الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٠

ومشج سادس : هو خلط الطبائع الكامنة في النطفة من حرارة وبرودة ويبوسة ورطوبة ، وتبتني البنية الحيوانية المعدّلة الأخلاط منها ، التي هي ظروف ومجالات فاسحة لتصرفات الروح : الغضبية والشهوية والعقلية وأمثالها ، والى أمشاج أخرى لم تصل إليها أيدي العلم حتى الآن.

وكما الإنسان حين نزول القرآن ما كان يدري شيئا من هذه الأمشاج ، مما حمل جماعة من المفسرين يحاولون في جعل الأمشاج مفردا ، وجماعة أخرى ساكتون عن تفسير الجمع بعد تصديقه ، وثالثة يكتفون بمشج ماءي الذكر والأنثى ، رغم ان للقرآن آيات متشابهات يفسرها الزمن!

(... نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) :

الابتلاء هو نقل الشيء من حال الى حال ، ومن طور الى طور ، كابتلاء الذهب من كدر الى صفاء في البوتقة ، والإنسان كائن متطور متنقل منذ النطفة حتى الممات ، روحيا وجسدانيا ، وكافة تطوراته هي من فعل الله وابتلاءه ، سواء أكانت من سعيه ، كالمختار فيها بعقله وحوله ، أم سواها مما لا حيلة له فيها ، من التطورات الجنينية وسواها ، من نطفة الى علقة والى آخر الأطوار المتعاقبة حتى إنشاءه خلقا ، ثم من ولادته الى وفاته من حياة التكليف والإختيار وسواهما ، وإنما ابتلاءه في حياة العقل والتكليف يتطلب السمع والبصر قلبا وقالبا ، ولكي يصدر الإنسان بهما وبسائر وسائل الإدراك ، من آفاق التكوين والتشريع الى عقله وقلبه ، استزادة للوعي واهتداء الى ما يجهله بما هداه الله السبيل ، وليكون أحسن المخلوقين ، فإما شاكرا وإما كفورا.

فهل إن «نبتليه» هنا حال من الإنسان منذ النطفة حتى الممات؟ وابتلاءه من غايات خلقه ـ المهمة : (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) لتكملة هذا الابتلاء

٣٠١

بإكمال وسائله الاختيارية؟ إذا (فَجَعَلْناهُ) تفريع على نبتليه : فلكي نكمل ابتلاءه جعلنا له وسائله.

أم إنها حال من الإنسان في التطورات الجنينية (فَجَعَلْناهُ) بعد ابتلاءه هذا (سَمِيعاً بَصِيراً)؟ وأهم الابتلاء إنما هو في الحياة ولا سيما حياة التكليف!

طالما يعم قبلها منذ النطفة حتى الولادة حتى عقل التكليف! أم حال منه في حياة التكليف فحسب فابتلاءه إذا بعد جعل السمع والبصر؟ وهذا يقتضي قلب الجملة جعلناه سميعا بصيرا لنبتليه وهو خلاف الفصيح!

أم غاية لخلقته : خلقنا الإنسان .. لنبتليه فجعلناه .. وهذا تكلّف دون دليل! والاول أشمل وأوفق لفظيا ومعنويا دون تكلف : حال أنا «نبتليه» لهذه الحالة التي هي ايضا غاية : (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) لتحسن حالة الابتلاء!

والسمع والبصر هما العنصران الأساسيان للابتلاء ، ولا يعنيان الجارحتين فحسب ، لأن مدار الابتلاء هو سمع العقل وبصر القلب ، ففاقدهما لا يبتلى مهما كان قويا في سمع الظاهر وبصره ، فأصل الابتلاء هو السمع والبصر عقليا وقلبيا ، وكماله السمع والبصر قالبيا (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ)(١) ولا يبتلى ويكلف من لا يجدهما عقليا ، دون العكس.

والسميع والبصير هما مبالغتان في السمع والبصر ، ما ذكرا في القرآن إلا وصفين لله ، إلا في موضعين ثانيهما : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ) (١١ : ٢٤) مما يدل على أهمية التوصيف بهما لغير الله

__________________

(١) راجع الى تفسير هذه الآية في سورة الملك.

٣٠٢

تعالى ، فالإنسان السميع البصير لا يكاد يخفى عليه ما ينفعه في ابتلاءه واهتداءه السبيل ، وقليل هؤلاء الذين يتذرعون هذه الوسائل لاهتداء السبيل :

(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) : السبيل هي الطريق الذي فيه سهولة ، سبيل الخير لتطلب وسبيل الشر لتجتنب : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٩٠ : ١٠) ولقد يسر الله هاتين السبيلين للإنسان : (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) (٨٠ : ٢٠) فهداية السبيل وتيسيرها ، يوحيان بيسر على يسر مندغمين في ذات الإنسان ، مركّزين في نجدي الخير والشر (١) (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ).

فالهداية ـ هنا ـ هي دلالة الطريق : فطريا وعقليا وأمثالهما من سائر التكوين ، وتشريعيا بكتابات الوحي وأنبياءها ودعاتها ورعاتها.

والسبيل هنا تعم النجدين : الخير والشر ، إذ ألهمناهما : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٩١ : ٩). فإن لاستبانة سبيل المجرمين دخلا عظيما ودافعا لسلوك سبيل المؤمنين : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (٦ : ٥٥) فليست هداية سبيل الله كافية في اجتناب سبيل الطاغوت ، فلنهتد السبيلين ، لكي نكون على بصيرة منهما في الضلالة والهدى ، وتتم حجة الله علينا فيهما : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٦ : ١٥٣).

(إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) : «إما» هنا ليست للترديد في علم الله تعالى ، وإنما ايحاء لتردد الإنسان بين الأمرين تخييرا دون تسيير ، فيما إذا كان شاكرا أو كفورا حالين من الإنسان أو خبرين ليكون المقدر.

__________________

(١) راجع ج ٣٠ ص ١٢٢ ـ ١٢٣ «ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ».

٣٠٣

أو انها لتقسيم السبيل الى شاكر أو كفور ، إذا كانا حالين للسبيل أو بدلين عنهما : هديناه سبيل الشكر وسبيل الكفر ، وما أجمل التعبير عن السبيل الواضح بالشاكر والكفور ، كأنهما مندغمان في السبيل لكثرة وضوحهما فيها كالشمس في رايعة النهار : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ).

والآية تتحمل المعنيين معا لفظيا ومعنويا ، فليكونا مقصودين ، والشكر علّه من الكشر : الكشف ، وهو تصور النعمة وإظهارها ، بخلاف الكفر ، أو انه «الأخذ بها ، وكفرها وتركها» (١) وأكمله الأخذ باللسان كله ، والجنان كله ، والأركان كلها ، أن يصبح المنعم عليه شكرا للمنعم في كيانه ككل ، وكامله الأخذ مبدئيا في الكلّ مع تسرّب اللمم أحيانا ، وناقصه الأخذ بالبعض ، وكله أخذ وشكر وتركه كفر ، كلّ على حدّه ، وهذه المعاني الثلاثة متقاربة أو مترادفة تعني : إظهار النعمة وصرفها فيما أوتيت لأجلها ، فاللسان معبر عما في الجنان ، والأركان تعبر بأعمالها عن مدى الإيمان ، وعلى حدّ المروي عن الرسول (ص): «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه فإذا عبّر عنه لسانه إما شاكر وإما كفور» (٢).

ومقابلة «شاكرا» ب «كفورا» وهي صيغة موغلة في الدلالة على الكفران ، دون «كافر» هذه المقابلة توحي بأن غير الشاكر كفور ، فان ترك الشكر بهذه الموهبات الربانية كفران لها وكفر بالرب ، وكفر بالفطرة والضمير والعقل : الدافعة الى الشكر ، وكفر بحملة الرسالات الربانية ، إذا

__________________

(١) التوحيد للصدوق عن الامام الصادق (ع) واصول الكافي عنه (ع) والقمي عن الامام الباقر (ع) في الآية قالا : «إما آخذ فهو شاكر وإما تارك فهو كافر» (نور الثقلين ٥ : ٤٦).

(٢) الدر المنثور ٦ : ٢٩٨ ـ اخرج احمد وابن المنذر عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله (ص).

٣٠٤

ف (كَفُوراً) : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (٣٤ : ١٧) مما يدل على أنه كل كافر ، إذ يحصر الجزاء العقاب بالكفور ، وكما الكفور أيضا دركات حسب دركات الكفران ، وهنا ينقسم الى كافر وكفور.

ومن ثم تعني أن الشاكر أعم من الشكور ، ولذلك لم تقابل الكفور بالشكور ، فمن الشاكر شكور وقليل ما هم ، ومنهم غير شكور وما أكثرهم ، كأنما الإنسان بطبعه كفور : (فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) (٤٢ : ٤٨) وليس بطبعه شكورا (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (٣٤ : ١٣).

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) :

والكافر هنا أعم من الكفور ، كما كان الشاكر هناك أعم من الشكور ، والإعتاد هو إعداد الشيء حتى يكون عتيدا حاضرا ، فقد هيأ الله تعالى لأخرى الكافرين ما قدموه في دنياهم : سلاسل : قيودا لأقدامهم ، وأغلالا : لأيديهم تشدها الى رقابهم وتجعل الأعضاء وسطها ، وسعيرا : نارا متسعرة يلقون فيها مسلسلين مغلولين ، عذابا فوق العذاب! ولقد ظلوا يوم الدنيا مسلوكين في سلاسل الهوى ، ينقادون ما قادهم الشيطان ، ومغلولين في أغلال الشهوات في سعير حياتهم الجهنمية كل الحياة ، فالإعتاد الإلهي لهذا العذاب حسب ما أعتدوا واعتدوا وبغوا ، جزاء وفاقا ، وهذه الآية كأمثالها من آيات الإعتاد توحي بخلق الجحيم بأصولها ، وإنما تترقب حطبها لكي تسعر أكثر فأكثر. هذا هو جزاء الكفور ، فما هو جزاء الشكور؟ :

(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً. عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) :

الأبرار هنا تعم المقربين ـ وأحرى ـ طالما الآيات تنتهي بسيرة أقرب

(تفسير الفرقان ـ ج ٢٩ ـ م ٢٠)

٣٠٥

المقربين (١) اهل بيت الرسالة المحمدية «علي وفاطمة والحسن والحسين (ع)» : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ .. إِنَّما نُطْعِمُكُمْ ..) فانها خاصة بهم كما تواترت أحاديث الفريقين (٢) رغم ان كثيرا من مفسري القرآن لم يشيروا الى نزول هذه الآيات بشأنهم عليهم السلام ، وعله تجاهلا عن فضلهم ، لحدّ عدّوا السورة مكية ، وهي تنادي بمدنيتها كما يأتي.

فهم يشاركون سائر الأبرار في أبر النعم وأوفرها ، ويختصون بما لا ينالونها ، وهم أصدق المصاديق لآيات الأبرار وعلى حد المروي عن الامام الحسن المجتبى (ع) (٣).

(.. كانَ مِزاجُها كافُوراً) : مزاج الكأس ، لا المشروب ، لذكورته

__________________

(١) راجع ص ٢٢٢ من ٣٠ : ١ ، على ضوء الآية (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ).

(٢) راجع تفسير البرهان وتفسير نور الثقلين وكفاية الخصام ، تجد فيها تضافر الأحاديث ان الآيات نزلت بشأنهم عليهم السلام وفضة طالما ابتدأت بالابرار كل الأبرار ، ولكي تشمل فضة خادمة علي وفاطمة ، وممن صرح بذلك الواحدي في كتاب البسيط وصاحب الكشاف رواية عن ابن عباس ، وفي الدر المنثور ٦ : ٢٩٩ ـ اخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله تعالى وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ .. قال : نزلت في علي بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله (ص).

ومن ذلك ، في الإحتجاج للطبرسي عن امير المؤمنين (ع) حديث طويل يقول فيه للقوم بعد موت عمر بن الخطاب : نشدتكم بالله هل فيكم احد نزل فيه وفي ولده (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ ..) الى آخر السورة ـ غيري؟ قالوا : لا.

(٣) مناقب ابن شهر آشوب باسناده عن الهذيل عن مقاتل عن محمد بن الحنفية عن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) قال : كل ما في كتاب الله عز وجل من قوله (إِنَّ الْأَبْرارَ) فو الله ما أراد به الا علي بن أبي طالب وفاطمة وانا والحسين لأنا نحن ابرار بآبائنا وأمهاتنا ، وقلوبنا عملت بالطاعات والبر ، ومبراة من الدنيا وحبها واطعنا الله في جميع فرائضه وآمنا بوحدانيته وصدقنا برسوله (نور الثقلين ٥ : ٤٧٣ ـ ٤٧٤).

٣٠٦

وأنوثة الكأس ، والكافور اسم أكمام الثمرة التي تكفرها ، مبالغة في الكفر : الستر (١) ، فمزاج الكافور لكئوس الشراب في الجنة ، كفر لها عن كسرها وتغيّرها ، وتغييرها لشرابها ، ولم يأت في القرآن مزاج الكافور لشيء إلا الكأس ، وإلا هنا ، آية وحيدة في مزاج الكافور لكأس الجنة.

و «كان» توحي بسبق هذا المزاج عن الشرب والشراب والتفجير ، مما يؤيد مزاج الكأس نفسه دون الشراب ، وأنهم مزجوا كؤوس قلوبهم وأرواحهم بما يكفرها ويسترها عن موتها ، ويعدّها لشرب مياه الحياة المعرفية والروحانية.

فهذه سيرة الأبرار في دنياهم ، وتلك صورة واقعية لهم في عقباهم ، كأسا بكأس ، ومزاجا بمزاج ، وشربا بشرب ، فمن اين يشربون؟ :

(عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً). وما أحلاها مشربا من نبعة تنبع بما يفجّرونها تفجيرا أنيقا يسيرا ليس فيه من تكلف لا كثيرا ولا قليلا ، وإنما تفجيرا كثيرا وفيرا ، فما أنظفها شربا وشاربا وكأسا وعينا وتفجيرا : عباد الله الأبرار ، كأس الكافور ، عين مفجرة بذات أيديهم ، وعلّه بغمزة واشارة ، أو قولة وارادة ، أو أيا كان من تفجير كما يشاءون : ف (فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ)!.

ثم إن «عينا» تلمح لواحدة ، فكيف يكتفي عباد الله بعين واحدة؟ أم كيف يشتركون كلهم في تفجير هذه الواحدة؟ ولعل الجواب أنها واحدة في منبع أصيل ، كثيرة في نبعات فرعية في مناكب أرض الجنة ، كل يفجّر هذه الواحدة عنده بساقية تحت الأرضية عنها ، والأصل من تفجير الله! :

__________________

(١) والكافور المعروف تستخرج من شجرة اريجية من فصيلة الغاريات مهدها الاصلي جنوب الصين ازهارها بيضاء ضاربة الى الصفرة.

٣٠٧

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (١٥ : ٤٥) عيون مفجرة من تلك الواحدة ، وكما المقربون لهم عين خاصة بهم : (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) (٨٣ : ٢٨) وقد تجاوب هاتين العينين : (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) (٥٥ : ٥٠) (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٥٥ : ٦٦) عينان تفجّر من كلّ عيون!.

وهذه «هي عين في دار النبي (ص) تفجر الى دور الأنبياء والمؤمنين» (١) كما تفجرت عيون النبوات الى دور النبيين من البيت المحمدي طوال الرسالات الإلهية ، والى دور المؤمنين ، فلكلّ عين من هذه الأصيلة يوم الدين حسب ما فجروها يوم الدنيا.

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) :

قد يوحي تأخير «يوفون بالنذر» وهو عمل الدنيا ، عن «يشربون» وهو جزاء الآخرة ، يوحي هذا التعبير العبير بأن الوفاء بالنذر هو من هذه الأعمال الخيرة التي تشربهم في الجنة وتفجّر لهم عيونها ، كما شربوا حب الله ، وحب الفقراء في سبيل الله ، وفجّروا عيون قلوبهم له ولهم ، وكما يوحي بأن الحالة هذه نفس الحالة تلك ، طبقا عن طبق ، فحال الأبرار في شربهم موجودة يوم الدنيا ، كما أن حالهم في وفائهم موجودة يوم الدين.

والوفاء بالنذر ـ ومنه الإيجاب على النفس لسبب ـ يلمح بأنهم وصلوا في استجابة أمر الله القمة ، فإذ يوفي الإنسان ما يفرضه لله على نفسه فهو أوفى لله بفروضه الأصيلة ، وهذه الآية تجاوبها آيات عدة في وجوب الوفاء بالنذر : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) (٢٢ : ٢٩) إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (١٩ : ١٦).

__________________

(١) امالي الصدوق عن الامام الباقر (ع) في آية التفجير قال : «هي عين في دار ...

٣٠٨

وقد يعم النذر إيجاب الواجب ، فرضا على فرض ، كإيجاب المندوب فرضا على ندب ، فالأبرار ينفذون ما اعتزموا من واجبات ، وما التزموا من طاعات ، كما ويعم ما أوجب الله عليهم في الميثاق (١) فهم يوفون بنذورهم ونذور الله.

وإنها لهي صورة لمّاعة عن قلوب صافية ، وصدور منشرحة ضافية ، معتزمة على الوفاء لله ، عاملة لوجه الله ، دون أن تريد إلا مرضاة الله.

إنهم (يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) فهنا شرّ مستطير ، وهناك شرّ ثابت ، فالمستطير هو شرّ الدنيا ، والثابت هو شرّ الآخرة الناتج عن الاولى ، فان شر الآخرة من شر الدنيا المستطير إليها ، فحقيقة الاستطارة من صفات ذوات الأجنحة : البعثة على الطيران ، فشر الدنيا مبعوث من قبل الله للطيران الى مسجلات الكون : شهود الأعمال ، وللطيران الى اعماق البرزخ والقيامة ، ثم يقف للحساب والجزاء : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) (١٧ : ١٣) وإنها تيارات الشر ، كأنها طائرات وهي في أعناق ركابها.

وتجاوب «مستطيرا» «كان» فانها تلمح بمضيّها ، بأن شر الآخرة ـ المستقبل ـ هو استمرار لشر الدنيا ـ الماضي ـ المستطار ، طبقا عن طبق ، فليقطع العاقل أجنحة الشر وأصولها في الاولى ، لكي لا يستطير والى الآخرة.

ولأنهم يخافون ذلك اليوم البئيس العصيب ، يدأبون ـ هنا ـ في اجتثاث جذور الشرور لكي لا تستطير ، ويعملون في استطارة الخيرات لكي تستطير ،

__________________

(١) اصول الكافي باسناده عن أبي الحسن الماضي في آية النذر قال : يوفون لله بالنذر الذي أخذ عليهم في الميثاق من ولايتنا.

٣٠٩

ومن أسباب ذلك السلب وهذا الإيجاب الإيفاء بالنذر واطعام الطعام على حبّه لوجه الله ، المسكين واليتيم والأسير كما فعله علي وفاطمة والحسنان (ع) واحتج به علي (ع) على أبي بكر (١).

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ، إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً).

مكرمة أخرى للأبرّين ، هي إطعام الطعام على حبّه للمحاويج ، إيثارا على أنفسهم ، وبهم خصاصة! لوجه الله لا سواه ، أركان ثلاثة في الإنفاق ترفع به الى قمته ، وتوحي بالخير المستطير ، بعد ما اجتثوا جذور الشر المستطير.

١ ـ فمن أصول البرّ والإنفاق الحسن أن يكون محبوبا ، طعاما وإطعاما : «على حبّه» فلا كرامة في إطعام الطعام المرذول ، أو إطعام مكروه وان كان الطعام محبوبا وكان لوجه الله : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (٣ : ٩٢) حبّا مزدوجا للإنفاق وما تنفقون.

والنص «على حبّه» : الطعام والإطعام لا «في حبّه» لكي يؤول الى حب الله : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) (٢ : ١٧٧) ، اضافة الى أن الطعام هو المرجع الأقرب «الطام على حبّه» و «الله» أبعد في الموقع الكلامي «عينا يشرب بها عباد الله» وان المضاف اليه ك «الله» هنا ، لا يرجع اليه ضمير أيا كان.

__________________

(١) الخصال في احتجاج علي (ع) على أبي بكر قال : أنشدك بالله انا صاحب الولاية (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) أم أنت؟ قال : بل أنت (نور الثقلين ٥ : ٤٧٧).

٣١٠

ومن الناحية المعنوية ايضا قد يطعم الطعام غير المحبوب في حب الله ، وأما إذا يطعم المحبوب لوجه الله فهو الوجه الأحسن في الإطعام ، ووجه الله مذكور بعده (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) فلما ذا يؤول «على حبه» الى حب الله؟

كلا : إنما على حب الطعام والإطعام ، حبّا عاليا الى حاجة مدقعة لهؤلاء المطعمين ، فلم يقل «مع حبّه» إنما «على حبّه» ما يوحي باستعلاء حبّه عليهم ، لا حبّا ذاتيا للطعام أو نوع الطعام ، فإنهم كانوا أخلص المخلصين وأبر الأقربين ، لا يحبون إلا لله وفي الله ، فإنما حبا لإدمان الصيام الذي نذروه ، ولتقوى أبدانهم على طاعة الله وتقواه ، ومعهم الطفلان الحسنان! وأنهم حصلوا الطعام على مشقة وصعوبة بالغة.

فهم ـ على حبهم هكذا طعام ، وحبهم للإطعام يطعمون لقمة الفطور وبلغة الصيام للمحاويج السائلين ، بأريحية نفس ورحمة قلب وخلوص نية ، وكما فعله علي وفاطمة والحسنان «وهما صغيران» (١) ومعهما الخادمة فضة وقد تواترت به أحاديث الفريقين (٢).

__________________

(١) امالي الصدوق عن الامام الباقر والصادق (ع) في الآية انهما قالا : مرض الحسن والحسين وهما صبيان صغيران فعادهما رسول الله (ص) ومعه رجلان ... وفيه انهما صاما مع أبويهما ـ الى نهاية القصة.

(٢) رواه فيمن رواه ابو صالح ومجاهد والضحاك والحسن وعطا وقتادة ومقاتل والليث وابن عباس وابن مسعود وابن جبير وعمرو بن شعيب والحسن بن مهران والنقاش والقشيري والثعلبي والواحدي في تفاسيرهم ، وصاحب اسباب النزول والخطيب المكي في الأربعين وابو بكر الشيرازي في نزول القرآن في أمير المؤمنين (ع) والأشنهي في اعتقاد اهل السنة وابو بكر محمد بن احمد بن الفضل النحوي في العروس في الزهد ، وروى أهل البيت عن الأصبغ بن نباتة وغيرهم عن الباقر (ع) (نور الثقلين ٥ : ٤٧١ عن المناقب لابن شهرآشوب).

٣١١

٢ ـ ومن أصول الإطعام أن يحل محله الأحرى والأحوج ، ولا أحوج من : مسكين أسكنه العدم عن الحراك في حاجيات الحياة ، ويتيم انقطع عمن يصلح شأنه وهو قاصر عما يصلحه ، وأسير : سجين أو ملك يمين : هؤلاء المحاويج الذين لا يجدون حيلة ولا سبيلا ، الذين طرقوا باب الرحمة سائلين ، فآثرهم أهل بيت الرحمة على أنفسهم وقد كانت بهم خصاصة!

هنا تظهر مدنية هذه الآيات (١) لمكان الأسير بين السائلين ، ولم يكن المؤمنون

__________________

(١) لقد روى نزول هذه الآيات في المدينة فيمن رواه : السيوطي في الإتقان عن البيهقي في دلائل النبوة عن عكرمة والحسين بن أبي الحسن ، وعن الضريس في فضائل القرآن باسناده عن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس ، وعن البيهقي في الدلائل عن مجاهد ، وجلال الدين السيوطي في الدر المنثور باسناده عن ابن عباس ، وأبو حمزة الثمالي في تفسيره ، والطبرسي عن السيد ابو الحمد مهدي بن نزار الحسيني القايني باسناده عن ابن عباس ، والأستاذ احمد الزاهد عنه.

والقصة حسب نقل البحراني في غاية المرام عن أبي المؤيد الموفق بن أحمد في كتاب فضائل أمير المؤمنين (ع) والحمويني في كتاب فرائد السمطين وعن الثعلبي والواحدي في تفسيرهما ، وفي الكشاف : «ان الحسن والحسين مرضا فعادهما رسول الله (ص) في ناس معه فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك ، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن برءا مما بهما ان يصوموا ثلاثة أيام فشفيا وما معهم شيء.

فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير فطحنت فاطمة صاعا واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد! مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياما ، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه ، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك فلما أصبحوا أخذ علي بيد الحسن والحسين وأقبلوا الى رسول الله (ص) فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال : ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبرئيل وقال : خذها يا محمد هناك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة.

٣١٢

في مكة في حرب حتى يأسروا ، ولا في قوة حتى يجسروا أن يأسروا المشركين ، وإنما كانوا هم في أسرهم وحصرهم حتى اضطروا للهجرة الى المدينة ، ومن ثم قويت شوكة الإسلام وبدأت دولته ، فكان أسير وحصير بأيديهم من جراء حروبهم مع المشركين ، وكان الأسير منهم (١) لا من المسلمين إذ لا يعهد أسر المسلم إسلاميا ، اللهم إلا الكتابي ولم يكن منهم أسير وقتذاك.

فهنيئا لآل بيت الرسالة المحمدية إذ تنزل السورة بشأنهم ، كما قال جبرائيل : خذها يا محمد هناك الله في أهل بيتك ، فأقرأه السورة مهما شملت من حذا حذوهم ونحا نحوهم.

وهنا يبرز الحنان الإسلامي بشأن بني الإنسان كافة ، وأسارى الحرب ، المشركين ، فلا يرضى أن يظلوا جياعا ، ولا يأسرهم إلا عن أخطارهم ، وليتعرفوا الى الإسلام في أسر المسلمين في دورهم وديارهم ، علّهم يؤمنون أو يؤمنون دون حبس وتعطيل عن الحياة إلا لضرورة ، وسئوال الأسير هنا أقرب شاهد انه لم يكن سجينا مهما كان تحت الرقابة في بلد الإسلام ، «وقد كان يؤتى الرسول (ص) بالأسير فيدفعه الى بعض المسلمين فيقول أحسن إليه فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه» (٢).

ويعم الأسير كلّ من هو في أسر الإنسان معنويا أو ماديا ، إلجاء عليه ، أو لجأ إليه ، ك «عيال الرجل ، ينبغي له إذا زيد في النعمة أن يزيد

__________________

(١) الدر المنثور ـ اخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن مردويه عن الحسن قال : كان الأسارى مشركين يوم نزلت هذه الآية (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ ..).

(٢) تفسير روح المعاني للآلوسي ج ٢٩ ص ١٥٥ عن الحسن.

٣١٣

أسرائه في السعة عليهم» (١) وملك اليمين (٢) ، والغريم كما عن الرسول (ص) «غريمك أسيرك فأحسن الى أسيرك» (٣) هذا وكذلك ـ بالأحرى ـ كل من تعوله علميا وعقائديا.

كما وان المسكين واليتيم يعمان المسكنة واليتيم معنويا كما يعمان المادي سواء.

٣ ـ ومن أصول الإطعام أن يكون لوجه الله دون منّ ولا أذى (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ..) دون سائر الوجوه المادية والمعنوية : جزاء أو شكورا ، رحمة فائقة فائضة من قلوب رفيقة ندية على من لا يرجى خيرهم ، وإنما ابتغاء مرضاة الله ورجاء رحمة الله ، متجردة عن البواعث الارضية ، الى باعث سماوي فقط هو وجه الله : مرضاته ، لا ذاته ولا وجه الذات ، إذ لا وجه له كما لنا.

وهذه التجردية هي حجر الأساس في بناية الإنفاق على المحاويج ، وفي سبل الخير : الفردية والجماعية ، تضامنة اجتماعية عريقة على أساس التقوى وروح الحنان لبني الإنسان عامة ، وللصالحين خاصة ، تهذيبا لأرواح الباذلين ورفعها الى مستوى رفيع ، وحفاظا على كرامة وسيادة المبذول لهم ، وتعميما للبذل.

__________________

(١) أصول الكافي باسناده عن أبي الحسن (ع) قال : ينبغي للرجل أن يوسع على عياله لئلا يتمنوا موته وتلا هذه الآية (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ ...) قال : الأسير .. وعن الرسول (ص) اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم أعوان (تفسير الرازي ج ٣٠ ص ٢٤٥).

(٢) تفسير الرازي ج ٣٠ ص ٢٤٥ روي مرفوعا من طريق الخدري عن النبي (ص) في الآية قال : مسكينا ، فقيرا ، ويتيما : لا أب له ، وأسيرا : المملوك المسجون.

(٣) تفسير روح المعاني للآلوسي ج ٢٩ ص ١٥٦.

٣١٤

ولو كان البذل محصورا في حصار التجارات : جزاء أو شكورا ، أصبح الكثير من ذوي الحاجة محرومين ، ولو كان مقرونا بمنّ أو أذى انقلب عارا في أنفس المحتاجين ، ولكنه اشترط في الإنفاق أن يكون مما نحب وبطريقة حبيبة بعيدة عن المنّ وعن بغية الجزاء والشكور ، وعن لمحات توحي بوهن ومهانة للمعطى ، واستعظام للمعطي ، ولكي يصبح الإنفاق كأنه من يد الله دون وسيط ، ويا له إنفاقا عزيزا رفيقا يصاحب حيوية العاطفة ويحافظ على حساسية القلوب.

وهل إنهم خاطبوا مسكينا ويتيما وأسيرا هكذا : إنما نطعمكم .. قولة في آذانهم؟ ولا نلمس هنا نقل قول : (قالُوا إِنَّما ..) ولا ان في قول اللسان رجحان ، وقد يكون نقصانا من روحانية الإطعام وإخلاصه ف والله ما قالوا هذا لهم ولكنهم أضمروه في أنفسهم فأخبر الله بإضمارهم ، يقولون : لا نريد جزاء تكافوننا به ، ولا شكورا تثنون علينا به ، ولكنا إنما أطعمناكم لوجه الله وطلب ثوابه» (١) : ومن أثوب ثوابه معرفته ومرضاته وهذه عبادة الأحرار!. فليست إذا قولة في الآذان ، وإنما قالوا في أنفسهم قولا بليغا ، فإطعام الطعام هكذا ـ مع ما تصحبه من ملابسات ـ تنفي الرئاء وسائر وجوه النية السيئة ، وإنه تعبير عبير في أنفس المحاويج عن (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ...) دون قولة باللسان ، فالتلميح أبلغ من التصريح : (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) : لا مكافأة ولا إظهارا بثناء جميل ، أو تلميحا للناس أن ذلك من فلان وفلان ، فان شكر النعمة وشكورها هو إظهارها قلبا أو لسانا أو عملا ، ف «إنما» هناك تنفي كل غاية من هذا الإطعام إلا وجه الله ، لا واقع الجزاء والشكور فهم رافضوه ، ولا إرادته أو نيته فهم مترفعون عنها ، وإنما ارادة وجه الله لا سواه.

__________________

(١) امالي الصدوق عن الصادقين (ع) في حديث طويل عن القصة.

٣١٥

فهل لا يريدون من الله أيضا جزاء كما لا يريدون منهم؟ تلمح (إِنَّما ..) أنهم لا يطعمون جزاء ولا من الله ، فانها عبادة الأجزاء! ولا تحرزا عن عذاب الله فإنها عبادة العبيد! وإنما يعبدونه لأنه الله ، «لوجه الله» وإنها عبادة الأحرار ، فهؤلاء الأبرار هم أبر الأحرار ، ولا تعني «منكم» نفي ترقب الجزاء والشكور منهم فقط ، وإنما كأقرب الجزاء المترقب ، و «إنما» المسبقة تحصره في وجه الله ، اللهم إلا أن يكون ترقّبه من الله بأمر الله ولوجهه ، لا أجرا منه ، ثم وليس خوفهم يوما عبوسا قمطريرا إلا خوف البعد عن زلفاه ومعرفته ورضاه ، وإنما هي جنة الرضوان يعملون لها ، ونيران البعد يتحذرون عنها :

(إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) :

(نَخافُ مِنْ رَبِّنا) خوفا من ربوبيته لعدله ، الظاهر «يوما عبوسا» : قاطبا وجهه معبّسا «يقبض ما بين الأبصار» (١) يستدل بعبسه وقطوبه على إرصاده بالمكروه وعزمه على إيقاع الأمر المخوف «قمطريرا» : شديدا ضره ، طويلا شره ، وهذا اليوم نفسه متطلق مستبشر لمن يخافون ربهم فيحسبون حسابه حياتهم ، فالطّلق والعبس ليوم الحساب ، كلّ بحساب كيفية الحساب ، دون أن يحمل اليوم بذاته أيا منهما إلا ميزان الحق والعدل.

ف «الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران» (٢) والمؤمن يلقّى نضرة وسرورا :

(فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً)

(فَوَقاهُمُ اللهُ) بما وقوا أنفسهم يوم الدنيا واتقوا (شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ)

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٢٩٩ ـ أخرجه ابن مردويه عن انس عن النبي (ص) في الآية.

(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٢٦٧ كما روي أن الكافر ...

٣١٦

وعبسه وقطوبه «ولقّاهم» : استقبلهم «نضرة» في وجوههم «وسرورا» في قلوبهم (١) تلقية لكيانهم ككلّ إعلانا وإسرارا كما كانوا يوم الدنيا ناضري الوجوه وطاهري القلوب.

(وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً ، مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) :

طرف من نعيم الجنة إيجابا وسلبا جزاء بما صبروا في الله على الحرمان من نعيم الدنيا ، وعلى طاعة الله ، وعن معصية الله.

فبعد أن سبق شرابهم من كأس الكافور ، هنا يجمل في ذكر مكانهم وأكلهم ب «جنة» ثم تختص الحرير من لباسهم ، فإن (لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) (٢٢ : ٢٣) أنعم لباس وألينه وأحسنه ، فهذه نعم إيجابية.

ثم سلبية هي عدم رؤية شمس ولا زمهرير ، فهم في حياة مريحة مطمئنة ناعمة معتدلة دون أن يلمسوا شمسا لاهبة ساخنة ولا بردا قارسا ، عوان بين ذلك سجسج لا قرّ فيها ولا حرّ.

ترى إن الأبرار لا يرون فيها شمسا لأنها كورت عند قيامتها فلا شمس هناك؟ ولا زمهريرا لأنها لا تكون؟ إذا فليست هذه نعمة يختصون بها عن أهل النار ، إذ هم يشاركونهم في عدم الرؤية هذه وتلك!

أو إن في سماء القيامة شمس غير هذه المكوّرة ، فقد ترجع هي شمسا أو غيرها من غازات فتصبح شمس الآخرة أو شموسها ، كما ان هناك زمهريرا : برد قارس شديد ، فزبائن الشمس ونورها للنافذ هي على أهل النار عذاب فوق العذاب ، وأهل الجنة لا يرونها ، إذ تجنّهم أشجارها عن نورها ، وجوّها

__________________

(١) امالي الصدوق عن الصادقين (ع) (نور الثقلين ٥ : ٤٨٠).

٣١٧

عن نارها ، كما ان زمهرير على أهل النار عذاب فوق العذاب ، فأهل الجنة لا يرون بردها وقرّها ، إذ تبعد عن أولاء وتقرب من هؤلاء ، فالأبرار في جنة عادلة معتدلة عوان ، في دلال وظلال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) (٧٧ : ٤١) (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) (٤ : ٥٧) (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) (٥٦ : ٣٠).

ولا معنى لظل ولا ظلال ، إذ لا شمس تشرق وتحرق ، فالظل دليل الشمس كما الشمس دليل الظل (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ ... ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) (٢٥ : ٤٥).

وعلى إن زمهرير العذاب لأهل النار كلهم مع النار؟ لا دليل على الشمول! فإنها الآية الفريدة في ذكرها سلبا عن الأبرار ، لا إيجابا على كل أهل النار!

أو ان المعذبين بزمهرير لا يعذبون بالنار؟ تنافيه الآيات في شمول النار لغير الأبرار! إذا فهما في الجحيم متقاربان وكما في المروي عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم (١).

ومن ثم إذا اختصت زمهرير ببعض أهل النار أو شملتهم ، فكيف يجمع بين هذين المتناحرين المتنافرين ، وكلّ يخفّف الآخر ويفنيه!

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٠٠ ـ أخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والترمذي وابن مردويه من طرق عن أبي هريرة قال قال رسول الله (ص) اشتكت النار الى ربها فقالت رب أكل بعضي بعضا فجعل لها نفسين نفسا في الشتاء ونفسا في الصيف فشدة ما تجدونه من البرد من زمهريرها وشدة ما تجدونه في الصيف من الحر من سمومها. واخرج نحوه عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن قال ذكر لنا ان نبي الله (ص) قال : ... وفيه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله (ص) في حديث : وإذا كان يوم شديد البرد .. قال العبد لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم اللهم أجرني من زمهرير جهنم قال الله لجهنم ان عبدا من عبيدي استجارني من زمهريرك واني أشهد أني قد أجرته ، فقالوا وما زمهرير؟ قال كعب : بيت يلقى فيه الكافر فيتميز من شدة بردها بعضه من بعض.

٣١٨

هذا الواقع الخطير من عذاب النار الزمهرير ، يجاوبه واقع النار في الشجر الأخضر : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) (٣٦ : ٨٠) (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) (٥٦ : ٧٢) وآية غرق آل فرعون في الماء والنار : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) (٧١ : ٢٥) نارا برزخية أدخلوها وهم غرقى الماء (١) وتجاوبه أولا وأخيرا القدرة الإلهية النافذة في كل شيء ، ان يجعل المنافرين يساعد بعضهما بعضا جنبا بجنب!

ثم الرؤية المنفية في الشمس والزمهرير ، ليست هي رؤية البصر فحسب ، وإنما رؤية الإدراك المزعجة : لمسة الحرارة والبرودة ، وابصار عين الشمس ونورها الضارية ، واما إبصارها الزمهرير ، ومن بعيد ، فلا عذاب فيه ، كما لا عذاب في رؤية النار لأهل الجنة ، بل رحمة فوق رحمة أن يروا أعداء الله كيف يعذبون! كما تجاوبها آيات الترائي والحوار بين أهل الجنة والنار.

وكما تبعد عنهم الشمس والزمهرير ، كذلك تدنو منهم ظلال الجنة عن الشمس :

(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) :

ودانية عليهم ظلال الجنة بما تجنهم من شجراتها وقصورها ، والقطوف جمع قطف : المقطوفة المجتناة ، وهي عناقيد الأعناب وأشباهها ، ذللت لهم : جعلت قريبة من أيديهم ، غير ممتنعة على مجتنيها ، لا يحتاجون الى معاناة في اجتنائها ، ولا مشقة في اهتصار أفنانها ، كالظهر الذلول يوافق صاحبه ، ويؤاتي راكبه ، راحة لهم مرهفة وضيئة ، غير شماس مستصعبة،

__________________

(١) راجع تفسير الآية في سورة نوح.

٣١٩

ف «من قربها منهم يتناول المؤمن من النوع الذي يشتهيه من الثمار بفيه وهو متكئ»(١).

والتذليل هنا من الذّل : ضد الصعوبة ـ كالأرض المذلول ـ لا الذّل : ضد العز والحمية ، حيث الجنة عزّ بحذافيرها ، بنعيمها وأهليها.

(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا ، قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً) :

(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ) : والطائفون (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) (٥٦ : ١٥) (بِآنِيَةٍ) : كئوس (مِنْ فِضَّةٍ) ويا لفضة الجنة من صفاء وجلاء! (وَأَكْوابٍ) : كوز وأقداح لا عروة لها (كانَتْ قَوارِيرَا) وليست قوارير زجاجية ، وإنما (قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) أصلها فضة ، وقواريرنا هنا من الحصى ، وإذا كانت قوارير الحصى الدنيا ، لها جلائها وصفائها (٢) فكيف إذا قوارير فضة الأخرى ، والفضة في الدنيا لا تصبح قوارير كيفما رقت ولطفت! فلو ضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم ير الماء من وراءها. فنسبة قارورة الجنة الى قارورة الدنيا هي نسبة فضتها الى حصلى الجنة وأدنى! ثم الأكواب هذه ، الشفافة المتلألئة ، التي تزيد شرابها صفاء كما تزيدها جلاء ، إنها توضع في صحاف من ذهب : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) (٤٣ : ٧١) ... (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) : آنية وأكوابا وشرابا كما يشتهون ، فمن لذة الماء والشراب أن يكون على قدر الريّ لا زائدا يرفض ، ولا ناقصا ينقص.

__________________

(١) روضة الكافي باسناده عن أبي جعفر الباقر (ع) قال : ان رسول الله (ص) سئل عن قول الله عز وجل (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) : قال : ... وفي آخره : وان من الفاكهة ليقلن لولي الله يا ولي الله كلني قبل ان تأكل هذه قبلي (نور الثقلين ٥ : ٤٨١).

(٢) المجمع ١٠ : ٤١٠ عن الامام الصادق (ع) في (قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) : ينفذ البصر في فضة الجنة كما ينفذ في الزجاج.

٣٢٠