الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٠

السماء الدنيا بمصابيحها الرجوم :

(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) :

هنا تتحدث الآية (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) عن سمائنا التي نواجهها ، وهي الأولى ، دون الستة الباقية البعيدة عن أنظارنا ، وإن كانت بالعيون المسلحة ، فضلا عن غزو الفضاء ، فإننا حتى الآن لم نسبر غور السماء الأولى ، فضلا عن سواها!

هنا (السَّماءَ الدُّنْيا) الموصوفة بأنها الدنيا : أدنى السبع إلينا ، لأسماء الدنيا! أمقابل سماء الآخرة؟ فليست الآن مخلوقة! والآية تحدثنا عما مضى ، فهذه الآية مع نظيراتها ، تدلنا أن المصابيح السماوية التي نشاهدها ، والكواكب التي نراها : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) (٣٧ : ٦) انها ـ كلها ـ في السماء الأولى ، فما هي الكائنات في سواها ، من الستة الباقية؟ لا ندري ، وكيف لنا أن ندريها ، وما ندري ما في سمائنا الدنيا!

رجوم الشياطين؟

هل إن المصابيح هنا هي النجوم كلها ، أو الكواكب كلها ، أم قسم خاص منها؟ وهل الشياطين هم شياطين الجن فقط؟ أم والإنس أيضا؟ ثم كيف تكون المصابيح رجوما على أية حال؟

المصابيح هي الكواكب ونجومها الطالعة وسواها ، فهي مدرعات جوية ومقاذيف تقذف : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ، وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ ، لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ ، إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) (٣٧ : ١٠) .. هذه الكواكب هي كلها رجوم ، ولا سيما بروجها : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ ، وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ ، إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) (١٥ : ١٨).

٢١

فموقع الكواكب ـ بين مواقعها ـ أنها حفظ من مردة الشياطين ، بعضها قذائف وشهب بحرسها : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) (٧٢ :) بين منفصلة عن بروجها ومدنها : عن وزارات الدفاع ومراكز الأسلحة ، انفصلت شهابا رصدا ، ترصد وترقب مسترقي السمع (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) (٧٢ : ٩) وبين ما هو كرة سماوية ، مهما كبرت أو صغرت. تدفع من قاذفاتها شهبا ونيازك نارية ، تهدف أهدافا مقصودة ، يدفعها الحرس الملائكي ، أو تندفع دون حرس.

إن قذف الكواكب حتم لا مردّ له ، ولكنه ليس من نوع واحد ، فقد يكون رجوما ، وقد يكون شهبا : الأحجار السماوية ونيازكها النارية.

فالرجوم هي الأحجار التي تحمل النار ، أو تتبدل نارا باصطكاكها الجوي ، والمصابيح الرجوم ليست هي الكرات ، إذ لا يرجم بها الشياطين ، وإنما يرجمون منها ، من قذائفها المنفصلة عنها ، ف (جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) لا تعني في الكرات إلا أنها مقاذيف ، طالما تعني في الأحجار المنفصلة الحائرة في الجو ، تعني منها أنفسها.

والشهب هي النيازك النارية (١) فالرجوم التي تحترق في الجو وتندثر بعد نفاذ

__________________

(١) يقول (ماكسول رايد) العالم الفلكي في كتابه (النجوم للكل) : في ليلة نوفمبر ١٨٣٣ ـ أصبحت السماء مليئة من الشهب ، وكأنها الكواكب ، جعلت السماء ميدان النضال ، وأدعى بعض انها كانت على كثرة ذرات البرد ، فالشهب ـ هذه ـ كانت تنتشر ، وكأنها من دوراة النار ، من النقطة التي فيها الصورة الفلكية «لنوى» : اسد ، لقد خيل الى بعض الناظرين كأن الدنيا انتهت ، وبعد قليل سوف تنفجر الأرض بهذه الشهب الساقطة عليها ، وقد دامت هذه الحملة النارية طول الليل ، مخيلة أنها تمطر من ثقبة وتنتشر ، وتصاحبها في نضالها الكواكب حولها ـ

٢٢

أمرها ، هي الشهب ، والتي تصل إلى الأرض ، هي الأحجار السماوية التي تمطر أحيانا على شياطين الأرض ، ف (جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) تعم شياطين الجن بالشهب ، وشياطين الإنس بالأحجار ، ومن رجوم شياطين الأرض سجّيل أصحاب الفيل وسواه ، كالتي أرسلت إلى سدوم ، وعلى قوم لوط : (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ، لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) (٥١ : ٣٤) (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ) (١١ : ٨٢).

ثم كيف تقذف الرجوم والشهب إلى شياطين السماء؟ ولماذا؟ فهل يسمح للجن المؤمنين اختراق السماء إلى الملإ الأعلى للاستماع إليه؟ وهل يمنع الإنسان أيضا من اختراق السماء وهو لا يستطيع التسمّع إلى الملإ الأعلى؟ ثم الشهب والنيازك النارية والأحجار ، هل إنها على كثرتها وتوافرها لا تهدف إلا قذف شياطين السماء والأرض؟ وكيف ذلك؟ تجد الجواب عنها في محالها الأنسب (١).

(وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) : عذابا فوق العذاب بخبره الحاضر الحاذر عن مستقبل شديد ، ورجومهم يوم الدنيا ـ بواقعه ـ عليهم شهيد ،

__________________

ـ نقل احد الشاهدين هذه الحرب الجوية في «كارولينا الجنوبي» : سمعت صوتا خشنا خارقا ايقظني من نومي ، صرخة من ثمانمائة من العمال السود في المزارع ، حاولت الكشف عن السبب ، فإذا بصوت ضعيف من وراء الباب يطلبني ، أخذت سيفي واتبعت صاحب الصوت ، فسمعت ثانية يسترحمني قائلا : قم فقد احترقت الدنيا ، فتحت الباب ، ولست أدري هل كانت الصرخات المسترحمة أدهش ، أم المنظرة الرهيبة من الحرب الجوية ، رأيت مائة من العمال ساقطين على الأرض ، كانت حادثة عديمة النظير ، وان كانت لها أشباه في التاريخ.

(١) كما في سورة الحجر وفصلت والصافات والجن.

٢٣

فهم بين عذاب حاضر وآخر معتد عتيد ، عذاب فوق العذاب وبعد العذاب وبئس للظالمين بدلا.

عذاب معتد : لم يأت وقته ، ولم يعد عدته ، ولأنهم وقوده ولما يدخلوه ، فإذا ألقوا فيه كمل العذاب بهذا اللقاء ، كما يقرب البترول النار ، فشهيق وفوار.

لا فحسب الشياطين : بناة الضلالة وأصولها من الجنة والناس أجمعين ، بل الحكم يعمهم والكافرين أجمع :

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) : فالذين لا يرجمون ـ منهم ـ يوم الدنيا ، هم شركاؤهم في عذاب جهنم يوم الدين : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ).

(إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ) : يلقون فيها مهانة لهم ، وإلقاء للصلاء الوقود ، لكي يصطلون بأنفسهم ، فلقد كانت كاظمة غيظها ، باطنة فورتها وميزها ، وأما الآن وهي تعيش وقودها ، فحق لها شهقتها وفورتها وثورتها على الكافرين.

الشهيق. هو الصوت الخارج من الخوف عند تضايق القلب من الحزن الشديد والكمد الطويل ، وهو صوت مكروه سماعه ، شديد إيقاعه.

أما إنها خائفة من وقودها الشديد ، متضايقة القلب الحزين ، من ورود هؤلاء الأرجاس الأوغاد ، رغم تصبّرها لورودهم ، في كمد طويل!.

تشهق فائرة : مرتفعة الغليان ، تجذبهم إلى داخلها جذب الهواء بشهيق النفس إلى داخل الصدر.

(تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) : من قولهم تميزت القدر ، إذا اشتد غليانها ، ثم صارت الصفة خاصة الإنسان المغضب ، وهنا وصفت النار بصفة المغيظ الغضبان الذي من شأنه ـ إذا بلغ ذلك الحد ـ أن يبالغ في الانتقام ، ويتجاوز الغايات

٢٤

في الإيقاع والإيلام ، وقد يوصف الإنسان الشديد الغيظ ، بأنه تكاد يتميز غيظا أي : تكاد أعصابه المتلاحمة تتزايل ، وأخلاطه المتجاوزة تتنافى وتتباعد ، من شدة اهتياج غيظه ، واحتياج طبعه واحتدامه ، فأجرى سبحانه هذه الصفة على نار جهنم ليكون التمثيل في أقصى منازله وأعلى مراتبه.

يا ويلاه! هل ألقيت فيها قنبلة ذرية فتميزت شاهقة فوارة؟ فإنها حصلت على عدتها بعد عدتها تحرق بها وتحترق ، تميز بها وتتميز ، وهكذا أعدها ربها لهذا اليوم العصيب! أعاذنا الله شره بحق الحبيب محمد وآله الطاهرين.

(كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ)؟ : إنما يلقون فيها أفواجا. فعذاب الإلقاء مهانة ، وعذاب الأفواج تطلعا واطلاعا ، بعضهم البعض ، وعذاب النار الشاهقة الفوارة بوردهم ، يضاف إليها كلها عذاب التنديد الشديد الذي لا جواب عنه إلا بلى!.

إنهم يساقون إلى جهنم ويلقون فيها أفواجا : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) (٣٩ : ٧١) جعل الخبيث على الخبيث وركمهم جميعا : (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ) (٨ : ٣٧) ركما ولكي تشتعل النار وتتميز من الغيظ بركامة وقودها ، تناصرا في الصّلاء ، وكما تناصروا يوم الدنيا في إيقادها على المؤمنين.

والملائكة الغلاظ الشداد ، وهم أصحابها : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) (٧٤ : ٣١) هؤلاء العدول الموكلون بالنار يسألون أصحابها : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) : حجة عليهم ، وتنديدا بهم أن جاءهم نذير ، إذ الهلاك يوم الدنيا ويوم الدين ، ليس إلا عن حجة مسبقة تحملها النذر : (ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) (٢٦ : ٢٠٨) ، فالنذر تكفي حجة يوم الدين ، ولو لم تغن أحيانا يوم الدنيا : (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) (٥٤ : ٥).

وإذ لا تنديد ولا عذاب لمن لم يأته النذر ، فما هذا التنديد الشديد بمن لم يأتهم! :

٢٥

(وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ ... وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) (٣٤ : ٤٤).

تجد الجواب في : (قَبْلَكَ) فإذ لم يأتهم نذير في الفترة بين المسيح ومحمد (ص) ، فقد جاءهم النذير الأخير محمد ، وفيه الكفاءة إنذارا وفيه المزيد ، وانما الآية توضح السبب في تصلبهم في الكفر : أنهم لم يأنسوا بالنذر قبله ، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم يلاقي أشد الصعوبات في الدعوة ، وعليه أن يصّعّد أصعب العقبات فيها : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ. لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣٦ : ٧).

ثم إذا كان واقع الإنذار شرطا لزاما في جواز العذاب ، فما هي ـ إذا ـ حال من عاشوا زمن الفترة كما بين محمد والمسيح (ص)؟ أو عاشوا في البلاد المنقطعة عن النذر أو عن إنذارهم كأمريكا ، إذ اكتشفت قبل حوالي خمسة قرون؟ أو عاشوا في الفترة بين النبيين ، بعد موت السابق وقبل بعث اللاحق ، أو عاشوا في زمنهم ولكنهم لم يواجهوهم في دعوتهم؟ فليس هناك ـ طوال التاريخ ـ إلا القلة القليلة من الكفار الذين تحق لهم النار ، لأنهم أتاهم ـ أنفسهم ـ نذير! ثم الكثرة الكثيرة لا يعذبون ، إذ لم يأتهم نذير!

هنا وهناك تعرف الجواب إذا تعرفت إلى كيان النذير ، الذي يفرض الحجة على المتخلفين :

إن الإنسان ـ غير المجنون والصغير ـ إنه يعيش نذرا طوال حياة التكليف ، مهما اختلفوا في مدى الإنذار وكيفيته ، وطول مدته وقصرها ، وقوة حجته وأقواها :

فالعقل نذير ، والضمير الإنساني نذير ، والفطرة نذيرة ، وهذه نذر أنفسية دواخل ذواتنا ، وهي أسس الإنذار ، يتبنّاها المنذرون المرسلون ، وتتبنّاها الآيات الآفاقية في دلالتها وإنذارها ، (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

٢٦

فعلى العقلاء أن يعقلوا عما تحيطهم من آيات الله البينات ، ولا أقل الآفاقية الكونية منها ، ولا أقل الأنفسية! عليهم أن يعقلوا ويسمعوا ويعوا ، ومنهم الماردون الذين يتأوهون يوم الورود : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ ، فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ)(١٠).

ثم الرسل المنذرون ، ليس لزاما عليهم الإنذار بأنفسهم مواجهة ، ولا كل في زمنه ، إنما المدار على بلوغ الإنذار الذي فيه الحجة البالغة ، سواء حمله الرسول بنفسه ، أم بمبعوثيه ، أم بكتابه ، ولا سيما الكتاب الذي يحمل معجزة الرسالة ومعجزة الرسول – البالغة الخالدة : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ)! (٢٩ : ٥١).

فكل من بلغته الدعوة الحجة ، كيفما بلغت ، وبأيّ من الوسائل ، فقد لزمته الحجة الإلهية : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٧ : ١٥).

والعذاب دون حجة الإنذار ، وكذلك اللّارحمة واللاعذاب دون بلوغ الحجة ، إنهما حجة للناس على الله ، وحاشاه! ولكن : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) (٦ : ١٤٩) تبلغ العالم بعلمه ، والجاهل بعقله ما لم يقصر : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (٤ : ١٦٥) (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (٢٠ : ١٣٤).

ولقد شمل الإنسان النذر وأحاطوا به طوال التاريخ : (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) (٤١ : ١٤) (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (٣٥ : ٢٤) لا تشذ النذارة الإلهية جماعة من الجماعات البشرية ، أو قطعة من قطاعاتها سواء أكان النذير من رجالات الوحي ، أم رسلهم الخاصة ، أو العامة ، أم ـ وفي أقل التقدير ـ نذر العقول التي تهدي إلى نذر الرسل ، وتدفع أصحابها للتحري عنهم.

٢٧

ومما لا يريبه شك أن هناك قرى كثيرة ما أتتهم الرسل : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) (٢٥ : ٥١) ولأن الأصل المبنية عليه الحجة ليس إلا وصول الإنذار الحجة ، لا مواجهة أصحاب الوحي كل القرى بكل الأمم ، ولأنها مستحيلة في الواقع ، إضافة إلى عدم لزومها فيما يرام.

صحيح أن النذر والحجج تختلف ، والبيآت تختلف ، والعقول تختلف ، ولكنما الجزاء كذلك يختلف ، وفاقا لاختلاف هذه المبادئ ، و «إنما يداق الله الناس في الحساب يوم القيامة على قدر عقولهم» (١).

ثم المكلفون في الفترة الرسالية على حد التعبير المسبق ، لم يعيشوا إلا فترة رسولية ، لا رسالية ، حيث الإنسان ـ كائنا من كان ـ يعيش دعوات الرسل ورسالاتهم ، المودعة في كتاباتهم ، والمنقولة على ألسنة خلفائهم وعلماء أممهم ، فهم رغم أنهم لم ينذروا بالرسل : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) (٣٦ : ٦) ـ هؤلاء الآباء غير المنذرين ـ ولكنهم أنذروا بحملة الرسالات من العلماء والنبهاء ، وعلى أقل تقدير بنذر عقولهم وفطرهم ، وأخيرا لو كانوا قاصرين أو مستضعفين فهم (مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) فالتوبة عليهم لضعف الحجة ، والعذاب ـ ولا ريب أنه قليل ـ لأصل الحجة ما داموا عقلاء! ذلك (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

وأما العائشون في مثل أمريكا ، فمن أين انهم كانوا منقطعين عن الرسالات ، الفصل البحار حولهم؟ فعلها كانت متصلة قبل اكتشاف امريكا ، اتصالا بريا ، أم بحريا بقرب السواحل ، ثم ابتعدت لفترة ، اكتشفت لآخرها ، أم ـ كأبعد الاحتمالات ـ كانت المواصلات بحرية رغم بعد سواحلها ، وأخيرا ، لو تأكدنا من انقطاع المواصلات كلها ، بين أمريكا وأراضي الوحي ، فمن المحتمل المعقول ، بل المدلول عليه بالآيات ، أنه كان فيهم منذرون ، مستقلون بالوحي ، أم من أتباع رجالات الوحي : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ..) (٤٠ : ٧٨).

__________________

(١) اصول الكافي : باب العقل والجهل عن الامام الباقر ع.

٢٨

فهل يا ترى ان الأمة الأمة كانية ـ قبل اكتشافها ـ لم تكن أمة بشرية حتى تستحق نذيرا يخلو فيها؟ : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ)! (٣٥ : ٢٤) أفهل نكذب كلام الله لأن تاريخ الرسالات لم ينقل لنا عن أنبياء أمريكا شيئا؟ والقرآن يقول : (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) وكيف بنا! إذ نجهل أحيانا من قصهم الله ، فكيف بمن لم يقصصهم؟!

(قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ).

هذا الاعتراف ـ إذ لا مرد لهم منه ـ إنه عذاب نفسي فوق عذاب التنديد ، إضافة إلى عذاب السعير ، وشهود الجماهير ، وإلقائهم جماعة في السعير مهانة ، فقد شملهم وأحاط بهم مختلف ألوان العذاب : نفسيا وجسدانيا ، وكما كانوا عذابا يوم الدنيا في الناحيتين ، وخلقوا جو العذاب لمجتمعهم ..

وهنا نعرف من الجواب أنهم كانوا ممن جاءهم نذير بالوحي ، فواجهوا سفراء ربهم بكل وقاحة وحماقة ، تجمع بين توهين الله بفرية : (ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) وتوهين الرسل : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) وهذه إهانة ثانية لله تعالى ، إذ يحسبون رسالته السامية ضلالا كبيرا ، وهؤلاء هم المشركون وكما عن باقر العلوم (ع) (١).

ومن هنا نعرف وهن العذاب لمن لم يعش الرسالات ، أو يواجهها بهكذا تكذيب وقح ، فكل إنسان يعمل على شاكلته ، ويجزى على شاكلته ، وكان ربك بصيرا.

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٣٨١ محمد بن مسلم عنه (ع) تفسيرا لهذه الآيات.

٢٩

(وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ. فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ).

أجل ـ إنما هو السمع وعقل ما يسمع ، يفلح الإنسان في الحياة ، ويفلج خصومه ضد الحياة! سواء أكان سمعا بسماع الاذن فعقلا عما سمع ، أو سمعا بإذن القلب وعقلا له كذلك ، فإن للقلب اذنا كما للجسم.

وهناك اتصالات للإنسان بالعالم الخارجي ، تجعله كأنه العالم كله ، فيمشي مع الكون صراطه المستقيم .. بالسمع والبصر ومطلق الإحساس.

ولكنما السمع أفلح ما يكون وأقربه إلى الإعتبار والعقل ، فأكثر ما يسمعه الإنسان ويفهمه ، إنه يعقله ، دون البصر والحس ، فإنهما بعد السمع في الإنتاج.

كذلك دواخل الإنسان من فطرة وصدر وفؤاد وقلب ولب ووهم وخيال ، فإن العقل فوقها لأنه الذي يعقل : يأخذ ـ المفاهيم ، بالسمع وبالبصر والإحساس وسواهما ، يعقلها فيحولها ويغربلها إلى الصدر والقلب ، والقلب عامل نهائي في غربلة ما يرده من الصدر والعقل.

فإنما هو السمع والعقل ، إذا عملا واعتملا كما يجب ، كان بعده الفلاح ، ثم للمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد ، ما لم يقصر في الطريق.

ثم العقل : منه قبل السمع : يدفع صاحبه لكي يسمع ، ومنه بعد السمع يدفعه لكي يعقل ما سمع ، وكثير هؤلاء الذين يسمعون ولا يعقلون ، لأن سمعهم ليس عن عقل ، أو يكتفون بالسمع فرارا عن تكلفات العقل فيما يسمعون ، وكثير هؤلاء الذين لا يسمعون لكيلا يعقلوا ، وهم أبعد وأضل سبيلا ، وقليل من يسمع ويعقل ثم يواصل في عقله وسمعه ، وعلى حد قول الرسول (ص):

٣٠

«ما يجزى أحد يوم القيامة إلا على قدر عقله» (١) ، اللهم اجعلنا من هؤلاء القلة.

وإنما يعطف العقل على السمع هنا ب أو لأن عقل الحقائق لا يختص بواسطة السمع وسواه من وسائط الإدراك ، إنما الوسائط للأكثرية الساحقة من الناس الحسيين الذين ليست لهم تلك العقول الفائقة الناضجة ، ولكنما العقلاء الناضجين يسمعون ويبصرون بعقولهم فوق ما يسمعه السامعون ، فإنما هو العقل : عقل الحقائق وإدراكها ، سواء أكان عن سمع الأذان ، أم سماعا عقليا وفطريا وفكريا ، وهذه هي رؤية الآيات الإلهية في الأنفس : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (٤١ : ٥٣)

فالذي يسمع ويعقل ، أو يعقل ويسمع ، أو يعقل دون حاجة إلى السمع ، إلا عن رجالات الوحي لتكميل ما عقل ، هذا الإنسان اللبق لا يورد نفسه هذا المورد الوبيء ، ولا يجحد مثل ما يجحد به أولئك الأوغاد المناكيد ، ولا يتسرع باتهام الرسل بالضلال الكبير ، فلا يكون آخر مطافه عذاب السعير : وماذا عليهم لو سمعوا من العقلاء النابهين ، أو عقلوا في أنفسهم! فإن حدود كيان

__________________

(١) المجمع عن ابن عمر عن النبي (ص) ، وعن انس قال : اثنى قوم على رجل عند رسول الله (ص) فقال رسول الله (ص) : كيف عقله؟ قالوا : يا رسول الله! نخبرك عن اجتهاده في العبادة واصناف الخير وتسألنا عن عقله؟ فقال : ان الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر ، وانما يرتفع العباد غدا في الدرجات وينالون الزلفى من ربهم على قدر عقولهم.

وفي نور الثقلين ٥ : ٣٨٢ عن الكافي عن الصادق (ع) من كان عاقلا كان له دين ، ومن كان له دين دخل الجنة ، وفيه عنه (ع) قيل له ما العقل؟ قال : ما عبد به الرحمان واكتسب به الجنان ، قيل : فالذي كان في معاوية؟ فقال : تلك النكراء ، تلك الشيطنة ، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل.

٣١

الإنسان كإنسان ، إنها سمعه من العقلاء ، وعقله في نفسه ، ولتصبح حياته في ازدواجية مشرّفة لا يضل فيها ، وأما إذا حصر سمعه بالمضلات ، وعقله بالملهيات والشهوات فهو السعير في نفسه ، وإنما سعير النار صورة واقعية عن سعيره :

(فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) : كما سحقوا كيانهم الإنساني بسحق عقولهم ومحق فطرهم : بعّدوا عقولهم عن السمع ، وأسماعهم عن العقل ، فحرموا الحياة حق الحياة ، فهم يوم القيامة عن حياة الجنة مسحوقون : بعيدون.

(بِذَنْبِهِمْ) : وهو هنا عدم عقلهم ، سواء عن سمعهم أو سواه ، فأكبر الذنوب عدم استعمال العقل ، لا عدمه ، فإنه الجنون الاضطراري ، والتكليف خاص بالعقلاء ، وإنما الذنب هو الجنون الاختياري ، للعاقل الذي لا يستعمل عقله حتى يصبح كأنه مجنون ، في تفكيراته وتصرفاته الفوضى.

ايقاظان :

قد يستند إلى هذه الآيات في انحصار عذاب النار بالكفار المكذبين للنذر : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ .. فَكَذَّبْنا .. إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) حيث العموم المستغرق لأهل النار في المكذبين الكفار! وهذا خلاف الآيات الشاملة لغيرهم ، أو الخاصة بمن سواهم من المتخلفين!.

والجواب نجده في الآية المسبقة : (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ ..) فهم المعنيون ب (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ ..) لا كل أهل النار ، وإثبات النار لهؤلاء الكفار لا ينفيها عن سواهم ممن يسحق النار ، وإنما اختص المكذبون بالذكر هنا لأنهم صلاء النار ووقودها ، وهم الخالدون فيها أبدا ، دائمون فيها ما دامت.

وقد يستند الجبرية هنا ب «لو» ـ الدالة على امتناع مدخولها ـ على أن سماعهم للحق وعقلهم عنه كان من المستحيل : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ) فكيف يلامون ويلومون أنفسهم؟

٣٢

والجواب : إن كانت هناك استحالة فإنما هي بالاختيار : إنهم تمادوا في الطغيان حتى كأنهم أصبحوا طغاة في ذواتهم بما كسبوا : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) فمن رين على قلبه لا يستطيع السمع والعقل بما كسب ، ومن العقوبات الإلهية يوم الدنيا انه يزيغ قلوب من زاغوا : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ).

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) :

الخشية خوف يشوبه تعظيم ، وأكثر ما يكون عن علم بما يخشى منه ، ولذلك خص بها العلماء بالله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) (٣٣ : ٣٩)

والخشية العالمة من نتائج العقل الفعال ، فأصحابه يخشون ربهم ، يخشونه لما عقلوه وعلموه من ربوبيته لهم ولعالمهم ، وكلما ازدادت المعرفة هذه ازدادت الخشية ، وكلما ازدادت الخشية ازدادت المعرفة ، تناصرا في الزلفى ، ابتداء من العقل.

(بِالْغَيْبِ) : غيب الرب ، فرغم أنه غيب عن الإحساس يخشونه ، لأن عقلهم عنه وعلمهم به جعلهم كأنهم يرونه : «اعبد ربك كأنك تراه وإن لم تكن تراه فإنه يراك».

و (بِالْغَيْبِ) : غيب العقل ، فبه يعرف الرب ويخشى ، فهو لا يعرف ويخشى بالحس «فلا يحس ولا يجس ولا يمس ولا يدرك بالحواس الخمس» وإنما يعرف بالعقل وبأصحابه من الفطرة والصدر والقلب ، عقل معرفة لا عقل إحاطة واكتناه ذات أو صفة.

و (بِالْغَيْبِ) : غيبا عن الناس ، بينه وبين ربه ، ولكي تسلم خشيته عن الرئاء ، طالما يخشاه في الناس أيضا ، فمن الناس من يخشى ربه عند الناس ، وإذا

(تفسير الفرقان ـ ج ٢٩ ـ م ٣)

٣٣

خلى عنهم لا يخشاه ، أو لا كما يخشاه عند الناس ، ومنهم من يخشاه في الغيب إخلاصا في الخشية ، ثم قد لا يخشاه في الناس ، زعم أنه مزيد في الإخلاص! ومنهم من يخشاه في الغيب أكثر مما يخشاه علانية ، ومنهم من يعكس أمر الخشية هذه وهم الأكثرون ، ومنهم من يخشاه في الغيب والشهادة على سواء ، فلا يفرق له حضور الناس وغيبهم ، وهؤلاء هم الأقلون عددا ، وهم المعنيون هنا ، وإن خصت خشيتهم بالغيب هنا بالذكر ، لأنه الأصل فيها ، ثم من سواهم في هدى أو ضلال ، مهما اختلفت درجاته أو دركاته!.

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) وهو غيب ، بغيب عقولهم ، وفي غيب عن الناس (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) : مغفرة لرفع ما ربما يعرضهم من خطأ وغفلة ، ودفع ما ربما يقصدهم ولمّا ، مغفرة دون عذاب ، ولأنهم تبنّوا حياتهم من خشية الرب ، وهي من أكبر كبائر الحسنات اللاتي يذهبن السيئات : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) وأجر كبير لموقفهم هذا ـ الكبير.

(وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) :

أسروا قولكم : مع ربكم ـ في ذكره ودعائه وعبادته ، أو في معصيته ، أو اجهروا به ، فهما على سواء لربكم : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فالقول إبداء لما في الصدر ، والله عليم بذات الصدور ، أكثر مما يعلمه ذوات الصدور من أنفسهم.

فهل يجهر المؤمن بقوله لكي يعلمه الله؟ فلا يصلح هكذا جهر! أم يجهر لكي يتبعه غيره فيشاركوه في عبادة ربه؟ فنعم ونعما هو! أم هل يسر الكافر بقوله لكي يخفيه عن الله ، فالله عليم بذات الصدور! (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) فكيف بالجهر ، وتقديم السر هنا

يوحي بما يروى أن الكفار كانوا يسرون من وقيعتهم

٣٤

على النبي لكيلا يسمعه ربه فيخبره به (١) كما ويوحي بتقدم السر على الجهر إذ القول إنباء عما في الضمير ، والله تعالى خبير بما في الضمير ولمّا يظهر ، ثم خبير به إذا ظهر وهو أجدر ، فكأنه أخبر بالسر من العلن إذ قدم السر ، ولكنهما له سواء : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) : صاحب الصدور ، فإذا هو عليم بأصحاب الصدور ذواتهم ، فكيف تخفى عنه الصدور ومطوياتها.

(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) : لطيف في ذاته فلا يرى ، ولطيف في خلقه و «بخلقه بلا علاج ولا أداة ولا آلة ، وإن كل صانع شيء فمن شيء صنع ، والله الخالق اللطيف الجليل خلق وصنع لا من شيء» كما عن الإمام موسى الكاظم (ع) (٢).

__________________

(١) عن ابن عباس : كانوا ينالون من رسول الله (ص) فيخبره جبرائيل ، فقال بعضهم لبعض : أسروا قولكم ـ لئلا يسمع اله محمد فأنزل الله هذه الآية.

(٢) اصول الكافي عنه (ع) في حديث طويل ، قوله (ع): انما قلنا اللطيف للخلق اللطيف لعلمه بالشيء اللطيف ، أولا ترى الى اثر صنعه في النبات اللطيف ، ومن الخلق اللطيف ، ومن الحيوان الصغار ، ومن البعوض والجرجس ، وما هو أصغر منها مالا تكاد تستبينه العيون ، بل لا يكاد يستبان لصغره ، الذكر من الأنثى ، والحدث المولود من القديم. فلما رأينا صغر ذلك في لطفه واهتدائه للفساد والهرب من الموت والجمع لما يصلحه ، وما في لجج البحار وما في لحاء الأشجار ، والمفاوز والقفار. وافهام بعضها عن بعض منطقها ، وما يفهم به أولادها عنها ، ونقلها الغذاء إليها ، ثم تأليف ألوانها حمرة مع صفرة ، وبياض مع حمرة ، وانه مالا يكاد عيوننا تستبينه لدمامة خلقها ، لا تراه عيوننا ، وتلمسه أيدينا ، علمنا ان خالق هذا الخلق لطيف لطف بخلق ما سميناه ...

٣٥

(الْخَبِيرُ) وعلى حد تفسير الإمام الرضا (ع): «وأما الخبير فالذي لا يعزب عنه شيء ، ولا يفوته شيء ، ليس للتجربة ولا للاعتبار بالأشياء ، فعند التجربة والاعتبار علمان ولولاهما ما علم ، لأن من كان كذلك كان جاهلا ، والله لم يزل خبيرا بما خلق ، والخبير من الناس ، المستخبر عن جهل ، المتعلم ، فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى» (١).

وإن اجتماع الاسم واختلاف المعنى بين الخلق والخالق ، يعم الذات والصفات والأفعال أجمع ، فالموجود يطلق عليهما ، ولكنما حقيقة الوجود الإلهي تباين وجود المألوهين تباينا كليا ، ولا يعني باختلاف المعني ، اختلاف المفهوم فقط ، بل كلما وراء الاسم ، من مفهوم وحقيقة خارجية ، فكما أن واقع الوجود الإلهي يباين واقع وجوداتنا «باين عن خلقه وخلقه باين عنه» كذلك المفهوم من الوجودين ، فنحن نفهم من وجوداتنا ما نفهم ، ولا نفهم من حقيقة الوجود الإلهي إلا أنه غير معدوم ، وأما الإحاطة بوجوده ، أو إدراكه ولو شيئا ما ـ فلا!.

فالاعتراف بأنه خالق ، لزامه الاعتراف بعلمه ، إذ الخلق يلزمه اللطف

__________________

(١) أصول الكافي علي بن محمد مرسلا عن أبي الحسن الرضا (ع) ـ وفي تفسير البرهان ابن بابويه باسناده عنه (ع) قال : انما سمي الله بالعلم لغير علم حادث علم به الأشياء واستعان به على حفظ ما يستقبل من امره ، والروية فيما يخلق ويفنيه ما مضى مما أفنى من خلقه مما لو لم يحضره ذلك العلم ويعينه ، كان جاهلا ضعيفا ، كما أنا رأينا علماء الخلق انما سموا بالعلم لعلم حادث إذ كانوا قبله جهلة ، وربما فارقهم العلم بالاية فصاروا الى الجهل ، وانما سمي الله عالما لا يجهل شيئا فقد جمع الخالق والمخلوق واختلف المعنى على ما رأيت ـ.

٣٦

والخبرة : العلم والقدرة والحكمة والبصيرة ، فالخلق الفوضى لا يأتي إلا بالفوضى والفتور والفطور (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ؟ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ)!

فهما أنكر الماديون الخالق المجرد عن المادة ، فهل بإمكانهم إنكار الخلق ، وان خالقه عليم لطيف خبير؟! وإذا لم تدل حكمة الخلق وروعته وتناسقه وتلاؤمه ، على لطف خالقه وخبرته ، فهل تدل على جهله وفوضويته؟ فهل بإمكان الجهل والفوضى أن يأتيا بالحكمة ، وليس بإمكان العلم؟ إذا فعلى الجهال أن يحتلوا كراسي التدريس في مختلف العلوم ، ثم الأساتذة العلماء يعتبروا أنفسهم خدامهم أو تلامذتهم!.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠)

٣٧

أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٢٢)

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ):

الأرض الذلول :

نستوحي من جعل الأرض ذلولا أنها كانت قبلئذ شماسا غير ذلول ، وبما أن الذلّ ما كان بعد تصعّب وشماس ، والذلول هي الدابة التي ذلت بعد شماس ، نتأكد أن أرضنا هذه تحكمها حركات متلائمة كالدابة الذلول ، لحدّ كأنها دابة ، وقد ذكرت لها مناكب كما للدابة : (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها)!.

فمن رحمته تعالى أنه جعل أرضنا الشموس ، المحترقة المجنونة ، التي ما كانت تذل لراكب ، ولا تحنّ لعائش ، جعلها لنا كالمركوب الذلول ، ممكّنة من الاستقرار عليها ، والتصرف فيها ، طائعة غير مانعة ، ومذعنة غير مدافعة ، (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) : في ظهورها وأعاليها ، (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ).

فيا لحركات الأرض من نعمة في ليونتها ونعومتها ، لحدّ ما كانت البشرية تحسها ولمّا ، ولا تصدقها حتى برهن لها العلم ، وقبله صرحت بها آيات بينات ، منها آية الذلول ، مهما أوّلها المفسرون الأول ، زعم سكون الأرض ، وحتى الآن لا يكاد يصدقها المؤمنون غير المثقفين!.

هذه الوالدة الحنونة ، تنوّم وتعيّش أولادها ، وأفلاذ كبدها ، بحركاتها

٣٨

الناعمة اللينة ، حركات لولاها لا نصدمت الأرض ومن عليها ، بما لم يكن ليجبرها أيّ جابر.

فالأرض جعلت ذلولا في حركاتها وحرارتها وجرمها وكل ما يصلح للحياة فيها ، وهذه هي غاية الذل ومبالغته المستفادة من صيغة المبالغة «ذلول».

وآية القرار : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) (٤٠ : ٦٤) ليست بالتي تسكن الأرض عن حراكها ، بل تقر الأرض في حركاتها ، إذ «القرّ» أصله البرد ، إيحاء بسابق حرارة الأرض وشماسها في حركاتها المجنونة ، فجعلها ذلولا ، ومن ذلّها قرارها : برودتها لحدّ تحنّ لعائشيها وراكبيها أن يمشوا في مناكبها ويأكلوا من رزقه.

ثم نجد آيات : «الكفات» ، و «المهاد» ، «والراجفة التي تتبعها الرادفة» و (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) نجدها تصريحات في حركات الأرض ، كما درسناها وندرسها في طياتها.

فمن أسباب جعل الأرض ذلولا جبالها الرواسي وكما في خطبة لعلي عليه السّلام : «وعدّل حركاتها بالراسيات من جلاميدها» ومنها تبريدها عن حرارتها الزائدة (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) (٤٠ : ٦٤).

إن هذه الجبال الشاهقة الخشن الملامس ، الصعبة المسالك ، التي جعلت للأرض أثقالا وأوتادا ، وللخلق معقلا ، إنها مع سائر المرتفعات هي مناكب الأرض ، وقد ذللها الله تعالى على شموخها أن نمشي عليها ونستثمرها لصالحنا ، أو نفجرها أو نستفجرها لصالحنا ، ثم الأرض ذلول لنا ، لا ليّنة لا نتماسك عليها ، ولا صعبة لا نقدر على حفرها وزرعها ، ولولا أن الله تعالى جعلها ذلولا لما أمكنت من التصرف على ظهرها ، ولا مثبت قدم عليها ، ولا مسرح نعم فيها ، سبحان الخلاق العظيم!

(جَعَلَ لَكُمُ) : أما كانت الأرض قبلنا ذلولا؟ وولادتنا نحن الأناسي من آدم ليست إلا زهاء مائة قرن ، والأرض تعيش وتعيّش العائشين عليها منذ ملايين السنين!؟

٣٩

الجواب : أن «لكم» لا يخصنا نحن الإنسان من ولد آدم الأخير ، بل تعم كل من يستأهل الخطاب ب «كم» ممن عاش على وجهها منذ الملايين من السنين ، وكما عن الإمام الصادق عليه السلام : إن الله تعالى خلق ألف ألف عالم وألف ألف آدم وأنت في آخرهم.

ف «كم» هنا ، تعني عامة المكلفين العائشين على وجه الأرض ، منذ جعلت ذلولا ، أو ان الخطاب هنا تختصنا تشريفا وتكريما لنا ، كأنما الأرض ذللت لنا ، وقد كانت مذللة لمن سبقنا. فقد أخذت الأرض ـ بجوها ـ تقبل بخار المياه وتبدلها ماء ، وتقبل مياه السماء واختباءها في عيونها ، وإنبات الأرض نباتها ، فإعاشة حيوانها وإنسانها ، وكما نجد عرض التكامل الأرضي في الآيات من فصلت.

إننا ـ لطول ألفتنا بالحياة على هذه الذلول ، وسهولة استقرارنا عليها ، وسيرنا فيها ، واستغلالنا لتربتها ومائها وكلاءها وهوائها ـ نحن ننسى نعمة الله في تذليلها لنا ، والله تعالى يذكرنا إياها ويبصرنا بها في هذا التعبير العبير ، عديم النظير ، الذي كله علم وحكمة وموعظة وذكرى : يوحي ان هذه التي نراها مستقرة ثابتة ، هي كدابة دائبة الحركة متحركة ، رامحة راكضة مهطعة ، لا تبعثر راكبها ، ولا تتعثر خطاها ، ثم هي حلوب : (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ).

فيا لها من إشارة عابرة في الذكر الحكيم عن مركوبنا ، تحمل ما لم يتحمله العلم على تقدمه البارع ، مدى التأريخ وحتى الآن.

فالأرض ذلول في حركاتها حول نفسها وحول شمسها ، وهي معها حول فلك جماعي تحول حولها المنظومة الشمسية ، بسرعة على ترتيب : ألف ـ خمسة وستين ألف ـ عشرين ألف : ميلا في الساعة ، ومع هذه الركضات المسرعة يعيش عليها الإنسان آمنا دون اضطراب فيها ، ولا انفلات عنها ، ولا دوخة وارتجاج في مخه ، وفي كل هذه الدورانات حكم لا يحصيها العلم ، وإن وصل إلى بعضها.

٤٠