الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٠

(إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) : وكما بدلنا نطفهم خيرا منها إذ جعلناها في أحسن تقويم ، كذلك سوف نبدل أجسادهم البالية خيرا منها ، ما يناسب الخلود ، بتخليصها من بواعث الأمراض والأعراض المؤدية إلى الموت ، لحد لا يقضى على أهل النار فيموتوا ، (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) ومن خيرها أنها البدن الأصيل متحللا عن الزوائد من أبدان آخرين أو غيرها ، إذ إن في إحيائها مع غير أبدانها إبطالا لإحياء الآخرين وجزائهم الجسداني ، واحياء الزوائد من غير الأبدان لغو لا يفيد ، لأن الهدف من إحياء الأجساد إيصال الجزاء إلى أرواحها العاملة بها ، ويكفيه البدن الذي عاشه طوال حياة التكليف أو حياته كلها.

ومن خيرها انها رقيقة كأنها الهواء أو أخف والطف ، وعلها الطينة التي خلقت منها ، وعلى حد المروي عن الامام الصادق عليه السلام حين «سئل عن الميت يبلى جسده؟! قال : نعم ، حتى لا يبقى لحم ولا عظم إلا طينته التي خلق منها فانها تبقى مستديرة في القبر حتى يخلق منها كما خلق أول مرة» (١).

وعل الآيات في خلق الأمثال يوم المعاد ، ترمي إلى هذه الأبدان الروحانية الصافية البراقة ، تذوق نعم الله في جنته ، أم نقمه في ناره : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) (٥٦ : ٦١) نحن السابقون على القدرات لا مسبوقون على أن نبد لكم أمثالكم وهو الخلق الجديد : (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) وهو مثل الخلق القديم في الصورة ، لا عينها ، لاستحالة اعادة المعدوم ، وهو مثله في الجسم لا عينه في كله ، وانما كحالة تجردية كالبدن البرزخي ، وكالنور ، ومصدره البدن الذي عاشه حياته أو حياة التكليف.

وكذلك الآيات في مثل الخلق الجديد انه كالبدء : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)

__________________

(١) نبدل تطلب مفعولين ثانيهما مذكور وهو أمثالكم فالأول هو «كم» وهو الخلق الجديد.

١٤١

(٧ : ٢٩) (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (٢١ : ١٠٤) ولقد بدأنا بالنطفة فليعدنا بنفس النطفة التي خلقنا منها أول مرة ، ثم لا حاجة إلى الزوائد يوم المعاد ، فانها بين ما لا تنفع ، وما تضر ، وسوف نفصل البحث عن كيفية الحشر معمقا في مناسبتها الأخرى.

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) : فإذ لا تنفع هؤلاء المناكيد الأوغاد ، أيّة حجة وذكرى ، فذرهم على ما هم فيه خائضون من نكران الحق والهزؤ به ، وذرهم يلعبوا بمغريات الحياة الدنيا ، حتى يلاقوا اليوم الموعود ، البادئ بما بعد الموت يوم البرزخ ، ثم إلى يوم الحشر ، ويعتبران يوما واحدا اعتبارا بانقضاء التكليف وابتداء الجزاء بالموت (١).

(يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) : هنا يختص يوم القيامة بالذكر من يومي الجزاء ، لأنه الأصل والبرزخ كتهيئة.

في هذا اليوم يخرجون بأجسادهم من أجداثهم : قبورهم ، مسرعين ، كأنهم يسرعون إلى نصب منصوبة أعلاما لمن لا يعرف الطريق.

(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) : (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) (٥٤ : ٧) (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ) (٤٢ : ٤٥) ومن الرهبة (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ. أَبْصارُها خاشِعَةٌ) (٧٩ : ٩) فأبصار العيون والقلوب تخشع واجفة ، (تَرْهَقُهُمْ) : تشملهم بقهر (ذِلَّةٌ) وتغشاهم ، (ذلِكَ) اليوم العصيب الرهيب (الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا) طوال الرسالات وطول حياتهم (يُوعَدُونَ) عنه وهم ناكرون ، وقد كانوا يرتابون فيه ويكذبون به ويستعجلون.

__________________

(١) ولا يعنى هنا خصوص الحشر إذ لا يعقل استمرارية الخوض واللعب اليه ، حيث الدنيا بما فيها تنقطع بالموت وبه تقوم القيامة الصغرى ، و «حتى» تفيد استمرارية الخوض واللعب ـ تأمل.

١٤٢

سورة نوح ـ مكية ـ وآياته ثمان وعشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ

١٤٣

جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً)(٢٨)

* * *

١٤٤

اولى الرسالات الفذة الإلهية يحملها أول الخمسة من اولي العزم من الرسل ، نوح عليه السلام ، وقد ذكر بدعواته وما لاقاه بسببها من قومه ٤٣ مرة في القرآن ، منها مدى دعوته: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ) (٢٩ : ١٤). وهو اللبث الرسالي لذكره هنا بعد الرسالة ، وقومه هم بنو الجن والإنسان كافة (١) كما في اولي العزم كافة ، ولذلك حق له ان يدعو على من على الأرض من الكافرين : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) فلو لم تشملهم دعوته لم يحق له هكذا دعاء شامل ، ومن لطيف الأمر في دعوته الاليفة الرحيمة طوال قرونه العشرة ان القرآن يعتبره أخاهم : (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ) (٢٦ : ١٠٦) فانها اخوة لهم فيما سوى الايمان : ان نشأ في البيئة التي نشأوا فيها فلم يتأثر بضلالها ، وعاشرهم ودعاهم إلى الله كأخ رحيم ، إلى ان تأكد بالوحي ان لا خير فيهم وفي أنسالهم ، فانما هم شر خالص : (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) فقد صبر على اذاهم المتواصل طول الدعوة علّهم يؤمنون ، فهل يصبر إذا انقطع الأمل وتفاقم العناد منهم في ضلالهم ضد الدعوة والمؤمنين بها ، إنه صبر على الظلم والضيم وعلى انتقاض شريعة الله وانتقاص دعوته ، ولا يرضاه العقل والعدل!

الشريعة الأولى

هل إن شريعة نوح عليه السلام هي الاولى فلم تكن قبله شريعة من الدين مع أي من النبيين؟ ام كان الوحي إليهم يحمل تقوية الأحكام العقلية دون أن يحمل احكاما شرعية؟ ام لم يكن قبل نوح أنبياء؟ لا سبيل إلى الأخير والأولان هما الأوليان.

فإن القرآن لا يذكر من شرائع الدين إلا خمسا محتصرة : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٤٢١ عن الباقر (ع) فاما نوح فانه أرسل الى من في الأرض بنبوة عامة ورسالة عامة.

(تفسير الفرقان ـ ج ٢٩ ـ م ١٠)

١٤٥

أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (٤٢ : ١٣) (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ...) (٤ : ١٦٢).

واصحاب الشرائع الخمس هم اولوا العزم من الرسل : عزم لهم في استقلال شرائعهم وثباتها إلى شريعة أخرى تنسخها تكميلا لها : بعثوا إلى شرق الأرض وغربها وجنها وأنسها (١) وعزم لهم في سبقهم الأنبياء إلى الإقرار بالله (٢) وثباتهم على عهد الله المعهود إليهم : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (٢٠ : ١١٥) وعزم لهم في الصبر على ووعثاء السفر واتعاب السفارة الإلهية : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) (٤٦ : ٣٥) فقد عزموا على الصبر مع التكذيب لهم والذي (٣) فهم «الذين دارت عليهم الرحى» (٤) رحى الوحي بشرائع الدين.

فهم عظماء ثابتون في عزمهم في أنفسهم وعهودهم وشرائعهم وكتبهم ، وليس منهم آدم وإدريس قطعا ، فلم يحملا إذا شريعة من الدين ، وانما احكاما عقلية مؤيدة بوحي النبوة ، فشرائع الدين بحملتها الأصول ، ودعاتها الفروع : النبيين الأتباع ، إنها ابتدأت بنوح بعد ما كان الناس أمة واحدة في الضلالة ، ولانقطاع دعوة النبيين عنهم ، عائشين في الفترة بين إدريس ونوح ، كما بين آدم وإدريس : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢ : ٢١٣) (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٠ : ١٩).

__________________

(١) ج ١١ بحار الأنوار ص ٣٣ ح ٢٥ وح ٦١ عن الصادق (ع).

(٢ ، ٣). ج ١١ بحار الأنوار ح ٣٠ عن الباقر (ع).

(٢ ، ٣). ج ١١ بحار الأنوار ح ٣٠ عن الباقر (ع).

(٤) كما في أحاديث عدة.

١٤٦

كانت الوحدة سائدة بين الناس قبل الرسالات ، فهل يا ترى انها وحدة في الهدى دون رسالة إلهية ، ولم تتحقق الوحدة الدينية مع الرسالات؟ كلا ، انهم كانوا ضلّالا أجمع ، لعدم شرايع الدين وقتذاك ، وتحللهم عن شريعة العقل المؤيد بوحي السماء.

ومهما كانت الضلالة سائدة على البشرية قبل شرائع الدين ، فانها ضلالة عن تقصير وقصور ، قصور زال بشرائع الدين ، وتقصير في التحلل عن شريعة العقل الوحيد ، أو عقل الوحي التي حملتها غير اولى العزم من غير أصحاب الشرائع ، كآدم وإدريس ، يوحي بذلك ما يحمله نوح في مستهل رسالته :

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) :

فإذا لم تكن قبل نوح أية شريعة قاطعة للعذر ، داعية إلى الحق ، فما هو العذاب الأليم الذي يهددهم به نوح عليه السلام : (أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ) فلولا الإنذار من نوح ـ ايضا ـ لكان يأتيهم عذاب اليم ، ولكن الله يكمل حجته وإنذاره بأول شريعة من الدين ، بعد ما ثبتت الحجة بشريعة من العقل ، فشرائع العقل بالوحي وسواه ، وشرائع الدين ، هما متناصرتان في اثبات الحجة ومزيدها على الناكرين ، والقرآن يشير إلى رسل قبل نوح : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) (٢٥ : ٣٧) ولو لم يكن رسل قبل نوح لما صدق تكذيبهم لجمع الرسل ، واقله اثنان أو ثلاثة ، وفي المروي عن الباقر عليه السلام انهم كانوا عشرة (١).

فلا تخلوا ـ إذا ـ الفترات الرسالية ، من حجج بالغة ، الفترة قبل شرايع الدين (بين آدم وإدريس وبينه وبين نوح) وبين شرائع الدين (كما بين المسيح

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٤٢١ في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده الى محمد بن الفضل عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (ع): كان بين آدم ونوح عشرة آباء كلهم أنبياء.

١٤٧

ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم) مهما كانت الحجج ابلغ وأقوى في غير الفترات الرسالية ، فإنما يداقّ الله الناس في الحساب على قدر ما أوتوه ، كما يقتضيه عدله وحكمته البالغة.

ونوح عليه السلام يحمل في مستهل الدعوة وفجر الرسالة ، الدعوة إلى أصول ثلاثة هي خلاصة الأساس في الرسالات الإلهية كلها ، مهما افترقت في التخطيط والتفريع والعمق والبساطة والشكليات المناسبة لكل جيل :

(قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ).

(إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ) عن عذاب الله في الدارين ، ان تركتم هذه الأصول (نَذِيرٌ مُبِينٌ) : مبين لجذور الإنذار وأسبابه ، مبين عملا واقعا جزاء ترك الشريعة ، ومبين كذلك من هنا نتائج تطبيقها.

(أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) : فعبادة الله وحدها ، وكأوّل الفرائض ، هي منهج كامل للحياة ، تشمل التعرف إلى ألوهيته والعمل لعبوديته ، وانها الصلة الوحيدة العريقة بين العبد والمعبود ، وينبثق نظام الحياة عنها ، وهي تشمل توحيده في سائر شئون الالوهية ، وتطبيق الواجبات الشرعية تجاهه تعالى.

(وَاتَّقُوهُ) : تقوى الله في عبادته فلا يعبد معه سواه ، وفي طاعته فلا يطع معه سواه ، وفي حرماته فلا تهتك ، انها هي الضمانة الحقيقية لاستقامة الإنسان على الثبات في عبادته ، وعدم التلفت والتفلّت عنه أو الالتواء في تطبيقه.

(وَأَطِيعُونِ) : وطاعة الرسول أولا وأخيرا هي الوسيلة الوحيدة للتعرف إلى عبادة الله وتقواه المقصودة الصالحة ، إذ لا تعرف إلا بالوحي ولا سيما الذي يحمله اولوا العزم من الرسل الذين دارت عليهم الرحى.

وهكذا نجد البرامج الرسالية طوال عهودها ، تحمل هذه البنود البناءة كأصول الدعوة بالإنذار والتبشير ، ثم الفروع تتبناها مهما اختلفت باختلاف المصالح والبيئات ، وليبلوهم الله تعالى فيما آتاهم : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ... لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٥ : ٤٨).

١٤٨

والشرائع هي شرائع الدين وهو واحد برغم اختلافها في شكلياتها ، فالدين هو الطاعة لله الواحد القهار ، مهما اختلفت صورها وسيرها : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (٤٢ : ١٣) أقيموا الدين الواحد في شرائعه ، فالدين واحد والامة واحدة : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (٢١ : ٩٢).

فهل توجد شريعة من شرائع الدين لا تتبنى ـ كأصول ـ هذه الثلاثة؟ والشاذة عنها أو عن واحدة منها ليست شريعة إلهية أو هي محرفة.

ونتيجة هامة عامة تنجم عن اعتناق هذه الثلاثة اضافة إلى سائر نتائجها الدنيوية والاخروية أمران :

(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

غفر الذنوب ـ بعضها لا كلها ـ فان «من» يوحي بالتبعيض ، وهذا البعض ليس إلا مما سلف في زمن الكفر : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) (٨ : ٣٨).

والبعض المغفور هو الحقوق الإلهية المضيعة زمن الكفر ، وذلك بشرف الإيمان ، واما البشرية الضائعة فلا تغفر بالإيمان ، انما بالإصلاح وإرضاء أصحابها ، مناسبة الحكم والموضوع ، فان الإيمان بالله ليس ليضيع حقوق الناس.

وليس من العدل والحكمة في التشريع غفران الذنوب الآتية بسند الإيمان السابق ولو دام ، فان الإيمان لزامه الدفع للصالحات ، لا أن يغفر صاحبه إذا تخلف عنها إلى الطالحات ، ولزام الغفران هكذا الغاء التكاليف الإلهية بسبب حصول مبدء التكليف ودافعه : الإيمان.

اجل : (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) (١٤ : ١٠) (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا

١٤٩

داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) (٤٦ : ٣١) وفيما يوحي بالغفر العام فهو بين مخصّص بهذه الآيات ، وخاص بالذنوب وهي الصغائر المكفرة بالإيمان وبترك الكبائر ، ومذكور فيه بواعث الغفران فيحدد بحدودها كما توحيه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٦١ : ١٣).

(وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : وهو المحتوم الثابت الذي لا يؤخر ، وقبله الأجل المعلق على بواعث وحوادث للموت ، سواء من صاحب الأجل. مخيرا أم مسيرا ، ام من غيره ، ام من الله ، وكل من الله دون منافاة لخيرة الخلق.

والتأخير عن الأجل المعلق ببواعثها إلى الأجل المسمى المحتوم قد يكون نعمة ليكسب صاحبه فيها مزيدا من الإيمان والعمل الصالح ، كما هنا ، جزاء الحسنى بالحسنى ، وكما في آيات تترى : (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) (١١ : ٣) (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) (١٤ : ١٠).

وقد يكون نقمة لا تكسب إلا إثما وعذابا مهينا : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٣ : ١٧٨).

كما ان من التعجيل عن الأجل المسمى نعمة كمن يقتل في سبيل الله ، ومن يعجل في موته كيلا يفوت عنه ما حصل من صالح ، ولا يكسب في المستقبل ما يخسره من طالح.

(إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) : وهذا التعليل يحمل بشارة وإنذارا ، بشارة لمن آمن فيؤخر إلى الأجل المسمى ليكمل ، وليس بمؤخره لولا إرادة الله ، فان اجل الله لا يؤخر ، لا محتومه إطلاقا ، ولا معلقه إذا جاء ، فلا مؤخر له إلا الله ، وليس هو بمؤخره رحمة إلا لمن تاب وآمن. ويحمل

١٥٠

إنذارا لمن بقي على الكفر ، فان أجله المعلق إذا جاء لا يؤخر إلى المسمى.

فهنا الأجل كلا الأجلين ، وكون المعلق اجل الله اعتبارا بان الموت لا يتحقق إلا بإرادته مهما توفرت بواعثه ، وان الحياة لا تبقى إلا بإرادته مهما توفرت عواملها ، فله التأجيل إلى الأجل المسمى فإذا جاء لا يؤخر قط ، وله التعجيل عن المسمى ، فإذا جاء لا يؤخر إلا باذنه ، إذا فلا منافاة بين عدم تأخير اجل الله ، وأنه يؤخره إلى المسمى.

فلا يحسبن احد ان اجله بيده ، او ان له تأجيل أجله أو تعجيله ، انما له تقديم دوافع الموت قبل أجله المحتوم ، ثم إذا شاء الله أماته ، وله تقديم دوافع التأجيل إلى المسمى كالايمان ، وقد يشاء الله تأجيله ان كان لصالحه.

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً. فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً).

عرض نموذجي لما بلغه نوح من رسالات الله ، وما لاقاه وعاناه من قومه طوال الدعوة مع ما كان منه من صبر على ألوان الأذى طوال الف سنة إلا خمسين عاما : (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) (٥٣ : ٥٢).

هذه الدعوة كانت متواصلة ليل نهار دون ملل ولا كلل ولا خلل ، دون أن يمله عدم الاجابة ، أو تكلّه مواصلة الأذى ، يعرضها نوح في نهاية الأمد الطويل من دعوته ومستهل دعائه عليهم بعد الإياس من خيرهم والتأكد من شرهم ومن في أصلابهم.

(فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) : هل لأن دعوته كانت قاسية يفر منها؟ ام لأنها كانت ناقصة لا تحمل حججا تقبلها الفطر والعقول؟ ام لأنهم هم كانوا اظلم واطغى ، ودعوة الحق لا تزيد دعاة الباطل العنيدين إلا ضلالا بما يصرون في عتوهم ونفورهم ونكيرهم للحق الصراح : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (١٧ : ٨٢) إذ يخسرون فيها الدعوة والداعي ويبدلون الرحمة عذابا وخسارا : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً

١٥١

وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (٢ : ١٠) وانما زيادته بظهوره عند ظهور الحق ووفوره عند نكيره.

إنه لا بد للدعوة الحق من زيادة ، إما في الهدى ، أو في الضلال ، وأما ألا تؤثر لا إثباتا ولا نفيا؟ فلا! ولا بد من مواصلة الدعوة ليل نهار واثباتا للحجة تنويرا للمهجة لكي تصبح نورا للمهتدين ونارا على المعتدين جزاء وفاقا.

إنهم كانوا يفرون عن دعائه وعن اجابة الحق ، ولكن نوحا لم يكن ليذرهم يفرون إلا ويلاحقهم أينما كانوا ، فما استطاعوا بالفرار بعدا عن دعائه ، لذلك احتالوا حيلا أخرى ليفروا عن سماع الحق في فرارهم على قرارهم ، بملاحقته إياهم :

(وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) :

إصرار تلو إصرار واستكبار ، إصرار الداعية على دعوة الحق في محاولة دائبة ، وتحيّن الفرص لتبليغهم إياه ، وإصرارهم تجاهه في ادبار واستكبار كأنهم يدعون إلى الموت! وهو يدعوهم إلى الحياة ، ليغفر الله لهم ذنوبهم ويحييهم حياتا طيبة!.

ظلوا في محاولة عنيدة بغيضة كيلا يسمعوا نوحا ولا يروه بطريقة صبيانية حمقاء ، بسد الآذان عن سماع الحق ، وستر العيون عن رؤية داعية الحق ، برد الثياب ، وهذا منتهى الضلال.

لقد جرّب نوح كافة الأساليب في دعوتهم علهم يهتدون ، وهم قابلوه بكافة أساليب التمرد والعصيان وظلوا معاندين.

فمن حيث الزمن : الف سنة إلا خمسين عاما ، وفي مواصلة دعاءهم ليل نهار ، وفي ملاحقتهم حالة الفرار لم يخل مجالا ، وفي كيفيتها : إسرارا ثم إعلانا ، ثم إعلانا وإسرارا :

(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) : فقد يوحي بسابق الإسرار ، وهو بطبيعة الحال

١٥٢

مستهل الدعوة : فلو ابتدأت جهارا واجهت حملة جماهيرية قاضية ، فلا بد من الإسرار أولا كي تجد جوا صالحا وركيزة تتركز عليها الدعوة في المارقين.

ثم إذا واجهت قبولا ولو قليلا ، ام لم تواجه ، فالإعلان ، علّها تثير عطف الجماهير وتحرك فكرهم وتنير فطرهم عل فيهم من يقبل ويقبل.

ثم أخيرا لا بد من الجمع بين الإعلان والإسرار ، كلّ في مجاله المناسب وجوّه اللائق :

(ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) : إسرارا ليدخل شغاف القلوب وعل القابل يقبل فيلحق دون خجل من الجماهير العنيدة ، وإعلانا لتعزيز كلمة الحق ، ولتظهر القابليات على رؤوس الأشهاد ، ولقد حملت الدعوة ـ فيما حملت ـ ترغيبهم بالحق فوعدتهم بمتطلبات الحياة الدنيا ، رغم انها ليست دار جزاء ، وتحريكا لعقولهم وعواطفهم وضمائرهم ، وتنديدا بهؤلاء الذين قلوبهم قلوب الشياطين فلا يعرفون أو يفهمون كلمة الحق!:

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) : لا يذهب استغفاركم هباء ، لأن الله تعالى غفار في سنته الإلهية منذ بدء الخلق ، فاستغفروه لأنه ربكم : المالك المدبر لكم ، ولأنه معدن الغفران : (إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً).

ومن آثار غفرانه في الدنيا انه يفتح لكم بركات من السماء والأرض :

(يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٧ : ٩٦).

هذه البركات الموعودة هي مما تنتج عن الإيمان والتقوى وليزيدوا من الصالحات ويعيشوا بركات ، ولكنها ليست دائما ناتجة عن الصالحات كالتي توفر على الكفار إملاء وامهالا ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ، فهي إذا دركات لهم وليست ببركات ، وكما نشهدها اليوم في دولتين كبيرتين موسع عليهما في الرزق ، ممكّن لهما في الأرض : أمريكا الرأسمالية المستعمرة ، روسيا الشيوعية المستحمرة ،

١٥٣

والدرك الأسفل في الأولى هبوط المستوى الأخلاقي إلى اشر دركات الحيوانية ، والحياة كل الحياة قائمة فيها على اغراءات المال ، وفي الثانية تهدر قيمة الإنسان الروحية إلى أسفل دركات ، ويسود التجسس ويعيش الناس في وجل دائم من المذابح المتوالية ، وليست هذه أو تلك حياتا انسانية ، ولا تعد بركاتهم إلا دركات! : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (٦ : ٦).

وآية المدرار والإمداد بالأمطار الغزيرة والأموال والبنين توحي انهم كانوا في نقصان منها كلها ، فمما يزيدها عليهم مجانا ودون عمل دنيوي ، هو الاستغفار من الذنوب ومواصلة الطاعات ، إلا أنه ليس حتما في كل الظروف والمجالات ، فقد تكون هناك عوائق نجهلها ، أو نحن نعملها ، وإنما الاستغفار لو خلي وطبعه يستتبع بركات من السماء والأرض كضابطة عامة تقبل الاستثناءات ولا سيما بالنسبة للأفراد ، فالحديث في هذه القاعدة عن الأمم لا عن الأفراد ، فما من امة قام فيها شريعة الله واتجهت اتجاها حقيقيا لله بالعمل الصالح والاستغفار المنبئ عن خشية الله إلا فاضت فيها الخيرات ونزلت عليها البركات من الأرض والسماوات ، وكما الآيات تحمل هكذا وعد للأمم لا للأفراد : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) (٥ : ٦٦) إذا فالقاعدة اممية لا فردية وإن كانت تعم الأفراد أحيانا.

والتقوى الجماهيرية بطبيعة الحال تقي جماهيرها عن التورط في دركات الحياة ، وتخلق جوا سليما سالما متحللا عن التطاولات المسببة للفوضويات ، وتبني صرحا عاليا لرغد الأمن والعيش لمن يتقي الحرمات واللاأخلاقيات ، مما يؤهل لنزول مزيد البركات كنموذج فعلي للجزاء ، وتمام الجزاء ليوم الجزاء : (وَيا قَوْمِ

١٥٤

اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) (١١ : ٥٢).

وإرسال السماء مدرارا لا يخص ماءه المدرارا المكثار ، إنما بركات السماء ككل ، من نور شمسها وحرارتها ورياحها وأشباهها.

والإمداد بالأموال والبنين ليس دائما إلى خير ، فمن الأموال ما لا تمدّ وإنما تمد في خسار وبوار ، ومن البنين من لا يمدون إلا في غي وطغيان ، ومنهما ما يضر دينا ودنيا ، فالإمداد الموعود فيهما هو الذي يأخذ بيد الإنسان إلى صالح النشأتين ، ويدفع عنه تبابهما.

«فرحم الله امرءا استقبل توبته واستقال خطيئته وبادر منيته» (١).

وأكمل الاستغفار ـ على حد تعريف أمير المؤمنين عليه السلام إنه «درجة العليين وهو اسم واقع على ستة معان : أو لها الندم على ما مضى والثاني العزم على عدم الرجوع اليه أبدا والثالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله عز وجل أملس ليس عليك تبعة والرابع أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها والخامس أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالاحزان حتى يلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد والسادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية فعند ذلك تقول : استغفر الله».

(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) : وأصل الوقار ثبوت ما يكون به الشيء عظيما ، من الحلم والعلم اللذين يؤمن معهما الخرق والجهل ، ومن القدرة التي تؤمن عن العجز ، وأشباهها التي تثقل الكائن وتخرجه عن الخفة ، وبصيغة أخرى العظمة المطلقة.

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٤٢٣ عن نهج البلاغة بعد قوله (ع) وقد جعل الله سبحانه الاستغفار سببا لدرور الرزق ورحمة الخلق (مستشهدا بالآية) ...

١٥٥

والرجاء ظن يقتضي حصول ما فيه من المسرة ، وكذلك هو خوف عما يؤهل المخافة ، فأنتم أنتم الأوغاد المناكيد ما لكم : تقطعون عن ربكم وحتى أمل الخير ، أمل الوقار والعظمة ، كمن يتأكد من ربه اللاوقار فيفر منه وممن يدعو اليه ، وإذا أنتم تعتقدون وقاره فلما ذا لا تخافونه ، رغم أن وقاره وعظمته ، تصميمه وحكمته ، عطفه ورحمته ، علمه وقدرته ، وكل مظاهر ألوهيته وربوبيته ، إنها ظاهرة في خلقه لكم وللكون كله لو أنتم تشعرون ، فهو الذي يجب رجاء وقاره وتوقيره : أن تخافوه لأنه الوقار كله ، والوقور يخاف لعدله وقدرته ، وأن تأملوا من وقاره خيرا ، فانه يؤمل فضله لرحمته ، وأن تأملوا من أنفسكم له وقارا فتعبدوه وتوقروه وتعزروه. فقد يعتقد الإنسان ربوبية الله ولا يوقره جهالة وعصيانا ، وقد لا يوقره ارتيابا في ربوبيته مع احتمالها ، وقد لا يرجو ـ أيضا ـ وقاره ، كأنه متأكد انه ليس إلها ، وهذا أحط دركات الكفر بالله ، رغم ظهور آياته في الآفاق والأنفس!.

(وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) فلكلّ من اشخاصكم أطوار ، ولكم أجمع أطوار ، مما تنتفي عنه الصدفة العمياء ، والخلق الفوضى :

فمنها الأطوار الجنينية من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى الهيكل إلى الخلق الكامل وإلى إنشاء الخلق الآخر «الروح» فتبارك الله أحسن الخالقين.

ومن الأطوار الجنينية نفسها أن الجنين يشبه لأول مرة حيوان الخليّة الواحدة ، ثم بعد فترة يمثل شبه الحيوان المتعدد الخلايا ، ثم شكل حيوان مائي ، ثم حيوان ثديي ، ثم المخلوق الإنساني ، وإدراك هذه الأطوار الثانية ، مهما كان بعيدا عن قوم نوح ، فانه قريب إلينا كما كشف عنه العلم حديثا ، والقرآن كتاب كل الأزمان.

ومن الأطوار الأخرى بعد الخلق هي أطوار الحياة الدنيا ، من كونكم طفلا وإلى الشيخوخة ثم إلى الأجداث وقد تجمع هذه الثلاثة آية الخلق والبعث : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَ

١٥٦

مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ..) (٢٢ : ٥) ومنها أطوار الحالات الجسمية والنفسية والألوان وأشباهها.

ثم الأطوار الرابعة هي الجماعية ، فالقطاعات البشرية ترى مختلفة في الألسن والعادات والأشكال والأحوال ، وليتعارفوا : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٤٩ : ١٣).

فهذه الأطوار المقصودة في الخلق ، الدائبة فيه ، مما يجعل العقلاء الأحرار يأملون ويخافون ويرجون لله وقارا ، لأنه الخالق ، وهو المدبر لا سواه ، وهو الرحمان الرحيم والمنتقم ، فما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا؟! ، والخلق المتطور يدل على الخالق المطوّر ، والتطور المتناسق اللامتفاوت دليل على وحدة المطور ، فكما لا خالق سواه ، كذلك لا مدبر ولا مطور إلا إياه ، فليرج وقاره على اية حال.

(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً).

هل الرؤية المسؤل عنها هنا هي الحسية؟ أم العلمية التجريبية؟ أم بالوحي؟ وكيفية السبع الطباق مجهولة حتى الآن!

بديهي انها ليست رؤية حسية حين الخلق إذ لم يكونوا موجودين عنده : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ) (١٨ : ٥١) ولا بعد الخلق ، كيف والعيون المسلحة حتى الآن لم تصل إلى عمق السماء الأولى ، سماء الأنجم ، فضلا عن واقع أو كيفية السبع الطباق ، وفضلا عن الإنسان زمن نوح عليه السلام!

وكذلك الرؤية العلمية على ضوء العلوم التجريبية لم تتحقق حتى الآن.

وأما رؤية المعرفة الدينية من طرق الوحي فهي وان كانت حاصلة لقطاعات

١٥٧

من البشر المعتنقة وحي السماء ، ولكنها علم الواقع عن السبع الطباق بالوحي ، لا كيفية خلقها ، إذا فما ذا تعني الآية ، لا سيما والمخاطبون ـ وهم الكفرة من قوم نوح ـ لم يكونوا ممن يعتنق وحي السماء ليعرفوا ذلك بالوحي!.

والحل أن معرفة كيفية خلقة السبع الطباق ليست بمستطاع الإنسان أيا كان ، إلا من يوحى اليه فيريه الله ملكوت الكون كما أراه ابراهيم (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٦ : ٧٥).

فلتكن الرؤية المسؤل عنها معرفة واقع السبع لا حقيقتها وملكوتها ، ولا سبيل إليها أيضا إلا عن طريق الوحي ، حيث العلم التجريبي قاصر حتى الآن عنها وحتى عن المعرفة الشاملة بالسماء الأولى ، فالآية توحي انه كان هناك وحي قبل نوح ، بالإمكان أن يتعرف به إلى أمثال هذه البدائع الكونية ، طالما كان قوم نوح مكذبي الوحي ، حين كان عليهم تصديقه ، لمزيد المعرفة بالله عبر التعرف إلى عظمة الخلقة.

أو أن الخطاب لا يخصهم ، وإنما المخاطبون هم الذين يخاطبون بوحي القرآن منذ نزوله وحتى القيامة ، فهؤلاء يمكنهم معرفة السبع الطباق ، بتصديق الوحي أم بالمحاولات العلمية التوسعية ، وان لم يصلوا بها حتى الآن.

أو أن رؤية السماء ـ أية رؤية كانت ـ هي في الواقع رؤية السبع الطباق سواء عرفوا السبع بما تعرف ، أم لم يعرفوا ، فلا أقل من رؤية هذه الأجواء الواسعة ذات القناديل البراقة الكوكبية والنجومية ، فليعتبروا بها ، بالسبع أم الجو الممتد مدّ البصر.

فمهما كانت الرؤية قاصرة عن السبع ، ولكنها ليست لتجعل واقع السبع غير واقعها ، فلينبّه الناظرون ـ ولو بأمثال هذه الآيات ـ ان ما يرونه فوقهم هو السبع الطباق ، والقرآن كما يخبرهم بها ، يحركهم نحو معرفتها والاستدلال بها على قدرة بادئها.

ولقصور الرؤية المتحللة عن الوحي : هنا يجعل القمر فيهن نورا والشمس

١٥٨

سراجا وهاجا (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) (٧٨ : ١٣) كل ذلك رغم آلاف الأقمار والشموس في سماء الأنجم ، وعلها في سواها أيضا.

فبما أن المخاطبين هنا ـ فعلا ـ هم سكنة الأرض ، وان كان معهم غيرهم ، ولا نور قمريا ولا سراج شمسيا لهم في هذه السماوات ، إلا هذا القمر وهذه الشمس لذلك يقول : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ، وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) أي جعلها لكم ، كما جعلها لغيركم من سكنة الكرات طالما لهم أقمار النور والشموس السراج ، مما يبرهن أن الشمس الضياء والقمر النور هما في السماء الأولى : سماء الأنجم ، لا فوقها : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) (٢٥ : ٦١).

والشمس السراج توحي أن نور القمر مكتسب منها ، ودليلا واقعيا حسيّا على أنه ليس له نور من ذاته ، وصول البشر إلى سطح القمر ، بينما تأكدت الاستحالة على أي المخلوقات الوصول إلى كوكب الشمس ، فلولا الشمس لكنا في ليل داج دائب ، فالقمر ليس سراجا ، وإنما نور كما يستعمل لغرفة النوم ليلا و (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) (١٠ : ٥).

فالقمر إذا ليس سراجا ولا ضياء بذاته ، إنما هو الشمس سراجنا وضياؤن ا الوحيد في كل الأفلاك ، مهما كان في سماء الأنجم وسواها شموس وأقمار لمن سوانا من سكنة الكرات.

(وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً. ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) :

هل الإنسان من نبات الأرض؟ أجل ولأنه نبت منها كسائر النباتات مهما اختلفت كيفية الإنبات ، فلنبات الإنسان من الأرض وسائل طائلة تخرجه من صدق نبات الأرض عليه فيما يطلق ، فلا يصح السجود عليه لعدم صدق الأرض عليه ولا نباتها ، مهما كان نابتا منها. فصدق الاستعمال والتعبير إيحاء بحقيقة كونية لا يصدق شمول اللفظة المطلقة على المستعمل فيه ، وحقيقة الإنبات الظاهرة

١٥٩

من لفظه ، إنما هي فيما تطلعه الأرض من نباتها ، وتخرجه عند ازدراعها ، ولما كان الله سبحانه يخرج البرية من مضائق الأحشاء إلى مسافح الهواء ، ويدرجهم من الصغر إلى الكبر وينقلهم من الهيئات والصور ، كل ذلك على وجه الأرض ومن الأرض ، لذلك صح التعبير عنه بكونه نباتا وان لم يشمله على الإطلاق.

أنت تبيع أحيانا ما عندك من البقل ، فأنت حقا بايع البقل ، فهل أنت إذا بقال! .. انما البقال من شغله بيع البقل ، وكذلك النبات ـ حين إطلاقه ـ لا يشمل كل نابت من الأرض ، وإنما لقرينة خاصة كما هنا.

فهذه الآية ونظائرها توحي بالوحدة بين أصول الحياة الارضية مهما اختلفت نشئاتها وألوانها وأشكالها وأسماؤها ، وكلها من نبات الأرض.

فالإنسان الأول نابت من تراب الأرض ، ثم نسله كذلك منها ، من ترابها ومائها وثمارها التي هي نتيجة التزاوج بين ما يخرج من بين الصلب والترائب ، ثم في الرحم ينمو بادواره وأطواره مما يصله من الأرض ونباتها ، ثم يعيش ـ بعد ما يولد ـ على هذه الأرض بما تنبت.

وانباته نباتا دون إنباتا ، خلاف ما يقتضيه بناء فعله ، علّه للإشارة إلى أزواجية خلق الإنسان : من فعله تعالى : «الإنبات» وهو الأصل في خلقه ، ومن فعل الأرض الذي هو أيضا راجع إلى فعله : «النبات» فهو أنبتكم منها ، فنبتم منها نباتا بفعلها وتفاعلها ، وبما تزرعون وتأكلون فتولدون : فعل الله وفعل الخلق.

فالأرض الأم هي التي تلده بما تلده أمه ، ثم تعيده في رحمها بعد انقضاء أجله ، ثم تلده ثانية لحياة الحساب والجزاء.

ومن لطيف التناسب هنا أن السجود في الصلاة يفسر لنا عمليا هذه المراحل الثلاث ، فالسجدة الأولى لله أن أنبتنا من الأرض نباتا ، نسجد شكرا له ولنشر برفع رؤسنا عن السجدة الاولى ، إلى سبب الشكر : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) ثم نسجد ثانية ، إشارة إلى الإعادة (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) فالموت نعمة

١٦٠