الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٠

تتطلب الشكر كما الحياة نعمه ، ثم نرفع رؤسنا ثانيا اشارة إلى الحياة والولادة الثانية والأخيرة التي نحاسب فيها فنجازى.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً ، لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً).

بما أن البسط هو النشر بعد القبض ، وان الجعل المتعدي لمفعولين هو جعل الشيء شيئا آخر في كيفيته وصورته ، فجعل الأرض بساطا يوحي انها كانت منقبضة غير منبسطة ، ثم جعلها الله منشورة للعايشين عليها ، ولا سيما إنسانها : (جَعَلَ لَكُمُ) فلم تكن بساطا قبلئذ ، ولا صلبا ، إذ كانت محترقة مذابة ، ولا لها جو إذ كانت حارة محرقة ، دون أن يعيش فيها مواد الحياة من الماء واكسجين الهواء ، شربا وتنفسا وإنباتا.

إنها لم تكن لتسلك فيها سبل فجاج : الطرق الواسعة ، التي يهتدى بها إلى متطلبات الحياة : (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (٢١ : ٣١) فالسبل الفجاج في الصحارى وبين الجبال ، إنما هي من حصائل بسط الأرض ونشرها ، فقد ذلت الأرض بعد شماسها لنمشي في مناكبها ونأكل من رزقه : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (٦٧ : ١٥) ذلولا بعد شماس ، في ركوبها وسكنها وابتغاء الرزق فيها ، وبصيغة عامة : الحياة المريحة عليها ، في فجاجها السبل التي ما كانت مسبلة حين شماسها.

ثم البساط ـ وهو النمط الذي يمد على الاستواء فيجلس عليه ـ إنه يوحي برياحة التنقل في الأرض كما يتنقل الإنسان على بساطه.

فيا نبات الأرض ، المفضل على كل نباتها! المدلل إلى كل خيراتها وبركاتها ، المستنير بقمر السماء وشمسها ومطرها ، أنت كيف تسمح لنفسك أن تكفر بربك رب العالمين ولا تستطيع التحلل عن نعمه ابدا؟.

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) رب انهم ـ على طول الدعوة وبعد هذا العناء الطويل والتنوير الوفير ،

(تفسير الفرقان ـ ج ٢٩ ـ م ١١)

١٦١

والإنذار والتبشير ، بعد هذا كله ـ إنهم عصوني في عبادتك وتقواك وطاعتي ، واتبعوا الخاسرين المخسرين ، الذين لم تزدهم نعمة المال والأولاد إلا خسارا لسوء تصرفهم فيها ، وغرورهم بها : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) (١٤ : ٢٩).

(وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً. وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً. وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً).

.. مكرا كبارا : متناهيا في الكبر ، مستعملين فيه كافة أساليب التدجيل فقالوا ما قالوا .. (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) أضافوا الالهة إليهم إثارة للنخوة الكاذبة والحمية الحمقاء ، كأنهم يدعون إلى إله غريب عنهم ، دخيل في آلهتهم ، فلينكروه حفاظا على الكرامة ، وليتمسكوا بآلهتهم إبقاء للقديم على قدمه واستدامة لعادة الآباء والجدود ، ففي تخليهم عنها والإيمان بإله نوح ، رفض لكيانهم وخروج عن كونهم حملة التراث ، وأنهم أبناء آبائهم.

فإثارة الحميات والقوميات والطائفيات والعنصريات ، لها دور كبير في المتمسكين بها ، المتقيدين بأسرها ، المفتخرين بها ، بين المتحللين عن المثل العليا الأخلاقية ، المفاخرين بما لغيرهم من اللاأخلاقيات ، الماشين ممشاهم على العمياء.

والنص يلمح لدرجات ثلاث بين آلهتهم ، أهمها ود وسواع إذ خصصا بالعطف بعد التعميم ، ثم يغوث ويعوق ونسر ، المذكورة في عطف وردف واحد ، ثم بقية الآلهة الداخلة في عموم اللفظة.

طبقات في الآلهة هي معبودة طبقات (١) ، فالنظام الطبقي العارم بين الوثنيين كان سائدا بين آلهتهم أيضا ، ظلمات بعضها فوق بعض!

__________________

(١) في تفسير علي بن ابراهيم : كان «ود» صنما لكلب و «سواع» صنما لهذيل وكان «يغوث» صنما لمراد وكان يعوق صنما لهمدان ، وكان نسر لحصين.

١٦٢

كما وحدة الإله بين الإلهيين أزالت النظام الطبقي بينهم مهما كانوا درجات : حسب المساعي والخلقة ، فشريعة التوحيد تأمرهم بحياة تضامنية أليفة تحكمها روح التوحيد والحنان والمحبة ، كأنهم شخص واحد رغم اختلاف الأعضاء.

هذه الأصنام الخمسة ـ ومعها غيرها ـ كانت تعبد زمن نوح وحتى الرسالة الإسلامية التي قضت عليها فاجتثت من جذورها ، إلا التي أفلتت منها أو نبش قبرها بعد الرسالة أو بعدها ، في القطاعات التي تحكمها الطواغيت.

ولقد تناصرت نعرات الجاهلية الأولى والقرن العشرين ، في الحفاظ على الوثنيات وعبادة الطواغيت لكي يبقى الشيطان على كرسي الضلالة مهيمنا.

(وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) حول الأصنام : أخشابا وأحجارا واشخاصا وأفكارا ، للصد عن شرعة التوحيد ، بهذا المكر الكبار.

(وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) ضلالا كجزاء لضلالهم ، جزاء وفاقا ، ضلالا في قلوبهم بما ضلوا وزاغوا : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) وضلالا في سعيهم : (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) وضلالا في في الآخرة إذ يضلون سبيل الجنة إلى النار وبئس القرار ، وكل هذه ردة عادلة لما ضلوا وأضلوا (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)؟.

(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً).

من خطيئاتهم تلك اغرقوا في الخسران ومنه غرقهم في الطوفان ومن ثم في النيران يوم البرزخ : الفترة بين الموت والقيامة.

(أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) ففاء التفريع تفرع دخولهم نارا على غرقهم بخطيئاتهم ومضي الفعل «أدخلوا» يصرح بسابق دخولهم النار ، فلا يعني مستقبله يوم الحشر ، وانما بعد الموت دون فصل ، فهذه الآية من آيات الحياة البرزخية بعذابها وثوابها ، مع العشرات الأخرى من آياتها.

وفيما إذا سئلنا كيف تجتمع النار والماء ، فهم غرقوا في الماء وأدخلوا في

١٦٣

النار؟ فهل الماء يحمل النار ، لا سيما تلك النار التي لا تبقي ولا تذر فكيف لم يغل الماء؟!

فالجواب : ان المعذب في البرزخ ليس الروح ببدنها الدنيوي الظاهر انما ببدنها البرزخي الذي يساور الروح ، فناره أيضا برزخية غير ظاهرة ، كثوابه ، ولكلّ من العالم الظاهر والباطن حكمه ، والثواب والعذاب البرزخيان ، هما من الباطن بالأسباب الباطنة غير المحسوسة ، ولكنها مدروسة حسب الوحي.

وشاهد علمي على ذلك أن المادة أيا كانت ، إنها تحمل الطاقات الحرارية ، وحسيا : الشجر الأخضر الذي تطلح منه نار فإذا أنتم منه توقدون : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) (٣٦ : ٨٠).

فهذا الشجر يحمل خشب الوقود ، وماء الإطفاء ، ونار الإيقاد! رغم انحصار مفعوله في الدنيا ، أفليس الذي يقدر على ذلك بقادر على إحراق الأجساد البرزخية بالنار البرزخية الكامنة في الماء وفي كل شيء مع اختلاف العالمين؟.

وانما يحمل السائل المتعنت المستنكر على هكذا سئوال ، جهله بالبدن المثاب والمعذب في البرزخ ، وبماذا يثاب وبماذا يعذب؟ ثم تجاهله وإنكاره لهذه الشواهد الحسية والعلمية.

(فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) : فمن ينصرهم من بأس الله بعد إذ غرقوا واحرقوا ، وإذ لم يكن أنصارهم بمنجيهم عن غرق الدنيا ، فكيف ينجونهم من غرق البرزخ ولا تنال منه قدراتهم؟ فأين من أضلوهم وآلهتهم؟ ولينصروهم إذ هلكوا في سبيل الصمود على طاعتهم ، ومعصية الله رب العالمين!.

ثم في آخر المطاف من دعوة نوح الطويلة ـ وبعد انقطاع الأمل عن إيمانهم وخيرهم ، وحتى عما يخلفون من أمثالهم ، وبعد التأكد انهم مضلون كما هم ضالون ـ هناك يدعو :

(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً).

١٦٤

فان صالح الإنسان في صلاحه أو صلاح نسله ، فإذا فقد الجانبين إلى الإضلال فيهما ، لم يبق لبقائه إلا فساد على فساد وسبحان الله عن هكذا إبقاء!

فقد لمح الوحي إلى نوح بمستقبلهم وذريتهم سندا لما عرف عنهم في ماضيهم : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (١١ : ٣٦) ف «لن» تنفي ايمانهم ابدا ، ولزامه أن لا يلدوا إلا فاجرا كفارا ، وكما عن باقر العلوم عليه السلام(١).

فقد كانت الأرض بحاجة إلى الإحياء بعد موتها ، وإلى التطهير بعد قذارتها من الشر العارم الذي انتهى اليه القوم في زمنه ، ولم يبق علاج في تطهيرها إلا تدميرهم ، إذ إن في بقاءهم إضلال القلة القليلة ممن آمن معه ، طوال ألف سنة إلا خمسين عاما.

وفيما إذا سئلنا : كيف لا يلدون إلا فاجرا كفارا ، والإنسان أيا كان لا يولد كافرا مهما كان أبواه كافرين ، وإنما الكفر والإيمان منذ التكليف لا الولادة؟

فالجواب : ان خبث النطفة اضافة إلى خبث الجو والبيئة ، لا يلدان إلا فاجرا كفارا ، فان الجو الفاسد الذي أوجدوه ، والبيئة الضالة التي خلقوها ، انهما يوحيان بالكفر من الناشئة الصغار ، فلا توجد فرصة لترى الناشئة نورا ، وقليل هؤلاء الذين يولدون من الظلمات ويعيشونها ، ثم يخالفونها إلى النور ، وقد ولد هذا القليل في هذه المدة الطائلة ولم يبق منهم أحد وفي أنسالهم أيضا ، فلا يعنى من ولادة الفاجر الكفار أنها منذ الولادة ، إنما من حين التكليف ، وإن كانت الولادة الخبيثة والجو الخبيث لهما دورهما الفعال في الكفر والفجور ، فالولادة عن هكذا كفار ، ثم ولادة ثانية تولدهم البيئة الكافرة لحد التكليف ، ثم عفويا الولادة الثالثة

__________________

(١) القمي بسنده عن صالح بن ميثم قال قلت لابي جعفر الباقر (ع) ما كان علم نوح حين دعا على قومه : انهم لا يلدوا الا فاجرا كفارا؟ فقال : اما سمعت قول الله لنوح : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ).

١٦٥

منذ التكليف ، الناتجة عن الولادتين ، هذه وتلك ليست إلا ولادة الفاجر الكفار : (لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً).

حينذاك كانت مناداة نوح ربه حقا وفي محله ومرضيا عند ربه : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) (٣٧ : ٧٥) دون أن تكون مرضية للشيطان كما في مختلقات الروايات.

ثم يدعو للمؤمنين والمؤمنات مع نفسه ووالديه :

(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً).

دعاء على الظالمين مرتين يوسط بينهم دعاءه لنفسه ولوالديه ، ولمن دخل بيته مؤمنا ، لما حان حين الغرق ، فهم المؤمنون الجدد حينه وعند البأس ، ثم للمؤمنين والمؤمنات طول الزمن ، وهذا شعور عام بآصرة القربى على مدار الزمن واختلاف السكن دون أن يبعدهم بعد الزمان والمكان ، كما الدعاء على الظالمين عام على طول الزمن.

١٦٦

سورة الجن ـ مكية ـ وآياتها ثمان وعشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢)

١٦٧

وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً)(٢٨)

١٦٨

هذه السورة تقرر حقيقة الجن وكيانهم وشعورهم نحو الشريعة ومشابهتهم الإنس في الأحكام إلا ما يفرقهم عنه افتراق الجنس ، ثم هي تقف موقف الوسط بين الإغراق في الوهم ممن يزعمهم مسيطرين على الإنس ، وبين الإغراق في الإنكار ممن ينفي حتى وجودهم ، فتقرر ان لهم حقيقة موجودة ، نتعرف إليها في طيات الآيات هنا وفي سائر القرآن ، فمن ميزاتهم خلقهم قبل الإنس : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (١٥ : ٢٧) وانهم محجوبون عن الإنسان مبدئيا ، يرونه ولا يراهم : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) (٧ : ٢٧).

ومن ميزات الإنس استقلال الرسالة الإلهية فيهم دائما دون تبعية للجن ، ولكنما الجن تتبع الإنس فيها وكما ندرسه في هذه السورة.

ثم هما مشتركان في التكليف ، والبعث والعقاب : (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ ...) (٧ : ٣٨) وأنّ فيهم الجنسين يتكاثرون بالتناسل كالإنسان : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) (٧٢ : ٦) (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) (١٧ : ٥٠) وفي غير ذلك.

وهل فيهم أنبياء منهم ، أم هم دوما أتباع لأنبياء الإنس؟ نتبين ذلك وكثيرا مثله في هذه السورة :

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً).

فمن هؤلاء النفر؟ هل هم رسل الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى سائر الجن دون أن يوحى إليهم بشيء؟ أم هم رسل الله اليه ليستمعوا منه وحي القرآن ، دون أن يستقلوا بوحي الرسالة الاسلامية ولو تبعا للرسول ، وانما اوحي إليهم ليستمعوا منه القرآن فيولوا إلى قومهم منذرين؟ قد يلمح القرآن إلى وحيهم هذا : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً

١٦٩

لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٤٦ : ٣٢).

فلا يعني صرف الله تعالى نفرا من الجن إلا وحيه إليهم أن ينصرفوا إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ولو لم يكن الوحي والرسالة مختومين بالرسول محمد ، لجاز استقلال رسل الجن بالوحي ، كما قبل الإسلام تلميحا من الآية : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا ..) (٦ : ١٣٠) وتصريحا من آيات تكليفهم وقد خلقوا قبل الإنسان ، فهل يا ترى كانوا قبلئذ مكلفين دون وحي؟ أم بالوحي إلى أشخاصهم أجمع؟ أم إلى بعضهم وهو الصحيح ، وآية المعشر تعمم الرسالة الإلهية لقبيلي الجن والإنس منذ كانوا ، فليكن منهم رسل قبل الانس ومع الانس ، ف «منكم» الدالة على الجنس توحي بكون الرسل في كل منهما من نفسه لا سواه ، فلو كان رسل الجن هم من الانس لم يقولوا : «شهدنا» كما العكس أيضا كذلك.

ثم بلوغ الحجة الإلهية لا يتم إلا أن يبعث لكلّ رسول منهم ، مهما كانت رسالته أصيلة ، أم تبعا لرسالة الإنس ، أم رسالة إلى سول الإنس ليأخذوا عنه كما في الرسالة المحمدية.

لذلك نجد القرآن يحتج ـ فيما يحتج ـ على منكري رسالة البشر ، انها من دعائم الحجة عليهم ، فلو أرسل إليهم ملائكة لاعتذروا باختلاف الجنس : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (٦ : ٩) (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) (١٧ : ٩٥) (لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) (٦ : ١١١).

إذا فمن المؤكد ان من الجن رسلا ولا سيما قبل خلق الإنس ، ثم بعده وقبل وحي القرآن عل رسالة الجن كانت تبعية لرسل الإنس كما تلمح اليه آيات الاصطفاء :

١٧٠

(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) (٢٢ : ٧٥) واما مع الرسالة المحمدية وحتى القيامة فوحي الرسالة منقطع وحتى عن أهل عن أهل بيت الرسالة فضلا عن الجن ، اللهم إلا وحيا يحمل الانبعاث إلى الرسول محمد ليحمل عنه رسل الجن ما حملوه من وحي القرآن ، فهم خلفاء الرسول في هذه الرسالة ، كما عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قول جني انساب إلى منبر علي عليه السلام فتطاول وسلم عليه عليه السلام وقال : أنا عمرو بن عثمان خليفتك على الجن ، قيل له عليه السلام : فيأتيك عمرو وذاك الواجب عليه؟ قال : نعم» (١).

واما النفر من الجن المبعوثون من الله إلى الرسول ، فلم يكونوا أكثر من تسعة أنفار كما توحيه لغة النفر ، وان نفرهم هو انزعاجهم من الجو الطائش إلى أمان الوحي بأمر الله لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون كما فعلوا ، وقد سماهم علي عليه السلام ، وانهم كانوا من أشرافهم (٢) ولقد ناب على عليه السلام

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٤٣٣ ح ١١ عن جابر عنه (ع) وفيه عن أبي حمزة الثمالي عنه (ع): هؤلاء وفد شيعتنا من الجن جاءوا يسألوننا عن معالم دينهم (ح ١٢).

وفيه عنه (ع) أولئك إخوانكم من الجن أتوا يستفتوننا في حلالهم وحرامهم كما تأتوننا وتستفتوننا في حلالكم وحرامكم (ح ١٥) وكذلك (ح ١٦).

(٢) نور الثقلين ٥ : ٤٣٥ ح ١٨ عن احتجاج الطبرسي روى موسى ابن جعفر عن أبيه عن آبائه عن الحسين بن علي (ع) أن عليا (ع) قال لبعض اليهود : ان الشياطين سخرت لسليمان وهي مقيمة على كفرها ، وقد سخرت لنبوة محمد الشياطين بالايمان فاقبل اليه من الجن التسعة من اشرافهم واحد من جن نصيبين والثمان من بني عمرو بن عامر من الأحجة ، منهم شضاة ومضاة والهملكان والمرزبان والمازمان ونضاة وهاصب وهاضب وعمرو ، وهم الذين يقول الله تبارك وتعالى اسمه فيهم : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) وهم التسعة (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ).

١٧١

الرسول في تعليمهم (١).

(فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) والعجب ما لا يعرف سببه ، وكل ما يقرأ على الإنسان ويسمعه يعرف سببه اللفظي والمعنوي ، وإذ لا يعرف سبب هذا القرآن فهو إذا خارق للعادة ، وسببه غيب عن المعرفة والاكتناه ، فانه الله الذي لا يعرف بالذات مهما عرف بالآيات.

(يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) :

انه : قرآن ، عجب ، يهدي إلى الرشد ، أمور ثلاثة فيه تدفعنا إلى الإيمان به ، فما كل عجيب يهدي إلى الرشد فان الشعوذة والسحر أيضا عجب مهما عرف سببه لأهله ، وما كل ما يهدي إلى الرشد عجب ، ثم ليس كل هاد عجيب مما يقرأ ، فهذا القرآن يجمع بين إناقة الظاهر وعلاقته قرآنا يلفظ ويسمع ، وبين العجب في كيانه قلبا وقالبا غير مألوف ، يثير الدهشة في القلوب ، ذو سلطان على المشاعر الحية ، وذو جاذبية غلابة ، وبين هدايته للرشد عقليا وفطريا وأخلاقيا وعلميا وثقافيا وفي كلما تتطلبه الحياة الانسانية الخالدة.

هذه الميزات للقرآن يتفرع عليها الإيمان : (فَآمَنَّا بِهِ) إيمان بمن أنزله ، وكفر بمن سواه ، اللهم إلا من يدعو اليه كذريعة للايمان.

فالإيمان بالقرآن ، فبمن أنزله ومن انزل عليه ، إنه استجابة طبيعية مستقيمة لسماع القرآن وعيا في النفس ، دون حاجة إلى حجة سواه ، بل هو حجة الحجج ، تدل كالشمس في رايعة النهار ، دلالة رائعة فائقة العادة على من أنزله ومن أرسل به.

__________________

(١) المصدر ح ١٧ القمي في حديث : فجاؤا الى رسول الله (ص) فأسلموا وآمنوا وعلمهم رسول الله شرايع الإسلام ، فأنزل على نبيه (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ ..) السورة كلها ، فحكى الله قولهم وولى عليهم رسول الله منهم ، وكانوا يعودون الى رسول الله (ص) في كل وقت ، فأمر رسول الله (ص) امير المؤمنين (ع) ان يعلمهم ويفقههم ، فمنهم مؤمنون وكافرون وناصبون ويهود ونصارى ومجوس وهم ولد الجان».

١٧٢

واما انهم كيف اجتمعوا بالرسول لاستماع القرآن ، هل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ذهب إليهم؟ أم هم انصرفوا اليه؟ آية صرفهم وحضورهم توحي بالأخير : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ ... فَلَمَّا حَضَرُوهُ ... فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ).

وهي تلمح أيضا أن النفر هم وحدهم حضروه دون سواهم ، وتقول الروايات ان الملتقى كان بحراء ولم يكن معه من الإنس أيضا أحد ، ملتقى خاليا عن الأغيار (١).

(وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً

(وَأَنَّهُ) ضمير الغائب هذا للشأن ، وكما في الآيات التالية أيضا : (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) : استعراضات رسل الجن لقومهم بشأن الرسالة القرآنية ، وما كان منهم قبلها ، وكذلك قيام عبد الله (أي النبي) بهذه الرسالة السامية.

ف (جَدُّ رَبِّنا) فاعل ل «تعالى» : جملة وصفية تعني : تعالى عظمة ربنا عن اتخاذ الشركاء ، لا : انه «الله» تعالى ، جد لربنا ، رجوعا لضمير الغالب إلى الرب ، ليعني ان الله تعالى هو جد لرب الجن ، فربهم حفيده ، ولزامه اتخاذ الصاحبة للتوليد ، واتخاذ الولد ليولد الرب الحفيد ، وهم يصفونه بنفي الصاحبة والولد! (تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً).

__________________

(١) نور الثقلين ٤٣٠ : ٤ عن علقمة بن قيس قال : قلت لعبد الله ابن مسعود من كان منكم مع النبي (ص) ليلة الجن؟ فقال : ما كان منا معه احد ، فقدناه ذات ليلة ونحن بمكة فقلنا اغتيل رسول الله (ص) أو استطير فانطلقنا نطلبه من الشعاب فلقيناه مقبلا من نحو حراء فقلنا يا رسول الله! اين كنت؟ لقد أشفقنا عليك وقلنا بتنا الليلة بشر ليلة بات بها قوم حين فقدناك ، فقال : انه اتاني داعي الجن فذهبت أقرئهم القرآن ، فذهب بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ، فأما ان يكون صحبه منا أحد فلم يصحبه.

١٧٣

فهل ان رسل الجن ، المبعوثين من الله لحمل الرسالة الاسلامية إلى قومهم ، هل كانوا منحطين عقليا لهذه الدرجة ، لكي يعتقدوا بأن الله جد لربهم ، في حين ينفون عنه الصاحبة والولد ، فالجد له صاحبة وولد وحفيد ، فكيف الجمع بين هذين المتناقضين؟ وهم يحيلون الإشراك بربهم قبل هذا التقرير : (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) والله يقرهم على هذه التقارير ، وهم أنفسهم يسفهون جماعة منهم قالوا على لله شططا ، ومن أردئه أن لله صاحبة وولدا : (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) فما روي عن الصادقين عليهما الصلاة والسلام : أنه شيء قاله الجن بجهالة (١) إنه هو جهالة مفتعلة على الإمامين عليهما السلام ، ممن يجهلون معاني كلام الله ، وهنا نعرف مدى وجوب عرض الأحاديث على كتاب الله ليعلم الغث من السمين والخائن من الأمين.

ثم الجدّ لغويا هو العظمة كما في الحديث كان الرجل إذا قرأ سورة البقرة جد فينا وهو القطع ، وسمي الفيض الالهي جدا ، وهو الحظ والغنى كما في الحديث قمت على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها الفقراء ، وإذا أصحاب الجد محبوسون وهو الجلال كما في الحديث تبارك اسمك وتعالى جدك : إشعاءات عدة من هذه اللفظة الواحدة وكلها تناسب المقام.

فالله سبحانه متعالي العظمة عما يصغره بصاحبة وولد ، ومتعالي القطع ، منقطع عن مجانسة المخلوقين وقريب منهم بعلمه وقيوميته ، ومتعالي الغنى عما يفقره إلى الشركاء والأنداد والصواحب والأولاد ، ومتعالي الجلال عما يذلّله بصغار ، لا تبديل لجده إلى غير جد كالمخلوقين أيا كان جدهم ومهما كان فإنهم صغار وإلى صغار.

فاتخاذ الصاحبة والولد والشركاء ينافي علو جده ، فما أحسن شعور رسل الجن باستعلاء الله تعالى عن اتخاذ الأنداد والاضداد ، وما أقبح اللاشعور من مختلقي الأحاديث على الصادقين عليهما السلام أن هذه من جهالات الجن!.

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٤٣٥ عن القمي والخصال عنهما (ع) ح ١٩ ، ٢٠ ، ٢١.

١٧٤

هنا الجن تكذب خرافة اسطورية جارفة هي أن الملائكة بنات الله جاءته من صهر مع الجن (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) (٣٧ : ١٥٨) ، وكانوا هم أحرى أن يفخروا بهذا الصهر لو كان ، ولكنهم في هذه الآيات قذفوا هذه الخرافة المصدقة لتصورات المشركين ممن زعموا أن لله صاحبة وولدا ، وكما أن سفهاء الجن كانوا يتقولون على الله من هذه الترهات والشطحات.

(وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً. وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) :

والقول الشطط هو المفرط في البعد عن الحق ، كشط النهر حيث يبعد عن الماء بحافته ، وما أبعد شطط هذه القطاعة السفيهة من الجن عن هؤلاء الرسل منهم في استبعادهم واحالتهم الكذب على الله من قبيلي الانس والجن ، وهي عصمة في التفكير والعقيدة ، وطهارة بالغة في القلب ، ولكنها يجب أن تعدل بالوحي لكي لا يضلوا بحسن الظن ، فكان لا بد لهم من وحي القرآن ليدلهم على ضلالات الانس والجن ليجتنبوها ، كما يدلهم إلى صراط الحق ليسلكوه.

وقد يقال : إنهم قبل سماع القرآن كانوا يتبعون سفهاءهم في شططهم على الله ، لحسن ظنهم بالانس والجن كافة ، ثم اتضح لهم كفرهم فآمنوا ، ولكنه يتنافى وابتعاثهم الإلهي رسلا للجن ، وان الجن كانوا طرائق قددا (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ).

فهل يا ترى أن الله تعالى انتجب لرسالة الجن غير الصالحين المسلمين مع من فيهم من

الصلحاء؟ كلا! وانهم كانوا أصلح الصلحاء منهم ، على ظنهم ان لن تقول الإنس والجن على الله شططا ، وعلهم ما كانوا ليختلطوا معهم ، ثم بعد المخالطة عرفوا انهم على شطط وفي مقالة الكذب ، وزادهم الوحي عرفانا بالحق والباطل.

(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) :

(بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) دليل أن فيهم نساء فلهم ذرية ، و (كانَ رِجالٌ) يوحي بعلمهم بسابق الرهق والتضليل في سفهاء الجن ، قبل أن يسمعوا القرآن ، فظنهم

١٧٥

ان لن تقول الانس والجن على الله كذبا ، انه يسبق هذه المعرفة ، فرسل الجن هؤلاء على طهارة قلوبهم وصفاء ضمائرهم في حياتهم ، لقد مضت عليهم حالات ثلاث :

١ ـ (أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً).

٢ ـ (أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً ... وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً).

٣ ـ (أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً).

فهم إذا ـ طول حياتهم ـ كانوا بريئين من الشرك والشطط والكذب على الله.

ثم إن العوذ بغير الله هو اشراك بالله ، وانما يستعاذ بالله ممن سواه ، ولقد كان العوذة بالجن بين الجاهلين سنة ، زعم أن للجن قدرة مستقلة على النفع والضر ، فهم محكّمون في مناطق من العالم ، فكان رجال من الإنس يستعيذون برجال من بأس أشرارهم وشرهم ، رغم أن هذه العوذة الجاهلة الملعونة ما زادتهم إلا رهقا واضطرابا وضلالا وحيرة وقلقا تنوش قلوبهم المقلوبة الراكنة إلى الأعداء الضالين : (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) وهذا هو الضلال البعيد أن يستعاذ بالشرير من شره ومن أشرار حزبه ، ولا يستعاذ بالله الذي خلقهم وبيده ناصية كل شيء!.

فالقلب حين يلجأ إلى غير الله طمعا في نفع أو دفعا لضر ، لا يناله إلا زيادة الضر والرهق (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

هذه العوذة العارمة ترهق المستعيذ والمستعاذ به (فَزادُوهُمْ) : رجال الإنس رجال الجن وبالعكس ، وضميرا الغالب يتحملان كلا الاحتمالين ، فالمستعاذ به يغتر بهذه العوذة فيزداد ضلالا وإضلالا ، كما المستعيذ يزداد رهقا وعذابا.

(وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) :

(وَأَنَّهُمْ) هؤلاء الرجال الضالون من الانس (ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ) أنتم الرجال

١٧٦

من الجن ، ضلال كضلال وظنّ كظن : (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) (٦ : ١١٢).

أو (أَنَّهُمْ) رجال الإنس والجن الضالون السابقون (ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ) أنتم الموجودين من القبيلين ، خطابا لهما من رسل الجن ، عرفه الجن بما خوطبوا والإنس بما نزل به القرآن :

(أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) : لا بعث النبوة في حياة التكليف ، ولا بعث الحياة الأخرى في حياة الجزاء!! ترى كيف يجتمع الظن و «لن» وهي تحيل البعث والظن يرجّح عدمه؟ الجواب ان «ظنوا» يحكي عن واقع ما في أنفسهم ، إذ لا سبيل لليقين بعدم البعث : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (٤٥ : ٢٤) و «لن» تحكي عما يدعون من العلم بعدم البعث ، وعما يشهد له واقع اعمالهم وتصرفاتهم كأنهم على علم مما يظنون! وإن هم لا يظنون.

هذا ظنهم دون سناد إلى شيء ، فكما العلم بحاجة الى سبب كذلك الظن ، وهناك العقل والنقل والفطرة تدلنا على ضرورة البعثين كما نراها في طيات آياتها.

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً. وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً).

هنا رسل الجن يستعرضون لمسهم السماء للاستماع الى الملإ الأعلى ، أنهم كانوا يقعدون منها مقاعد للسمع دون حرج ولا حظر ولا خطر ، فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ، فهل إن الحرس الشديد والشهاب الرصد شيء جديد؟ آيات الشهب تقول إنها كانت منذ خلقت سماء الأنجم والشياطين الذين كانوا يسمّعون الى الملإ الأعلى!

أم أنما حصل جديدا هو ملء السماء حرسا شديدا أو شهبا ، مهما كانوا

(تفسير الفرقان ـ ج ٢٩ ـ م ١٢)

١٧٧

موجودين قبل ذاك دون شدة وكثرة؟ آيات الشهب لا تنفي الكثرة السابقة ، بل وقد تلوح إليها! : (وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ)!

إذا فهل الجديد منع الجن عن السماء بعد ما كانوا يلمسونها؟ آيات الشهب تصرح ان السماء بالملإ الأعلى كانت ممنوعة قبل ذاك أيضا! فما هو التوفيق؟

الجواب في كل الأطراف المعنية واضح وضح النهار ، من الآيات أنفسها : فآيات الشهب الثاقبة ، انما تختصها بدحر الشياطين المتسمعين للملإ الأعلى ، المسترقين السمع وليس لهم ، وأما الجن المؤمنون ولا سيما رسلهم الكرام فلا تمنعهم : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ. لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ. إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) (٣٧ : ١٠) (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ. وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ. إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) (١٥ : ١٨) (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) (٦٧ : ٥).

فلا الجن المؤمنون المتسمعون للملإ الأعلى ، ولا الإنس الذين لا يقدرون التسمع ، لم يكونوا ممنوعين ومدحورين ، وقد كان لرسل الجن هؤلاء مقاعد خاصة في السماء عند الملإ الأعلى فيها يسمعون ، وكان حقا لهم بما هم رسل يستمعون الوحي ثم يولّون الى قومهم منذرين ، فلما ابتعث خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم ملئت السماء كل السماء حرسا شديدا ومن الشهب الرصد ، السماء كل السماء ، وفي مقاعد الجن المؤمنين ايضا ، ولأن الوحي ختم بعد النبي ، وفي وحي القرآن كفاية عما كانوا يستمعون ، وزيادة عما كانوا يأملون ، فكان ولا بد من ان تملأ السماء حرسا شديدا وشهبا تدحر الجن كافرين ومؤمنين.

فالذي حصل جديدا زمن النبي الجديد أن السماء ملئت حرسا شديدا ، وفي مقاعد الجن المؤمنين ايضا ، بعد ما كانت خالية عنهم آمنة من دحرهم ، وشهابا رصدا لهم يمنعهم عن التسمّع الى الملإ الأعلى منعا ، دون مسّ من كرامتهم ، أو عذاب لهم واصب ، أو شهاب ثاقب يثقبهم كما كانت لمردة

١٧٨

الجن الشياطين ، إنما حرس شديد وشهاب رصد لصدّهم عن التسمّع الى أسرار الملإ الأعلى إذ عوّضوا عنها بوحي أعلى يصدرونه عن الرسول الخاتم محمد صلّى الله عليه وآله وسلم.

هنا الجن يقرّون أن الرسالة المحمدية منذ بزوغها هي التي ملأت السماء حرسا شديدا وشهبا ، لا منذ ولادته صلّى الله عليه وآله وسلم إذ قالوا : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) : قبل الآن (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) والآن هو آن استماعهم للقرآن لا آن ولادة نبي القرآن.

هذا ـ ومن الجائز كون تجنيد الحرس الشديد والشهاب الرصد ، منذ ولادة الرسول ، كذلك وملء السماء وفي مقاعد الجن المؤمنين دون تعرّض لهم ، ثم منذ الرسالة ونزول القرآن أخذوا في تنفيذ الأوامر الباتة لدحر المتسمعين من الجن كافرين ومؤمنين سواء.

فالنيازك النارية الراصدة بحرسها الشديد ، تحرق مردة الجن المسترقين للسمع دائما ، وتنبه المؤمنين منهم ، ولا ريب أنهم تركوا لمس السماء بعد إذ عرفوا أنهم ممنوعون ، تركوه بدافع الايمان ولا سيما أنهم مرسلون ، ثم سائر المؤمنين منهم مهما اخطؤوا في لمس السماء لاستماع اخبارها ، فعلّهم لا يثقبون بالنيازك الشهب كما تثقب مردة الشياطين ، وإنما يدحرون دحرا أو ينبهون مرة تلو الأخرى ، ولكي يختص الوحي وأخبار السماء بالرسول الختم ، ثم لا خبر ولا وحي بعد ارتحاله صلّى الله عليه وآله وسلم والى القيامة الكبرى.

فحريّ بهؤلاء الرسل الكرام أن يحتاروا في أمرهم : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) إذ انقطع عنهم خبر السماء ووحيه ، وكانوا ـ كرسل ـ يصدرونه الى أهل الأرض من الجن ، أشر أريد بهم؟ فظلوا في فتور الوحي أو فترته : (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) : بما علّه يعوّضهم عنه بما فيه رشدهم وأكثر مما كان ، فليس انقطاع خبر السماء رشدا لأهل الأرض إلا إذا عوّض عنها بما هو أرشد وأحرى ، وكما قالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً ..) فلم تكن أخبار السماء عجبا كما القرآن عجب ، فقد أراد ربهم بهم فيه رشدا.

١٧٩

فما روته الرواة خلاف النص أو الظاهر من هذه الآيات نضرب بها عرض الحائط ، كما يروى انه حيل بين الشياطين وبين خبر السماء (١) ، وكما اختلق على علي عليه السلام أن الشياطين ما كانوا محجوبين عن السماء وإنما حجبوا عنها لما ولد الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلم (٢) : غلطا على غلط حيث المنع كان منذ الرسالة لا الولادة ، والممنوعون هم مؤمنوا الجن بعد ما كان لهم مقاعد للسمع ، وأما كفارهم فقد منعوا منذ كانوا وكان الملأ الأعلى! ، وعجيب من أصحاب الحديث كيف يسجلون هذه الأحاديث المخالفة للآيات كأنها وحي نزل ، وكأن القرآن فرع بها يؤوّل ، ونحن لا نذكرها إلا ردا لها على كتاب الله وليذّكر أولوا الألباب!.

نكات على ضوء هذه الآيات :

١ ـ هناك في السماء ملأ أعلى هم أعلى محتدا ومنزلة ، من سواهم من الخليقة ،

__________________

(١) رواه الواحدي باسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ما قرأ رسول الله (ص) على الجن وما رآهم ، انطلق رسول الله في طائفة من أصحابه عامدين الى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء فرجعت الشياطين الى قومهم فقالوا : ما لكم؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب ، قالوا : وما ذاك الا من شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي وهو بنخل عامدين الى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر. فلما سمعوا القرآن استمعوا وقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فرجعوا الى قومهم وقالوا : انا سمعنا قرآنا عجبا يهدي الى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ، فأوحى الله الى نبيه (ص) (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) ورواه البخاري ومسلم ايضا في الصحيح.

أقول مهما رويت هذه الرواية في الصحيح وسواه فهي غلط إذ تنافي نصوص القرآن ـ تأمل.

(٢) نور الثقلين ٥ : ٤٣٦ ح ٢٤ عن احتجاج للطبرسي عن امير المؤمنين (ع): «ولقد رأيت الملائكة ليلة ولد تصعد وتنزل وتسبح وتقدس وتضطرب النجوم وتتساقط علامة لميلاده ، ولقد هم إبليس بالظعن في السماء لما راى من الأعاجيب في تلك الليلة ، وكان له مقعد في السماء الثالثة والشياطين يسترقون السمع ، فلما رأوا العجائب أرادوا ان يسترقوا السمع فإذا هم قد حجبوا عن السماوات كلها وقد رموا بالشهب جلالة لنبوة محمد (ص).

١٨٠