الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٠

(وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) بينك وبين الهجرة الحاسمة جذورهم بالجهاد ، وبينهم وبين قتلهم أو موتهم إلى عذاب النار وبئس القرار.

فلقد كان صبره جميلا على طول الخط ، وامهاله القليل جميلا ، وكله بأخلاقه وتصرفاته جميلا أينما كان ، فحق له قول الله (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

فحمل الرسالة الإلهية وتنفيذها ببلاغها بحاجة إلى صبر جميل : صمودا واستقامة للوصول إلى المغزى في سبيلها الشاق الطويل ، فالصبر للرسول ـ هكذا ـ زاد وعتاد ، وجنة وسلاح ، وملجأ وملاذ ، بجانب ما عنده من وسائل الدعوة وتدابيرها ، صبرا مع النفس وشهواتها وانحرافاتها وضعفها وشرودها وعجلتها وقنوطها ، وصبرا مع أعداء الدعوة وكيدهم ، وصبرا مع المؤمنين ، على قلتهم ، وقلة صبرهم ، وكثرة استعجالهم ، وصبرا مع عامة النفوس التي لا تخلو من تسرعات في حق أو باطل.

(وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) ولو مهلتهم عمر الدنيا فهو قليل ، فكيف بأعمارهم التي ليست إلا قليلا في قليل ، وكيف بإمهالهم إلى زمن الهجرة وهو أقل من القليل ، فلتصبر هنا وهناك صبرا جميلا ، ولتمهلهم قليلا :

(إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً).

فلدينا من أنكال ما ليس لديك مهما كان نكالك عليهم شديدا.

إن أنكال النار وقيودها وأغلالها هي هي التي قدموها لأنفسهم يوم الدنيا إذ كانوا أنكالا في سبيل الله ، وكانت عليهم أغلال الشهوات فاثّاقلوا إلى الأرض ورضوا بالحياة الدنيا من الآخرة ، فأكملت شهواتهم يوم الدنيا ، ثم ظهرت أنكالا يوم الدين جزاء وفاقا.

(طَعاماً ذا غُصَّةٍ) : الذي يمزق الحلوق ويحرق الحناجر ، كما كانت حياتهم غصة وكان الحق شجى في حلوقهم ، كما كانوا شجى في حلوق المؤمنين وقذى في أعينهم ، وبصيغة شاملة كانت حياتهم عذابا أليما على الدعوة والداعين والمدعوين ،

٢٢١

فانتقلت إلى عذاب أليم عليهم يوم الدين :

(يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً).

رجفة الأرض والجبال ـ هذه : هي الرجفة الأولى المدمرة لها ، ثم تتلوها الرجفة الثانية الرادفة لها ، المحيية لأمواتها : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) ومواصلة الرجفتين تجعل الأولى كأنها الثانية ، ولأنها بداية القيامة ، فتعتبر الأولى ـ وهي رجفة الإماتة ـ كأنها يوم النكال ، والطعام ذو غصة والعذاب الأليم ، وهي كلها بعد الرجفة الثانية : الإحياء!.

وعلى أثر هذه الرجفة المدمرة تصبح الجبال كأنها «كانت» منذ كانت (كَثِيباً مَهِيلاً) : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) والكثيب المهيل هي الرمل المتراكم المنقلب أسفله أعلاه ، فكما تخرج أثقالها في زلزالها ، كذلك الجبال تقلب في ترمّلها وتدمّرها ، فتظهر قواعدها الأعماق رملا متراكما محترقا.

فإذا تتفتت الأرض وتنهار ، وتكثب الجبال وتحتار ، فكيف إذا تكون أحوال الناس المهازيل الضعاف في قبضة العزيز القهار؟

(إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً. فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً).

(رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ) : تلقيا لما تقولون وتعملون وتفكرون يوم الدنيا وإلقاء لهذه الشهادة يوم الدين ، فكما أن لكل أمة شهيد هو رسول لهم : كذلك ـ وبأحرى ـ رسولنا شاهد عليكم بأكمل معاني الشهادة ، وشاهد كذلك على كافة الشهداء والمشهود عليهم يوم الدين : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) (١٦ : ٨٩) فهو يتحمل شهادتهم يوم الدنيا ويؤديها كما تحمّل ، يوم الدين.

(كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) فرسالة محمد (ص) أشبه برسالة موسى ممن

٢٢٢

سواه ، وكما تحكم بهذه المماثلة السامية آية توراتية تحمل بشارة مهمة للرسول الأقدس محمد (ص) وها هي باللغة العبرانية :

نابيء آقيم لاهم مقرب احيحم كموشه وناتتي دباري بفيو ويدبر إلو هيم إت كال أشر أصونو (سفر التثنية ١٨ : ١٧).

نبي أقيم لهم من أقرباء أخيهم كموسى وأضع كلامي في فمه لكي يبلغهم جميع ما آمره به (١).

وهذه المماثلة هي في استقلال الشريعة ، وان كتابه من وحي الله لفظا ومعنى وفيما أصيب محمد من كفار قومه كما أصيب موسى من آل فرعون ، فأخذه الله أخذا وبيلا : ثقيلا هو وابل العذاب كالمطر الجارف ، وهنا الآية تتهدد العصاة الطغاة على الرسالة المحمدية بالأخذ الوبيل ، يهزّ قلوبهم هزّا ساحقا ، ويخلعها بعد رجفة الأرض وكثب الجبال المهيل ، علهم يتذكرون ويحذرون من أخذة الدنيا والآخرة ، فليأخذوا حذرهم بين الأخذتين في هذه الحياة القصيرة ، فليتقوا هنا بأس الله قبل أن يأتيهم :

(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً. السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً).

ولنفرض أنكم اتقيتم عذاب الله يوم الدنيا ، أم لم يأتكم فيها (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ) ومتم على الكفر (يَوْماً) يوم الرجفة الطامة التامة ، من وقعته وشدته : (يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) فانه الهول الذي تنشق منه السماء وتخر الجبال هدّا ، فكيف بالولدان الضعاف ، فتراهم كأنهم شيب من بياض نواصيهم وانحداب ظهورهم ، وانكماش جلودهم ، لا لخطيئة اقترفوها فإنهم قاصرون ، وإنما هذه طبيعة هذا اليوم التي ترتسم في الطبيعة

__________________

(١). التفصيل الى كتابنا «رسول الإسلام في الكتب السماوية» ص ٣٣).

٢٢٣

الصامتة أيضا ، ففي الانسانية الحية اولى! وإذ يصبح الولدان شيبا وهم قاصرون فكيف بالكفار المكذبين وهم مقصرون ، فهناك وقعة تتقى هي عذاب الله ، تتقى بالإيمان بالله ، ووقعة لا تتقى ، وليست هي عذابا ، وإنما توحي بشدة بالغة لا تبقي ولا تذر ، وهي رجفة الإماتة والتدمير ، فالولدان الذين هم أطفال ، لو جاز أن يشيبوا لرائع خطب ، أو طارق كرب ، لشابوا في هذا اليوم لعظيم أهواله وفظاعة أحواله ، وإنها وقعة هي كعذاب : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) تنفطر به السماء وتنشق وتكشط وترجع رجعا ، فكيف لا ينفطر هذا الإنسان الهزيل الذليل؟ (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) لا هوادة فيه ولا رجعة منه! :

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً).

وإنها تذكرة بالغة لمن أراد أن يتذكر ، فمن شاء الادّكار اتخذ إلى ربه سبيلا قدره ، ومن شاء أن يسلك سبيلا إلى ربه فزاده أن يتذكر ، إن السبل إلى الله كثيرة وكذلك إلى الشيطان : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٦ : ١٥٣) وأنجح السبل الى الله هو صراطه المستقيم ، ثم ما دونه من السبل من حق اليقين وعين اليقين وعلم اليقين والظن ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى.

٢٢٤

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (٢٠)

تلمح هذه الآية ـ وهي الأخيرة من السورة ـ أنها نزلت بالمدينة ، وما قبلها مكية كلها ، فان حكم الجهاد والزكاة نزلا في المدينة ، وقد صبر الرسول على ما يقولون طول مقامه بمكة ، وهجرهم هجرا جميلا كما أمر ، حتى جاء حكم الله بالجهاد في المدينة ، وبما أن المزمل من أوّليات ما نزلت على الرسول (ص) في مكة ، ولا أقل بعد ثلاث سنين من بداية الدعوة ، إذ أمر بالمجاهرة فيها ، وأن الآية الأخيرة فيها تتضمن الجهاد والزكاة وهما في المدينة ، من هنا وهناك نتأكد أو نرجح أنها نزلت بعد الآيات الأول بعشر سنين كما قيل ، والقول بسنة أو ثمانية أشهر ـ إذن ـ لا يوافقه الدليل.

(تفسير الفرقان ـ ج ٢٩ ـ م ١٥)

٢٢٥

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ).

لقد خيّر الرسول الأقدس في ظاهر الوحي الأوّل بين هذه الثلاث فرضا واجبا ولمّح فيه إلى ثلثي الليل كأنه الرابعة والمفضلة على الثلاثة ، وكأنه من أطراف الواجب وليس منه : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً. نِصْفَهُ ...) فلم يقل ونصفه وإنما (نِصْفَهُ) كأنه الليل إلا قليلا (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً :) ثلثه (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) : على النصف ، بينه وبين الثلثين ، ولقد استمر الرسول بين الآيتين عشر سنين بقيامه : (أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) دون ثلثيه إلا قليلا ، فلم يترك واجبه التخييري ، وإنما لم يستمر في ثلثيه ولم يكن من أطراف الواجب أو كان ولم يكن مؤكدا ، بدليل عدم اداة التخيير بينه وبين الثلاثة الأخرى «أو».

ولأنه تعالى كان يعلم واقع اختياره (ص) كما يسعه (أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) لذلك لم يفرض عليه ثلثيه لكي لا يذنب بتركه ، أو لا يكون تاركا للأرجح من أطراف الواجب التخييري ، ولقد كانت صلاة الليل فريضة عليه دون المؤمنين ، أو انها قيام الليل الشامل لصلاته ، يدل على ذلك كونه نافلة له : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) وليست النافلة هنا هي الزائدة على فرض الأمة ، فقد أمر بالتهجد هنا أمرا خاصا ، ثم عدم إحصاء طائفة من الذين معه (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) دليل ثان أن قيام الليل هكذا لم يكن واجبا على الأمة ، فكيف يفرض عليهم ما لن يحصوا أوقاته؟ (فَتابَ عَلَيْكُمْ) : تاب عليهم في فرضه فلم يفرضه عليهم ، فلم تكن التوبة عليهم عن عصيان في ترك الواجب ، وإنما عن فرضه عليهم ، فقد (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) وهذا قصور ذاتي يمنع عن هكذا تكليف ، ثم قصور احياني :

(عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ

٢٢٦

فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) لهذه الأعذار الذاتية والوقتية أبدل لهم قراءة ما تيسر من القرآن بقيام الليل.

من هنا وهناك نتأكد أن الآية تقتسم إلى خطابين : موجّه إلى الرسول حاملا التخفيف له عن فرض القيام ثلثي الليل ، لأنه تعالى كان يعلم واقع المستطاع له (ص) (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى ..) وإبقاء على التخيير الثلاثي المستطاع : (أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) ولأن فعله هكذا وإحصاءه كان في إمكانه ولو لم يكن يحصي الأقسام الثلاث ، لم يكن محصيا لليل ، ولو لم يلق اليه قول ثقيل ، ولم يكلف نهاره بالسبح الطويل ، لم يك قيام الليل واجبا عليه هذا الطويل الطويل ، والثقيل الثقيل.

ثم خطاب ثان يوجّه إلى طائفة من الذين معه ، عفي لهم عن فرض قيام الليل وأبدل به قراءة ما تيسر من القرآن (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) وبما أن «طائفة» مرفوع ، لا منصوب حتى يعطف على المنصوب في «انك» نتبين أن قيام الأدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه لم يعطف لهم ، فلم يكونوا قائمين مثل الرسول ، وإنما (طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ... (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) فالجملة الثانية خبر طائفة ، تخبر عنهم أنهم لن يحصوا الليل ، فلن يقدروا على تحقيق التخيير الثلاثي (فَتابَ عَلَيْكُمْ) توبة عليهم في فرضه ، لا عن عصيانهم بعد فرضه (١) ، فكيف يفرض عليهم القيام الثلاثي ليلا وهم لن يحصوه ، إضافة إلى قصورهم الاحياني ـ مع القصور الذاتي العلمي ـ : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى (٢) وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فكان

__________________

(١). فالتوبة وهي الرجوع قد تكون من العبد الى الله ، رجوعا الى طاعته بعد العصيان ، وقد تكون من الله على العبد وهي اما قبول للتوبة عن العصيان ، او رجوع بالرحمة على العبد بعد ما ضيق عليه او كان بحيث يضيق عليه لولا مزيد رحمته ، وهي المعنية بتوبته تعالى هنا.

٢٢٧

قيام الليل صعبا عليهم لهذه الأعذار ولو عفي عن التقادير المعينة الثلاثة فيه ، فأبدل لهم به قراءة ما تيسّر من القرآن.

وأما الرسول (ص) فبما أنه كان يحصي الليل ، ولذلك فرض عليه القيام المسبق ، فهو لا يعفى له عن قيامه ، وعليه تحمل العبء في قيامه ، وفي هذه الأعذار التي تعفي سائر المؤمنين عن فرض القيام ، ولأنه يحمل القول الثقيل والسبح الطويل ، فعليه ما ليس على غيره من التكليف الثقيل ، وليأخذ زاده وأهبته في هذا الطريق الشاق الطويل بعمره القليل القليل.

فقيام الليل ـ بصلاته وذكره ودعائه واحيائه ـ من المندوب اليه للمسلمين كأنه فرض ، وفرض على الرسول الأقدس (ص) وإنما عفي له عن ثلثيه وما زاد ، وعفي للذين معه عن فرضه إطلاقا ولكنه يداني الفرض.

وبما أن قراءة ما تيسر من القرآن ليست خارجة عن المستطاع ، ولا أن شيئا من الأعذار المسبقة تنافيها ، فلنا أن نثبت على ظاهر الأمرين فيها ونستوحي الوجوب ، ليلا قدر المستطاع ـ ف (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) ونهارا قدر الميسور ، فلنعش القرآن قراءة وتلاوة وتفهما وتذكرا وتصديقا وتطبيقا ونشرا وسماعا وإسماعا ، وهكذا يجب أن يكون الذين مع هذا الرسول ، وليسبحوا معه نهار الدعوة سبحا طويلا في بحر المجتمع المتلاطم ، فينجوا وينجوا الغرقى الهلكى ، فالقرآن بمن يحمله سفينة النجاة.

لقد ذكرت قراءة ما تيسر من القرآن هنا مرتين ، مرة بعد ذكرى القصور الذاتي عن القيام الثلاثي الليلي : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) فنيابة القراءة عن القيام ليلا ، لا تكون إلا ليلا ، وأخرى بعد ذكرى الأعذار المتعبة للقيام : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى ... فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) وعلها تخص النهار أو تعمه والليل ، فان هذه الأعذار تمانع قيام الليل بصلاة أو قراءة ، على الأكثر : فلا تكرار في الأمر بالقراءة هنا ، ثم يتلو

٢٢٨

قيام الليل وقراءة القرآن ما ينتج عنهما : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وفي قرنها بقيام الليل المسموح عنه عن المؤمنين ايحاء انها لا تخفيف فيها ولا تتحمله إلا شكليا كالصلاة ، أو كميا كالزكاة فانها تتقدر بقدر المال المزكى ، وأما أن تبدل الصلاة والزكاة بغيرهما فكلا.

(وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً).

فالأعمال كلها ـ من خير وشر ـ تقدم للعامل لا سواه ، فليس لله فيها مضرة أو منفعة ، ولا لمن سواه ، وإنما هي للعامل أو عليه ، فقدموا لأنفسكم مما يتقدم إليكم من صالح الأعمال ، فأنتم سوف تجدونها هي بأنفسها عند الله بما سجلتها المسجلات الإلهية ، من أعضائكم العاملة ومن الأرض بفضائها (هُوَ خَيْراً) تجدونها خيرا مما كانت ، إذ تظهر بحقائقها وألبابها دون قشور تسترها ، وتظهر ليوم لا حاكم فيه إلا الله وأحسن أجرا فالله يزيد أعمالكم أجرا بفضله ورحمته (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) اطلبوا منه والتمسوا لكي يغفر ويستر ما قدمتموه من طالح الأعمال أو صالحها الناقصة ، ما دام المبدأ الأصيل في حياتكم ابتغاء مرضاة الله.

فالمؤمنون ـ إذا ـ يلمسون التخفيف الندى يمسح على نصبهم طوال سنين عشر من البعثة ، وقد انتفخت أقدامهم وتورمت من القيام الطويل ، مهما كانوا قاصرين عن قيام الرسول ، الثلاثي ، ولإحصائه الليل دونهم ، ووجوبه الأصيل عليه دونهم ولحمله الثقيل وسبحه الطويل دونهم.

٢٢٩

سورة المدثر ـ مكية ـ وآياتها ست وخمسون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) (٧)

* * *

إن المدثر من فواتح الوحي ، فهي بعد الآيات الخمس الأولى من العلق ، وعلها بعد الحمد أيضا ، وإذ تحتمل السورة ـ كالكثير من أمثالها ـ عدم نزولها دفعة واحدة ، لذلك فآيات التوعيد والتنديد بالوحيد ، الذي كان بآيات الله عنيدا ، والتي تتحدث عن سائر الكافرين ، بعد الآيات السبع الأولى من السورة ، إنها لا تتنافى وكون هذه السبع هي النازلة بداية الوحي المفصل ، بعد الخمس من علق والسبع المثاني من الحمد أيضا.

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) : لقد تدثر الرسول الأقدس (ص) إثر ما أوحيت اليه الخمس والسبع ، تدثر من وقعة الوحي المفاجئ الثقيل ، وعلى حدّ المروي عنه (ص) قال : جاورت بحراء فلما قضيت جواري فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا

٢٣٠

ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فجثثت منه رعبا فرجعت فقلت : دثروني فدثروني فنزلت (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)(١). هذا وكما كان متدثرا عن قيام البلاغ منذ كان حتى زمن الرسالة ، فكان عليه ـ إذا ـ دثارا فوق دثار ، فأمر بالتحلل عنهما إلى الإنذار.

إن الدثار ما يلبس فوق الشعار وأصل المدثر المتدثر تدثرا بثيابه لينام أو ليستدفئ ، وما تدّثره في الرمضاء ، إلا لما أخذته من رعشة الوحي وهيبته ، كأن زالت حرارته بغزارة الوحي ورعشته ، فتدثر وكان حقه أن يتدثر ، وبما أن مكوثه هكذا بداية الوحي ولو قليلا ، يخيل أنه مسموح له الدثار نوما أو تدفؤا ، يؤمر آنذاك بالقيام عنه إلى الإنذار ، فلا عليه ولا له وهو رسول أن يكون نائما دثورا مستترا مستدفئا ، وإن كان من وقعة الوحي ، فليتعود القيام والإقدام طالما العراقيل تحول بينه وبين القيام ، وليعش القيام حياته : روحيا وجسدانيا وعقليا وعلميا ، وبكل ما يملكه وما ملّكه ربّه من طاقات وإمكانيات ، فالعمر قصير ، والسير عسير ، ودافع القعود كثير ، فلا يسمح له إذا ـ الدثار ـ أي دثار ، دثار الجسم والروح ، دثار الإنذار والتبشير ، فليتجرد عن الدّثر كلها ، إلى الإنذارات كلها.

وقد تتحمل السورة كلها أنها أنزلت بعد ما شاعت دعوة الرسول وواجهته السفاسف والأقاويل السوء : أنه مجنون أو كاهن أو شاعر ، وكل ذلك من طواغيت قريش : أبو جهل وأبو لهب وأبو سفيان والنضر بن الحرث وأمية بن خلف

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٢٨٠ عن جابر بن عبد الله الانصاري ، وفيه ان المدثر أول ما نزل من القرآن ـ اي : بعد الخمس من العلق ويلمح له قوله (ص) هنا الذي جاءني بحراء إذا فهذا مجيئه الثاني ـ وعل الاول كان يحمل سورة الحمد اضافة الى الخمس كما تدل على البسملة بالبيان المسبق في سورة العلق.

٢٣١

والعاص بن وائل والوليد بن مغيرة الذي تسميه الآيات الآتية وحيدا ، وانتهى دور التكذيب اليه بما نقلته الآيات ، فلما سمع رسول الله (ص) ذلك اشتد عليه ورجع إلى بيته محزونا فتدثر بثوبه فأنزل الله السورة.

فهذه دثر ثلاثة تتحملها الآيات : دثاره قبل البعثة ، ودثاره بداية الوحي من رعشته ، ودثاره إثر هذه الهجمات ، والرسول يؤمر في هذه الدثر الثلاثة أن يقوم بالإنذار مهما كان الدثار ، قياما يستصغر فيه كل دوافع القعود وعراقيل الإنذار :

«قم» فلقد مضى وقت القعود والدثار ، وحان زمن القيام والإنذار «قم» لله قانتا بين الجموع المحتشدة الفالتة عن ذكر الله وطاعته (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) (٢ : ٢٢٨) وأقم الدين (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (٤٢ : ١٣) وأقم الوزن أيا كان (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) (٥٥ : ٩) (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) (١١ : ١١٤) فانها عمود الدين ، قم وأقم واستقم (فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) (٤٢ : ١٥).

(فَأَنْذِرْ) وليكن الإنذار بداية القيام ، فانه ينفع قوما لدّا ، فان التبشير هو بعد الإنذار ، بعد ما تلين القلوب للايمان وتتقي : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) (١٩ : ٩٧) (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) (٢٨ : ٤٦) فمن تأثر بالإنذار فهو المنذر المبشر (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) (٣٥ : ١٨) (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) (٣٦ : ١١).

فلئن أثر الإنذار كان بعده ومعه التبشير ، وإلا فلما ذا التبشير؟ والإنذار هو اظهر ما في الرسالات الإلهية ، تنبيها للخطر القريب الذي يرصد الغافلين الشاردين السادرين في الضلال ، علهم يخافون العذاب الأليم ، ومن ثم البشارة باللطف والعطف العميم.

(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) إن الفاء هنا توحي بشرطية مقدرة : إن كان هو ربك

٢٣٢

فكبره فلزام الإيمان بربوبيته تكبيره كما يلائمها ، وليس تكبيره فقط قول : الله أكبر فكثير هؤلاء الذين يقولونه ولا يكبرون الرب في عقول مصغريه المشركين به ولا في أعمالهم أنفسهم ، فتكبير الرب غير التكبير لفظيا للرب ، وإن كان يشمله قول «الله أكبر» كما يروى عنه (ص) (١).

(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) ربك وحده ، فهو وحده الكبير المتعال الذي يستحق التكبير دون سواه ، يوحي بهذا الانحصار تقديم المفعول (رَبَّكَ) على فعله كبر فكل شيء بجنب الله صغير ، والله وحده هو الكبير ، وكل صغير يكبر عرضيا بالتكبير ، والله هو ذاته كبير ، وإنما الأمر بالتكبير يعني تعظيمه عند الجاهلين به أو المعاندين والناكرين له ، تكبيرا في عقولهم ، بيانا للواقع ، لا تكبيرا لواقعه ، وليستعد الرسول خوضه في هذه المعركة تصغيرا لكل كيد وكل حول وقوة وكل معاكسة وكل عقبة وعرقلة ، تكريسا لكافة الطاقات العقلية والمنطقية وسواها ، وليعلم الجاهلون بالله والمتجاهلون ، ان الله هو الكبير المتعال ـ ف (لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (١٧ : ١١١) : تكبيرا يليق بساحته ، ويصغر كل من سواه بجنبه ، تكبيرا في عقولهم وضمائرهم وفطرهم وفكرهم وواقع كيانهم في تفكيرهم وتصرفاتهم ، ولكي يرى ويلمس أنه الكبير المتعال في خلقه فيعيشوا ذللا بجنبه وفي طاعته : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) (١٣ : ٩) المتعالي عن أن يكبر عن صغر ، أو يتكبر عليه أحد ينازعه في ملكه ، أو يستقل عنه أحد في كيانه ـ ف (هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٢٨١ ـ اخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قلنا يا رسول الله (ص) كيف نقول إذا دخلنا في الصلاة ، فانزل الله (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) فأمرنا رسول الله (ص) ان نفتتح الصلاة بالتكبير ـ أقول هذا هو النزول الثاني للآية ، فانها نزلت أولا بداية الوحي قبل الصلاة وقبل أبي هريرة ، وليس هذا الا من تطبيق الآية على ادنى مراحل التكبير.

٢٣٣

(٢٢ : ٦٢) لا عن صغر مسبق ـ ف (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) (٤ : ٣٤) : كينونة أزلية كما في كونه ، لا يشاركه فيه أحد ، وكما لا يعني تكبير الله تعالى هنا أنه أكبر ممن سواه ، فلا كبير سواه حتى يكون هو أكبر منه ، وكذلك قول «الله أكبر» لا يعنيه ، فان كونه أكبر من غيره تصغير له ، وإشراك لغيره معه في الكبر ، وإنما يعني ـ على حد تعبير باقر العلوم عليه السلام ـ أنه أكبر من أن يوصف وإن كان بوصف أنه أكبر ممن سواه!

(وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) : إن كانت هي ثيابك فطهرها : فالفطرة مجبولة على تطهيرها.

«ثياب ـ ك» و «ك» لا يختص البدن ، وإنما يعمه والروح ، والروح أحرى هنا ، ولا سيما أن الخطاب وجّه إلى الرسول (ص) ، والرسالة الإلهية هي روحانية المصدر والفعل والمفعول ، طالما تشمل الناحية الجسدانية أيضا.

فلكل إنسان ثلاثة أثواب ١ ـ ثوب الجسد المتصل به ، شعارا ودثارا ، ٢ ـ ثوبه المنفصل عنه : زوجته التي اعتبرت لباسا كالعكس (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) ٣ ـ وثوب الروح وهو لباس التقوى (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) (٧ : ٢٦) وهذه الطهارة الثلاثية للإنسان تجعله في قمة الطهارة والنزاهة ، فبإمكانه هجران الرجز كل رجز.

فمن طهارة الثياب تنظيفها عن الدنس والنجس ، وترتيبها بحيث لا تتعرض للأدناس ، كالثياب الطوال التي تجر الأرض فتتقذر هي ، وتقذر أيضا خلق أصحابها إذ تخلق فيهم الخيلاء والكبرياء ، وهذا من تفسير الظاهر للآية وكما فسرها أئمة أهل البيت عليهم السلام «فطهر ـ أي فقصر» وكما أن من تطهيرها أيضا لبسها بحيث لا تكون لباس الشهرة أو الهزء ، تطهيرا لأصحابها عن التعرض للبهت والغيبة ، وكذلك تطهيرها عن أن تكون من مصادر محرمة : سرقة أو خيانة أو بخسا أم أيا كان من وجوه الحرام.

٢٣٤

ومنها تطهير الأزواج فإنهن لباس ، أمره الله سبحانه أن يستطهر النساء ، فيختارهن طاهرات من دنس الكفر ودرن العيب ، لأنهن مظان الاستيلاد ، ومضامّ الأولاد ، ثم إذا اختارهن هكذا يلازم تطهيرهن عمّا لا يجوز قدر المستطاع فإن فلتت منهن فالتة ـ إذا ـ فهي هي المسؤولة لا هو ، إذ أدى واجب الاختيار والتطهير.

ومنها تطهير النفس ، ان يعيش تطهيرها عما يرجزها ويدنسها ، فيزجرها عن الله ، يقال : فلان طاهر الثياب. أي : طاهر النفس والأفعال ، طاهر الضمير والأقوال (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ).

فكما للجسم ثياب يجب تطهيرها تنزيها للظاهر ، كذلك للروح ثياب تلبسها ، فتدنسها أحيانا وتطهرها أخرى ، فالفطرة السليمة والعقل السليم والقلب الواعي والعلم النافع ، التي تجمعها التقوى ، إنها لباس التقوى ، تقوى بها الروح وتعرج إلى قمة الكمال ، وكما أنها تقوى بالروح الصافية الضافية.

فهذه الطهارة هي الحالة المناسبة لتلقي الوحي ، والضرورية لملابسة الإنذار والتبشير ، ومزاولة الدعوة في أوساط التيارات الجارفة ، والأهواء والمداخل والدروب ، ولكي ينقد الملوثين دون أن يتلوث.

ومن ثم وبعد المراس الشاملة لهذه الطهارة الثلاثية ، التي تطمئنه إلى حياة الدعوة الدائبة ، يؤمر بالهجر عن كافة الاضطرابات فيها ودوافعها : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) إن تعلمه رجزا فاهجره ، فالفطرة مجبولة على هجر الرجز. فأصل «الرجز» هو الاضطراب ، وناقة رجزاء إذا تقارب خطوها واضطرب لضعف فيها ، فهو ـ إذا ـ يشمل كل اضطراب وخروج عن اعتدال سببا ومسببا ، من العذاب وبواعثه ، فالخروج من اعتدال الفطرة والعقل رجز كما أن خلافه طهارة واعتدال ، وكما أن كافة المكارم داخلة في (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) كذلك التخلف عنها داخل في (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) فالرسول الأقدس (ص) أمر

٢٣٥

في بداية الوحي وبزوغ الرسالة بالإنذار وتكبير الرب بجناحي طهارة الثياب وهجر الرجز : تحلية بالمكارم ، وتزكية عن المحارم ، وليطمئن إلى الله متخلقا بأخلاق الله ، ويطمئن الناس إلى الله ، هاجرا كل رجز واضطراب في عقيدة ، أو عمل ، في دعوة أو عبادة ، ولذلك تسمى الأوثان رجزا ورجسا ، كما يسمى العذاب المهين ـ المسبب عن عبادتها ـ رجزا : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) (٣٤ : ٥).

ذلك! وإن كان الرسول (ص) عاش متطهرا هاجرا الرجز منذ ولادته إذ عافت فطرته السليمة كل انحراف وانجراف ، بما كان يسلكه ملك عظيم من ملائكة الله سبيل المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره ، على حدّ قول الامام علي عليه السلام فكان يهجر المعتقدات الشوهاء والسبل الشائكة ، ورجز الأخلاق والعادات ، فلم يعرف عنه ولم ينسب اليه أنه شارك في شيء من خوض الجاهلية ، ولكنما هذا التوجيه يعني ـ فيما يعنيه ـ إعلان المفاصلة والتمييز الذي لا هوادة فيه ولا مسايرة ، ويعني المداومة والمزيد من الطهارة وهجر الرجز منذ الدعوة بالعصمة الإلهية ، إضافة إلى ما يسعاه قبلها وبعدها ، لا انه كان عليه رجز ، فأمر بهجرها ، فما أكثر الحالات التي هو لابسها ويأمره الله بها ، إعلانا عالميا في إذاعة قرآنية أنه مؤمّر مطيع فلا يطمع فيه طامع للمهادنة والمسايرة ، وما أكثر المزريات التي عافتها فطرته السليمة ـ منذ كان حتى قبض ـ فينهاه الله عنها بهذا الدافع وأشباهه ، وليعلم العالمون أنه رسول مؤمر ، لا يستقل في حسناته وعبقرياته عن ربه إلى نفسه وإن كانت نفسية قدسية! فالقرآن ـ بجانب ما يذكره من مكارم الرسول ـ ينبهنا أنه رسول ، لا يملك لنفسه بجنب ربه ضرا ولا نفعا (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ).

من ثم وبعد نكران الرجز وهجره ، يوجه إلى نكران ذاته ، وعدم المن في معطياته ، كأن لم يعط شيئا ، رغم تقديمه وبذله الكثير الكثير ، وجهده وعنائه العسير العسير في هذه السبيل الشاقة الملتوية :

٢٣٦

(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) صحيح أن الله يمن بك على المؤمنين : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا منهم .. ولكنك ـ وأنت رسول ـ ليس لك المن عليهم استكثارا لما تبلغ من رسالات ربك ، واستكثارا لرفعة المتحد عند الناس ، وإنما لك الاستكثار من فضل الله ورحمته ، دون ابتغاء أجر منهم أو شكور ، ولأن هذا التوفيق العظيم والفضل العميم يستحق الشكر لله وطلب المزيد من الله ، لا من الناس الذين لا يملكون ، ولا لأنفسهم شيئا! وكما ليس له المن عليهم ان آمنهم بالله ، كذلك ليس لهم المن عليه أن آمنوا بالله : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) (٤٩ : ١٧) فالمن لله أولا وأخيرا دون سواه ، (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) (١٤ : ١١).

إن تحقيق الرسالة الإلهية نعمة من الله فلا يستحق المنّ عليه ، وصدقة على المرسل إليهم وهي تبطل بالمن : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) (٢ : ٢٤٦).

ولئن سئلنا : إذا كان المن من غير الله محظورا ، فكيف أصبح سليمان بينه وبين الإمساك مأمورا؟ : (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٨ : ٣٩) والجواب أن المن هنا هو الإكثار من الإنعام كما يوحي به مقابله : الإمساك ، من المن وهو الإكثار العملي ، لا المنة وهي الإكثار الاستكثار القولي ومنّ الرسول الأقدس (ص) كان أكثر المنن والعطايا بين الرسل ، ولكنه منع عن المنة والاستكثار ، اللهم إلا المن والإكثار.

وإن صور الاحتمال في المنّ كالتالي : بين مرغوب عنه ومطلوب ، ممكن ومستحيل :

١ ـ المنّ العملي على الله ، وهو محال ينافي ألوهيته تعالى ، وينافي أقل الإيمان فضلا عن إيمان الرسول ، فلا يشمله النهي.

٢٣٧

٢ ـ المنّ القولي على الله ، وهو على امكانيته مستحيل من الرسول البالغ في معرفة الله أقصاها الممكن ، فلا يشمله النهي ، اللهم إلا غيره.

٣ ـ المن العملي على الناس ، وهو الإثقال بالنّعمة عليهم والإكثار منها ، وهو من أوجب الواجبات الرسالية ، أن يعيش الرسول حياته عطاء للناس وهدى ورحمة لقوم يهتدون ، فلا يشمله النهي أيضا.

٤ ـ المنّ القولي للإيذاء ، ولم يكن الرسول ممن يؤذي الناس ، وإنما كان يتأذى في سبيل رفع الأذي عنهم ، فلا يشمله النهي.

٥ ـ المن القولي لتذكير النعمة ، وليس إلا من الله فإنه ولي النعم ، فقد يشمله النهي.

٦ ـ المن القولي حال الاستكثار ، وكما أن «تستكثر» هنا حال ، لمكان الرفع ، لا جزاء الشرط المقدر ، وقد يكون استكثارا لمنّ الله عليه وعليهم فهو ممدوح لا ينهى عنه.

٧ ـ وقد يكون استكثارا لجهوده وجهاده في تبليغ رسالاته ، فهو المشمول للنهي ، فليستقل بلاغاته بجنب الله ، وليعرف أنه ما عبده حق عبادته وما عرفه حق معرفته ، ولذلك كان يستغفر ربه كل يوم سبعين مرة ، لا لذنوب يقترفها ، وإنما إعلاما واعترافا بالقصور عما يحق عليه لله ، إذا فكيف يستكثر؟ فهل يستكثر امتثاله لهذه الأوامر الإلهية من قيامه بالإنذار ، وتكبيره ربه وتطهيره ثيابه وهجره الرجز ، ودعوته إلى ربه؟ وهو عبد لا يملك إلا ما ملكه الله ، فليستقل عمله بجنبه ، وليستكثر نعمه عليه ، دون أن يستكثر ما عمل من خير لله وكما عن الرسول (ص) نفسه (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٤٥٤ عن الصادق (ع) قال رسول الله (ص) في الآية : «تستكثر ما علمت من خير لله».

٢٣٨

٨ ـ وقد يكون استكثارا لتعظيم الناس له ، ورفعة مقامه عندهم ، فمن هم الناس حتى يرجوا إكثارهم ، وهم لا يملكون ولا لأنفسهم شيئا ، وهو المأمور (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) ولا (جَزاءً وَلا شُكُوراً) فكيف يستكثر منهم وإنما عليه العطاء ، دون ابتغاء أجر ولا شكور ولا جزاء ، لا قليلا ولا كثيرا ، إلا من الله العلي القدير.

٩ ـ وقد يكون استكثارا من الله ، فما هي الصلة بين المنّ على الناس والاستكثار من الله ، إلا في المنّ العملي كما سبق ، فعليه أن يثقلهم بنعمة البلاغ وله أن يستكثر ربه الجزاء الوفاق.

١٠ ـ وقد يمن عليهم عمليا يستكثر اهتداءهم ، فبقدر ما يجاهد في سبيل الدعوة له أن يرجو انعطافهم الى الحق ، وهذا أمر مرغوب فيه.

فتلك عشرة كاملة في صور المن بين مستحيل ومأمور به ، ومنهي عنه.

فالله تعالى يريد من رسوله الكريم ألا يظل يستعظم ما يقدمه ويستكثره مهما كان بجنب الله أو الناس أم في نفسه ، فان هذه الدعوة لا تستقيم وتدوم في نفس تحس بما تبذل في سبيلها ، فعلى الرسول أن يتناسى ما يقدمه لكي يستجدّ العطاء دوما كأنه أول العطاء ، فلا يمل من كثرة العطاء ومعاكسة المعطى لهم بالتخلف والغباء ، ولا يمن على المهتدين فيقطع عنهم العطاء ، وإنما عليه أن يعيش عناء في عطاء وابل دون انقطاع.

(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) تقديم الظرف يوحي بأن الصبر يجب أن يختص بدافع رضى الرب فلا يصبر لنفسه لأنها تستحليه ، ولا لغيره فيسترضيه ، إنما لربه فيرضيه لأنه ربه ، ثم الفاء توحي بسبب هذا الاختصاص ، أنه ربوبيته تعالى ، جزاء لشرط مطوي إن كان هو ربك فله اصبر فالصبر في سبيل الله وانحصاره بالله يتسببان من ربوبيته تعالى ، فان معركة الرسالة طويلة ضيقة ، والصبر هو زادها الأصيل ، وقد شرحنا مدى الصبر الجميل مسبقا فلا نطيل.

٢٣٩

(فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ)(٣٠)

(فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) آية عديمة النظير من حيث التعبير ، فما نرى الناقور إلا هنا ، وليس هو إلا عبارة أخرى عن الصور (١) ويزيد الناقور أنه قرع يفضي إلى النقر والثقب ، قارعة تقرع الكائنات لحد النقر ، قرع ينتهي لمداه ، فلا يبقي شيئا ولا يذر في قيامة الإماتة ، ثم قرعة الإحياء حيث تنقر الميتات وتنقلها إلى الحياة ، ذلك لأنه ناقور : فاعول ـ مبالغة في النقر ، فليس إذا بوقا ينفخ فيه ،

__________________

(١) راجع ج ١ من الجزء ٣٠ ص ٣٥ ، ففيه إيضاح عن النفخ في الصور.

٢٤٠