الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٠

(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً).

تلمح الآية أنهم سألوا الرسول متعنتين مستهزئين ، عن زمن العذاب ، كأنه يعلم من غيب الله شيئا ، فيؤمر أن يتجرد نافضا يديه من غيبه ايضا ، كما تجرد عن كل اختصاصة من اختصاصات الربوبية ، : قل إن أدري أقريب العذاب على الأبواب ، أم يجعل له ربي أمدا في الأولى ، أم الأمد العام لكل نفس لدى موته ، ـ فمن مات فقد قامت قيامته ـ أم أمد القيامة ، ولا علم لي لا بقربه ولا أمد من آماده الثلاثة ، فانه من الغيب :

(عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً).

(عالِمُ الْغَيْبِ) من اختصاصات الألوهية علم الغيب ، لا الغيب الذي يظهر بالتعلم أو التفكير أو الارتياضات النفسانية ، فإن بابه مفتوح لكل من دقه حقّه ، وإنما هو ما لا ينال بأية وسيلة غير إلهية ، وهذا الغيب منه مكفوف عمن سوى الله ، وحتى ملائكة الوحي ورجالاته ، فهو الغيب المطلق الذي لا يظهر ، ولا يظهر الله عليه أحدا ، ومنه مبذول لمن ارتضى من رسول ، يبذله لهم بالوحي دون أن يبذّله لغير المرتضين (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ)(١).

والإظهار على الغيب هو التغليب عليه ، إما تعليما كسائر الوحي في الكتب المنزلة على رجالات الوحي ، وحي الأحكام ووحي الوقائع : الغابرة والحاضرة

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٤٤٢ عن الباقر (ع) ان لله عز وجل علمين علم مبذول وعلم مكفوف فاما المبذول فانه ليس من شيء تعلمه الملائكة والرسل الا نحن نعلمه واما المكفوف فهو الذي عند الله عز وجل في ام الكتاب إذا خرج نفذ.

٢٠١

والمستقبلة ، كلّ حسب منزلته الرسالية فان الرسل درجات (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) فمراحل الوحي هذه من إظهار الغيب علميا.

وقد يكون تغليبا على الغيب عمليا ، علمه الرسول أم لم يعلمه ، كسائر المعجزات ، فمنها ما يظهر الله عليه رسوله علما بما فيه وعمل الواقع كمعجزة القرآن ، تجري على لسانه ، ويعيها قلبه ، ويطبقها بأركانه ، ومنها ما لا ينال الرسول إلا عمله ، فلا يملك علمه وحقيقته ، كإحياء الموتى وقلب العصا حية تسعى ، فإنهما من الغيب الخاص بالله ، يظهر عليه البعض من رسله عملا للتدليل على رسالتهم الإلهية ، فمعجزاتهم هي أفعال الله تجري بهم حجة لهم ، فمنهم من يعلمها كما يفعلها كإبراهيم (.. رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ..) إذ طلب من ربه أن يريه ويظهره على حقيقة إحياء الموتى ، ومنهم من لا يعلمها كما نفصله في آيات المعجزات ومنها (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (١٠ : ٢٠) تعني أن الآيات المعجزة هي من غيب الله ، لا تعدوه إلى سواه ، والرسل لا يملكون إلا إظهارها بإذن الله ، دون علمها إلا من أراه الله كإحياء الموتى لإبراهيم وكالقرآن لمحمد (ص).

فعلم الغيب مبدئيا خاص بالله ، والآيات التي تحصره بالله تعني العلم الذاتي بالغيب فلا تنافي علم من ارتضى من رسول ، فانه أيضا من علمه لا منهم كبشر ، وآية الإظهار هذه تغنينا من القيل والقال ، وتريحنا عن تفتيش الأقوال ونقدها ، فالتي تختص علم الغيب بالله إطلاقا ، هي بين ما تعني العلم الذاتي (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) (٦ : ٥٩) وقد يعلّم البعض منها من ارتضى من رسول (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) (٣ : ١٧٩).

وبين ما تعني مطلق العلم بالغيب ذاتيا وعرضيا و (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ... يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي

٢٠٢

نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ ، إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧ : ١٨٨) (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (٣١ : ٣٤).

فالغيب الواجب إظهاره للرسل هو المعجزات والشريعة ، وقد يخبرهم بمغيبات أخرى تؤيدهم في رسالاتهم ، وأما التي لا تمت بصلة للرسالة الإلهية ، وهي من شؤون الإلهية ، فلا يجب اظهار الرسل عليها ، وهي خاصة بالله تعالى ، وهي المعنية بالآيات التي تختصها بالله : (.. وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ... إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) (٦ : ٥٠) والوحي كما نعلم من علم الغيب الواجب إظهاره للرسل ، لأنه كيان الرسالة.

من هنا وهناك نستوحى ان ليس الغيب الإلهي مبذولا للرسل دون حدّ ، وإنما هو الغيب الكافل لحجة الرسالة وبلاغها ، وكما تفيده آية الإظهار : (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ..) فهو يظهر الغيب الداخل في شؤون الرسالة ، لا الخاص بشأن الألوهية ، وكما كان غير المرسلين محرومين من غيب الوحي كذلك المرسلون محرومون من غيب الربوبية ، وكما هم وسط بين الخلق والخالق في الرسالة ، كذلك هم وسط في علم الغيب.

فالرسل الذين يرتضيهم الله لتبليغ دعوته ، يطلعهم على جانب من غيبه ، ما يتعلق بموضوع رسالتهم ، دون المتعلق بشأن الربوبية ، إنما ما هو حجة بالغة لرسالاتهم ، وما هو المقصود منها من شرائعهم ، وآيات الغيب ترمي الى هذا الاختصاص المبدئي بالله ، والتعميم العرضي للرسل في حدود رسالاتهم ، ما يعاونهم على تبليغ دعوته ، يكشفه لهم منذ الرسالة وطوال الدعوة ، وهو مع ذلك يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا :

٢٠٣

(فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) فان الله يسلك : ينفذ ـ من بين يديه : يدي الغيب والمرسل إليه بالغيب ، ومن خلفه ، ينفذ من هنا وهناك : رصدا ليعلم : هنا النص يوحي كيف يتنزل الغيب بالوحي على الرسل المرضيين ، من البداية وحتى النهاية وهي إبلاغ الرسل غيب الوحي للمرسل إليهم :

فبما أن الرسل بشر وأن الشيطان يلقي في امنياتهم ، فهم بحاجة الى حفظ وعصمة إلهية في تلقي الوحي وإلقائه وتنفيذه من عدة جهات (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) (٣٢ : ٥٢) كما وان (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) (١٣ : ١١).

فالله تعالى ينفذ الوحي الغيب إلى من ارتضى من رسول ، وينفذ من بين يديه ـ قبل وصوله الى أن يوصل ـ رصدا : رقباء يحفظونه من خلط ودس الشياطين ، وليبلغ الى الرسل سليما ، وينفذ من خلفه : بعد البلوغ والبلاغ أيضا ، رصدا ليسدوا عن الرسول إلقاءات الشيطان ، وليراقبوه في إبلاغ الرسالة وتنفيذها : ازدواجية العصمة للرسل المرضيين من جهتين : الرسل الرصد من بين يدي الرسول ومن خلفه ، وروح العصمة التي ترصد الرسل في دواخل ذواتهم ، ارصادا من الداخل والخارج لكي يصل الوحي الغيب الى الهدف الأخير : اقامة المرسل إليهم على الهدى ، دون تدخل للشيطان ، ودون تخبط وخلط وشبهة في هذه السبيل ، وبذلك ليس للشيطان سبيل على الرسل على طول الخط في تلقي الوحي والقائه وتنفيذه ، فتمني الرسل ليس الا تنفيذ الرسالة الإلهية ، وإلقاء الشيطان في امنية الرسل ـ كما تقول الآية ـ ليس إلا في واقع التنفيذ ، ان الشيطان يخلط الرسالة على المرسل إليهم ، والله ينسخ هذه الإلقاءات ويحكم آياته واقعا كما أحكمها في وحيها الى حملة الرسالات : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) فالمرسلون المرتضون

٢٠٤

ليسوا من الغاوين حتى يلقي الشيطان في قلوبهم وأفكارهم ووحيهم ، وهو اشرّ السلطان والغواية الكبرى! وهم من عباد الله المخلصين ، فيلغى شمول آية الإلقاء عن ساحة المرسلين ، الى المرسل إليهم ، والله ينسخ عنهم أيضا إلقاءات الشيطان ثم يحكم آياته.

كل ذلك علامة لمن لا يعلم : أن قد أبلغوا رسالات ربهم (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) :

ليعلم الله ، من العلم بمعنى العلامة ، لا العلم ، فانه يعلم السر وأخفى! : (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) فهو إذ يحيط بما لدي الرصد والرسل ، وإذ يحصي كل شيء عددا ، إذا كيف تكون الغاية من سلك الرصد أن يعلم الله سبحانه؟ أعن جهل وهو المحيط المحصي؟ كلا! انه علم وليس علما ، انه تعالى يجعل الرصد على طول الخط في بلاغ وتنفيذ الوحي ، ويجعلهم علامة لهم ولملك الوحي ، وللتبين (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ).

وكما ليس (لِيَعْلَمَ) من العلم ، كذلك لا يرجع ضميره الى الرصد فإنهم جمع وهو مفرد ، ولا الى محمد صلّى الله عليه وآله وسلم إذ لم يسبق له ذكر (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) وهو جمع يعم الرسل أجمع ، ولأن وحدة السياق تحكم أن صاحب الضمير في الأحوال الثلاث «يعلم ـ أحاط ـ أحصى» واحد ، وهو الله الذي أحاط بما لدى الرسل وأحصى كل شيء عددا.

فهو الذي يسلك بين يدي الغيب والرسول ومن خلفه ، رصدا مراقبين ، ليجعل هذه الرقابة الشديدة على غيب الوحي علامة : ان قد أبلغوا رسالات ربهم : حال أنه أحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا ، فليس هو بحاجة إلى علامة البلاغ ، وإنما رسله الملائكة والبشر وكذلك المرسل إليهم.

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) : يعلم غاية لسلك الرصد ، و (أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) يلمح لحدود الغيب الإلهي الذي يظهر عليه رسله ، انه ليس إلا للبلاغ ، بلاغ الرسالة بغيب المعجزات ، وبلاغ الرسالات بغيب

٢٠٥

التشريعات ، دون أن يصبح علمهم بغيب الله أو غلبهم به عمليا ، يصبح من الكمالات الذاتية والحظوظ العقلية والعلمية ، فلا تعني الآية ظهور الرسل على كل غيب ، ولا الغيوب التي لا تمت بصلة لرسالتهم ورسالاتهم ، وإنما التي تهمهم كرسل مبلغين عن الله ، لا كمرتاضين يخبرون عن الغيوب العادية لحظوظ نفسانية وغايات تجارية وسباقات في ميادين المفاخرات.

فلئن سئلنا ـ إذا ـ لو كان الظهور على غيب الله خاصا بمن ارتضى من رسول فكيف يعلمه المرتاضون غير المرسلين ، مرضيين وغير مرضيين؟ وكيف يعلمه الأئمة المعصومون وهم ليسوا بمرسلين؟

والجواب كما لمحنا اليه مسبقا ، ان المعني من غيب الله ما لا يحصل بأي سبب من تعلم وارتياض إلا بالوحي ، وليس غيب المرتاضين من غيب الوحي ، فهو يحصل بصناعة الارتياض للمؤمن والكافر سواء.

واما الأئمة المعصومون فليس غيبهم بالوحي وإنما بما أودعهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من غيب الوحي (١). وهم أبواب علمه واستمرار لكيانه الرسالي.

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٤٤٢ عن الامام الصادق (ع) قال : ان لله عز وجل علمين : علما عنده لم يطلع عليه أحدا من خلقه ، وعلما نبذه الى ملائكته ورسله ، فما نبذه الى ملائكته ورسله فقد انتهى إلينا.

أقول : وهذا الحديث متواتر معنويا عنهم عليهم السلام. راجع المصدر.

٢٠٦

سورة المزمل ـ مكية ـ وآياتها عشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ

٢٠٧

مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٠)

* * *

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) يؤمر نبي الله (ص) ـ بعد أمره بقراءة الوحي: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) وبعد حمله الرسالة الكبرى ـ يؤمر هنا بالقيام ليلا وبالسبح الطويل نهارا ، ويؤمر في المدثر بقيام الإنذار وتكبير الرب ، وعلّ القيام الثاني هو

٢٠٨

السبح الطويل نهارا ، والقيام الأول لتهيؤ الثاني : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً ، إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) فليعش الرسول الأقدس حياته قياما دون فتور ، وسبحا في بحر المجتمع المتلاطم ، لينجّي الغرقى فانه سفينة النجاة.

يوحي النص (الْمُزَّمِّلُ) بأنه كان متزملا حين الأمر ، ولماذا؟ وفي رمضاء الحجاز!لا بد وأنه من وطأة وفجأة ، أوطأة الوحي الثقيل الذي بزغ له قبل قليل؟ كما قيل (١) أم الحملة العنيفة السافرة في وجهه من صناديد قريش؟ (٢) كما توحي له آيات من السورة : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ... ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) فتزمل من رعشة الوطئة ، فأمر بالقيامين في المزمل والمدثر ، قياما لتنفيذ الرسالة ومجابهة عراقيلها ، دون أن يتزمل ويتدثر.

(قُمِ) إنه لا يناسبك التزمل والتدثر ، فليكن دثارك القيام وزميلك الإقدام ليلك ونهارك ، (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) قدر الضرورة الذي يساعدك في قيامك ، فليكن مبدؤك القيام حتى في أوقات المنام رغم أن الناس نيام.

أنت تتلفف بثوب لتنام دفعا لهمّ الإيذاء ، وغم الاستهزاء ، وتخفيفا من وقعة

__________________

(١) أدركته رجفة الوحي حتى جثى وهوى الى الأرض وانطلق الى اهله يرجف يقول «زملوني. دثروني» ففعلوا وظل يرتجف مما به من الروع وإذا جبرائيل يناديه «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ».

(٢) الدر المنثور ٦ : ٢٧٦ ـ اخرج البزار والطبراني في الأوسط وابو نعيم في الدلائل عن جابر قال اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا : سموا هذا الرجل اسما تصدر الناس عنه فقالوا : كاهن ـ قالوا ليس بكاهن ، قالوا : مجنون ـ قالوا : ليس بمجنون ـ قالوا : ساحر ـ قالوا : ليس بساحر ـ قالوا : يفرق بين الحبيب وحبيبه فتفرق المشركون على ذلك فبلغ ذلك النبي (ص) فتزمل في ثيابه وتدثر فيها فأتاه جبرائيل فقال :«يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ».

(تفسير الفرقان ـ ج ٢٩ ـ م ١٤)

٢٠٩

الوحي؟ لا! بل عليك القيام ، والاستعانة بالصبر والصلاة ومكافحة الكروب العظام ، والنوائب الجسام.

(قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) قم للأمر العظيم والقول الثقيل الذي سيلقى عليك ، والعبئ المهيأ لك ، قم فقد مضى وقت النوم ، قم فأنت لست لتعيش لنفسك ، ولقد عرف الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم هذا الأمر مسبقا من ملامح الوحي وقدّره ، فقال لخديجة رضي الله عنها ـ وهي تدعوه أن يطمئن وينام ـ : «مضى عهد النوم يا خديجة»!.

أجل ـ انه مضى وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الشاق والسبح الطويل في بحر المجتمع المتلاطم.

(قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) :

يخيّر نبي الله هنا في قيام الليل ونومه بين مقادير أربعة : ١ ـ قيام الليل إلا قليلا : ثلثيه فما فوق ، فأكثر القليل منه ثلثه ثم أقل وأقل (١) ٢ ـ نصفه ، وهو ليس قليلا من الليل ، وإنما نصفه عدلا بين قيامه ونومه إذا احتاج اليه ، ٣ ـ أقل من النصف ، أن ينقص من نصف القيام قليلا ٤ ـ أكثر من النصف أن يزيد على نصف القيام ، فأكثر الواجب في قيامه من ثلثي الليل وما فوقها ، وأقله أقل من النصف قليلا ، وبينهما متوسطات ومنها نصفه.

نرى التركيز هنا وهناك على قيام الليل ـ أيا كان ـ دون تصريح بنومه إلا ايحاء الضمائر : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) ابتداء بقيام ثلثي الليل ، ثم «نصفه» أو قم نصفه «أو انقص منه قليلا» : انقص من نصف القيام قليلا «أو زد عليه» :

__________________

(١) فما يروى ان القليل المستثنى من الليل هو نصفه خطأ او جهل من الرواة لا المروي عنه كما رواه في المجمع عن الصادق (ع) قال : القليل النصف.

٢١٠

زد على نصف القيام ، فنصيب النقص ليس إلا قليلا ، ونصيب الزيادة لا حد له إلا قدر المستطاع.

فطالما الليل سكن ونوم للناس لاستراحة البدن ، ولكنه قيام لرسول الله إلى الناس ليشد وطأه ويقيم قيله ، تأزيرا لقوة القلب والروح ، وتقويما لنطق اللسان.

فعلى رسول الله قيام الليل قدر المستطاع ، كله أحيانا وأكثره أخرى ونصفه أحيانا وينقص منه قليلا أخرى ، ولكنما الزيادة على النصف قدر المستطاع هو المرغوب الأصل (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ).

فأكثر الواجب إذا قيامه ثلثي الليل (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) كما ويؤيده (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) فليكن الواجب مخيرا بين ثلثيه ونصفه وثلثه فأقله ثلث الليل (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) فنقص القليل من النصف ثلث النصف ، فيبقى ثلث الليل (١).

(أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) ولماذا ثلثا الليل ، ولماذا الزيادة على النصف والنصف أيضا ، ألصلاة الليل ولا تشغل إلا سويعات؟ كلا ـ وإنما الزيادة لترتيل القرآن ، تخلقا بأخلاق الله في تنزيله : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (١٧ : ١٠٦) وفي ترتيله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٢٥ : ٣٢).

وترتيل القرآن هو إرساله بسهولة واستقامة ، سهل التعبير ، مستقيم المعنى وكما يروى عن النبي (ص) إذا قرأت القرآن فرتله ترتيلا وبينه تبيينا ، لا تنثره نثر الدقل ولا تهذه هذ الشعر ، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ، ولا يكونن هم أحدكم آخر السورة (٢).

__________________

(١) نفرض ان الليل ١٢ ساعة فنصفه ٦ ساعات فإذا نقص منها ساعتان يبقى أربع ساعات وهي نصف الليل المفروض.

(٢) الدر المنثور ٦ : ٢٧٧ أخرجه الديلمي عن ابن عباس مرفوعا عنه (ص). وأخرجه العسكري في المواعظ عن علي (ع) عنه (ص).

٢١١

أقول : وهذا من مقربات الفهم ومجذبات الإتباع ، فقد فرق الله القرآن طوال البعثة دون أن ينزله جملة واحدة ، ليثبت به فؤاد الرسول وليقرأه على الناس على مكث ، ورتله عليه بتسهيل التعبير والمعنى ليرتله هو أيضا ترتيلا ، وهو يعم اللفظ والمعنى تعبيرا وأداء وسبكا وكيفية (١) ، كل ذلك لسهولة الإلقاء والتلقي متحللا عن كافة الصعوبات هنا وهناك ، وهذا هو معنى الإعجاز في فصاحة التعبير وبلاغة المعنى ، فليس التشابه في بعض الآيات من قصور الدلالة ، وإنما من قصور المستدل ونبوغ المعنى ، وعلى حد تعبير الامام الرضا عليه السلام المتشابه ما اشتبه علمه على جاهله.

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) فما هذا القول الثقيل الذي سيلقى عليه ، ولكي يتلقاه عليه أن يقوم لياليه مصليا مرتلا للقرآن؟.

هل هو القرآن ولو بعضا منه؟ وقد نزل عليه بعضه وأمر بترتيله! أم هو البعض الباقي : أكثره؟ فما هو الفرق بين قليله وكثيره ، وكله ثقيل بأي معنى قيل! أم هو القرآن المحكم النازل عليه ليلة القدر ، بين هذه السورة وبينها أقل من شهرين؟ علّه هو ، إضافة إلى باقي القرآن المفصل ، ففي القرآن المحكم النازل عليه دفعة واحدة ، الملقى عليه ليلة القدر ، ان فيه ثقلا ليس في مفصله النازل عليه نجوما طوال البعثة ، ثم يتلوه ثقل الباقي من مفصله وهو أكثره ، وفي وحدة القول هنا «قولا» وانه يلقى «سنلقي» شاهد لفظي على أنه القرآن المحكم ، إضافة إلى القرينة المعنوية المسبقة.

__________________

(١). وعن الامام الصادق (ع) ان الترتيل هو ان تتمكث فيه وتحسن به صوتك ، وفي الدر المنثور ٦ : ٢٧٧ عن النبي (ص) قال : يقال لصاحب القرآن يوم القيامة اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فان منزلتك عند آخر آية تقرؤها وفيه سئل (ص) اي الناس احسن قراءة؟ قال : الذي إذا سمعته يقرأ رأيت انه يخشى الله.

٢١٢

ان القرآن قول ثقيل لعظم قدره ، ورجاحة فضله ، وخلوده ، دون أن يمسه نسخ أو تحريف ، وقد يثقل الأمة المتمسكة بحبله ، المنفذة لأحكامه ، ولذلك سماه الرسول (ص) أكبر الثقلين وأعظمهما وأطولهما وأتمهما فيما تواتر عنه ، وسمى عترته الثقل الأصغر.

ولقد كان القرآن ثقيلا لدى الله في أم الكتاب (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٤٣ : ٤) فعلوّه هناك وحكمته : ثقله ، ثم نزل ليلة القدر دفعة ، ثم طوال البعثة نجوما ، نزل ثقيلا على الرسول (ص) حيث يقول : «فما من مرة يوحى إليّ إلا ظننت أن نفسي تقبض» (١) «فانه كان يتغير حاله عند نزوله ويعرق ، وإذا كان راكبا تبرك راحلته ولا تستطيع المشي» (٢) وهذا ثقله في القرآن المفصل ، ثم القرآن المحكم المجمل النازل ليلة القدر يزداده ثقلين ١ ـ نزوله دفعة دون تفاصيل ٢ ـ إلقاءه عليه دون وساطة ملك الوحي ، إذ لم يكن بينه وبين الله أحد ، إذا فالقول الثقيل الذي سيلقى عليه هو القرآن المحكم ، إضافة إلى باقي المفصل النازل عليه مفصلا : ثقلا على ثقل.

هذا ثقله في وحيه وقبله ، ثم هو ثقيل في ميزان الحق ـ فان موازينه ثقيلة لا تخف أبدا ـ ثقيل في تطبيقه ، ثقيل على الاخفّاء الناكرين له ، فلا بد من ثقله في قلبه المنير لحدّ يفرغ قلبه عما سواه من مقال كما فرغ عمن سوى الله ، ولقد أثر في قلبه هكذا ولحدّ كان يثقل على قالبه ، فصاحب هذا القلب بحاجة في تلقي هذا الفيض الثقيل إلى مراس في تزكية قلبه بقيام لياليه بترتيله وذكر الله.

هذا هو القول الثقيل ، فإن القرآن ليس في معناه ثقيلا ولا في تفهمه وتذكره : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) فقوله ـ إذا ـ ثقيل من حيث المقول ، وكيفية إلقائه ، وعرقلات تنفيذه.

__________________

(١). الدر المنثور (٦ : ٢٧٨) عن عائشة عنه (ص).

(٢). نور الثقلين (٥ : ٤٤٧) عن عبد الله بن عمر.

٢١٣

إنه لا بد للرسول إلى الناس كافة ـ وكثير منهم من النسناس ـ أن يحمل هذا القول الثقيل ، لأن التعامل مع الحقائق الكونية الكبرى ثقيل ، والاستقامة على هذه الرسالة الشاملة الأخيرة وراء الهواتف والجواذب والمعوقات والعراقيل ، إنها لثقيل ثقيل ، فلا بد له في ميادين الكفاح من حمل هذا القول الثقيل ، فليتزود من قيام الليل لتلقي هذا الثقيل ، ولكي يسبح في نهاره الطويل سبحا طويلا.

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) ثقيل المصدر والصدور ، ثقيل المحتد والدوام ، ثقيل المنزل والنزول ، ثقيل التنفيذ مستحيل الأفول ، على سلاسة تعبيره ، ونفاذ أمره وعبيره.

(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً).

فرض عليك ـ كرسول إلى الناس كافة ـ قيام الليل لدوافع ومنافع عدة : ١ ـ (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) فلا بد له من التهيؤ ٢ ـ (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) لا يبقى لك معه مجال القيام بالصلاة وترتيل القرآن ٣ ـ (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) : فناشئة الليل هي العبادة التي تنشأ بعد العشاء ، نشوء النور في الظلام ، فالعبادة التي هي وليدة الليل وناشئته ، تفضل على عبادة النهار من حيث الوطء والقيل ، ولقد كان قيام الرسول (ص) بعد العشاء بسويعات منامه القليل ، وهو إذ أمر بقيام الليل كان أمرا بقيامه : عن النوم ، وبالعبادة ، تهجدا في أثنائه ، وترتيلا للقرآن في آنائه.

(هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) : مواطاة : يواطئ فيها السمع القلب ، واللسان العمل ، لقلة الشواغل العارضة ، واللوافت الصارفة ، ولأن البال فيه أجمع ، والقلب أفرغ ، فالقراءة فيه أقوم ، والصلاة اسلم.

هي أشد مواطأة هكذا ، ولأنها أشد وطأة : أوعث مقاما وأصعب مراما ، فان مغالبة هتاف النوم وجاذبية الفراش ، بعد كدّ النهار وسبحه الطويل ، لها وطأتها وشدتها التي لا يطيقها إلا المخلصون ، فناشئة الليل ووطأته أشد.

٢١٤

(وَأَقْوَمُ قِيلاً) لأن قيله ثقيل إلا على الخاشعين ، وأنه يصدر من لباب القلب وخالق القلب أعلم بمداخله وأوتاره ، وما يتسرب اليه ويوقع عليه ، وأي الأوقات يكون فيها أكثر تفتحا واستعدادا ، فللصلاة فيها خشوعا ، وللمناجاة شفافيتها ولترتيل القرآن نورانيتها : إذا فوطأتها أشد ، وقيلها أقوم ، فإعدادها لسبح النهار ـ الطويل ـ أتم.

(إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) ولا يناسب السبح إلا في غمرات المياه المضطربة الواسعة الفسيحة ، فان لك اضطرابا في غمرات المجتمع ، وتقلبا في جهاته ، ومتصرفا ومتسعا ، ومذهبا منفسحا ، تقضي فيه أوطارك ، وتبلغ مآربك ، وتنجي الغرقى من ورطات الغمرات العميقة ، وتحارب أمواجه الضاربة في الأعماق ، المضطربة ، فهذا السبح الطويل في نهارك ، بحاجة إلى تسبيح طويل في ليلك ، تسبيح يعدك للسبح ، ولكي تنجو من ورطاته ، وتنجي الناس جميعا من غمراته ، فانك سفينة النجاة!.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) : فقيامه (ص) يشمل ناشئة الليل ، بصلاته وترتيل القرآن ، وذكر اسم الرب ، والتبتل اليه تبتيلا ، وليأخذها زادا في سبحه الطويل.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) : ولأنك تحمل في رسالتك بلاغ الربوبية والتربية الإلهية ، فعليك أن تذكر اسم ربك بقلبك ، فهو مصدر الذكر ومورده أولا وبقالبك : بلسانك وجوارحك وفي كافة تصرفاتك ، ذكر القلب الحاضر مع اللسان الذاكر ، وأكمله الصلاة فانها كلها ذكر الله وتحميده وتمجيده وتعظيمه بالأقوال والأفعال والإشارات.

(وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) .. هكذا ذكر شامل كامل يبتّلك إلى ربك ، فالانقطاع إلى الله على قدر الواقع من ذكر الله ، والتبتل إلى الرب هو الانقطاع الكلي عما سواه والاتجاه التام اليه ، والانفلات من كل شاغل وخاطر ، لكنما المرجو من تبتلك أن يحمل معه التبتيل (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) لا «تبتلا» تبتلا لك يحمل

٢١٥

تبتيلا لمن أرسلت إليهم ، فكما كان قيامك بالليل تهيؤا لتلقي القول الثقيل ، ولتسبح نهارك الطويل ، كذلك ليكن تبتلك للتبتيل.

فليس الإتيان بالتبتيل هنا لمجرد رعاية الوزن والتجميل «طويلا. تبتيلا» فالقرآن كتاب معنى قبل أن يحمل الوزن في التعبير ، وقد يناسب وزن المعنى وزن التعبير كما هنا (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) تبتلا ينحو في طياته منحى التبتيل لتنقطع إلى الله ، لك كمحمد ، وللمرسل إليهم كرسول ، فكما على الرسول أن يتبنى شخصه ليصلح لحمل الرسالة ضمن صناعة نفسه كعبد شكور ، فعليه ـ كرسول ـ أن يتبنّى المجتمع الذي أرسل إليهم.

ثم هناك نكتة أخرى هي أدق وأرقى : أن المنقطع إلى الله مشغول عما سواه والمنقطع إلى ما سوى الله مشغول عن الله ، فالجمع بين التبتل ـ وهو الاشتغال التام بالله ـ وبين التبتيل ، وهو الاشتغال بغير الله ليقطعهم عما سوى الله : ان هذا الجمع لصعب مستصعب ، لكنما الرسول يؤمر في تبتله بالتبتيل ، ففي حين انه مشتغل بالله عما سواه ، إنه يشتغل بما سواه لتوجيههم إلى الله ، وهذا هو مقام الجمع في الوحدة والوحدة في الجمع ، يسبح نهاره طويلا في الدعوة إلى الله ، ويلاقي الصعوبات والحرمانات في الله ، وهو متبتل إلى الله ومبتّل سواه عما سوى الله ، فذكره ذكر واحد ، وعمله واحد ، طالما يختلف في صور الصلاة وترتيل القرآن وذكر الله ، وفي الجهاد والدعوة إلى الله ، فإنه ينحو في هذا السبح الطويل منحى الله ، فتبتّله تبتيل ، وتبتيله تبتّل!.

ولطيفة ثالثة : هي أن التبتل هو تقبل للبتل ، والتبتيل هو فعله ، فقد يعنى بالأول قبوله العصمة الإلهية في انقطاعه إلى الله ، وبالثاني محاولته لانقطاعه ومن سواه إلى الله ، والنتيجة أن انقطاعه الخاص إلى الله ليس من فعله هو فحسب ، وليس تسييرا إلهيا فحسب ، وإنما هو أمر بين أمرين ، جذبة إلهية متممة لمحاولة الانجذاب والانقطاع إلى الله ، وكما العصمة في كافة مراحلها ليست إلهية خالصة ولا بشرية خالصة ، إنما هي سعي حسب المستطاع من المعصوم في البداية ، ثم جذبة الهية ، ثم سعي ثان يوافق ويساير تلك العصمة الخاصة الإلهية.

٢١٦

فحاصل المعنى من الآية أنه (ص) أمر بتبتل التبتيل : ينقطع إلى الله على ضوء توفيق الله ، وسعيه هو كما يناسب تبتل العصمة ، وفي نفس الوقت يبتّل غيره الى الله ، ثم لا يشغله الاشتغال بغير الله في رسالته ، عن الله ، معان ثلاثة هامة تعنى من كلمات ثلاث (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً).

وليكن كذلك (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) : انه ذكره تعالي في نفسه وأعماله وعلاقاته الشخصية مع الله (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) وذكره في نفس الوقت لمن أرسل إليهم (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) (٤ : ٦٣) دون تفاوت بين الذكرين ، فإنهما ذكر واحد لله ، كما ان تبتله واحد لله.

(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً).

لئن سئلت : لماذا التبتل اليه وحده لا سواه؟ فالجواب أنه «ربك» لا فقط بل و (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) : العالم كله بما أنه لا يخلو من شارق وغارب أيا كان ، فالكون كله بين مشرق ومغرب ، لا يخلو عنها أي كائن ، ولأنه رب الكائنات أجمع. ف «لا إله إلا هو» ولربوبيته المطلقة وألوهيته الوحيدة (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) فالتوكل عليه هو التوكل على القوة الوحيدة في الكون كله ، وهو وحده الثمرة المباشرة للاعتراف بوحدانيته ، والرسول المنادى بالقيام وبالسبح الطويل نهار الدعوة ، إنه في حاجة ماسة لعبثه الثقيل في طريقه الشاق الطويل ، إلى تبتل إلى ربه وتوكل عليه ، ولكي يكافح كافة العراقيل في سبيله.

بديهي أن الإنسان وكل كائن أيا كان ، لا يستطيع أن يحيى حياة سعيدة ويحيي غيره بها ، بطاقاته الشخصية ، فلا بد له من وكلاء واعون ، وبما أن من سوى الله كيانهم الفقر إلى الله ، لا يملكون إلا ما ملّكهم الله ، فلا غنى في توكيلهم مهما كانوا أقوياء ، فهم بين قاصر ومقصر ، فكيف يتوكل عليهم ، وإنما الله وحده هو الذي يحق أن يتخذ وكيلا ، ولا يتخذ هو وكيلا ، وبينما نحن موكلّون وموكلّون ، لم يكن الله إلا وكيلا ، فيما اتخذناه وكيلا وما لم نتخذه

٢١٧

وكيلا ، فالوكالة هي الاعتماد ـ فيما تقصر عنه القدرة والعلم والحياة ـ على من له هذه القدرات أكثر من الموكل ، أو ما يقصر عنه الوقت لكثرة الأشغال ، والخلق كلهم قاصرون في هذه وتلك : مهما كان البعض أقوى من البعض ، ولذلك يتوكل الضعيف على القوي ، ولكنه لا غنى في هذه الوكالة القاصرة ، وإنما الوكالة الإلهية هي الكافية الكافلة لما نبغيه ، بعد ما كلّت مساعينا عن الوصول إلى المأمول ، ما لم يكن خلاف الحق والمصلحة : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (٦٥ : ٣).

إن أسس الوكالة الناجحة غير الفاشلة ، لا توجد إلا في الله لا سواه : من سعة العلم: (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) (٧ : ٨٩) والعزة والحكمة : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٨ : ٤٩) والحكم في التكوين والتشريع : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (١٢ : ٦٧) وانه المرجع للأمر كله : (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) (١١ : ١٢٣) ولحياته السرمدية : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) (٢٥ : ٥٨) وبصورة جامعة لأنه الله لا إله إلا هو كما في عشرات الآيات ، وهو خالق كل شيء وبذلك هو الوكيل على كل شيء دون توكل ، وعلى ما نبغيه مما له نسعى وإياه نطلب بالتوكل : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (٦ : ١٠٢) فلولا وكالته تعالى على كل شيء لخرجت إلى اللاشيء ، ولولا التوكل عليه لكلت المساعي دون الوصول إلى ما نبغيه من شيء.

إنه ليست هناك وكالة إلهية لأحد على أحد ولا للرسول : (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (١١ : ١٢) اللهم إلا وكالات فاشلة جزئية لا غنى فيها عن الوكالة الإلهية ، ولا تعني وكالة الله بطلان المساعي والأسباب ، وإنما نقصانها ، ولذلك تتم الأسباب والمساعي بالتوكل على الله خالق الأسباب والساعين (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (٤ : ٨١).

فالمسموح فيه هو السعي وتوكيل الغير بغية الوصول إلى المأمول ، والمحظور

٢١٨

هو التوكل على غير الله ، على نفسه أم سواها ، فالله يوكّل ويتوكّل عليه ، ومن سواه يوكل ولا يتوكل عليه ، وعلينا وكلاء وموكلين جميعا أن نتوكل على الله في إطارات ثلاث : نتوكل عليه فيما نعمل رجاء النجاح ، ونتوكل عليه فيما نأمل من وكلائنا ، ويتوكل وكلائنا على الله فيما توكلوا فيه من موكليهم ، فإليه يرجع الأمر كله. وكفى بالله وكيلا.

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً. وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَ (١) مَهِّلْهُمْ قَلِيلاً).

إن الصبر على تقولات الكافرين ، وهجرهم هجرا جميلا ، وعلى تكذيبهم لهذه الرسالة السامية ، كل ذلك دليل أن المزمل نزلت بعد المدثر ، نزلت بعد ظهور الدعوة ومجابهتها العراقيل ونعرات الفرية والتكذيب ، كما وان السبح الطويل نهاره ، دليل على أن المزمل نازلة بعد تطبيقه القيام السافر العام في المأمور به في المدثر ، وبذلك تؤيد الرواية الثانية أنه (ص) تزمل ذعرا ساخطا على تقولات قريش في ندوتهم الكافرة : انه ساحر أو مجنون نتربص به ريب المنون.

فهنا يؤمر الرسول بالصبر والهجر الجميل والتمهيل القليل ، بدل الجزع أو المقابلة بالمثل أو التنكيل ، وانه صبر لصالح الدعوة ، لا صبر المسايرة والاستسلام صبر يحمل كل جميل في الدعوة ، للداعي والمدعوين.

فالأمر بالصبر هنا يعني عدم الجزع الدافع الى الفرار عنهم : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) (٦٨ : ٤٨) (.. إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) (٢١ : ٨٧) خروجا عن الدعوة وفرارا عن المرسل إليهم ، وكذلك عدم التزمل والوقوف عن الدعوة ، أو النقص فيها والتمهل عنها : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) (١٠ : ١٠٩) وعدم التحزن عليهم : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) (١٦ : ١٢٧) وعدم الاستعجال لهم بالدعاء عليهم : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) (٤٢ : ٣٥) وأن يكون استقامة في الدعوة واتكالا فيها على نصر من الله : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ

٢١٩

فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) (٥٢ : ٤٨) لا صبر المسايرة والطاعة لهم والانفلات عن الدعوة : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) (٧٦ : ٢٤).

وأخيرا الصبر عليهم نظرة النقمة الإلهية على الصامدين منهم في الكفر : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً. وَنَراهُ قَرِيباً) (٧٠ : ٦).

فالصبر منه جميل ، كهذه ، ومنه قبيح : كالصبر على هدر الأموال والنفوس وانتهاك الدين والناموس وجاه الظالمين ، والصبر على نقص الدعوة وانتفاضها عن المدعوين والصبر على الظلم والضيم ، والصبر على ما للإنسان أن يدافع عنه : وإنما عليه الصبر الجميل والهجر الجميل والكلام الجميل والسكوت الجميل والنصيحة الجميلة التي تضم كل جميل في الدعوة ، وليس الهجر الجميل إلا هجرا عن الهجر والتنكيل حتى يحكم الله ، والهجر في تقولاتهم اللاذعة ، عن المقابلة بالمثل ، ولا خروجا عنهم وعن دعوتهم.

إن الرسول الأقدس (ص) لم يكن ليحارب المكذبين بداية الدعوة ، لقلة العدد والعدّة ، ولما تكمل الدعوة! ولذلك أمر بتأجيل الجهاد إلى زمن الهجرة ، حين تكمل العدة والعدة : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) (١٠ : ١٠٩) وقد حكم الله بالجهاد منذ الهجرة ، وحكم على الكافرين بالنار منذ الموت وليوم القيامة ، ولقد كانت أخلاقه (ص) جميلة مع الناس كافة على طول الخط ، لحد يعفو عن الكفار عند فتح مكة المكرمة وهم في قبضته علهم يؤمنون ، أو يندمون على ما فعلوا وافتعلوا.

(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) الذين يزدادون تكذيبا لأنهم مترفون :والنّعمة هي التنعم مرة ، وهي هنا الحياة الدنيا ، والنّعمة هي الحالة الحسنة الشاملة للحياتين (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) (٤٤ : ٣٨) ذلك لأنهم (بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) وهذا هو تبديل النّعمة نعمة عليهم ونقمة (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) ذرني وإياهم ، فأنا حسبهم.

٢٢٠