الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٠

فآنية الفضة ، وأكوابها القوارير في صحاف الذهب ، بطائفيهما الولدان المخلدين اللؤلؤ المنثور ، تزيد الأبرار قرارا بين الظلال الوارفة ، والقطوف الدانية والجو الرائع ، ما لم تعهده الأرض ، ولا تصورا!.

وهل المشروب بآنية الفضة من قواريرها ، هو الماء؟ أم خمر الجنة؟ علها هي (١) حيث يذكر شراب الماء بعدها من ماء السلسبيل :

(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً. عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً)

فللأبرار كأسان لشراب الماء ، كأس الكافور وكأس الزنجبيل (٢) : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) و (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) : سهلا لذيذا حديد الجرية ، غاية في السلامة وسهولة الانحدار في الحلق (٣) فسل عنها سبيلا (٤) يوم الدنيا ، ان تدخل في صنف الأبرار ، فتشرب منها يوم الدين.

ومزاج الزنجبيل كمزاج الكافور هو كوقاية للكئوس بما فيها من ماء الجنة

__________________

(١) راجع ٣٠ : ١ ص ٢٢٦ : خمر الدنيا والآخرة ، «في ظل يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ».

(٢) قال الدينوري «الزنجبيل نبت في ارض عمان وهو عروض تسري في الأرض وليس بشجرة ، ومنه ما يحمل من بلاد الزنج والصين وهو الأجود وكانت العرب تحبه لأنه يوجب لذعا في اللسان إذا مزج بالشراب فيتلذذون «أقول : وزنجبيل الجنة يزيد لذة للشاربين كما يعلمها أهلها.

(٣) لم تذكر سلسبيل إلا هنا ، وقد يقال انها لم تسمع في غير القرآن إذ لا توجد الا في الجنة ، فليكن اسمها ايضا خاصا بها وكما يوحي له «تسمى» مما يختص هذا الاسم بهذه العين في الجنة.

(٤)تفسير الرازي ٣٠ : ٢٥٠ وقد عزوا الى علي بن أبي طالب (ع) ان معناه : سل سبيلا إليها.

(تفسير الفرقان ـ ج ٢٩ ـ م ٢١)

٣٢١

وخمرها ، وكما أن خمر الجنة وماءها جنة الخمور والمياه ، كذلك زنجبيلها وكافورها.

وقد يذكر من عيون الجنة كنبعات أصلية لمياهها وأنهارها عيون عدة : هي الكوثر والسلسبيل والتي يشرب بها عباد الله والتسنيم ، ونبعة الكوثر هي في جنة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم ولها سواقي الى بيوت النبيين والمقربين والصديقين والشهداء والصالحين.

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ، إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً)

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) كخدام لمحاويجهم (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) : دائمون في طوافهم ، وفيما هم عليه من البهاء والجمال وحسن الخدمة ، كما هم في الجنة خالدون ، خلودا مثلثا لا يعنى منه هنا الأخير ، فإن أهل الجنة كلهم خالدون ، دون اختصاص ب (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ).

ومن حسن منظرهم : (إِذا رَأَيْتَهُمْ) ـ وأنت أول من تراهم ـ (حَسِبْتَهُمْ) : حسبانا في النظر والبصر (لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) : منشورا بين أيدي أهل الجنة ، مبذولا لهم متوافرا ، ورغم ان اللؤلؤ المنظوم له جماله ، ولكنما المنثور أجمل وأروع ، للتشعشعات المتقابلة بينها ، ولأنه تدل ألّا قيمة له وجاه أهل الجنة ، فطالما للمنظوم حساب ، فليس للمنثور المنشور حساب.

(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً)

نعيما لأهل الجنة كلهم على درجات ، وملكا كبيرا لهم كلهم على درجات ، وهو من أفضل النعيم إذ يرجع الى حظوة الروح ، ولا سيما نعيم القرب والرضوان من الله ، (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) ، فالرسول هو ملك الملوك في الجنة بكل ما له من معنى عادل ، وعلى حد قوله صلّى الله عليه وآله وسلم : «أنا أوّلهم خروجا إذا خرجوا ، وأنا قائدهم إذا وفدوا ، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا ، وأنا مستشفعهم

٣٢٢

إذا جاسوا ، وأنا مبشرهم إذا أيسوا الكرامة ، والمفاتيح بيدي ، ولواء الحمد بيدي ، وآدم ومن دونه تحت لوائي ولا فخر ، يطوف عليهم ألف خادم كأنهم بيض مكنون ، أو لؤلوء منثور» (١).

وإن النعيم العميم والملك الكبير في الجنة بعد العناء الطويل في الدنيا ، هو من شئون نزول الآية (٢) ، ومن النعيم :

(عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً).

(عالِيَهُمْ) : مكان تعلوهم على أرائكهم (٣) وتعلوهم على أبدانهم : لا يتكلفون في لبسها ، وإنما تعلوهم الثياب فيلبسونها (٤) (ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ) : ما رقّ من الحرير لهم شعارا (وَإِسْتَبْرَقٌ) : ما سمك منه لهم دثارا فوق الشعار ، وكلاهما خضر : (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) (١٨ : ٣١) .. مُتَقابِلِينَ) (٤٤ : ٥٣) تقابلا بينهم وفي ثيابهم ونعمّا هما ، ومن خواص الحرير ـ إضافة الى ليونته ولطافته ـ أنه لا يجذب حرارة ولا برودة ، وإنما

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٠٠ ـ أخرج ابن مردويه عن أنس قال قال رسول الله (ص) :

(٢) الدر المنثور ٦ : ٣٠١ ـ أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال دخل عمر ابن الخطاب على رسول الله (ص) وهو راقد على حصير من جريد قد أثر في جنبه فبكى عمر فقال ما يبكيك؟ فقال : ذكرت كسرى وملكه وقيصر وملكه وصاحب الجشة وملكه وأنت رسول الله على حصير من جريد ، فقال (ص): «أما ترضى ان لهم الدنيا ولنا الآخرة فأنزل الله : وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا».

(٣) منصوب على الظرف ك وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ لا الحالية فان الحال لزامها التنكير ، ولا كونه مفعولا ل «رأيت» إذ يقتضى نصب ثياب كمفعول ثان ، ولا تصح قراءة الجزم إذ المدار على المتواترة الموجودة في المصاحف.

(٤) مجمع البيان : وروى عن الصادق (ع).

٣٢٣

يساير حرارة البدن والهواء لأنه حرير : حرّ طليق عن التأثر والتأثير ، والخضر أحسن الألوان وأنضرها وأطراها.

(وَحُلُّوا) : زينوا (أَساوِرَ) جمع سوار معرب : دستوار ، زينة الزند ، زيّنت بها زنادهم «من فضة» ويا لها من صفاء لبياضها ، ومن ذهب ولؤلوء : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) (٣٥ : ٣٣) أساور من أجملها : ذهبا وفضة ولؤلوء.

(وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) فلما ذا (حُلُّوا) و (سَقاهُمْ) كأمر مضى وهو يستقبلهم بعد الموت؟ علّه لأن تلك التحلية وذلك السقي ، هما مما حلّوا به أنفسهم يوم الدنيا بلباس التقوى ، وسقوا قلوبهم حب الله ، فمستقبلهم إنما هو ابن ماضيهم ، قد يعبّر عن سبب مضى ، وقد يؤتي بمسبّب يأتي.

وكما كان شرابهم يوم الدنيا طهورا : طاهرا في نفسه ، مطهرا لهم عن سائر الأقذار ، كذلك يتجلى يوم الدين شرابا طهورا : يطهرهم عن سائر الأقذار وإن كان خمرا ، فبين خمر الدنيا والآخرة بون الجنة والنار ، فطالما خمر الدنيا تخمر عقل الإنسان وصحته ، فخمر الآخرة تستره عما سوى الله : (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) (٤٧ : ١٥) (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) (٣٧ : ٤٧) (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) (٥٦ : ١٩): لا فيها صداع الرأس ولا فراغ العقل ونزفه (١).

(إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) : كان جزاء فضلا من الله ، لا استحقاقا عليه ، جزاء بما وعد وكتب على نفسه من فضل ورحمة ، لولاه لم يكن استحقاق (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) يشكركم به الله : (وَمَنْ

__________________

(١) راجع ج ٣٠ ص ٢٢٦ من هذا التفسير.

٣٢٤

تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) (٢ : ١٥٨) ونفس هذا الشكر نعمة فوق النعم فانه من جنة الرضوان ونعمته ، يشكرنا ربنا أن عملنا من الصالحات لصالحنا : (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (٢٧ : ٤٠).

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١)

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً. فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) :

تسلية أنيسة لخاطر الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلم الجريح من تهريجات المعارضين ، سلوانا بمثلّث التنزيل للقرآن العظيم : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا) نزولا في ظلال جمعية الصفات والأسماء الحسنى الإلهية «نا ـ نحن ـ نا» فيا له من قوة وروعة في التنزيل ، ما له من مثيل بين كتابات السماء! .. لذلك فليصبر

٣٢٥

صاحب هذه الرسالة صبرا طويلا لحكم ربه : صبرا يساير الحكم تثبيتا وتنفيذا ، وصبرا يدافع عنه إذ يصدر أمر ربه بملاحقة المعارضين.

إنها ملابسات معركة مصيرية واحدة يخوضها كل صاحب دعوة في أي عصر ومصر ، فليصبر صبرا جميلا صارما في وجه الطغاة دون انفلات عن الدعوة ولا فشل ، لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمرا ، ودون أن يطيع منهم آثما أو كفورا ، فهناك طرق لهم شتى من الإغراء والإطراء ، والتهديد والإيذاء ، ليلتقي بهم صاحب الدعوة في منتصف الطريق ويسايرهم مداهنا ، ولكنه نقص في الدعوة ونقض لها ، فلتكن صارمة صابرة دون انزلاق عنها ولا قيد شعرة ، حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) :

إن العبء ثقيل ، والطريق لتحقيق أمر الله طويل ، فلا يكتفى فيه بزاد قليل ، بل ذكرا لله تعالى بكرة وأصيلا ، والسجود والتسبيح ليلا طويلا ، اتصالا دائبا بالمصدر الذي نزل عليك القول الثقيل ، لتخف عليك أتعاب الدعوة ومشاغبها وعراقيلها.

والبكرة هي الصبح ، والذكر الواجب فيها هي صلاة الصبح ، والأصيل من الأصل هي قاعدة النهار وأصله في الطرف الأخير ، والواجب فيه صلاة العصر ، والسجدة المأمور بها ليلا هي فريضة الليل : العشاءان أم إحداهما ، والآية على أية حال لا تشمل الفرائض الخمس كلها ، كآية هود : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) (١١ : ١١٤) مما يدل على مكيتهما ونزولهما قبل فرض الخمس ، وقد نوافيكم بالبحث الفصل حولها في طيات آياتها.

(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) :

إن الأثمة والكفرة يحبون الحياة العاجلة ، حبّا لا يبقي لهم ولا يذر

٣٢٦

مجالا أن يعملوا للآجلة ، ليوم ثقيل بأوزارهم التي قدموها ، فبدل أن يجعلوا هذا اليوم الأمام إمامهم : يذكرونه ويعملون له ، إنهم يذرونه وراءهم ظهريا كأنه لا يأتيهم ، وإنما العاجلة أمامهم وإمامهم ، يبصرون إليه فيعميهم ، ولا يبصرون به ليبصّرهم : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٣٠ : ٧) غرقى في عاجلة الدنيا الخفيفة التي تمضي على أية حال ، وغافلين عن الآجلة الثقيلة البعيدة المدى : ثقيلة بخلودها ، ثقيلة بنتائجها ، ثقيلة بحسابها ، فيا لهم من غفوة وغفلة شملتهم وأعمتهم وجنّتهم ، حياتا صبيانية زهيدة حمقاء!

(نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) :

لفتة تذكر هؤلاء الغافلين المعتزين بقوتهم ، المعتزمين التغافل طول حياتهم ، تذكّرهم بمبتدئهم ومنتهاهم : فقد صدروا بخلقهم وشدة أسرهم ـ : ربطهم الموثق ، ـ صدروا من الخلاق الحكيم ، أسرا وربطا موثقا بين الروح والجسم ، وبين أجزاء كلّ منهما ، وبينهما وبين العالم الخارجي ، وبينهما وبين الله تعالى بما فطر الإنسان على معرفته ، وسوف يبقى أسر الروح بجسمها إذ يتلاقيان يوم المعاد ، فويل هذا الإنسان إذ يجعل نفسه في أسر الشهوات ، ويفك أسره ووثاقه عن ربه!.

بدأوا من الله وليسوا بمعجزيه ، وإذا شاء بدّلهم أمثالهم (١) : أمثالهم في المادة والصورة ، كأن يفنيهم ويأتي بخلق جديد : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (١٤ : ١٩) (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) (٧٠ : ٤٠ ـ ٤٣).

__________________

(١). بدّل يقتضى مفعولين ، ذكر ثانيهما «أمثالهم» وحذف الأول «هم». بدلناهم أمثالهم.

٣٢٧

أو أمثالهم في الصورة ، والمادة نفس المادة ، كما في قيامة الإحياء ، فإن الأجساد لا تعاد بصورها الأوّلية وإنما بأمثالها في الصورة وأصولها في المادة ، فالأجساد المعادة يوم المعاد هي هي بموادها وهي غيرها بصورها ، طالما هي أمثالها : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) (٥٦ : ٦٣) (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٥٠ : ١٥).

(وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا) هم (أَمْثالَهُمْ) في العاجلة بخلق جديد بدلهم ، وفي الآجلة بخلقهم مرة أخرى لتجزى كل نفس بما تسعى (بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) : الى من هم أحسن منهم ، أو أبدان أخلص وأخلد من أبدانهم كما في القيامة ، وهذا الثاني مقصود من الآية قطعا لمكان «إذا» الدالة على تحقق مدخولها لا محالة ، طالما تشمل الأول ضمنيا.

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) :

التذكرة حاصلة بالفعل ، برحمة الله وحكمته ، تذكرة بالغة كافية ، ولكنما التذكر بها منوط بمشية الإنسان ، فمن شاءه اتخذ الى ربه سبيلا كما يسعى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) فالسبل الى الله كثيرة ، كلّ يسلك سبيلا قدر سعيه ، متذكرا بالتذكرة قدر وعيه ، ولكنما المشية منّا غير كافية للوصول ، فهي بحاجة الى مشيئة الله ، أن يشاء ما يشاءه العبد من خير فيوفقه له :

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) :

هذا شرط الله لنا دائبا ، أن لانشاء الاهتداء إلا أن يشاءه الله لنا بعدها ، يشفع مشيئته بمشيئتنا نصرا من عنده ، وتوفيقا لنا لدحر ما لا نقدر عليه

٣٢٨

من عراقيل السير ، فلولا توفيقه لم نقدر على ما نشاء. ف (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) : في أن نعبدك لا سواك.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بقصورنا (حَكِيماً) في مشيئته ، فلولا حكمته لم يشأ ما نشاء ووكلنا الى أنفسنا ، ولو لا حكمته لشاء هدانا شئنا أم أبينا فأصبحنا على سواء (١).

ولنا أن نعاكس المشيئتين : ان مشيئته المخاطبين هنا من مشيئة الله ، لا يشاءون إلا ما يشاء الله ، فإنهم المعصومون المطهرون ، مهابط وحي الله ، وأمناء الله في مشيئته وان فعل أمناءه فعله (٢) ، فقد جعل قلوب الأئمة موردا لإرادته وإذا شاء شيئا شاؤه (٣) والآية تتحملهما معا ، وهما متداخلان في المعصومين ، فهم لا يشاءون أمرا إلا أن يشاءه الله ويحققه ، وليست لهم مشية إلا ما يرضاه الله ، وأما غيرهم فليس لهم إلا المعنى الأول ، وشاهدا على أن الآية تعنيه فيما تعنيه :

(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) :

فإنه لا يدخل في رحمته إلا من يشاء الدخول في رحمته فيوفقه لها ، فمشيئته للهداية هنا منوطة بمشيئة العباد ، وأما الظالمون ، الذين لا يشاءون رحمته ،

__________________

(١). راجع ص ١٨٠ ج ٣٠ على ضوء الآية «وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ».

(٢) الاحتجاج للطبرسي حديث طويل يقول فيه (ع) .. وفعل ملك الموت فعل الله ، لأنه يتوفى الأنفس على يد من يشاء ، ويعطي ويمنع ويثيب ويعاقب على يد من يشاء وان فعل امنائه فعله كما قال : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).

(٣) تفسير البرهان ٤ : ٤١٦ عن الكافي عن أبي الحسن الثالث قال : .. ثم قال : وهو قوله : وما تشاءون إلا أن يشاء الله.

٣٢٩

فهو كذلك لا يشاء لهم الرحمة ، وإنما (أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) ختاما في السورة كالمطلع تصويرا لنهاية الابتلاء ، إذ خلق من نطفة أمشاج للابتلاء فجعل سميعا بصيرا ، وهدي السبيل إما شاكرا وإما كفورا (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً).

هذا ، وكما يعني أيضا من يشاءه الله وهو ـ لا ريب ـ من شاء رحمة الله وسعى لها حتى شاء الله إدخاله فيها ، فالمشيئة إذا مزدوجة ، بادئة من المرحومين إذ يعدّون لها عدتها بإذن الله ، ومنتهية الى الله إذ يدخلهم في رحمته ، مشيئتين من الله ، وواحدة من العبد.

٣٣٠

سورة المرسلات ـ مكية ـ وآياتها خمسون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩))

* * *

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) : قسما بالطاقات المرسلات من رب العالمين : مادية

٣٣١

وروحية ، ملائكية وبشرية وسواهما كرياح الرحمة (١) ، آفاقية كهذه أو أنفسية كالفطر والعقول ، والعرف هو المتتابع كعرف الفرس ، والمرسلات الإلهية متتابعة كالآيات القرآنية النازلة تترى ، والعرف هو المعروف من الإحسان : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) (٧ : ١٩٩) وهذه المرسلات هي عرف بذواتها ، عرف بطاقاتها ، عرف في إرسالها ، عرف في رسالاتها وغاياتها ، أرسلت حا لكونها عرفا ، وأرسلها الله عرفا ، ولغاية هي العرف : المعروف من الإحسان ، رغم ما يبدّله الإنسان ويواجهه بغير احسان (٢).

فملائكة الوحي والحياة والموت والتدبير ، من المرسلات عرفا ، كما النبيون أجمع ، مرسلات روحية في الآفاق ، وكما العقول والفطر مرسلات روحية في الأنفس : معروفا من الإحسان متتابعا.

كما وأن رياح الرحمة وأمطارها وأشباهها مرسلات مادية ، فهذه المرسلات وتلك ترسل عرفا وتهدف عرفا وهي عرف في ذواتها وصفاتها ، وكلها تشهد شهادات عينية وعلمية وعقلية (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ)!

(فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) : توحي الفاء هنا أن العاصفات هي من المرسلات ـ وان كانت بعدها عصفا ـ فمنها عاصفات ومنها دون ذلك ، والعصف هو شدة المرور ، وهو الكسر ، وهو المكسور من العلوفة كعصف مأكول.

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٠٣ ـ أخرج ابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن جده قال قال رسول الله (ص): «الرياح ثمان اربع منها عذاب وأربع منها رحمة ، فالعذاب منها العاصف والصرصر والعقيم والقاصف ، والرحمة منها الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات ، فيرسل الله المرسلات فتثير السحاب ، ثم يرسل المبشرات فتلقح السحاب ، ثم يرسل الذاريات فتحمل السحاب فتدر كما تدر اللقحة ، ثم تمطر وهي اللواقح ، ثم يرسل لنا الناشرات فتنشر ما أراد».

(٢). وعرفا على ترتيب هذه المعاني : حال من المرسلات ، حال للمرسل ، مفعول لأجله من الإرسال.

٣٣٢

فقسما بالمرسلات العاصفات عصفا ، عرفا أو سواه ، فمن العاصفات عرفا الملائكة النازلة بالرحمات سريعة كاسرة الموانع والعراقيل ، وغير العرف منها هي النازلة بالنوازل والصعوبات ، كما النبيون عرف للمصدقين ، وعذاب على الكافرين ، ومن الرياح عاصفات عرفا كالتي تنشر السحاب وتثيرها ، ومنها عاصفات نكرا كالصرصر والعقيم والقاصف ، إذ تقصف بمرورها الشديد وتكسر وتخسر.

(وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) : والنشر هو البسط ، والإذاعة ، والريح الطيبة ، والتفريق ، والنحت ، والتعويذ ، والهبوب ، والإصابة ، والإحياء ، والنبت وإيراق الشجر : معان عدة حسب عديد المتعلقات (١).

وقسما بالطاقات الباسطات المذيعات أخبار السماء في أرجاء الكون حيث تبث رياحها الطيبة وتفرقها على أهليها ، وتنحت بأخبارها ما يقبل النحت من قلوب صافية ، وتصيب القلوب المقلوبة غير الصافية ، وتهبّ كالرياح في الأجواء ، والقلوب أوعية فخيرها أوعاها فتصيب كلّا حسب وعيه ، والتي تنشر الأجساد من الأجداث فإلى ربهم ينسلون.

(فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) : فارقات من الناشرات ، لمكان الفاء ، الناشرات وحي السماء ، الفارقات بين مصدقيه ومكذبيه ، وبين الحق والباطل ، والناشرات أرزاق الخلائق ، الفارقات بينهم حسب تقديراتهم ، والناشرات أحياء ، فالفارقات بينها ، ففريق في الجنة وفريق في السعير.

(فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) : إنما يوصف وحي السماء بالذكر الملقى ، بعد ما ينشر ويفرق بين الحق والباطل ، والإلقاء هنا من النبيين ، فإنهم هم رسل الخلق المذكرون لهم بوحي السماء.

__________________

(١). نشرا هذا مصدر ومفعول به ايضا كما في الأحياء : الناشرات أحياء.

٣٣٣

(عُذْراً أَوْ نُذْراً) : فلإلقاء الذكر أثره ، عذرا عند الله فحجة على المنذرين ، أو نذرا لهم به ينذرون ويتأثرون (١) ، فاشتراط التأثير نذرا ـ فحسب ـ في وجوب البلاغ والأمر والنهي ، شطط من القول وهراء ، بل وعذرا أيضا ، كما هو لزام إلقاء الذكر دائبا ، وعلى من لم يتذكر ايضا ، ونذرا أحيانا : لمن يتذكر ، فالمعذرة الى الربّ في أداء البلاغ لها المكانة الأولى في المنذرين ، لا يعذرون في تركها بحال ، فالله ينجي من يأمر بالعرف وينهى عن السوء عذرا أو نذرا ، ويأخذ الظالمين بعذاب بئيس ، من فاعل للمنكر ، وتارك للنهي عنه حتى عند عدم التأثير : (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً. قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ. فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٧ : ١٦٦) فانها تصرح بنجاة الناهين عن السوء فقط ، وبعذاب شامل تاركي النهي عن المنكر فيما لم يكن له تأثير ، إلا معذرة الى الربّ ، طالما تشدد عذاب العاتين عما نهوا عنه : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)!

وهل إن هذه المقسم بها خمس كما يشهد له عديده؟ أم اثنان لأن الأصل المعطوف عليه فيها اثنان والمرسلات ... والناشرات والثلاثة الباقيات متفرعات؟ ام واحد لوحدة المقسم لأجله ، فلتكن متوحدة في رباطها به؟ لكلّ وجه ، وهي متداخلات في صفاتها وغاياتها ، وهي كلها دالات (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ). فمرسلات العقول والفطر والفكر ، ومعها مرسلات الرسالات الملائكية والبشرية ، ومعها مرسلات الرياح وصلا وفصلا ، وسائر المرسلات الفاصلة والواصلة ، تدل دلالات عقلية وواقعية وحسية لإمكانية وضرورة وقوع الوعد الحق ، وخسر هنالك المبطلون.

__________________

(١). قد يكون عذرا أو نذرا ، جمعين لعاذر ونذير ، أو مصدرين بمعنى الإعذار والإنذار ، وعلى الاول هما حالان للملقيات.

٣٣٤

كما العاصفات من المرسلات تدل بشدة مرورها وكسرها ومكسورها أن موانع نشر الموتى سوف تذل لديها بما أراد الله.

وكذلك الأمر في الناشرات نشرا ، فالفارقات فرقا ، فالملقيات ذكرا :

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ. وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) (٦ : ٥١) (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) (٧ : ٥٢) فويل للمكذبين بيوم الدين ، رغم هذه الكثرة من الأدلة والبراهين.

(فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) : طمس النجوم هو محو آثارها ، وذهاب ضوءها (١) وأنوارها ، وإزالتها عن الجهات التي كان يستدل بها ، ويهتدى بسمتها ، كالكتاب المطموس الذي أشكلت سطوره ، واستعجمت حروفه.

يوم الطامة الكبرى تطمس النجوم منكدرة ، والكواكب منتثرة ، كلآلي منظومة ، ينخرط سلكها فتتفرّق ، فتطمس عن كيانها كواكب ونجوما وعلامات هادية ورجوما ، ذاهبة في الفضاء بددا ، كما تذهب الذرة التي تنفلت من عقالها.

(وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) (٥٠ : ٦) فالسماء غير ذات الفروج تصبح من ذوات الفروج ، ولحد كأن كلها أبواب وفروج : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) (٧٨ : ١٩) فروجا بزوال نجومها وبروجها ، فانها شغلت كثيرا من أجواءها ، وفروجا بانشقاقها وانكشاطها في كافة أرجاءها (٢).

__________________

(١). تفسير القمي عن أبي جعفر الباقر (ع): فطمسها ذهاب ضوءها.

(٢). راجع سورة الانشقاق ج ٣٠ ص ٢٣٦ والانفطار ٣٠ ـ ١٨٤ والتكوير ٣٠ ـ ١٥٤.

٣٣٥

(وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) : قلعت وأزيلت بمتفجرات الزلزال الدكداك ، وبالانفجارات الذرية وسواها آخذة مسيرها الى الدمار والهلاك ، تنسف فلا يبقى إلا سراب وقاع صفصف: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً. لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا (١) أَمْتاً) (٢٠ : ١٠٧) (١).

(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) : والتوقيت هو تقدير الوقت لوقوع الفعل ، وتأجيله لأجله ، فالرسل عند قيامة الإماتة تؤقّت ، عند الصيحة التي تصعق من في السماوات والأرض إلا من شاء الله ، وهم ممن شاء الله ، لا يصعقون عن الحياة كلّ الحياة ، مهما كانوا ميتين عن الحياة الدنيا ، فهم في البرزخ أحياء ، والى يوم يبعثون ، لا يصعقهم الفزع الأكبر ، فهم منه آمنون.

فالرسل تؤقّت تأجيلا لقيامة الإحياء ، لتحقيق الوعد الواقع الصادق وليسألوا ماذا فعلوا وماذا أجيبوا ، وسئوال المرسل إليهم ماذا أجابوا : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ. فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) (٧ : ٧) (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (٥ : ١٠٩) (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (٢٨ : ٦٥) تساؤلات وتساؤلات وليشهدوا لهم أو عليهم ، ولأنهم من أكرم الشهداء.

(لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ. لِيَوْمِ الْفَصْلِ) : إن التأقيت التأجيل هو ليوم الفصل : الفصل بين المختلفين ، وبين المتصلين بالقرابات ، وفصل الحق عن الباطل ، والفصل عن الأعمال والآمال : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) (٧٨ : ١٧) للناس عامة ، وللرسل بوجه خاص ، وتوقيت لأجل معلوم.

__________________

(١) راجع سورة النبأ ج ٣٠ ص ٣٩.

٣٣٦

(وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) : إنك تدري ما هو ، ولكنها بما أدراك ربك فلا سبيل لها إلا وحي السماء.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) : حذار وإنذار من العزيز الجبار ، بويل كل ويل للمكذبين بيوم الدين ، وهم محضرون لمجلس القضاء يوم الفصل ، ذلك لأن تكذيبهم كان ويلا عقيديا وعمليا.

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ. ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ. كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ).

إن ذلك الويل قد يهلكهم يوم الدنيا كما يهلكهم يوم الدين ، فإهلاك المكذبين الأوّلين ، ثم إتباعهم الآخرين ، ذلك تحذير لهؤلاء الظالمين أن ليس الويل لهم مختصا بيوم الدين ، فحذار حذار أيها المكذبون ، فإن مصارعكم تنكشف وأنتم حشود أقوياء ، وعلى مدّ البصر ترى المصارع والأشلاء لهؤلاء وهؤلاء ، وأمامها وعيد الله ناطقا بسنة الله : (ذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ).

(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩)

(تفسير الفرقان ـ ج ٢٩ ـ م ٢٢)

٣٣٧

انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (٥٠)

(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) : (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٣٢ : ٨) كما أن هذا المهين نفسه كان سلالة من طين : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (٢٣ : ١٢) .. وإنه تذكير بحالة الإنسان المسبقة الهزيلة الرذيلة ، النتنة المهينة ، أن خلقه الله منها في أحسن تقويم ، نعمة سابغة سابقة ، وحجة بالغة على ناكري الألوهية.

٣٣٨

(فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) : قرار الرحم وما أمكنه من قرار الحياة الجنينية ، وقرار الأرض التي من طبعها الفرار : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) (٤٠ : ٦٤) قرارا بكيانها وقرارا بحركاتها التي تفلتها من مداراتها لولا أن جعلها الله كفاتا أحياء وأمواتا.

(إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) : دون فوضى حتى في قدر القرارين : في الرحم وفي الأرض.

(فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) : قدرنا لا فقط قدرناه أو قدرنا عليه أو قدرنا به وإنما قدرناه وعليه وبه والكل مقصود :

قدرناه : هيّأناه للتكامل الجنيني ، أن قسمناه : الماء المهين ، فأخذنا منه سلالة هي النطفة الجرثومية (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) واستخدمنا الباقي لتكملتها ، فهذه النطفة الأمشاج تسير سيرا زهوا بطيئا في البوق ، ولا تنتهي منه الى الرحم إلا بعد ثمانية أو عشرة أيام ، تقوم خلالها بتقسيم نفسها تقسيما بعد تقسيم ، لكي تهيء كل قسم وتعدّه للدور الذي سيقوم به في تكوين الجنين الجديد ، أو حفظه وحمايته ، أو في تغذيته ، فتصل البيضة النطفة الى بيت الزوجية المهيأ لها ، فتلتصق بجداره ، وتبدء خلايا الأقسام عملها العظيم بالتعاون مع بعضها أو مع خلايا جدار الرحم ، فتجعل حول الجنين غلافا فوق غلاف فوق غلاف : (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) :

وقدرنا عليه : قوينا عليه وتمكنا أن نخلقه ما نشاء كما نشاء ، وضيقناه في مضيق الرحم حفاظا عليه من كل صدام ، وفي مضيق من الحياة الدنيا.

وقدرنا به : قسنا به سائر الخلق فجعلناه في أحسن تقويم (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) ودبرناه فصورناه : (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) فيما قدرنا «ه» و «به» و «عليه».

٣٣٩

وكما أن للإنسان قرارا مكينا ركينا في الأرحام ، لا تنافيه تقلّبات الأمهات في مختلف الحركات ، كذلك الله جعل له الأرض كفاتا : قرارا مكينا ، رغم حركاتها الدائبة المتداخلة ، تضم ما عليها في حضنها أحياء وأمواتا :

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً. أَحْياءً وَأَمْواتاً ، وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) :

هذا الاستفهام التقريري في مقام تعداد النعم السابقة يوحي بأن كفات الأرض نعمة غالية فيها ، تشابه قرار الرحم المكين ، لولاه لم تمكن أو لم تسع للإنسان حياة ، كما أن لقرار الرحم دوره الهامّ في بداية المطاف ، وهذه هي الحقيقة التي تساعدها اللغة والواقع ، مهما تغافلت عنها قرون خلت ، فتخيلت أن الأرض جامدة على قرني الثور أو ظهر الحوت(١)!

الأرض الكفات :

إن آية الكفات هذه تظهر الأرض بمظهر الطير المسرعة في طيرانها ، المتقبضة جناحيها ، حيث الكفات هي الإسراع في العدو والطيران مع تقبض فيه (٢).

__________________

(١) انها ليست على ظهر الحوت أو على قرني الثور ، وإنما هي كسائر الكواكب تسبح في جو السماء ، وحديث الثور مقطوع في أوله ، يعني غير ما عنوه ، فقد سأل احد الزارعين الامام الصادق (ع) ان لي ثورين أزرع بهما الأرض ، وانا كبير أريد ان أبيعهما فأعيش في عزلة العبادة بثمنهما؟ قال (ع): «لا تفعل فان الأرض على قرني الثور» يعني زراعة الأرض في تلك الزمن ، كما في زمننا على قرني التراكتور.

(٢) كما في لسان العرب وتاج العروس وغريب القرآن وأمثالها ، ففي التاج عن الزهري : «كفت الطائر وغيره يكفت كفتا وكفاتا ككتاب وكفيتا كأمير وكفتاتا» : اسرع ـ

٣٤٠