، يعنى : كل ما أعطى المتقين من نعيم الجنة والنجاة من النار. وقرئ : فضل ، أى. ذلك فضل.

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ)(٥٩)

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) فذلكة للسورة. ومعناها : ذكرهم بالكتاب المبين (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) أى : سهلناه ، حيث أنزلناه عربيا بلسانك بلغتك إرادة أن يفهمه قومك فيتذكروا (فَارْتَقِبْ) فانتظر ما يحل بهم (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) ما يحل بك متربصون الدوائر.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» (٣) وعنه عليه السلام :» من قرأ حم التي يذكر فيها الدخان في ليلة جمعة أصبح مغفورا له» (٤).

__________________

(١) قوله «من الحور العين» لعله : من حور العين. (ع)

(٢) قال محمود : «إنما استثنيت الموتة الأولى المذوقة قبل دخول الجنة من الموت المنفي ذوقه فيها ... الخ» قال أحمد : هذا الذي ذكره مبنى على أن الموتة بدل ، على طريقة بنى تميم المجوز فيها البدل من غير الجنس. وأما على طريقة الحجازيين ، فانتصبت الموتة استثناء منقطعا. وسر اللغة التميمية : بناء النفي المراد على وجه لا يبقى للسامع مطمعا في الإثبات ، فيقولون : ما فيها أحد إلا حمار ، على معنى : إن كان الحمار من الأحدين ففيها أحد ، فيعلقون الثبوت على أمر محال حتما بالنفي. وعليه حمل الزمخشري (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) أى إن كان الله ممن في السماوات والأرض ، ففي السماوات والأرض من يعلم الغيب ، فإذا نفر السامع من ثبوت الأول تعدت النفرة إلى ثبوت الثاني ، فجزمت بالنفي ، والله أعلم.

(٣) أخرجه الترمذي أيضا وابن عدى والشعبي والبيهقي في الشعب من رواية عمر بن خثعم عن يحيى بن أبى كثير عن أبى سلمة عن أبى هريرة ، وقال : غريب ، وعمر بضعف. قال محمد : إنه منكر الحديث. قلت : وهو بمعنى الذي قبله.

(٤) أخرجه الترمذي وأبو يعلى وابن السنى في اليوم والليلة» والبيهقي في الشعب وقال تفرد به أبو المقدام. وهو ضعيف. وعن الحسن عن أبى هريرة وقال الترمذي : أبو المقدام ضعيف والحسن لم يسمع من أبى هريرة.

٢٨٣

سورة الجاثية

مكية [إلا آية ١٤ فمدنية]

وآياتها ٣٧ وقيل ٣٦ آية [نزلت بعد الدخان]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ)(٦)

(حم) إن جعلتها اسما مبتدأ مخبرا عنه ب (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) لم يكن بدّ من حذف مضاف ، تقديره : تنزيل حم تنزيل الكتاب. و (مِنَ اللهِ) صلة للتنزيل ، وإن جعلتها تعديدا للحروف كان (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) مبتدأ ، والظرف خبرا (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يجوز أن يكون على ظاهره ، وأن يكون المعنى ، إنّ في خلق السماوات لقوله (وَفِي خَلْقِكُمْ) فإن قلت : علام عطف (وَما يَبُثُ) أعلى الخلق المضاف؟ أم على الضمير المضاف إليه؟ قلت : بل على المضاف ، لأنّ المضاف إليه ضمير متصل مجرور يقبح العطف عليه : استقبحوا أن يقال : مررت بك وزيد ، وهذا أبوك وعمرو ، وكذلك إن أكدوه كرهوا أن يقولوا : مررت بك أنت وزيد. قرئ : آيات لقوم يوقنون ، بالنصب والرفع ، على قولك : إنّ زيدا في الدار وعمرا في السوق. أو عمرو في السوق. وأمّا قوله (آياتٌ لِقَوْمٍ) (١) (يَعْقِلُونَ) فمن العطف على عاملين ، سواء نصبت أو رفعت ، فالعاملان إذا نصبت هما : إن ، وفى : أقيمت الواو مقامهما ، فعملت (٢) الجر في (اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ،

__________________

(١) قوله «وأما قوله : آيات لقوم» أى مع قوله (وَاخْتِلافِ). (ع)

(٢) قوله «فعملت» أى : الواو. (ع)

٢٨٤

والنصب في (آياتٌ). وإذا رفعت فالعاملان : الابتداء وفي : عملت الرفع في (آياتٌ) ، والجر في (وَاخْتِلافِ) وقرأ ابن مسعود : وفي اختلاف الليل والنهار. فإن قلت : العطف على عاملين على مذهب الأخفش سديد لا مقام فيه. وقد أباه سيبويه ، فما وجه تخريج الآية عنده؟ قلت : فيه وجهان عنده. أحدهما : أن يكون على إضمار في. والذي حسنه تقدّم ذكره في الآيتين قبلها. ويعضده قراءة ابن مسعود. والثاني : أن ينتصب آيات على الاختصاص بعد انقضاء المجرور معطوفا على ما قبله أو على التكرير ، ورفعها بإضمار هي : وقرئ : واختلاف الليل والنهار بالرفع. وقرئ : آية. وكذلك وما يبث من دابة آية. وقرئ وتصريف الريح. والمعنى : إنّ المنصفين من العباد إذا نظروا في السماوات والأرض النظر الصحيح ، علموا أنها مصنوعة ، وأنه لا بدّ لها من صانع ، فآمنوا بالله وأقرّوا ، فإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال وهيئة إلى هيئة ، وفي خلق ما على ظهر الأرض من صنوف الحيوان : ازدادوا إيمانا ، وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس ، فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدّد في كل وقت كاختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار وحياة الأرض بها بعد موتها (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) جنوبا وشمالا وقبولا ودبورا : عقلوا واستحكم علمهم وخلص يقينهم ، وسمى المطر رزقا ، لأنه سبب الرزق (تِلْكَ) إشارة إلى الآيات المتقدّمة ، أى : تلك الآيات آيات الله. و (نَتْلُوها) في محل الحال ، أى : متلوة (عَلَيْكَ بِالْحَقِ) والعامل ما دل عليه تلك من معنى الإشارة. ونحوه : (هذا بَعْلِي شَيْخاً) وقرئ : يتلوها ، بالياء (بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ) أى بعد آيات الله كقولهم : أعجبنى زيد وكرمه ، يريدون : أعجبنى كرم زيد. ويجوز أن يراد : بعد حديث الله ، وهو كتابه وقرآنه ، كقوله تعالى ، (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ). وقرئ (يُؤْمِنُونَ) بالتاء والياء.

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١٠)

الأفاك : الكذاب ، والأثيم : المتبالغ في اقتراف الآثام (يُصِرُّ) يقبل على كفره ويقيم

٢٨٥

عليه. وأصله من إصرار الحمار على العانة (١) وهو أن ينحى عليها صارّا أذنيه (مُسْتَكْبِراً) عن الإيمان بالآيات والإذعان لما ينطق به من الحق ، مزدريا لها معجبا بما عنده. قيل : نزلت في النضر بن الحرث وما كان يشترى من أحاديث الأعاجم ، ويشغل الناس بها عن استماع القرآن. والآية عامّة في كل ما كان مضارّا لدين الله. فإن قلت : ما معنى ثم في قوله (ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً)؟ قلت : كمعناه في قول القائل :

يرى غمرات الموت ثمّ يزورها (٢)

وذلك أنّ غمرات الموت حقيقة ، بأن ينجو رائيها بنفسه ويطلب الفرار عنها. وأمّا زيارتها والإقدام على مزاولتها. فأمر مستبعد ، فمعنى ثم : الإيذان بأن فعل المقدّم عليها بعد ما رآها وعاينها ، شيء يستبعد في العادات والطباع ، وكذلك آيات الله الواضحة الناطقة بالحق ، من تليت عليه وسمعها : كان مستبعدا في العقول إصراره على الضلالة عندها واستكباره عن الإيمان بها (كَأَنْ) مخففة ، والأصل كأنه لم يسمعها : والضمير ضمير الشأن ، كما في قوله :

كأن ظبية تعطو إلى ناضر السّلم (٣)

ومحل الجملة النصب على الحال. أى : يصير مثل غير السامع (وَإِذا) بلغه شيء من آياتنا وعلم أنه منها (اتَّخَذَها) أى اتخذ الآيات (هُزُواً) ولم يقل : اتخذه ، للإشعار بأنه إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات التي أنزلها الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم : خاض في الاستهزاء بجميع الآيات. ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه ، ويحتمل : وإذا علم من آياتنا شيئا

__________________

(١) قوله «من إصرار الحمار على العانة» جماعة حمر الوحش كما في الصحاح. وفيه أيضا : ضر الفرس أذنيه :

ضمها إلى رأسه ، فإذا لم يوقعوا قالوا : أصر الفرس ، بالألف. (ع)

(٢) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثالث صفحة ٥١٥ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٣) فيوما توافينا بوجه مقسم

كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم

ويوما تريد مالنا مع مالها

فان لم ننلها لم تنمنا ولم تتم

الباعث بن صريم اليشكري يذكر حال امرأته. ويوما : ظرف مقدم. ويروى : ويوم ، أى : ورب يوم تقابلنا فيه ولا حاجة لتقدير الرابط على نصب اليوم. وقسم قساما وقسامة ، كجمل جمالا. وظرف ظرافة. والمقسم : المحسن. وكأن : مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير المرأة ، أو ضمير الشأن. وظبية : بالرفع على الأول خبر. وعلى الثاني : مبتدأ ، وهو مع خبره خبر كان. وتعطو : صفة على الأول ، وهو الخبر على الثاني. ويروى : ظبية ، بالنصب ، فهو الاسم وإن كان عملها مخففة قليلا. ويروى : مجرورا بالكاف ، وإن : زائدة بين الجار والمجرور : وتعطو : تأخذ وتتناول ، ماثلة إلى وارق السلم. ومن النوادر : أورق فهو وارق. وأينع فهو يانع. والقياس : مورق ، أى : كثير الورق. ويروى : ناضر ، بدل : وارق. والسلم : شجر العضاء ، هذا شأنها في يوم. وفي يوم آخر تؤذينا فتريد مالنا منضما إلى مالها ، فان نعطها لم تتركنا ننام من كثرة كلامها وإيذائها ، ولم تنم هي أيضا. واليوم هنا : مطلق الزمن.

٢٨٦

يمكن أن يتشبث به المعاند ويجد له محملا يتسلق به على الطعن والغميزة : افترصه واتخذ آيات الله هزوا ، وذلك نحو افتراص ابن الزبعرى قوله عز وجل (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) ومغالطته رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقوله : خصمتك. ويجوز أن يرجع الضمير إلى شيء ، لأنه في معنى الآية كقول أبى العتاهية :

نفسي بشيء من الدنيا معلّقة

الله والقائم المهدي يكفيها (١)

حيث أراد عتبة. وقرئ : علم (أُولئِكَ) إشارة إلى كل أفاك أثيم ، لشموله الأفاكين. والوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام. قال :

أليس ورائي أن تراخت منيّتى

أدب مع الولدان أزحف كالنّسر (٢)

ومنه قوله عز وجل (مِنْ وَرائِهِمْ) أى من قدّامهم (ما كَسَبُوا) من الأموال في رحلهم ومتاجرهم (وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ) من الأوثان.

(هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ)(١١)

(هذا) إشارة إلى القرآن ، يدل عليه قوله تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) لأنّ آيات ربهم هي القرآن ، أى هذا القرآن كامل في الهداية ، كما تقول : زيد رجل ، تريد كامل في الرجولية. وأيما رجل. والرجز : أشد العذاب. وقرئ بجر أليم ورفعه.

__________________

(١) نفسي بشيء من الدنيا معلقة

الله والقائم المهدى يكفيها

إنى لأيأس منها ثم يطمعنى

فيها احتقارك للدنيا وما فيها

لأبى العتاهية. وكنى بالشيء عن جارية من حظايا المهدى اسمها عتبة ، ولذلك أعاد عليه الضمير مؤنثا. وقوله «من الدنيا» معناه : أنه لا يريد من الدنيا غيره. والقائم : أى بأمر الشرع. ويكفيها ، أى : يكفيني تلك الحاجة. أو يكفى نفسي ما تريد ، والله : بقطع الهمزة ، لأن أول المصراع محل ابتداء في الجملة ، إنى لأيأس أى أقطع طمعي منها ، ثم أطمع فيها ثانيا بسبب احتقارك للدنيا وما فيها. وهو مدح بنهاية الكرم. وروى أنه كتب ذلك في ثوب ، وأدرجه في برنية وأهداها المهدى ، فهم بدفعها إليه فقالت : أتدفعني إلى رجل متكسب بالتعشق ، فأمر بملء البرنية مالا ودفعها إليه ، فقال للخزان : إنما أمر لي بدنانير ، فقال له : نعطيك دراهم ونراجعه. واختلفوا في ذلك سنة ، فقالت : لو كان عاشقا لما فرق بينهما.

(٢) لعبيد ، والهمزة للتقرير. وورائي هنا بمعنى : أمامى ، وهو في الأصل : الجهة التي يواريها الشخص ، لكن يكثر في الجهة التي خلفه ، وتوسع فيه حتى استعمل في كل غيب. ومنه : المستقبل. وتراخت : تباعدت وتأخرت. وأدب : أمشى بهينة وتؤدة. وأن المصدرية مقدرة قبله ، لأنه اسم ليس ، وإن كان لفظه مرفوعا. وأزحف : يحتمل أنه بدل ، وأنه حال. وكالنسر : حال. أو معناه : كزحف النسر في الأرض ، مع كونه أبيض وفيه نوع احتراس ، لأنه يتوهم من قوله «مع الولدان» نقص عقله ، فدل على أن المراد الضعف كالولدان. والشيب كالنسر ، لأنه أبيض ، مع كونه رئيس الطيور وكلها تخشاه.

٢٨٧

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١٣)

(وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بالتجارة أو بالغوص على اللؤلؤ والمرجان واستخراج اللحم الطري وغير ذلك من منافع البحر. فإن قلت : ما معنى (مِنْهُ) في قوله (جَمِيعاً مِنْهُ) وما موقعها من الإعراب ، قلت : هي واقعة موقع الحال ، والمعنى : أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه وحاصلة من عنده ، يعنى : أنه مكوّنها وموجدها بقدرته وحكمته ، ثم مسخرها لخلقه. ويجوز أن يكون خبر مبتدإ محذوف ، تقديره : هي جميعا منه ، وأن يكون (وَسَخَّرَ لَكُمْ) تأكيدا لقوله تعالى (سَخَّرَ لَكُمْ) ثم ابتدئ قوله : (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) وأن يكون (ما فِي الْأَرْضِ) مبتدأ ، و (مِنْهُ) خبره. وقرأ ابن عباس رضى الله عنهما : منة ، وقرأ سلمة بن محارب : منه ، على أن يكون منه فاعل سخر على الإسناد المجازى. أو على أنه خبر مبتدإ محذوف ، أى : ذلك. أو هو منه.

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)(١٥)

حذف المقول لأنّ الجواب دال عليه. والمعنى : قل لهم اغفروا يغفروا (لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) لا يتوقعون وقائع الله بأعدائه ، من قولهم لوقائع العرب : أيام العرب. وقيل : لا يأملون الأوقات التي وقتها الله لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز فيها. قيل : نزلت قبل آية القتال ، ثم نسخ حكمها. وقيل : نزولها في عمر رضى الله عنه ـ وقد شتمه رجل من غفار فهمّ أن يبطش به. وعن سعيد بن المسيب : كنا بين يدي عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقرأ قارئ هذه الآية ، فقال عمر : ليجزي عمر بما صنع (لِيَجْزِيَ) تعليل الأمر بالمغفرة ، أى : إنما أمروا بأن يغفروا لما أراده الله من توفيتهم جزاء مغفرتهم يوم القيامة. فإن قلت : قوله (قَوْماً) ما وجه تنكيره وإنما أراد الذين آمنوا وهم معارف؟ قلت : هو مدح لهم وثناء عليهم ، كأنه قيل. ليجزي أيما قوم وقوما (١) مخصوصين ، لصبرهم وإغضائهم على أذى أعدائهم من الكفار ، وعلى ما كانوا

__________________

(١) قوله «أيما قوم وقوما مخصوصين» لعله : أو قوما. (ع)

٢٨٨

يجرعونهم من الغصص (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من الثواب العظيم بكظم الغيظ واحتمال المكروه ومعنى قوله عمر : ليجزي عمر بما صنع : ليجزي بصبره واحتماله. وقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول الآية : والذي بعثك بالحق لا ترى الغضب في وجهى. وقرئ : ليجزي قوما ، أى : الله عز وجل. وليجزي قوم. وليجزي قوما ، على معنى : وليجزي الجزاء قوما.

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(١٧)

(الْكِتابَ) التوراة (وَالْحُكْمَ) الحكمة والفقه. أو فصل الخصومات بين الناس ، لأنّ الملك كان فيهم والنبوّة (مِنَ الطَّيِّباتِ) مما أحل الله لهم وأطاب من الأرزاق (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) حيث لم نؤت غيرهم مثل ما آتيناهم (بَيِّناتٍ) آيات ومعجزات (مِنَ الْأَمْرِ) من أمر الدين ، فما وقع بينهم الخلاف في الدين (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ) ما هو موجب لزوال الخلاف وهو العلم. وإنما اختلفوا لبغى حدث بينهم ، أو لعداوة وحسد.

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) (١٩)

(عَلى شَرِيعَةٍ) على طريقة ومنهاج (مِنَ الْأَمْرِ) من أمر الدين ، فاتبع شريعتك الثابتة بالدلائل والحجج ، ولا تتبع ما لا حجة عليه من أهواء الجهال. ودينهم المبنى على هوى وبدعة ، وهم رؤساء قريش حين قالوا. ارجع إلى دين آبائك. ولا توالهم ، إنما يوالى الظالمين من هو ظالم مثلهم ، وأما المتقون : فوليهم الله وهم موالوه. وما أبين الفصل بين الولايتين.

(هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(٢٠)

(هذا) القرآن (بَصائِرُ لِلنَّاسِ) جعل ما فيه من معالم الدين والشرائع بمنزلة البصائر في القلوب. كما جعل روحا وحياة وهو هدى من الضلالة ، ورحمة من العذاب لمن آمن وأيقن. وقرئ : هذه بصائر ، أى : هذه الآيات.

٢٨٩

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ)(٢١)

(أَمْ) منقطعة. ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان. والاجتراح : الاكتساب. ومنه الجوارح وفلان جارحة أهله ، أى : كاسبهم (أَنْ نَجْعَلَهُمْ) أن نصيرهم. وهو من جعل المتعدي إلى مفعولين فأوّلهما الضمير ، والثاني : الكاف ، والجملة التي هي (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) بدل من الكاف ، لأنّ الجملة تقع مفعولا ثانيا ، فكانت في حكم المفرد. ألا تراك لو قلت : أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم : كان سديدا ، كما تقول : ظننت زبدا أبوه منطلق. ومن قرأ (سَواءً) بالنصب : أجرى سواء مجرى مستويا ، وارتفع محياهم ومماتهم على الفاعلية ، وكان مفردا غير جملة. ومن قرأ : ومماتهم بالنصب ، جعل محياهم ومماتهم : ظرفين ، كمقدم الحاج وخفوق النجم. أى : سواء في محياهم وفي مماتهم. والمعنى : إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محيا ، وأن يستووا مماتا ، لافتراق أحوالهم أحياء. حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات ، وأولئك على ركوب المعاصي. ومماتا ، حيث مات هؤلاء على البشرى بالرحمة والوصول إلى ثواب الله ورضوانه ، وأولئك على اليأس من رحمة الله والوصول إلى هول ما أعدّ لهم. وقيل : معناه إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة ، لأنّ المسيئين والمحسنين مستو محياهم في الرزق والصحة ، وإنما يفترقون في الممات ، وقيل : سواء محياهم ومماتهم : كلام مستأنف على معنى : أن محيا المسيئين ومماتهم سواء ، وكذلك محيا المحسنين ومماتهم : كل يموت على حسب ما عاش عليه. وعن تميم الداري رضى الله عنه أنه كان يصلى ذات ليلة عند المقام ، فبلغ هذه الآية ، فجعل يبكى ويردّد إلى الصباح : ساء ما يحكمون. وعن الفضيل : أنه بلغها فجعل يردّدها ويبكى ويقول : يا فضيل ، ليت شعري من أى الفريقين أنت.

(وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٢٢)

(وَلِتُجْزى) معطوف على بالحق ، لأنّ فيه معنى التعليل. أو على معلل محذوف تقديره : خلق الله السماوات والأرض ، ليدل به على قدرته ولتجزى كل نفس.

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٢٣)

٢٩٠

أى : هو مطواع لهوى النفس يتبع ما تدعوه إليه ، فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلهه.

وقرئ : آلهة هواه ، لأنه كان يستحسن الحجر فيعبده ، فإذا رأى ما هو أحسن رفضه إليه ، فكأنه اتخذ هواه آلهة شتى : يعبد كل وقت واحدا منها (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) وتركه عن الهداية (١) واللطف وخذله على علم ، عالما بأنّ ذلك لا يجدى عليه ، وأنه ممن لا لطف له. أو مع علمه بوجوه الهداية وإحاطته بأنواع الألطاف المحصلة والمقرّبة (٢) (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ) إضلال (اللهُ) وقرئ : غشاوة ، بالحركات الثلاث. وغشوة ، بالكسر والفتح. وقرئ : تتذكرون

(وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ)(٢٤)

(نَمُوتُ وَنَحْيا) نموت نحن ويحيا أولادنا. أو يموت بعض ويحيا بعض. أو نكون مواتا نطفا في الأصلاب ، ونحيا بعد ذلك. أو يصيبنا الأمران : الموت والحياة ، يريدون : الحياة في الدنيا والموت بعدها ، وليس وراء ذلك حياة. وقرئ : نحيا ، بضم النون. وقرئ : إلا دهر يمرّ ، وما يقولون ذلك عن علم ، ولكن عن ظنّ وتخمين : كانوا يزعمون أنّ مرور الأيام والليالي هو المؤثر في هلاك الأنفس ، وينكرون ملك الموت وقبضه الأرواح بأمر الله ، وكانوا يضيفون كل حادثة تحدث إلى الدهر والزمان ، وترى أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان. ومنه قوله عليه السلام : «لا تسبوا الدهر ، فإنّ الله هو الدهر» (٣) أى : فإنّ الله هو الآتي بالحوادث لا الدهر.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٢٦)

وقرئ : حجتهم بالنصب والرفع ، على تقديم خبر كان وتأخيره. فإن قلت : لم سمى قولهم حجة وليس بحجة؟ قلت : لأنهم أدلوا به كما يدلى المحتج بحجته وساقوه مساقها ، فسميت حجة

__________________

(١) قوله «وتركه عن الهداية» تأويل الآية بذلك لتوافق مذهب المعتزلة : أنه لا يريد الشر ولا يفعله.

وعند أهل السنة : لا يقع في ملكه إلا ما يريد ، والله خالق كل شيء ، فالاضلال : خلقه الضلال في القلب. (ع)

(٢) قوله «المحصلة والمقربة» يعنى. للهداية. (ع)

(٣) متفق عليه من حديث أبى هريرة ، واللفظ لمسلم.

٢٩١

على سبيل التهكم. أو لأنه في حسبانهم وتقديرهم حجة. أو لأنه في أسلوب قوله :

تحيّة بينهم ضرب وجيع (١)

كأنه قيل : ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة. والمراد : نفى أن تكون لهم حجة البتة. فإن قلت : كيف وقع قوله (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ) جوابا لقولهم (ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)؟ قلت : لما أنكروا البعث وكذبوا الرسل ، وحسبوا أنّ ما قالوه قول مبكت. ألزموا ما هو مقرّون به : من أنّ الله عز وجل هو الذي يحييهم ثم يميتهم ، وضم إلى إلزام ذلك إلزام ما هو واجب الإقرار به إن أنصفوا وأصغوا إلى داعى الحق ، وهو جمعهم إلى يوم القيامة ، ومن كان قادرا على ذلك كان قادرا على الإتيان بآبائهم ، وكان أهون شيء عليه.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) (٣١)

عامل النصب في (يَوْمَ تَقُومُ) يخسر ، و (يَوْمَئِذٍ) بدل من (يَوْمَ تَقُومُ جاثِيَةً) باركة مستوفزة على الركب. وقرئ : جاذية. والجذوّ : أشد استيفازا من الجثوّ ، لأن الجاذى هو الذي يجلس على أطراف أصابعه : وعن ابن عباس رضى الله عنهما : جاثية مجتمعة. وعن قتادة : جماعات من الجثوة ، وهي الجماعة ، وجمعها : جثى. وفي الحديث (٢) «من جثى جهنم» (٣) وقرئ

__________________

(١) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٦٠ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٢) هذا طرف من حديث الحرث بن الحرث الأشعرى ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من دعا بدعوى الجاملية فانه من جثى جهنم ... الحديث» أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم ، وأحمد وأبو يعلى «تنبيه» احتج به المصنف على أن جثى جمع جثوة : وهي الجماعة. وفي البخاري من حديث ابن عمر رضى الله عنهما رفعه «إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا ، كل أمة تتبع نبيها.

(٣) قوله «من جثى جهنم» في الصحاح «الجثوة» مثلثه : الحجارة المجموعة. وجثى الحرم ، بالضم وبالكسر : ما اجتمع فيه من حجارة الجمار. (ع)

٢٩٢

(كُلَّ أُمَّةٍ) على الابتداء : وكل أمة : على الإبدال من كل أمة (إِلى كِتابِهَا) إلى صحائف أعمالها ، فاكتفى باسم الجنس ، كقوله تعالى (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ). (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ) محمول على القول. فإن قلت : كيف أضيف الكتاب إليهم وإلى الله عزّ وجل؟ قلت : الإضافة تكون للملابسة ، وقد لا بسهم ولا بسه ، أما ملابسته إياهم ، فلأن أعمالهم مثبتة فيه. وأما ملابسته إياه ، فلأنه مالكه ، والآمر ملائكته أن يكتبوا فيه أعمال عباده (يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ) يشهد عليكم بما عملتم (بِالْحَقِ) من غير زيادة ولا نقصان (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ) الملائكة (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أى نستكتبهم أعمالكم (فِي رَحْمَتِهِ) في جنته. وجواب أما محذوف تقديره : وأما الذين كفروا فيقال لهم (أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) والمعنى ألم يأتكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فحذف المعطوف عليه.

(وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٣٣)

وقرئ : والساعة ، بالنصب عطفا على الوعد ، وبالرفع عطفا على محل إن واسمها (مَا السَّاعَةُ) أىّ شيء الساعة؟ فإن قلت : ما معنى (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا)؟ قلت : أصله نظن ظنا. ومعناه : إثبات الظن فحسب ، فأدخل حرفا النفي والاستثناء ، ليفاد إثبات الظن مع نفى ما سواء وزيد نفى ما سوى الظن توكيدا بقوله (وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ...... سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) أى قبائح أعمالهم. أو عقوبات أعمالهم السيئات ، كقوله تعالى (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها).

(وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)(٣٥)

(نَنْساكُمْ) نترككم في العذاب كما تركتم عدة (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) وهي الطاعة ، أو نجعلكم بمنزلة الشيء المنسى غير المبالى به ، كما لم تبالوا أنتم بلقاء يومكم ولم تخطروه ببال ، كالشىء الذي يطرح نسيا منسيا. فإن قلت : فما معنى إضافة اللقاء إلى اليوم؟ قلت : كمعنى إضافة المكر في قوله تعالى (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أى نسيتم لقاء الله في يومكم هذا ولقاء جزائه. وقرئ : لا يخرجون ، يفتح الياء (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أى يرضوه.

٢٩٣

(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٣٧)

(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ) فاحمدوا الله لذي هو ربكم ورب كل شيء من السماوات والأرض والعالمين ، فان مثل هذه الربوبية العامة يوجب الحمد والثناء على كل مربوب ، وكبروه فقد ظهرت آثار كبريائه وعظمته (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وحق مثله أن يكبر ويعظم.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ حم الجاثية ستر الله عورته وسكن روعته يوم الحساب» (١).

سورة الأحقاف

مكية [إلا الآيات ١٠ و ١٥ و ٣٥ فمدنية]

وآياتها ٣٤ وقيل ٣٥ آية [نزلت بعد الجاثية]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) (٣)

(إِلَّا بِالْحَقِ) إلا خلقا ملتبسا بالحكمة والغرض الصحيح (وَ) بتقدير (أَجَلٍ مُسَمًّى) ينتهى إليه وهو يوم القيامة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا) من هول ذلك اليوم الذي لا بد لكل خلق من انتهائه إليه (مُعْرِضُونَ) لا يؤمنون به ولا يهتمون بالاستعداد له. ويجوز أن تكون ما مصدرية ، أى : عن إنذارهم ذلك اليوم.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ

__________________

(١) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبى بن كعب.

٢٩٤

شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٤)

(بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) أى من قبل هذا الكتاب وهو القرآن ، يعنى : أنّ هذا الكتاب ناطق بالتوحيد وإبطال الشرك. وما من كتاب أنزل من قبله من كتب الله إلا وهو ناطق بمثل ذلك ، فأتوا بكتاب واحد منزل من قبله شاهد بصحة ما أنتم عليه من عبادة غير الله (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأوّلين ، من قولهم : سمنت الناقة على أثارة من شحم ، أى : على بقية شحم كانت بها من شحم ذاهب. وقرئ : أثرة ، أى : من شيء أوثرتم به وخصصتم من علم لا إحاطة به لغيركم. وقرئ : أثرة بالحركات الثلاث في الهمزة مع سكون الثاء ، فالإثرة بالكسر بمعنى الأثرة. وأما الأثرة فالمرّة من مصدر : أثر الحديث إذا رواه. وأما الأثرة بالضم فاسم ما يؤثر ، كالخطبة : اسم ما يخطب به

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ)(٥)

(وَمَنْ أَضَلُ) معنى الاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالا من عبدة الأصنام ، (١) حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر على تحصيل كلّ بغية ومرام ، ويدعون من دونه جمادا لا يستجيب لهم ولا قدرة به على استجابة أحد منهم ما دامت الدنيا وإلى أن تقوم القيامة ، وإذا قامت القيامة وحشر الناس : كانوا لهم أعداء ، وكانوا عليهم ضدا ، فليسوا في الدارين إلا على نكد ومضرّة ، لا تتولاهم في الدنيا بالاستجابة ، وفي الآخرة تعاديهم وتجحد عبادتهم. وإنما قيل (مَنْ) و (هُمْ) لأنه أسند إليهم ما يسند إلى أولى العلم من الاستجابة والغفلة ، ولأنهم كانوا يصفونهم بالتمييز جهلا وغباوة. ويجوز أن يريد : كلّ معبود من دون الله من الجن

__________________

(١) قال محمود : «استفهام معناه إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالا من عبدة الأصنام ... الخ» قال أحمد : وفي قوله إلى يوم القيامة : نكتة حسنة ، وذلك أنه جعل يوم القيامة غاية لعدم الاستجابة ، ومن شأن الغاية انتهاء المغيا عندها ، لكن عدم الاستجابة مستمر بعد هذه الغاية ، لأنهم في القيامة أيضا لا يستجيبون لهم ، فالوجه والله أعلم : أنها من الغايات المشعرة بأن ما بعدها وإن وافق ما قبلها إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالثاني ، حتى كأن الحالتين وإن كانتا نوعا واحدا لتفاوت ما بينهما كالشىء وضده ، وذلك أن الحالة الأولى التي جعلت غايتها القيامة لا تزيد على عدم الاستجابة ، والحالة الثانية التي في القيامة زادت على عدم الاستجابة بالعداوة بالكفر بعبادتهم إياهم ، فهو من وادى ما تقدم آنفا في سورة الزخرف في قوله (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ).

٢٩٥

والإنس والأوثان ، فغلب غير الأوثان عليها. وقرئ : ما لا يستجيب. وقرئ : يدعو غير الله من لا يستجيب ، ووصفهم بترك الاستجابة والغفلة طريقه طريق التهكم بها وبعبدتها. ونحوه قوله تعالى (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ).

(وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ)(٧)

(بَيِّناتٍ) جمع بينة : وهي الحجة والشاهد. أو واضحات مبينات. واللام في (لِلْحَقِ) مثلها في قوله (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً) أى لأجل الحق ولأجل الذين آمنوا (١). والمراد بالحق : الآيات ، وبالذين كفروا : المتلو عليهم ، فوضع الظاهران موضع الضميرين ، للتسجيل عليهم بالكفر ، وللمتلوّ بالحق (لَمَّا جاءَهُمْ) أى : بادوه بالجحود ساعة أتاهم ، وأوّل ما سمعوه من غير إجالة فكر ولا إعادة نظر. ومن عنادهم وظلمهم : أنهم سموه سحرا مبينا ظاهرا أمره في البطلان لا شبهة فيه.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(٨)

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) إضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحرا إلى ذكر قولهم : إن محمدا افتراه. ومعنى الهمزة في أم : الإنكار والتعجيب ، كأنه قيل : دع هذا واسمع قولهم المستنكر المقضى منه العجب ، وذلك أن محمدا كان لا يقدر عليه حتى يقوله ويفتريه على الله ، ولو قدر عليه دون أمّة العرب لكانت قدرته عليه معجزة لخرقها العادة ، وإذا كانت معجزة كانت تصديقا من الله له ، والحكيم لا يصدّق الكاذب فلا يكون مفتريا. والضمير للحق ، والمراد به الآيات (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ) على سبيل الفرض عاجلني الله تعالى لا محالة بعقوبة الافتراء عليه. فلا تقدرون

__________________

(١) قال محمود : «اللام في قوله تعالى للحق نحو اللام في قوله (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) أى لأجل الحق ولأجل الذين آمنوا ... الخ» قال أحمد : هذا الاضراب في بابه مثل الغاية التي قدمتها آنفا في بابها فانه انتقال إلى موافق ، لكنه أزيد من الأول ، فنزل بزيادته عليه مع ما تقدمه مما ينقص عنه منزلة المتنافيين ، كالنفى والإثبات اللذين يضرب عن أحدهما للآخر ، وذلك أن نسبتهم للآيات إلى أنها مفتريات أشد وأبعد من نسبتها إلى أنها سحر ، فأضرب عن ذلك الأول إلى ذكر ما هو أغرب منه.

٢٩٦

على كفه عن معاجلتى ولا تطيقون دفع شيء من عقابه عنى ، فكيف أفتريه وأتعرّض لعقابه. يقال : فلان لا يملك إذا غضب ، ولا يملك عنانه إذا صمم ، ومثله (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) ، (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) ومنه قوله عليه السلام «لا أملك لكم من الله شيئا» (١) ثم قال (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) أى تندفعون فيه من القدح في وحى الله تعالى ، والطعن في آياته ، وتسميته سحرا تارة وفرية أخرى (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) يشهد لي بالصدق والبلاغ ، ويشهد عليكم بالكذب والجحود. ومعنى ذكر العلم والشهادة وعيد بجزاء إفاضتهم (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) موعدة بالغفران والرحمة إن رجعوا عن الكفر وتابوا وآمنوا ، وإشعار بحلم الله عنهم مع عظم ما ارتكبوا. فإن قلت : فما معنى إسناد الفعل إليهم (٢) في قوله تعالى فلا تملكون لي؟ قلت : كان فيما أتاهم به النصيحة لهم والإشفاق عليهم من سوء العاقبة وإرادة الخير بهم ، فكأنه قال لهم : إن افتريته وأنا أريد بذلك التنصح لكم وصدكم عن عبادة الآلهة إلى عبادة الله ، فما تغنون عنى أيها المنصوحون إن أخذنى الله بعقوبة الافتراء عليه.

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ)(٩)

البدع ، بمعنى : البديع ، كالخف بمعنى الخفيف. وقرئ : بدعا ، بفتح الدال ، أى : ذا بدع

__________________

(١) متفق عليه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه ، ولما نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) دعا النبي صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا. فعم وخص. فقال : يا بنى كعب بن لؤي يا بنى مرة بن كعب : يا بنى عبد شمس يا بنى عبد مناف ، يا بنى هاشم ، يا بنى عبد المطلب ، إنى لا أملك لكم من الله شيئا ـ الحديث»

(٢) قال محمود : فان قلت : ما معنى إسناد الفعل إليهم ... الخ» قال أحمد : فيه نظر من قبيل أن الكلام جرى فرضا وتقديرا. ومتى فرض الافتراء لا يتصور على تقديره نصح ، فان النصح عبارة عن الدعاء إلى ما فيه نفع ، ولا ينفع المكلف في عمل ظاهر أو باطن إلا أن يكون مأمورا به من الله تعالى ، ولا سبيل إلى الاطلاع على ذلك إلا من الوحي الحق لا غير ، فإذا لا يتصور نصح مع الافتراء ، وإنما يتم هذا الذي قرره على قاعدة المعتزلة القائلين بأن العقل طريق يوصل إلى معرفة حكم الله تعالى ، لأنه إذا أمر بطاعة من الطاعات كالتوحيد مثلا وقال : إن الله حتم عليكم وجوب التوحيد ، وأنا رسول الله إليكم. ولم يكن متعوقا : فانه محق في الأمر بالتوحيد ، لأن العقل دل على وجوبه عندهم ، وإن كان مفتريا في دعوى كونه رسولا من الله عز وجل. وهذه قاعدة قد أفسدتها الأدلة القاطعة ، فيحتمل في إجراء الآية على مذهب أهل السنة : أن يكون إسناد الفعل لهم على معنى التنبيه بالشيء على مقابله بطريق المفهوم ، فالمعنى إذا إن كنت مفتريا فالعقوبة واقعة بى لا تدفعونها عنى ، فمفهومه ، وإن كنت محقا وأنتم مفترون فالعقوبة واقعة بكم لا أقدر على دفعها عنكم. ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) وأمثاله كثيرة والله أعلم.

٢٩٧

ويجوز أن يكون صفة على فعل ، كقولهم : دين قيم ، ولحم زيم (١) : كانوا يقترحون عليه الآيات ويسألونه عما لم يوح به إليه من الغيوب ، فقيل له : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) فآتيكم بكل ما تقترحونه ، وأخبركم بكل ما تسألون عنه من المغيبات ، فإنّ الرسل لم يكونوا يأتون إلا بما آتاهم الله من آياته ، ولا يخبرون إلا بما أوحى إليهم. ولقد أجاب موسى صلوات الله عليه عن قول فرعون : فما بال القرون الأولى؟ بقوله : علمها عند ربى (وَما أَدْرِي) لأنه لا علم لي بالغيب ـ ما يفعل الله بى وبكم فيما يستقبل من الزمان من أفعاله ، ويقذر لي ولكم من قضاياه (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) وعن الحسن : وما أدرى ما يصير إليه أمرى وأمركم في الدنيا ، ومن الغالب منا والمغلوب. وعن الكلبي : قال له أصحابه ـ وقد ضجروا من أذى المشركين ـ : حتى متى نكون على هذا؟ فقال : ما أدرى ما يفعل بى ولا بكم ، أأترك بمكة أم أومر بالخروج إلى أرض قد رفعت لي ورأيتها ـ يعنى في منامه ـ ذات نخيل وشجر؟ وعن ابن عباس : ما يفعل بى ولا بكم في الآخرة ، وقال : هي منسوخة بقوله (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) ويجوز أن يكون نفيا للدراية المفصلة (٢). وقرئ : ما يفعل ، بفتح الياء ، أى : يفعل الله عز وجل. فإن قلت : إنّ (يُفْعَلُ) مثبت غير منفي ، فكان وجه الكلام : ما يفعل بى وبكم. قلت : أجل ، ولكن النفي في ما أدرى لما كان مشتملا عليه لتناوله (ما) وما في حيزه : صح ذلك وحسن. ألا ترى إلى قوله (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ) كيف دخلت الياء في حيز أنّ وذلك لتناول النفي إياها مع ما في حيزها. و (ما) في (ما يُفْعَلُ) يجوز أن تكون موصولة منصوبة ، وأن تكون استفهامية مرفوعة. وقرئ : يوحى ، أى الله عز وجل.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(١٠)

__________________

(١) قوله «ولحم زيم» في الصحاح «اللحم الزيم» المتفرق ليس بمجتمع في مكان فيبدن. وفيه أيضا : بدن الرجل يبدن ، إذا ضخم وسمن. (ع)

(٢) قال محمود : «أجود ما ذكر فيه حمله على الدراية المفصلة ، يريد بذلك أن تفصيل ما يصير إليه من خير ويصيرون إليه من شر ... الخ» قال أحمد : «بنى على أن المجرور معطوف على مثله ، وأنهما جميعا في صلة موصول واحد ، ولو قيل : إن المجرور الثاني من صلة موصول محذوف معطوف على مثله ، حتى يكون التقدير : وما أدرى ما يفعل بى ولا ما يفعل بكم : لكانت (لا) واقعة بمكانة غير مفتقرة إلى تأويل ، وحذف الموصول المعطوف وتفاصيله كثيرة. ومنه

فمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء

يريد حسان رضى الله عنه : فمن يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يمدحه سواء.

٢٩٨

جواب الشرط محذوف تقديره : إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين. ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) والشاهد من بنى إسرائيل : عبد الله بن سلام ، لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نظر إلى وجهه ، فعلم أنه ليس بوجه كذاب. وتأمله فتحقق أنه هو النبي المنتظر وقال له : إنى سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبىّ : ما أوّل أشراط الساعة؟ وما أوّل طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمّه؟ فقال عليه الصلاة والسلام (١). أمّا أوّل أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب. وأمّا أوّل طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت. وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه ، وإن سبق ماء المرأة نزعته. فقال : أشهد أنك رسول الله حقا ، ثم قال : يا رسول الله ، إن اليهود قوم بهت وإن علموا بإسلامى قبل أن تسألهم عنى بهتوني (٢) عندك. فجاءت اليهود فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : أى رجل عبد الله فيكم؟ فقالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، وأعلمنا وابن أعلمنا. قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله؟ قالوا : أعاذه الله من ذلك ، فخرج إليهم عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمدا رسول الله ، فقالوا : شرنا وابن شرنا وانتقصوه ، قال : هذا ما كنت أخاف يا رسول الله وأحذر. قال سعد بن أبى وقاص ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشى على وجه الأرض أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام (٣) ، وفيه نزل (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) (٤) الضمير للقرآن ، أى : على مثله في المعنى ، وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة لمعانى القرآن من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك. ويدل عليه قوله تعالى (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) ، (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) ، (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) ويجوز أن يكون المعنى : إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد على نحو ذلك ، يعنى كونه من عند الله. فإن قلت : أخبرنى عن نظم هذا الكلام لأقف على معناه من جهة (٥) النظم. قلت : الواو الأولى عاطفة

__________________

(١) أخرجه البخاري من رواية حميد عن أنس ، وأتم منه».

(٢) قوله «بهتوني» أى : رموني بما ليس فىّ. (ع)

(٣) متفق عليه.

(٤) عند البخاري وشك في إدراجها. وروى الطبري من رواية محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام قال قال عبد الله بن سلام «فىّ نزلت هذه الآية. ثم روى عن الشعبي أنه أنكر ذلك لكون السورة مكية. كذا أخرجه ابن أبى شيبة عن الشعبي.

(٥) قال محمود : «إن قلت : أخبرنى عن نظم هذا الكلام لأقف عليه من جهة النظم ... الخ» قال أحمد : إنما لم يوجه المعطوف إلى جهة واحدة ، لأن التفصيل قد يكون عطف مجموع مفردات على مجموع مفردات كل منهما والآية من هذا النمط ، ومثلها قوله تعالى (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) وقوله (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) الآية ، وقد تقدم تقرير ذلك في الآيتين فجدد به عهدا.

٢٩٩

لكفرتم على فعل الشرط ، كما عطفته (ثُمَ) في قوله تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) وكذلك الواو الآخرة عاطفة لاستكبرتم على شهد شاهد ، وأما الواو في (وَشَهِدَ شاهِدٌ) فقد عطفت جملة قوله. شهد شاهد من بنى إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم : على جملة قوله (كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ) ونظيره قولك : إن أحسنت إليك وأسأت ، وأقبلت عليك وأعرضت عنى ، لم نتفق في أنك أخذت ضميمتين فعطفتهما على مثليهما ، والمعنى : قل أخبرونى إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به ، واجتمع شهادة أعلم بنى إسرائيل على نزول مثله وإيمانه به ، مع استكباركم عنه وعن الإيمان به ، ألستم أضل الناس وأظلمهم؟ وقد جعل الإيمان في قوله (فَآمَنَ) مسببا عن الشهادة على مثله ، لأنه لما علم أنّ مثله أنزل على موسى صلوات الله عليه ، وأنه من جنس الوحى وليس من كلام البشر ، وأنصف من نفسه فشهد عليه واعترف كان الإيمان نتيجة ذلك.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٤)

(لِلَّذِينَ آمَنُوا) لأجلهم وهو كلام كفار مكة ، قالوا : عامّة من يتبع محمدا السقاط ، يعنون الفقراء مثل عمار وصهيب وابن مسعود ، فلو كان ما جاء به خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء. وقيل : لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار : قالت بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع : لو كان خيرا ما سبقنا إليه رعاء البهم. وقيل : إن أمة لعمر أسلمت ، فكان عمر يضر بها حتى يفتر ثم يقول لو لا أنى فترت لزدتك ضربا ، وكان كفار قريش يقولون : لو كان ما يدعو إليه محمد حقا ما سبقتنا إليه فلانة. وقيل : كان اليهود يقولونه عند إسلام عبد الله بن سلام وأصحابه. فإن قلت : لا بدّ من عامل في الظرف (١) في قوله (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) ومن متعلق لقوله (فَسَيَقُولُونَ) وغير

__________________

(١) قال محمود : «لا بد من عامل الظرف وغير مستقيم أن يعمل فيه ... الخ» قال أحمد : إن لم يكن مانع من عمل فسيقولون في الظرف ألا تنافى دلالتى المضي والاستقبال ، فهذا غير مانع ، فان الاستقبال هاهنا إنما خرج مخرج الاشعار بدوام ما وقع ومضى ، لأن القوم قد حرموا الهداية وقالوا : هذا إفك قديم ، وأساطير الأولين

٣٠٠