الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٠

يوم في حريق الحرب كما حان حينها منذ الهجرة ، ويوم في حريق النار يوم القرار ولا فرار!

(وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) : يونس صاحب السجن الحي السابح في اليم ، (إِذْ نادى) ربه فيه (وَهُوَ مَكْظُومٌ) : مكظوم الغضب عن قومه لما عرف خطأه في التعجيل ، وتركه واجب التأجيل (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) : أن كظم غيظه وغضبه ، ووفقه للتوبة والتسبيح (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) ولكنه سبح ربه وتاب فنبذ بالعراء وهو ممدوح ، فلقد كان بانتظاره عذاب دائب يوم الدنيا : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) دون نبذ بالعراء مذموما أو ممدوحا ، لو انه ترك كل الواجب قديما وفي السجن ، ولكنه كان من المسبحين هنا وهناك ، ولقد نجاه تسبيحه أن نبذ بالعراء ، وكان يبقى عليه الذم لو لم يكمل التسبيح بما أنعم عليه ربه من الاعتراف بالظلم ، ومن التوبة النصوح ، وكظم الغيظ ، فنبذ بالعراء ممدوحا (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) : لتكميل الرسالة : (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ. وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ. وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (٣٧ : ١٤٨).

(وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) :

الإزلاق هو إزلال القدم حتى لا يستقر على الأرض ، والإزلاق بالبصر كناية عن غاية المقت والإبغاض عند النزاع والخصام ، كأن هؤلاء الكفار ـ وعند سماع الذكر الذي لزامه التذكير ـ كأنهم من كثرة بغضهم يكادون ليستفزوه من الأرض بأبصارهم الحاقدة ، وليمسوا من كرامته بألسنتهم الناقدة : (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) رغم أن كيانه ذكر للعالمين (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) وهل يعقل انه بنعمة ربه مجنون ، وهم بنقمته عقلاء ، فما لهم كيف يحكمون؟

(تفسير الفرقان ـ ج ٢٩ ـ م ٦)

٨١

ثم وهل للعين تأثير عفوي ، دون محاولة خارجية فيما يراد؟ عله يكون أحيانا ، ولكنه لغير المؤيدين المدركين بالعصمة الإلهية ، فقد كاد الكفار ليزلقوه ولن يزلقوه ، حيث العصمة الإلهية ترقب الرسول الأقدس عن كل محاولة تمس من كيانه الرسالي ، مهما كادوا له كيدا ومادوا عليه ميدا ، وكادوا ليزلقوه بأبصارهم ، فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين!

هذا كله ، رغم أن : «العين حق» (١) و «العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر» (٢) و «أكثر من يموت بعد قضاء الله وقدره بالعين» (٣) ، كما يروى عن الرسول الأقدس (ص) تأثيرات نفسانية سيئة تبتدئ بالعين ، وكما لسائر المحاولات الشريرة آثار ، إلا أن يشاء الله غيره (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)!

(وَيَقُولُونَ) قولتهم الكافرة المجنونة : (إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) فهل لأنه لا يمشي ممشاهم ولا يهوى هواهم؟ (وَما هُوَ) : قرآن محمد ومحمد القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) : كل العالمين مهما كانوا في هذه المعمورة أم سواها من كواكب عامرة ، فالعالمون العقلاء هم المعنيون بهذا الذكر ، ولكي يعقلوا عنه الكثير الكثير من متطلبات الحياة العقلية ، ويرفضوا به الكثير الكثير من خرافات الحياة المجنونة المنفصلة عن وحي السماء.

إنها في هذا الوقت المبكر والضيق المستحكم تعلن عن عالميتها ، دون أن

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٢٥٨ اخرج البخاري عن ابن عباس ان رسول الله (ص) قال :

(٢) الدر المنثور ٦ : ٢٥٨ اخرج ابو نعيم في الحلية عن جابر ان النبي (ص) قال :

(٣) الدر المنثور ٦ : ٢٥٨ اخرج البزاز عن جابر ان النبي (ص) قال :

٨٢

تكون هذه الصفة جديدة عليها حين انتصرت في المدينة ، وإنما كانت ثابتة في صلب الدعوة منذ بدأت في أيام مكة الأولى ، وكذلك تستمر إلى الأيام الأخرى ، لو أن حملتها لم يهملوها ويمهلوا أعداءها للنيل منها ، إنها لم تعرضها معارضات من دواخلها وخوارجها ، فإن هذه الدعوة مستمرة مستزادة في ذاتها ومعطياتها.

فمهما تقولوا عليها فرية الجنون ، لكنما العقلاء سوف يعرفون مدى عقلها على تقدم العقل والعلم ، ومدى جنون المفترين عليها الزور!

٨٣

سورة الحاقة ـ مكية ـ وآياتها اثنتان وخمسون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) (١٢)

* * *

(الْحَاقَّةُ) : من أسماء القيامة الكبرى ، ذات الدلالة على حقيقتها وحقيّتها ، دلالة مزدوجة : بصيغة الفاعل وتاء المبالغة ، حاقة بالأدلة والآيات الآفاقية

٨٤

والأنفسية ، حاقّة لمن يعرفها بثوابها ، وحاقة على من ينكرها بعذابها ، بأحوالها الواقعة وأهوالها ، وحاقة بكل ما يحق عقلا وعدلا في قسطاس الإله العدل المتعال ، تحقّق لكلّ عامل سعيه ، خيرا وشرا ، إظهارا للحق المجهول والمتجاهل عنه يوم الدنيا ، ليوم الدين ، يوم يقوم الناس لرب العالمين.

(مَا الْحَاقَّةُ)؟ سؤال استعظام وإجلال لأمر الحاقة.

(وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ)؟ إعظام ثان لأمرها : إنك ـ وأنت الرسول ـ ما كنت تدري ما هي لولا أن الله عرّفك وأدراك بها!

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) : ثمود هم قوم صالح من الثمد وهو الماء القليل الذي لا مادة له ، فهم وعاد قوم هود ألعن حماقى الطغيان ، وقد كذبتا ـ فيما كذبتا ـ بالقارعة ، القيامة القارعة ، التي تقرع الكون وتدكّه ، تضرب الناس بفنون الأهوال وجنون الأحوال ، والسماء بالانشقاق والانفطار ، والأرض والجبال بالدك والنسف ، والنجوم بالطمس والانكدار ببعضه ، فلما كذّبتا بها حقت عليهما القارعة التي تقرعهم بالحق فيما تقرع.

(فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) : بالصيحة الطاغية (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) (١١ : ٦٨) ، وبالرجفة الطاغية (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) (٧ : ٧٧) صيحة ورجفة خلّفتا صاعقة : (.. فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٤١ : ١٧) ، (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) (٥١ : ٤٤).

إنهم أهلكتهم قبلكم الطاغية بطغواهم .. طاغية بطاغية : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) (٩١ : ١١) ولقد اختصرت تلكم الحادثة هنا ـ في الحاقة ـ بحق الأمر الواقع من العذاب : «الطاغية» فائضا بالهول المناسب لثورة السورة ، تطويهم طيا ، وتطغى عليهم بما بغوا وطغوا (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ)؟!

٨٥

(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى. وَثَمُودَ فَما أَبْقى) (٥٣ : ٥١) (١).

(وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) : (صَرْصَرٍ) بالغة في الصّر والبرد ، عاتية : شديدة الهبوب والغلب وعلى حدّ تفسير الرسول الأقدس «ص» : «غالبة» (٢) ، عتت على خزانها. وكما يروى عنه «ص» : «ما خرجت ريح قط إلا بمكيال إلا زمن عاد فانها عتت على خزانها ، فخرجت في مثل خرق الإبرة فأهلكت قوم عاد» (٣) كذلك. وعتت في غلبها عليهم فلم يجدوا عنها محيصا ، وعتت عليهم كما عتوا عن أمر ربهم ، عاتية في كافة مراحلها إلا عتو البغي ، (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

إنها كانت ريحا عقيما لا تخلّف إلا عقم الحياة بفور الممات : (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) (٥١ : ٤٢) : ريح عذاب لا تلقح شيئا من الأرحام ولا شيئا من النبات ، وما خرجت إلا على قوم عاد (٤).

(سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) :

هذه الريح الصرصر العاتية العقيم ، سلطت على هؤلاء الأوغاد في مثل هذه الليالي والأيام الحسوم : حسوما بصرصرها ، إذ حسمت وقطعت وأزالت كافة آثار الطغيان وكما تحسم المكواة بكرورها آثار الفوضى في الثياب ، فقد حسمت الريح الصرصر العاتية فوضويين طغاة مكابرين (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ)؟.

__________________

(١) ذكرت ثمود في ٢٦ موضعا من القرآن مع طغاة كامثالهم ، كما ذكرت عاد ٢٤ مرة.

(٢) الدر المنثور ٦ : ٢٥٩ ـ ابن عباس قال : قال رسول الله (ص) في حديث قال الله تعالى : بريح صرصر عاتية ، قال : غالبة.

(٣) نور الثقلين ٥ : ٤٠١ من لا يحضره الفقيه» قال رسول الله (ص).

(٤) نور الثقلين ٥ : ٤٠١ عن روضة الكافي باسناده الى الباقر (ع) وهو حديث طويل.

٨٦

وحسوما بتواصلها في أيامها الحاملة العذاب الصرصر (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ...) (٤١ : ١٦) أيام كأنها في تواليها يوم واحد : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (٥٤ : ٢٠).

(فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى) : في هذه الأيام النحسات ، وفي صرصرها العاتية تراهم ميتين في مصارعهم (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) : خالية جوفاء ملقاة على أعجازها. ك «نخل منقعر» : والنخل الخاوية الأعجاز ، المنقعرة المصرومة ، أشبه شيء بالموتى الصرعى.

(فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) : لا حاضرا إذ لا خبر واقع عنهم ، إلا باقية باغية مزرية ، ولا غابرا إذ لم تبق لهم حتى جثثهم : والريح الصرصر العقيم هي التي جعلتهم مندثرين ، إما قذفا لأجسادهم أو رمادهم في اليم ، أو نثرها عبر الهواء. (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ)؟ كلا : لا نفوس باقية ولا آثار من جثثهم الجهنمية ، فقد اجتثوا من جذورهم ، بأنفسهم ونفائسهم : (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) (٤٦ : ٢٥) ، فلم يبق منهم من يتحدث عنهم ولا حتى قبورهم اللهم إلا مساكنهم الخالية الخاوية .. فيا له من تعبير عديم النظر يرسم لنا مشهد التدمير كأننا الآن نشهده ، فهنا عاصفة مزمجرة ، وهناك ضحايا الزمجرة ، صرعى كأنهم اعجاز نخل خاوية ، فهل ترى لهم من باقية؟.

(وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً).

(وَجاءَ فِرْعَوْنُ) موسى (وَمَنْ قَبْلَهُ) من فراعنة التاريخ بهوامش الضلالة : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً. وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً. وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) (٢٥ : ٣٩).

٨٧

وجاءت (الْمُؤْتَفِكاتُ) : الأقوام المفترية على الله ورسله ، كقوم لوط وأضرابهم. جاؤا (بِالْخاطِئَةِ) : الحياة الخاطئة ، بالأفكار والتصرفات الخاطئة ، خطأ متعمدا في حياة جهنمية مريرة.

(فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) : كتلة الضلالة عصت كتلة الهداية التي تجمعها رسالة إلهية واحدة ، ولأنهم أجمع من إله واحد ، وباتجاه واحد ، مهما اختلفت فروع جزئية من شرائعهم صوريا لا جذريا ، لا فحسب أنهم واحد ، بل وأمتهم أيضا واحدة : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ. فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٢٣ : ٥٣) ، فشخصية الرسل واحدة ، وشخصية الأمم التابعة لهم صدقا واحدة ، مهما كان الأشخاص والأمم عدة ، فتكذيب رسول واحد تكذيب للرسل أجمع ، لأنه تكذيب للرسالة الإلهية : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) في الاتجاه نحو إله واحد ، ولقد كان نتيجة تكذيب تلك الأقوام الرسالة الإلهية هي الأخذة الرابية :

(فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) عالية ضامرة غامرة تربو على قبيح أعمالهم : (أَخْذاً وَبِيلاً) (٧٢ : ١٦) إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (١١ : ١٠٢) كيف لا! وهو (أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ).

أجل ـ وانها أخذة تعلوهم كما استعلوا وعتوا عن أمر ربهم ، دون أن تربو على عتوهم (أَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فقد ينقص العذاب عن الاستحقاق دون أن يربو عليه ، وإنما الثواب هو الذي يربو على الاستحقاق. بل ولا استحقاق .. إلا مغفرة من الله وفضلا.

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ. لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) لقد طغا الماء في طوفان نوح عليه السلام في طموّ أمواجه وارتفاع أثباجه كالرجل الطاغي الذي علا متجبرا ، وشمخ متكبرا ، طغا الماء على الطغاة ، وكثر على ضبّاطه وخزانه ، فلم يضبطوا مدى الخارج منه كثرة.

٨٨

فكيف طغا الماء؟ وما هي الجارية؟ وكيف حملتنا ولم نكن وقتئذ وإنما كان أجدادنا؟.

طغا الماء كما أراد الله : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ. وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ. وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٥٤ : ١١).

ولقد سميت سفينة نوح بالجارية لأنها كانت تجري في اليم المحيط ، وتسمى السفن جواري : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) (٥٥ : ٢٤).

وأما كيف حملتنا؟ إنها حملتنا ونحن ذرية في أصلاب آبائنا المحمولين فيها ، فقد حملنا بما حملوا ، رحمة مزدوجة من ربنا : لنا ولهم ، فكما يمن عليهم كذلك علينا وأحرى إذ حملنا ولم نكن شيئا مذكورا ، إلا ذرية ، وهو آية للرحمة والقدرة الإلهية : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (٣٦ : ٤١) فليست «ذريتهم» ـ وهم الموجودون حين نزول الآية ـ إنها ليست أبناءهم ، كيف ولم يكونوا موجودين وقتذاك فضلا عن أولادهم ، ولا أجدادهم ، لأنهم ليسوا ذرية في أية لغة واصطلاح ، وإنما (ذُرِّيَّتَهُمْ) هم أنفسهم إذ كانوا ذرية (اضافة الشيء إلى نفسه اعتبارا بالحالة المسبقة) كما يقال : نطفتك ـ ميتتك ـ جيفتك ، والمعنى فيها أنت حينما كنت نطفة ، وحين تكون ميتة وجيفة كذلك الحال في (ذُرِّيَّتَهُمْ) فهم أنفسهم إذ كانوا ذرية في أصلاب آبائهم ، ولئن كان هذا المعنى خفيا في البداية ، فقرينة آية الجارية : (حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) وكذلك نفس آية الذرية (١) ، فيهما الكفاية التامة لحصر معناها في إضافة الذرية إلى نفسها : (ذُرِّيَّتَهُمْ) حملناهم إذ كانوا ذرية ، وما أحسنه تعبيرا عن الحالة المسبقة الضئيلة للإنسان ، ولكي يتنبه نعمة الله عليه إذ لم يكن شيئا مذكورا.

__________________

(١) إذ لا يمكن أن يراد منها الأبناء والأجداد.

٨٩

(لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً) : لنجعل الجارية التي حملتكم في أصلاب أجدادكم ، نجعلها لكم تذكرة : تذكرة في نعمتها لحملكم ، وتذكرة في جريانها عبر التاريخ بآثارها الخالدة وأنقاضها الباقية بعد جريانها عبر البحر المحيط : (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٥٤ : ١٥) : إذ ظلت باقية حتى الآن : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) (٢٩ : ١٥) وبما يحملها من بشارة :

فهي آية في أنقاضها ، وآية في الآيات المكتوبة عليها باللغة السامانية التي تصرح باسم الخمسة الطاهرين من أهل بيت الرسالة المحمدية «محمد (ص). علي. فاطمة. الحسن. الحسين عليهم السلام» وكل ذلك واقع ، فالسفينة آية في غابرها وحاضرها ، في أنها نجاة للمؤمنين من قوم نوح ولذريتهم في الحياة الجسدانية إذ أنجتهم من الغرق ، وفي الحياة الروحانية إذ حملت بشارة الغيب : أسماء الطيبين الذين أقسم بهم نوح (ع) حتى نجاه الله من الغرق.

سفينة نوح والبشارة المحمدية على أنقاضها

: «في تموز ١٩٥١ عثر على قطع متناثرة من أخشاب قديمة متسوسة وبالية ، اكتشفها جماعة من العلماء السوفييت المختصين بالآثار القديمة ، إذ كانوا ينقبون في منطقة بوادي قاف ، مما دعاهم إلى تنقيب أكثر وأعمق ، فوقفوا على أخشاب أخرى متحجرة وكثيرة كانت بعيدة في أعماق الأرض ، ومن بينها عثروا على خشبة مستطيلة الشكل طولها ١٤ سنتيمترا وعرضها ١٠ ، سببت دهشتهم واستغرابهم ، إذ بقيت سليمة غير متناثرة بين الأخشاب الأخرى!.

وفي أواخر ١٩٥٢ أكمل التحقيق حول هذه الآثار الغريبة ، فتبين أن اللوحة وسائر الأخشاب هي انقاض سفينة نوح (ع) التي استوت على الجودي حسب القرآن ، وقد ظلت عليها حتى القرن الحاضر.

وقد شوهد على هذه اللوحة بعض الحروف التي تعود إلى أقدم اللغات ، وللكشف عنها ألفت الحكومة السوفييتية لجنة قوامها سبعة من علماء اللغات

٩٠

القديمة (١) وبعد ثمانية أشهر من الدراسة لهذه اللوحة والكتابة المنقوشة عليها ، أجمعوا أنها من نفس الخشب الذي صنعت منه سفينة نوح (ع) وأنه وضعها في السفينة للتبرك والاستحفاظ بعد أن تحققوا أن تلك الحروف كانت باللغة السامانية أو السامية : لغة نوح (ع) وقد ترجمها العلماء الروس المعنيون باللغات القديمة إلى اللغة الروسية ، ثم العالم البريطاني (اين ايف ماكس) أستاذ الألسن القديمة في جامعة (مانشستر) ترجمها إلى الانجليزية (٢) ، وهي بالعربية :

__________________

(١) وهم : سولي نوف ـ أستاذ الألسن القديمة في جامعة موسكو ، و (ايفاهان خنيو) عالم الألسن القديمة في كلية لولوهان بالصين ، و (ميشانن لو فارند) مدير الآثار القديمة ، و (تانمول غورف) أستاذ اللغات في كلية كيفزو ، و (دي راكن) أستاذ الآثار القديمة في معهد لينين ، و (ايم احمد كولاد) مدير التنقيب والاكتشافات العام ، و (ميجر كولتوف) رئيس كلية ستالين» نقلتهم مجلة البذرة النجفية في العددين : الثاني والثالث ـ شوال وذي القعدة :

(٢) ترجمتها باللغة الانجليزية كالتالي :

يا الهي ويا معيني Omy God myhelper برحمتك وكرمك ساعدني Keep myhands with mercy ولأجل هذه النفوس المقدسة And with your holybodies محمد Mohamed إيليا Alia شبر Shabbir شبير Shabbir فاطمة

Fatma They areall biggest and honourables

هم جميعهم عظماء ومكرمون Theworld established for them العالم قائم لاجلهم ساعدني بحق أسمائهم. Help me bytheir names you canreform toright أنت تستطيع ان توجهني الى الطريق الصحيح.

٩١

يا إلهي ويا معيني ، برحمتك وكرمك ساعدني ، ولأجل هذه النفوس المقدسة محمد ـ إيليا ـ شبر ـ شبير ـ فاطمة. الذين جميعهم عظماء ومكرمون ، العالم قائم لأجلهم. ساعدني بحق أسمائهم ، أنت تستطيع أن توجهني إلى الطريق الصحيح.

ولقد بقي هؤلاء العلماء في دهشة عظيمة أمام هذه اللوحة بأسمائها حيث توسل بها نوح وبقيت حتى الآن ، واقع التصديق للقرآن (وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) ، وهذه اللوحة موجودة الآن في متحف الآثار القديمة في موسكو وفي خبر أن المسلمين رأوها من ذي قبل(١).

ولما اكتشفت هذه البشارة المحمدية نشرتها المجلات والجرائد المهمة العالمية : الروسية والبريطانية والقاهرية (٢).

وإليكم صورة اللوحة الفوتوغرافية باللغة الآرامية كما نشرت في الجرائد والمجلات وبعض الكتب ككتاب إيليا ، وأصل اللوحة موجودة الآن في متحف الآثار القديمة في موسكو :

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٢٦٠ : عن قتادة في الآية قال : عبرة وآية أبقاها الله حتى نظرت إليها هذه الأمة ، وكم من سفينة غير سفينة نوح صارت رمما».

(٢) ١ ـ مجلة روسية شهرية تصدر في موسكو تشرين الثاني ١٩٥٣ ، ٢ ـ مجلة (ويكلي ميرر) الاسبوعية اللندنية العدد الصادر ٢٨ كانون الاول ١٩٥٣ ، ٣ مجلة (أستار) اللندنية ، كانون الثاني ١٩٥٤ ـ ٤ جريدة (سن لايت) الصادرة في مانجستر ٢٣ كانون الثاني ١٩٥٤ ، ٥ ـ جريدة (ويكلي ميرر) اللندنية في ١ شباط ١٩٥٤ ، ٦ جريدة (الهدى) القاهرية في ٣٠ مارس ١٩٥٣» والمصادر الاربعة الاخيرة نقلت ترجمة العالم البريطاني (ان أف ماكس) أستاذ الألسن القديمة في جامعة مانجستر. ٧ ومن المصادر كتاب إيليا من منشورات دار المعارف الاسلامية بلاهور باكستان برقم ٤٢ ـ اللغة الاردية.

٩٢

وقد ترجمت كما سبق كالتالي :

«يا إلهي ويا معينى ، برحمتك وكرمك ساعدني ، ولأجل هذه النفوس المقدسة : محمد ـ إيليا ـ شبر ـ شبير ـ فاطمة ، الذين جميعهم عظماء ومكرمون العالم قائم لأجلهم ، ساعدني بحق أسمائهم ، أنت فقط تستطيع أن توجهني إلى الصواب.

ولقد سبق نوحا إدريس النبي عليه السلام في ذكر أسمائهم باللغة السريانية «پارقليطا ـ إيليا ـ طيطه ـ شپبر ـ شپيير (١).

__________________

(١) التفصيل في كتابنا (رسول الإسلام في الكتب السماوية).

٩٣

(لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) الأذن التي تعي الحقائق الناصعة إنها تعي آية سفينة نوح ، بما على لوحتها من آيات ، وأوعى الآذان آذان النبيين ، وأوعاها بينهم جميعا أذن الرسول الأقدس محمد عليه السلام. فحياته وعي للحقائق دون نسيان ، ويخلفه في وعيه الشامل أذن علي عليه السلام. وعلى حد قوله (ص) لما نزلت آية الأذن ، «سألت ربي أن يجعلها أذن علي قال مكحول فكان علي يقول : ما سمعت من رسول الله (ص) شيئا فنسيته» (١) وعن علي (ع): ضمني رسول الله (ص) وقال : أمرني ربي أن أدنيك ولا أقصيك وأن تسمع وتعي (٢)

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ)(١٨)

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) هي الأولى من نفختي الإماتة والإحياء والواحدة توحي بنفاذها وسرعتها وشدة مفعولها دون مهل ولا فشل ، نفخة وصرخة تسمع أعماق الكائنات وتصرعها وتمحقها كأن لم تكن ، وعلى أثر هذه النفخة المدمرة :

(وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) : نفخة واحدة تخلق دكة واحدة ، واحدة في عدها ، مزدوجة في شدها ومدها : (كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) (٨٩ : ٢١) : يسمع منها صوت الدكداك : أشد الدقّ الذي يسحق ويبدل الشيء إلى أجزاء دقاق كالدقيق.

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٢٦٠ ، وقد اخرج في غاية المرام ستة عشر حديثا مثله عن طريق الفريقين.

(٢) رواه ابو نعيم في الحلية والواحدي في اسباب النزول عن بريدة وابو القاسم بن حبيب في تفسيره عن زر بن حبيش عن علي (ع) ورواه في تفسير روح البيان ج ١٠ ص ١٣٦.

٩٤

(فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) : واقعة الاماتة والتدمير وتتلوها واقعة الإحياء والتعمير ، ومن الأولى : (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ..) ومن الثانية : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) اعتبرت الثانية كأنها الأولى أو من الأولى لاتصالهما : «يومئذ» إذ دكت الأرض والجبال ووهت السماء.

(وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) : مسترخية بشد رباطها بعد شد قماطها ، فلقد كانت سبعا شدادا : (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) (٧٨ ـ ١٢) فهذه السبع الشداد سوف تسترخي وتوهي : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) (١٤ : ٤٨) تصبح السماء غير السماء مغايرة في الصورة والماهية ، والمادة الاصلية هي نفس المادة ، بانقلابها وانسلاخها عن ناموس العمار الى ناموس البوار.

(وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ)

إن الملك ـ عند انفراط الكون وتغيره بأرضه وسمائه ـ يخرج عن ميدان النضال الموت إلى الأرجاء : الجوانب ، فرارا من الموت ، إلى تحقيق أمر الله ، بأمر الله ولعلهم ملائكة خصوص ممن شاء الله. إذ يصعق وقتئذ من في السماوات ومن في الأرض : (.. وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٢٩ : ٦٨) فعلهم هؤلاء الخصوص الذين شاء الله ألا يصعقوا ، ولا سيما إذا كان (الْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) حالا من انشقاق السماء ووهيها! ويؤيده المروي عن النبي (ص) (١)» أو علهم كمن سواهم ممن هم قيام ينظرون في نفخة الإحياء ، ولكنه يبقى السؤال :

لماذا على الأرجاء؟ أقول : ولكي يحملوا مع العرش ، يحملهم الثمانية (وَيَحْمِلُ

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٤٠٣ عن ارشاد المفيد عن النبي (ص) قال : ان الناس يصاح بهم صيحة واحدة فلا يبقى ميت الا نشر ، ولا حي الا مات ، الا ما شاء الله. ثم يصاح بهم صيحة اخرى فينشر من مات ...

٩٥

عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ) : الملك الذين هم على الأرجاء «ثمانية» : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) (٤٠ : ٧) فهم المحمولون مع العرش ، ولكي يساعدوا الحملة في تحقيق أمر الله.

فإذ «ليس في طبقات السماوات موضع إهاب إلا وعليه ملك ساجد ، أو ساع حافد (١) فكونهم وقتئذ على الأرجاء ، وباقي السماء منهم خلاء ، ليس إلا أن منهم من صعق في الصيحة فانتهى دوره ومنهم من لحق حملة العرش على الأرجاء ، وهم ممن شاء الله ألا يصعقوا.

ما هو العرش هنا ومن هم حملة العرش؟ :

إن لله عروشا عدة ، منها عرش الخلق والتدبير ، ومنها عرش العلم ، ومنها كما هنا ـ عرش التربية : جسدانية ، ونفسانية روحانية ، يعنى به أعلى المقامات في أعلى الملإ ، يحمله من خلق الله الملأ الأعلى ملائكية وبشرية أم ماذا؟!.

فهو على أية حال ليس عرشا كعروشنا يتكأ عليه ، ثم خلقه يحملونه على عرشه ، فيصبح في ازدواجية الحمل : محمولا مرتين! وإنما العرش خلق من خلق الله يحيط بسائر الخلائق من مصادر الأمر العليا بشأن الكون ، في تدبيره جسدانيا وروحانيا.

فيوم الدنيا ، لعرش العلم الإلهي حملة بين الخلق هم النبيون وأهلوهم المعصومون ، ولعرش التدبير حملة منهم ومن الملائكة المدبرات أمرا بإذن الله ، والله خالقهم وخالق العرش ، وهو من ورائهم محيط.

لقد ذكر العرش في واحد وعشرين موضعا من القرآن والكرسي في واحد ، منها آيات استوائه تعالى على العرش ، حينما كانت المادة الأولية دون أرض ولا سماء : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ

__________________

(١) نهج البلاغة عن علي عليه السلام.

٩٦

عَلَى الْماءِ) (١١ : ٧) ومنها ما في استوائه عليه بعد ما خلق الأرض والسماء : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) (٢٠ : ٦) عرش الالوهية والملك المطلق ، ومنها ما يعنى به عرش التدبير : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) (١٠ : ٣) ومنها عرش العلم : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٥٧ : ٤) .. وما إلى ذلك من عروش تناسب وساحة الالوهية والربوبية ، والحامل الأول والأخير لهذه العروش هو الله تعالى ، وقد يحملها من خلقه من يشاء ، يحملونه باذنه وكما يريد من مصالح الخلق ، وكما في الحملة الثمانية :

آيات ثلاث تحمل ذكر الحملة الثمانية ، ثانيتها : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣٩ : ٧٥) تعني العرش يوم قيامة الإحياء والحساب.

وآخرها : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (٥٠ : ٧) وهي كذلك تعني يوم الحساب ثم عرش الحاقة يمتاز بأمور عدة : منها ذكر العدد «ثمانية» ومنها اختصاصهم بيوم الحساب (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) فهل لأنهم أقل منهم يوم الدنيا فزادوا يوم الدين ، أم كانوا أكثر فقلوا؟

ثم الملائكة الحافون حول العرش ليسوا كلهم حملة ، فمنهم محمولون (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) ولا ان الحملة هم الملائكة فحسب ، كما أن آيتي الحمل لا تختصانه بهم : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) فمن هم الثمانية؟ وهل كانوا يوم الدنيا أقل أو أكثر؟.

(تفسير الفرقان ـ ج ٢٩ ـ م ٧)

٩٧

نقول : هنا عرش قبل خلق السماوات والأرض ، وعرش بعدهما يوم الدنيا وعرش يوم الدين ، كل حسب ما يتطلبه الخلق من حاجاتهم إلى الله فيما يصدر من لدنه تعالى ، ولعل لكل عرش حملة ، وآية الحاقة تصريحة لحملته يوم الدين «ثمانية» وتلويحة لهم يوم الدنيا ، لا ندري الآن عدتهم.

ثم الثمانية يوم الدين : هل هم أشخاص أم أصناف ثمانية؟ أم طوائف ثمان ، تأنيث العدد يوحي أنهم أشخاص ، إذ الطوائف ثمان لا ثمانية! ولا بد للأصناف من دلالة زائدة ، وإذا كانوا أصنافا فلا دليل أنهم كلهم حملة العرش.

وبما أن العرش هو المقام العلي الذي ترجع اليه أزمة جميع التدابير التكوينية والتشريعية ، فلتكن فيه جميع الوقائع والحوادث ، إلا ما يستثنى لله تعالى ، الخاص بساحة الالوهية والربوبية ، فليس العرش الذي تحمله ثمانية ، هو الذي استوى عليه الرب ، إنما قدر منه يقدر على حمله أصفياء من خلقه لتحقيق أمره فيكونوا على مستوى عظمة العرش ، ومعنى الحمل للعرش.

فحملة عرش التربية والعلم هم العلماء الربانيون من الأنبياء المرسلين والملائكة الكروبيين ، حملة الوحي إليهم ، والمدبرين أمر الخلق بأمره.

وبما أن القيامة فيها خلاصة النشأة الأولى وزيادة ، فليكن حملة العرش فيها أكثر منهم يوم الدنيا ، ويصدّق هذا الإيحاء ، إضافة إلى «يومئذ» الدال على اختصاص العدد بيوم القيامة ، يصدقه المروي عن الرسول (ص): يحمله اليوم

٩٨

أربعة ويوم القيامة ثمانية (١) وروايات عدة أخرى تحصر الثمانية بيوم القيامة كالمروي عن الصادق عليه السلام قال : حملة العرش ـ والعرش العلم ـ ثمانية : أربعة منا وأربعة ممن شاء الله» (٢) لو عني ب «منّا» الحملة البشر ، أو حملته يوم الدنيا.

وبالنسبة لهؤلاء الأربعة لو نظرنا من زوايا عدة إلى نبوات عدة أصيلة كان الأربعة هم «نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد (ص)» فإن موسى والمسيح لم يحملا إلا رسالة واحدة هي التورات ، فهما إذا واحد (٣).

ولو نظرنا إلى القمة المقسّمة على حملتها في الرسالة المحمدية الشاملة للرسالات كلها ، المضيئة عليها كلها ، كان الأربعة هم «محمد وعلي والحسن والحسين» (٤) وعلى أية حال هؤلاء هم حملة العلم والتربية الإلهية تحقيقا وجزاء.

وعن الإمام أمير المؤمنين علي (ع) (٥) : إذ سأله الجاثليق فقال : اخبرني عن الله عز وجل

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٢٦١ ـ ابن جرير عن ابن زيد قال : قال رسول الله (ص) : وفي التفسير الكبير (ج ٣٠ ص ١٠٩) عن النبي (ص): «هم اليوم اربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله باربعة آخرين فيكونون ثمانية».

(٢) نور الثقلين ٥ : ٤٠٦ عن الصادق (ع).

(٣) راجع كتابنا «المقارنات العلمية وتفسير سورة الجن في هذا الجزء».

(٤) نور الثقلين ٥ : ٤٠٦ عن تفسير القمي قال : حملة العرش ثمانية : اربعة من الأولين واربعة من الآخرين ، فاما الاربعة من الأولين فنوح وابراهيم وموسى وعيسى ، واما الآخرون فمحمد وعلي والحسن والحسين ، ومعنى يحملون يعني العلم.

(٥) نور الثقلين ٥ : ٤٠٥ ـ عن اصول الكافي عدة من أصحابنا عن ـ

٩٩

يحمل العرش أو العرش يحمله؟ فقال : الله عز وجلّ حامل العرش والسماوات والأرض وما فيهما وما بينهما وذلك قول الله عز وجلّ : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) قال : فأخبرني عن قوله (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) : فكيف ذاك؟ وقلت : إنه يحمل العرش والسماوات والأرض! فقال أمير المؤمنين عليه السلام : «إن العرش خلقه الله من أنوار أربعة : نور أحمر منه احمرت الحمرة ونور أخضر منه اخضرت الخضرة ، ونور أصفر منه اصفرت الصفرة ، ونور أبيض منه ابيض البياض ، وهو العلم الذي حمّله الله الحملة ، وذلك نور من نور عظمته. فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين ، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون ، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة ، والأديان المتشتتة ، فكل شيء محمول يحمله الله بنوره وعظمته وقدرته ، لا يستطيع لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياتا ولا نشورا ، فكل شيء محمول والله تبارك وتعالى الممسك لهما ان تزولا : والمحيط بهما من شيء ، وهو حياة كل شيء ونور كل شيء ، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ، قال له فأخبرني أين هو؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام هو هاهنا وهاهنا وفوق وتحت ومحيط بنا ومعنا وهو قوله : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا فالكرسي محيط بالسماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى ، وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ، وذلك قوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) فالذين يحملون العرش هم العلماء الذين حمّلهم الله علمه ، وليس يخرج عن هذه الأربعة شيء خلقه الله في ملكوته ، وهو الملكوت الذي

__________________

ـ احمد بن محمد البرقي رفعه قال : سأل الجاثليق امير المؤمنين (ع) فقال له : أخبرني عن قوله : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) فكيف قال ذاك ، وقلت : انه يحمل العرش والسماوات والأرض! قال (ع): ...

١٠٠