الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٠

أراه الله أصفياءه وأراه خليله فقال : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) وكيف يحمل حملة العرش الله؟ وبحياته حييت قلوبهم ، وبنوره اهتدوا إلى معرفته».

أقول : علّ الأركان الثلاثة الأول هي مقادير التقدير والتدبير والإبرام في سائر الكائنات تكوينا ، والركن الرابع هو زاوية العلم : تشريعا وتكوينا وما أشبهها.

ثم الأربعة الآخرون يوم القيامة ، علهم من الملائكة الكروبيين الخصوص ، أو أنهم هم لا سواهم ، إذ لو كانوا من الحملة يوم الدنيا لانتفى دورهم يوم الدين!

وهؤلاء المكرمون الثمانية ـ أيا كانوا ـ هم فوق الخلائق أجمع ، ويحملون عرش الرب فوقهم اجمع : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ).

وعلهم ـ كما احتملنا مسبقا ـ ثمانية صفوف أو صنوف ، فلتشمل كافة حملة الرسالات الإلهية ، وحملة أمر الله تعالى : يوم الدنيا ويوم الدين ، منقسمين إلى صفوف أو صنوف ثمانية ، وانما ذكرت الروايات اولي العزم من الرسل لأنهم القمة فيما يحمّلون ، والائمة فيما يحملون.

وأخيرا ما أروعه وأعمقه حديثا عن العرش يروى عن الصادق عليه السلام ، إذ يسأله حنان بن سدير عن العرش والكرسي فقال : ان للعرش صفات كثيرة مختلفة ، له في كل سبب وضع في القرآن صفة على حدة ، فقوله : (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) يقول : رب الملك العظيم ، وقوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) يقول : على الملك احتوى ، وهذا علم الكيفوفية في الأشياء ، ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي لأنهما بابان من أكبر أبواب الغيوب ، وهما جميعا غيبان ، وهما في الغيب مقرونان ، لأن الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع ، ومنها الأشياء كلها ، والعرش هو الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف والكون والقدر والحد والأين والمشية وصفة الإرادة وعلم الألفاظ والحركات والترك وعلم العدد والبدء ، فهما في العلم بابان مقرونان ، لأن ملك العرش سوى

١٠١

ملك الكرسي ، وعلمه اغيب من علم الكرسي فمن ذلك قال : (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) ، أي : صفته أعظم من صفة الكرسي ، وهما في ذلك مقرونان ، قلت : جعلت فداك ، فلم صار في الفضل جار الكرسي؟ قال عليه السلام : إنه صار جاره لأن علم الكيفوفية فيه وفيه الظاهر من أبواب البداء وانيتها وحد رتقها وفتقها ، فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الصرف ، وبمثل صرّف العلماء ، وليستدلوا على صدق دعواهما ، لأنه يختص برحمته من يشاء وهو القوي العزيز (١).

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) : تعرضون على الله بشهود الأعمال ، عرضا حاضرا حاذرا مشهودا ، بعد ما كنتم معروضين عليه يوم الدنيا غير مشهودين ، ثم ذلك عرض للحساب ، وهنا عرض العلم ، وفي ذلك العرض الشهادة الحساب (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) : خافية النيات والعقائد والأعمال والسرائر ، مهما حاولتم في اخفائها ، إخفاء عن الله؟ كلا! (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) (١٨ : ٤٨) (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) (٤٠ : ١٦) بارزون لأنفسهم وسواهم ، فكيف يخفى على الله منهم شيء ، ولا تخفى عليه خافية!.

وما أخطره هول المطلع والعرض وما أفظعه وأصعبه ، ألا إنه ليوم عصيب أعصب من دك الأرض ومور السماء : وقوف الإنسان عريان الجسد ، عريان النفس ، عريان الضمير ، عريان الحاضر والغابر ، عريان الآمال والأعمال ما ظهر منها وما استتر ، أين؟ امام تلك الحشود الهائلة من خلق الله ، وامام عظمة الله وجلاله! ألا انه حقا لأمر أمرّ من كل أمر وأدهى ، فليحسب له الإنسان حسابه ، وليعدّ له عدّته ، سبحان الغفار العظيم!

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ

__________________

(١) التوحيد للصدوق باسناده عن حنان بن سدير :

١٠٢

يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ)(٣٧)

يوم العرض الأكبر إذ يظهر لأهل الجمع كل ما ستر ، يؤتى الأخيار والأشرار كتبهم : كتب الأعمال ، فالحساب ، فالسقوط أو النجاح ، كتب تتناسب في التدليل على مواقف أصحابها ، ولعلهم قبل الكل تؤتاهم كتب الشريعة :

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) : تدليلا على أنه ناجح بما عاش يمين الحياة بيمين الكتاب الإلهي على ضوء تطبيقه (فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) : يقولها في فرحة غامرة بين الحشر تملأ الفرحة كيانه ، وتظهر على لسانه هاتفا أهل الجمع : (هاؤُمُ) : هاكم (اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) : كتاب الأعمال والحساب والنجاح.

(إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ).

والظن هذا أعم من ظن القلب الذي يساور يقين العقل الذي يدفع للصالحات فإن من يقين العقل ما لا يدفع للصالحات فضلا عن ظنه ـ وأعم من ظن العقل ، فإن من المحشرين من يدخل الجنة بلا حساب ومنهم من يدخلها بحساب ، فهو يظن نفسه من الآخرين متهما نفسه تخضعا لله ، فإذا هو من الأولين وكما عن الصادق عليه السلام في ظن الشك الممدوح (١) ، وعن أمير المؤمنين (ع) في ظن اليقين (٢) ولفظ الآية يتحملهما

__________________

(١) ور الثقلين ٥ : ٤٠٧ القمي في الآية قال الصادق (ع) كل امة يحاسبها امام زمانها ـ الى قوله ـ فيعطوا أولياءهم كتابهم بيمينهم فيمروا الى الجنة بلا حساب .. فإذا نظر أولياؤهم في كتابهم يقولون لإخوانهم : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ).

(٢) المصدر في الاحتجاج للطبرسي عن امير المؤمنين (ع) واما قوله : وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها يعني : تيقنوا انهم داخلوها ، وكذلك قوله : (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) واما قوله للمنافقين : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) فهو ظن شك وليس ظن يقين».

١٠٣

معا حيث الظن يشملهما هنا لفظيا ومعنويا : اني أيقنت لقاء الحساب وظننت انني ادخل الجنة بحساب ، فإذا بي أدخلها بلا حساب! ، وتشمل الآية أيضا من يدخل الجنة بحساب فيختص بالوجه الأول.

فهذا الكتاب يحمل حسابي بعلامة النجاح (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) : عيشة بالغة في أنها مرضية لحد كأن الرضا أدغمت في ذاتها فأصبحت راضية ، كما يقال : شعر شاعر وليل ساهر وسحر ساحر ، مبالغة في كمالها وجمالها ، راضية يوم الدين كما كانت راضية يوم الدنيا : صورة طبق الأصل ، وتفضله هناك لظهوره تامة فيها ، ولمزيد الرحمة الإلهية المضافة إليها.

(فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) : عالية في المكان والمكانة ، وفي الرحمات الجسدانية والروحانية «فيها ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» (قُطُوفُها دانِيَةٌ) : أثمارها التي تقطف دانية إلى طلابها ، لا تتكلف القيام ولا التوسل بأية وسيلة.

(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) : اكلا وشربا هنيئا سائغا لا تنغيص فيه في الحلقوم ، وذلك بما اسلفتموه من الصالحات في الأيام الماضية : أيام التكليف يوم الدنيا.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) : علامة السقوط (فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) : فانه عذاب فوق العذاب وقبله (وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) فانه يدخل النار بحساب ، ودراية الحساب أيضا قبل العذاب عذاب فوق العذاب ، فإتيان الكتاب بالشمال عذاب ، وعرفان الحساب عذاب ، ثم بعدهما واقع العذاب بقدر الحساب.

(يا لَيْتَها) : القارعة المسبق ذكرها (كانَتِ الْقاضِيَةَ) : علي ، الماحقة لوجودي بعد الموت فحسب ، دون أن تتلوها قارعة العذاب بعد صيحة الإحياء في حياة الحساب ، وهي تشبه مقالة الكافر : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً).

(ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) : مالي وما ، لي : ما ادخرت من أموال ، وما كنت

١٠٤

املك من طاقات جسدانية ونفسية كنت احسبها تغنيني ، ومن أعوان وأنصار تكفيني ، كل هذه ما أغنت عني يوم الفقر الأكبر ، الذي لم أحسب له حسابا.

(هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) : فلا ماله بقي ولا ما له وقد هلكا ، ولا السلطان والقدرات فما بقي لها نفع ، فسلطان الطاقات ، وسلطان الأعوان والصداقات ، وسلطان الجاه والمال كلها كانت قوى وهمية وواهية ، انها هلكت وبقيت لي فقط سيئات الأعمال ، وليس المآل الا أمر الله المتعال :

(خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) : كما غل نفسه يوم الدنيا باغلال الشهوات ، واستغل معطيات الحياة كلها للحيوانات (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) : أوقدوه نارا شديدة التأجج ، فبوقوده تتأجج فيحرق حوامش الضلالة (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) : الغل الأكبر بعد الغل المسبق قبل الجحيم ، والسلسلة السبعون تسلكه ، وبعد ماذا؟ بعد ما يصدر من العلي الأعلى الأمر بأخذ هذه الحشرة الصغيرة المكروبة المذهولة ، فيبتدر لتحقيق أمر الله الملائكة الغلاظ الشداد ومعهم من معهم من المنتدبين للتنفيذ ، تدور السلسلة حوله فتقيدة ، ولو كان هناك مجال لأصبحت السلسلة ملايين الأمتار لتسابق النادبين في سلكه بالسلسلة ، لكنما المغلول محدود هكذا ، وأمر الله محدد بالسبعين ، عله مقصود لحده ، وعله كناية عن طوله ومده بالكثرة الكثيرة : و «لو أن حلقة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعا وضعت على الدنيا لذابت الدنيا من حرها» (١) ولماذا هذا العذاب الشديد؟ (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) : كأن كيانه بشرّه أصبح تأبيا عن الإيمان بالله «كان» مستمرا معاندا دائبا (لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) الذي ترى عظمته في الخلق أجمع ، وفي ضمير هذا الصغير! وأقل جزاء له هذا العذاب الشديد.

(وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) : فقد قطع حبلا من الله إذ لم يؤمن به ،

__________________

(١) نور الثقلين (٥ : ٤٠٩) الحديث ٤٤ : عن محمد بن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع).

وفي الصافي ص ٥١١ روى نفس الحديث عن القمي عن الصادق (ع).

١٠٥

وحبلا من الناس إذ لم يحرض على طعام المسكين : لا خير فيه لنفسه ولا لسواه فأصبح صفر اليدين عما يفلح الإنسان يوم الدين ، لا ايمان بالله ينجيه ، ولا رحمة على عبادة تغنيه ، إذ تركهما إلى الاضداد ، فأصبح أسيره بما قدم.

(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) (إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً. جَزاءً وِفاقاً) (٧٨ : ٢٥) والا (شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ) (١٠ : ٤) و (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) (٢٢ : ١٩) (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) (٢٧ : ٦٧) (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) الا ما يحمّه من عذاب أليم ، فهو يستحم في الجحيم ، رغم ما كان له يوم الدنيا ، فحميمه ينقلب عليه عدوا : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٤٣ : ٦٧) ولو بقي له حميم ، ف (لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) (٧٠ : ١٠) ، فالذي كان يحم له ويستحم يوم الدنيا ، سوف يبرد عليه يوم الدين ، ولأن حمّه كان على غير هدى ولا تقوى ، وانما على ضلال وطغوى ، فيوم تبلى السرائر وتنكشف الضمائر وتستقر الحقائق ، في هذا اليوم العصيب تتبدل هنا الحمّ الخاطئ إلى برودة ، كأنهم لا يعرف بعضهم بعضا ، اللهم إلا عداء وبغضا!.

(وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) وهو من الضريع الذي يضرعه ويعذبه ، بدل ان يلذه ويشبعه ، والغسلين : غسالة أهل الجحيم من قيح وصديد ، وهو يلائم قلبه المقلوب الخاوي من الإيمان بالله ومن الرحمة لعباد الله (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) : خطأ معمدا معاندا.

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)(٥٢)

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ. وَما لا تُبْصِرُونَ) اللّاقسم هنا عام يشمل

١٠٦

الكائنات كلها ، إذ لا تخلو مما تبصرون وما لا تبصرون ، منعطفا إلى حقيقة ناصعة في ذاتها ومعطياتها : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) فالقرآن بذاته شهادة على مصدره الرسالي الإلهي ، دون حاجة إلى براهين منفصلة عنه تدل عليه ، فاللاقسم هنا تأديب وزجر للمرتابين ان يفكروا في القرآن نفسه فيستدل كلّ بزاويته الخاصة التي تهمه ، إذ القرآن معجزة خالدة في كافة جوانبه وزواياه ، فليجل جال بصره وليقصر ناظر نظره إلى القرآن نفسه هل يرى فيه شعرا أو كهانة وسحرا ، إلا تنزيلا من رب العالمين ، تلمس فيه ربوبيته العالمية.

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) : قول رسول لا يقوله إلا عن مرسله دون أن يتقول عليه الأقاويل ، وهو كريم ليس على غيب الوحي بضنين ، هو واسع صدره متفتح قلبه ، لا يخون أمانة الوحي كالسماء ذات الرجع لا تخون (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ. وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ. وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) (٨٦ : ١٢) إنه أمين كريم ليس كيانه في حياته إلا الرسالة الإلهية وبلاغها.

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) (٣٦ : ٦٩) يبين بذاته أنه ذكر وليس شعرا وخيالا موزونا ، رغم ما يتقولون عليه دون برهان انه شاعر : (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ (٢١ : ٥) (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) (٣٧ : ٣٦) (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (٥٢ : ٣٠) هل هو شاعر؟ (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ... إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) (٢٦ : ٢٢٤) فقد ينشد الشاعر عن إيمان وصدق ، وأحيانا كثيرة عن الخيال واللاإيمان ، وهما مشتركان في زخرفة المعنى بموسيقى القول ، ما يزيد المعنى لمعانا لو كان صادقا ، وما يريه حقا لو كان باطلا ، وحاشى الرسول الكريم أن يزخرف الوحي بما ليس منه! ولماذا؟ فهل ليزيد في نضارة القرآن ، وهو فوق القمم في فصاحة التعبير وبلاغة التنسيق! ..

ثم لا نجد أيا من أوزان الشعر وأوهامه وأساطيره في هذا الذكر المبين ،

١٠٧

فكيف يتقول على قائله : انه شاعر ، أو عليه : انه شعر ، أهكذا كذب واضح وفرية فاضحة؟.

إن هذا القرآن ليس شعرا ولا نثرا نتعوده ، إنما هو بدع في التعبير ، عديم النظير ، لم يصدر ولن يصدر من أي مصدر إلا الله ، ولأنه خاتمة الوحي ، فريد في موسيقاه ، فريد في معناه ، يوحي من كل زواياه ، انه ليس بقول بشر ، ولا أي مصدر غير الوحي ، منهج منقطع النظير ، تفرد به اللطيف الخبير ، وبين كتابات الوحي أيضا ، فضلا عما سواها ممن سواه!.

إن المذاهب الأدبية أجمع ، والمذاهب الفكرية أجمع ، والمقاييس الموسيقية أجمع ، إنها كلها ومعها كافة المذاهب طوال التاريخ ، هي فاشلة أمام المذاهب التي سلكها القرآن ، منهزمة في صراعها العنيد الشديد ، يعرف بذلك أهلوها شاءوا أم أبوا ، وإنما يلقون دعايات يلغون فيها ويزخرفونها ، علهم يضلوا جهالا كأمثالهم ، ولكنما العلماء العقلاء لا يضلون.

فليست القولة الجاهلة : إنه قول شاعر ، إلا نتيجة عدم الإيمان ، لا أن لهم برهانا على ما يتقولون (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ)!

(وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ) يؤخذ عن الجن والشياطين (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) فلو كان قول كاهن لم يرد فيه شتم الشياطين الذين يؤخذ منهم في الكهانة ، ثم اناقه القول وعمق المعنى يحيده من أن يكون من غير الله ، بل قليلا ما تذكرون حقائق تعرفونها من أصولها.

(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) : تنادي بهذه الحقيقة الناصعة آياته البينات فربوبيته العالمية باهرة فيها ، ظاهرة لمن يتدبرها ويتذكرها وأراد الإيمان.

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) : الأكاذيب ... (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ...).

لا هو فحسب ، بل هذه السنة الإلهية ثابتة في رسله : ان لو تقولوا لفضحهم

١٠٨

وأخزاهم ـ ولن يتقولوا ـ يخزي المتقول لكيلا يخزي الوحي والرسالة الإلهية ويضل الناس فتكون حجة لهم على الله ، كما لو لم يبعث رسولا بل وأقوى : فالعقل هنا يستقل بما يوحيه النقل من ضرورة الأخذ بيمين القدرة الإلهية. من يتخلف من الرسل عن الرسالة الإلهية.

بشارة توراتية بحق الرسالة المحمدية :

تصرح التوراة ـ فيما تصرح ـ من عشرات البشارات بحق الرسول الأقدس محمد (ص) هنا بوجه عام ـ بعد تخصيصه بالذكر ـ أن المتقول على الله يؤخذ بأخذة قوية إلهية تفضحه كما في الأصل العبراني التالي :

(١٧) نبي أقيم لهم : (بني إسرائيل) من أقرباء أخيهم ، كموسى وأضع كلامي في فمه لكي يبلغهم جميع ما آمره به (١٧).

(١٩) وأي انسان لم يطع كلامي الذي يتكلم به باسمي فإني أحاسبه عليه (١٩).

(٢٠) وأي نبي تجبر فقال باسمي قولا لم آمره أن يقوله أو تنبأ باسم آلهة أخرى فليمت (٢٠).

وخي تومر بيل بابخا إخاه ندع إت هدابار أشرلوء ديبرو ادوناي أشر يدبر هنابئ بشم ادوناي ولؤيهيه هدابار ولوء يابوء هوء هدابار أشر

١٠٩

لوء ديبرو ادوناي بدادون ديبرو هنابئ لوء تاغور ميمنو (٢١ ـ ٢٢) :

فان قلت في نفسك كيف يعرف القول الذي لم يقله الرب (٢١) فإن تكلم النبي باسم الرب ولم يتم كلامه ولم يقع فذاك الكلام لم يتكلم به الرب بل لتجبره تكلم به النبي فلا تخافوه (٢٢).

هذه الآيات البينات تبشر أن الله تعالى وعد العالم أن يقيم نبيا كموسى من أقرباء أخوة بني إسرائيل ، فإخوتهم بنو عيص كما تقول التورات (تثنيه ٢٨ : ٨) فأقربائهم هم بنو إسماعيل. فهو الرسول الأقدس محمد الاسماعيلي الذي هو كموسى في استقلال شرعته ، لا المسيح الذي هو تبع لموسى في شرعته.

ثم تتهدد الآية (١٩) هؤلاء الذين يتخلفون عن هذا الرسول العظيم ، ثم تعزيزا وتثبيتا لموقفه الرسالي ـ ومعه سائر المرسلين ـ يحكم بالموت : الموت الروحاني وموت الدعوة ، على المتجبرين المتقولين على الله الأقاويل (٢٠). ثم الآية (٢٢) تأتي بميزان لصدق مدعي النبوة انه وقوع كلامه كما يخبر (١).

والقرآن يصدق هذه الآيات أن :

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أخذنا منه الرسالة والوحي واسترجعناه منه بيمين القدرة (ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) : قطعا لوتين الوحي حيث لا رجعة فيه ، وقطعا لوتين العقل إذ يقول ما يفضحه مما يطارده العقل ، موتا مزدوجا يفضحه أمام العقلاء النابهين ، فليس يعني به وتين الجسم ، وهو عرق رئيسي في القلب يمد شبكة العروق في الجسم ، وإنما وتين قلب الروح الممدود به شبكات الروح.

__________________

(١). تجد تفصيل البحث حول الآيات في كتابنا (رسول الإسلام في الكتب السماوية.

١١٠

كما الموت المهدد به حسب التورات ليس موت الجسم فانه لا يخص الكاذبين ، وكثير منهم يعيشون حياة الكذب طويلا ، وإنما هو موت الروح الرسالية بأن يتبين كذبه في فلتات لسانه وصفحات وجهه وسقطات تصرفاته ، وفي تناقض أقواله وتهافت أحواله ودحض حججه في محكمة العقل والفطرة.

فكما ان يمين القدرة الإلهية هي التي وفقته للرسالة وعصمته عن الضلالة ، كذلك هي التي تسترجعها لو تخلفت عن جهات اشراعها! ولكن حرف : (لَوْ) تحيل على الرسول الأقدس (ص) تقوّل الأقاويل ، كما العقل يحيله إحالة مزدوجا : أن الله اصطفاه وهو يعلم مستقبله كما علم ماضيه ، وانه يعصمه عصمة لأمانة الوحي وكرامة الرسالة ، وما استرجاع المناصب إلا نتيجة جهل الناصب وضعفه (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

(فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) : لا يحجزه أحد عما يريد ، وهو الحاجز عما نريد.

(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) : الذين يتقون الجهل والتجاهل والعناد ، فهم المتذكرون بهذه الذكرى ، وأما الذين كفروا معاندين فهي عليهم عمى!. وهم في ضلالهم يعمهون.

(وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) : لهذه الرسالة السامية (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) : ان تكذيبها حسرة عليهم يوم الدنيا ويوم الدين ، لأنها تملك من براهين الصدق ما لا يملكه سواها :

(وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) : ان القرآن ونبي القرآن ، إنه لحق اليقين ، لا علم اليقين فحسب أو عين اليقين ، فحق الوحي القرآني حق اليقين ، ذاته اليقين : لا ريب فيه هدى للمتقين ، فبامكان من يعيش قلبه القرآن ، ويسري في وتين قلبه روح الإيمان وفي نياطه القرآن ، فيعيش القرآن قلبه ، بامكانه أن يعرج إلى أعلى معارج

١١١

اليقين : حق اليقين ، فعلم القرآن كما يحق هو علم اليقين ، وعينه عين اليقين ، وحقه حق اليقين! عميق في الحق وعميق في اليقين كاعمق ما يمكن.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) : سبحه باسمه الحق عما لا يليق به ف (لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) وسبح كتابه باسمه عن أن يكون شعرا أو كهانة أو أي تقوّل ، فربوبيته العظيمة لائحة في طياته ، بارزة في آياته ، والسلام على من اتبع الهدى ، وجانب الردى.

١١٢

سورة المعارج ـ مكية ـ وآياتها أربع وأربعون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى)(١٨)

(تفسير الفرقان ـ ج ٢٩ ـ م ٨)

١١٣

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) فمن هذا السائل؟ ولماذا سأل العذاب؟ وهل نزل عليه ما سأل؟

تقول كثير من روايات الفريقين إن السائل هو النضر بن الحارث الفهري (١) : «انه لما شاع قصة الغدير في البلاد أتى ابن الفهري رسول الله (ص) فقال : يا محمد! أمرتنا عن الله بشهادة ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله (ص) وبالصلاة والصوم والحج والزكاة فقبلنا منك ، ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علينا وقلت : «من كنت مولاه فعلي مولاه» فهذا شيء منك أم من الله؟ فقال رسول الله (ص) والذي لا إله إلا هو ان هذا من الله ، فولى ابن الفهري يريد راحلته وهو يقول : اللهم ان كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فما وصل الى راحلته حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله. وحينئذ نزلت الآية (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) [(وفي شرح الأخبار) نزلت : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ)(٢)].

أقول : مكية السورتين قد تنافي الروايتين اللهم الا ان تكونا نازلتين بعد الغدير مسجلتين في سورتيهما النازلتين قبل الغدير وكم له من نظير!.

__________________

(١). الدر المنثور (٣ : ١٨١) : أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ، وابن جرير عن عطاء ، وفي : (٦ : ٢٦٣) اخرج الفرياني وعبد بن حميد والنسائي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس وابن المنذر عن زيد بن اسلم وابن جريح ، وابن أبي حاتم عن السدي ، وفي بعض الروايات انه الحارث بن علقمة ، وفي بعض : نعمان بن الحارث.

(٢) ذكره ابو عبيد والثعلبي والنقاش وسفيان بن عيينة والرازي والقزويني والنيسابوري من إخواننا ، في تفاسيرهم ، وأصحابنا كذلك اجمع.

١١٤

والقرآن يذكر السائل هنا والسائلين : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ (١) فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ. وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (٨ : ٣٢) (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) (٣٨ : ١٦) (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) (٢٦ : ٢٠٤).

وقد يكون السائل في المعارج غير السائلين في سواها كيانا وسببا ، وقد يكون منهم ، ولكنه عجل قطّه : نصيبه بسؤاله ، قبل يوم الحساب ، والباقون أجلوا ليوم الحساب ، عله لكون الرسول أمانا ما دام فيهم أو يستغفرون ، أو لأنهم استغفروا ، وانما أصيب واحد منهم ذكرى لهم لعلهم يحذرون.

وعلى السؤال لم يكن ليختص بهامة الغدير ، فقبلها هامات أتم وأعم ، كالأصول الإسلامية التي كانوا ينكرونها ، إذا فالروايات المفسرة لها بقصة الغدير هي من باب الجري والتطبيق ، أو أنها من ضمن ما سألوا له العذاب ، كما تظافرت به الروايات.

ثم السائل هنا ـ الذي أبهم عن اسمه ـ انما سأل العذاب الواقع تحديا على الحق وعلى وقوع العذاب ، توهينا للرسالة والمرسل ، فلقد كانت الحقائق الإسلامية عسيرة الإدراك والتصديق على من عاشوا الخرافات والأساطير والهرطقات ، وقد لقيت منهم معارضة نفسية عميقة ، فكانوا يتسمعونها بكل دهشة واستغراب ، وينكرونها أشد الإنكار ، متحدين الرسول بألوان التحديات ولو تعرضوا للخطر ، كهذا السائل الغبي! :

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ) : إنه سأل ما لم يكن بحاجة الى سئوال لأنه واقع للكافرين والسائل منهم.

(بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) : واقع للكافرين ليس له دافع من الله ،

١١٥

للكافرين فقط ليس له دافع ، واما غيرهم فلهم دوافع عنه من توبة وغفران وشفاعة واضرابها من دوافع العذاب.

(مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) : سأل من الله ، بعذاب من الله ، ليس له دافع من الله (ذِي الْمَعارِجِ) الذي له معارج الرحمة ومعارج العذاب ، يعرج خلقه في أيّ منهما يوم الدنيا ويوم الدين ، ولكنما الأغبر الغبي يسأل العذاب ، لأنه في تباب ، وذاته تباب ، وكيانه عذاب.

وان حق المعارج لله هو معارج الرحمة ومعارج الحساب :

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) : فما هذا اليوم؟ هل هو يوم القيامة؟ فلا نهاية له! أم هو يوم من أيامها؟ فما هي تلكم الأيام؟ أم من أيام الدنيا ، فهذا خرق لنظام الكون! ولا تعرج الملائكة والروح عن مناصبهم الى الله والدنيا قائمة ، وانما ذلك ليوم الدين إذ تقطعت الأسباب وقضي الأمر ورجعت الكائنات كلها الى الله كما بدأت.

ان اليوم حسب القرآن ـ وفي وجهة عامة ـ يعنى منه مطلق الزمان ، من واحد الزمان كما نعرف وفوق ما نعرف ، ومن مجموعة الزمان ، وبينهما متوسطات.

فمن واحد الزمان إلهيّا ما فيه شأن الخلق من الله العلي القدير : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٥٥ : ٢٩) يعنى كل آن ليس فوقه آن ، فان الشأن الإلهي لا يخلو منه أقل آن ، فلا بد أن يعنى هنا بالآن أقل الآنات في حساب الله.

ومنه اليوم النهار مقابل الليل : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) (٦٩ : ٨) (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (٢ : ١٨٥).

١١٦

ومنه اليوم : بليلة ونهارة : (فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) (١١ : ٦٥).

ومنه يوم خلق السماوات والأرض : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ..) (٩ : ٣٦) .. وهو مجموعة زمان خلقهما ، وقد عدت في آيات ستة أيام : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) (٧ : ٥٤).

منها يومان لخلق الأرض ، ويومان للسماوات السبع ، ويومان علهما : لخلق الدخان السماوي وخلق الأنجم في السماء الدنيا ، أم ماذا؟ سوف نوافي بحثه في الآيات من فصلت وان المعني من اليوم هنا الدور.

ومن اليوم ألف سنة مما تعدون : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٣٢ : ٥) (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٢٢ : ٤٧).

ومنه خمسون ألف سنة مما تعدون ، (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) لنرى ما هو واحد الزمان الربوبي وما هو الألف والخمسون الف؟

أقول : انه ليس اليوم الألف ولا اليوم الخمسين الف هو الزمان المنطبق على الحدين ، وإلا كان حق التعبير في الف سنة وفي خمسين الف سنة واليوم زائد ، ولكان (عِنْدَ رَبِّكَ) زائدا ، لأن الزمن اليوم : الالف والخمسين الف لا يخصه.

إذا فليكن المعني من اليوم واحد الزمان بحساب سرعة السير الملائكي في آية المعارج ، وسرعة نفاذ التدبير الإلهي نازلا من السماء وراجعا إليها في آيتي الحج

١١٧

والسجدة ، وعلى سير المعراج للنبي الأقدس هو كسير المعارج وعلى حد قول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : «انه أسري به من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى مسيرة شهر ، وعرج به في ملكوت السماوات مسيرة خمسين الف عام في أقل من ثلث ليلة حتى انتهى الى ساق العرش (١)» وهذه المسيرة هي في واحد الزمان ، لا في ثلث الليل.

فهل إن واحد الزمان في سير المعارج ثانية في حسابنا المألوف؟ أم ٠٠٠ ، ٥٠ / ١ منها في حساب أدق وهو الزمن الالكتروني (٢) ٠٠٠ ، ٥٠ ضعف الزمن الأرضي؟ أم أقل منها في دقة ثانية : ان نحسب كل دورة الكترونية سنة ثم نقسمها بحساب الثواني (٣) ، أم وأقل منها أيضا لأن الزمن في حساب الله يختلف عما عندنا.

ثم الخمسين الف هل هو حساب السنين الضوئية؟ التي هي ـ على أقل التقدير ـ ١٨٠ مليون ضعفا بقياس السير العادي؟ أم فوق الضوئية وعلى حساب أكثر السرعة في سيرنا المتصور المقدر؟.

ثم المسافة الى العرش ، الى السدرة المنتهى ، ليست مسيرة يوم هكذا ، انما هذا قياس السرعة الملائكي وفي معراج الرسول (ص) في واحد الزمن الربوبي ،

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٤١٣ في كتاب الاحتجاج للطبرسي روى عن موسى بن جعفر عن آبائه عن الحسين (ع) ان امير المؤمنين قال ـ وقد ذكر النبي (ص) ـ :

(٢) لان الالكترون يدور حول شمسه البروتوني في الذرة ٠٠٠ ، ٥٠ مرة في الثانية الارضية.

(٣) إذ ان كل دورة الكترونية وهي ٠٠٠ ، ٥٠ ثانية ارضية ، تعتبر سنة الكترونية ، إذا نقتسم هذه السنة كذلك الى الثواني ، فكل ثانية منها نعتبرها واحد الزمن الربوبي في سير المعارج.

١١٨

والرسول اجتازها في أقل من ثلث الليل ـ أربع ساعات ـ وهل تعرجها الملائكة والروح في نفس الوقت أم أكثر؟ لا ندري!

وحسب الحساب الدقيق الذي نعرفه حتى الآن تصبح المسافة المجتازة في المعارج ، في واحد الزمن الربوبي ـ كالتالي :

٠٠٠ ، ٥٠ ـ الثانية الالكترونيةx ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٢٠٠ ، ٤٣ بتحويل الثانية الالكترونية بحساب ٠٠٠ ، ٥٠ / ١ منها : سنة ، الى ٠٠٠ ، ٥٠ ضعفا ثم بحساب سرعة الضوء تضرب في ٠٠٠ ، ٣٠٠ والنتيجة :

٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٨٠٠ ، ٦٤ هذا المقدار هو السير المعارجي في واحد الزمان الربوبي كما نعرفه ، ولكنه بحساب الله أكثر بكثير ، لأن واحد الزمان هو واحد الحركة في المادة الأولية وليست هي الالكترون حتى نحسبه بحسابه ، ثم انه في ثلث الليل : أربع ساعات يصبح العدد المسبق مضروبا في / ٨٦٤٠٠ ، فالسير المعراجي أيضا يصبح : / ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٧٢٠٠ ، ٥٧٨ ، ٥ ضعفا بالنسبة لسيرنا في ٠٠٠ ، ٥٠ سنة : ، والحاصل ان اليوم المعراجي والمعارجي هو واحد الزمان الذي هو من مظاهر واحد الحركة ، وإذا كان سير الرسول (ص) في معراجه في واحد الزمان قدر خمسين الف سنة مما نعده ، ولا سيما إذا عددناه حسب السنين الضوئية حينئذ يفلت حسابه عن عدّنا وتصورنا (١).

وأما ان هذه السرعة الهائلة تخلق حرارة هائلة تذوب وتتحول فيها العناصر الى أبسطها ، ثم الى كم؟ لا ندري ، فكيف عرج الرسول هكذا سليما ورجع

__________________

(١) من قوله تعالى : تعرج ، نستوحي أن هذا السير انما هو بحساب سرعة العروج لا زمنه ، في كانَ مِقْدارُهُ اي مقدار السير في سرعته لا في زمنه.

١١٩

سليما؟ فالجواب. ان المعراج خارقة إلهية خرق فيها الكثير من القوانين الطبيعية العادية ، كما النار أصبحت بردا وسلاما ، فلتكن معجزة عدم تحول الجسد المحمدي الى غيره ، كمعجزة أصل المعراج الى الأفق الأعلى قلبا وقالبا ، وتكملة البحث تجدها في النجم والإسراء إنشاء الله تعالى.

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ)(١) : الى عرشه ، والى قمة الكون وكاهله ، لا الى ذاته المقدسة ، فليس له تعالى مكان! وانما الى حول العرش كما شرحناه مسبقا في الحاقة ، ولأنهم قضوا ما كان عليهم يوم الدنيا ، ومضوا فيما أمروا وقضي الأمر فإلى الله ترجع الأمور ، وليقض بينهم الحق : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣٩ : ٧٥).

الملائكة والروح ـ وهو أعظم منهم وليس منهم بقرينة قرنه بهم (٢) ـ انهم يعرجون هكذا للعرض والحساب ، وكما المكلفون أجمع يعرضون على الله ، سواء.

(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً).

الصبر : منه عليل كليل ومنه عظيم جميل جليل ، فالجميل منه ممدوح والعليل مقدوح ، والجميل ما يجمل صاحبه وسواه ، بتحمل المكاره والأذيات في سبيل الله لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ، كما حدث أمر الله الجليل لهكذا صبر جميل

__________________

(١) ان اختلاف حساب الزمن لا يختص بالزمن الربوبي والخلقي ، فان العلم اليوم أثبت الاختلاف بين زمن الأرض وسائر العوالم السماوية ، والكتاب والسنة أثبتا اختلاف زمن الدنيا عن البرزخ وهو عن المحشر.

(٢) راجع سورة القدر في ج ٣٠ ـ ص ٣٨٢.

١٢٠