تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

وأطواره وهو أعجب الموجودات المشاهدة ، ثم بخلق الحيوان وأحواله لأنه يجمع الأنواع التي تلي الإنسان في إتقان الصنع مع ما في أنواعها من المنن ، ثم بخلق ما به حياة الإنسان والحيوان وهو الماء والنبات ، ثم بخلق أسباب الأزمنة والفصول والمواقيت ، ثم بخلق المعادن الأرضية ، وانتقل إلى الاستدلال بخلق البحار ثم بخلق الجبال والأنهار والطرقات وعلامات الاهتداء في السير. وسيأتي تفصيله.

والباء في قوله : (بِالْحَقِ) للملابسة. وهي متعلقة ب (خَلَقَ) إذ الخلق هو الملابس للحقّ.

والحقّ : هنا ضد العبث ، فهو هنا بمعنى الحكمة والجدّ ؛ ألا ترى إلى قوله (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) [سورة الأنبياء :١٦] وقوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) [سورة ص : ٢٧]. والحقّ والصدق يطلقان وصفين لكمال الشيء في نوعه.

وجملة (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) معترضة.

وقرأ حمزة والكسائي وخلف تعالى عما تشركون بمثناة فوقية.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤))

استئناف بياني أيضا. وهو استدلال آخر على انفراده تعالى بالإلهية ووحدانيته فيها. وذلك أنه بعد أن استدلّ عليهم بخلق العوالم العليا والسفلى وهي مشاهدة لديهم انتقل إلى الاستدلال عليهم بخلق أنفسهم المعلوم لهم. وأيضا لما استدلّ على وحدانيته بخلق أعظم الأشياء المعلومة لهم استدلّ عليهم أيضا بخلق أعجب الأشياء للمتأمّل وهو الإنسان في طرفي أطواره من كونه نطفة مهينة إلى كونه عاقلا فصيحا مبينا بمقاصده وعلومه.

وتعريف (الْإِنْسانَ) للعهد الذهني ، وهو تعريف الجنس ، أي خلق الجنس المعلوم الذي تدعونه بالإنسان.

وقد ذكر للاعتبار بخلق الإنسان ثلاثة اعتبارات : جنسه المعلوم بماهيته وخواصه من الحيوانية والناطقية وحسن القوام ، وبقية أحوال كونه ، ومبدأ خلقه وهو النطفة التي هي أمهن شيء نشأ منها أشرف نوع ، ومنتهى ما شرفه به وهو العقل. وذلك في جملتين وشبه جملة (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ).

٨١

والخصيم من صيغ المبالغة ، أي كثير الخصام.

و (مُبِينٌ) خبر ثان عن ضمير (فَإِذا هُوَ) ، أي فإذا هو متكلم مفصح عما في ضميره ومراده بالحقّ أو بالباطل والمنطق بأنواع الحجّة حتى السفسطة.

والمراد : الخصام في إثبات الشركاء ، وإبطال الوحدانية ، وتكذيب من يدعون إلى التوحيد ، كما دل عليه قوله تعالى في سورة يس [٧٧ ، ٧٨] : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [سورة يس: ٧٧ ـ ٧٨].

والإتيان بحرف (إذا) المفاجأة استعارة تبعية. استعير الحرف الدال على معنى المفاجأة لمعنى ترتّب الشيء على غير ما يظن أن يترتب عليه. وهذا معنى لم يوضع له حرف. ولا مفاجأة بالحقيقة هنا لأن الله لم يفجأه ذلك ولا فجأ أحدا ، ولكن المعنى أنّه بحيث لو تدبر النّاظر في خلق الإنسان لترقب منه الاعتراف بوحدانية خالقه وبقدرته على إعادة خلقه ، فإذا سمع منه الإشراك والمجادلة في إبطال الوحدانية وفي إنكار البعث كان كمن فجأة ذلك. ولما كان حرف المفاجأة يدل على حصول الفجأة للمتكلم به تعيّن أن تكون المفاجأة استعارة تبعية.

فإقحام حرف المفاجأة جعل الكلام مفهما أمرين هما : التعجيب من تطوّر الإنسان من أمهن حالة إلى أبدع حالة وهي حالة الخصومة والإبانة الناشئتين عن التفكير والتعقل ، والدلالة على كفرانه النعمة وصرفه ما أنعم به عليه في عصيان المنعم عليه. فالجملة في حدّ ذاتها تنويه ، وبضميمة حرف المفاجأة أدمجت مع التنويه التعجيب. ولو قيل : فهو خصيم أو فكان خصيما لم يحصل هذا المعنى البليغ.

[٥ ـ ٧] (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧))

يجوز أن يعطف (الْأَنْعامَ) عطف المفرد على المفرد عطفا على (الْإِنْسانَ) [سورة النحل : ٤] ، أي خلق الإنسان من نطفة والأنعام ، وهي أيضا مخلوقة من نطفة ، فيحصل اعتبار بهذا التكوين العجيب لشبهه بتكوين الإنسان ، وتكون جملة (خَلَقَها) بمتعلقاتها مستأنفة ، فيحصل بذلك الامتنان.

٨٢

ويجوز أن يكون عطف الجملة على الجملة ، فيكون نصب (الْأَنْعامَ) بفعل مضمر يفسّره المذكور بعده على طريقة الاشتغال. والتقدير : وخلق الأنعام خلقها. فيكون الكلام مفيدا للتأكيد لقصد تقوية الحكم اهتماما بما في الأنعام من الفوائد ؛ فيكون امتنانا على المخاطبين ، وتعريضا بهم ، فإنهم كفروا نعمة الله بخلقها فجعلوا من نتاجها لشركائهم وجعلوا لله نصيبا. وأي كفران أعظم من أن يتقرّب بالمخلوقات إلى غير من خلقها. وليس في الكلام حصر على كلا التقديرين.

وجملة (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) في موضع الحال من الضمير المنصوب في (خَلَقَها) على كلا التقديرين ؛ إلا أن الوجه الأول تمام مقابلة لقوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) [سورة النحل : ٤] من حيث حصول الاعتبار ابتداء ثم التعريض بالكفران ثانيا ، بخلاف الوجه الثاني فإن صريحه الامتنان ، ويحصل الاعتبار بطريق الكناية من الاهتمام.

والمقصود من الاستدلال هو قوله تعالى : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها) وما بعده إدماج للامتنان.

و (الْأَنْعامَ) : الإبل ، والبقر ، والغنم ، والمعز. وتقدم في سورة الأنعام. وأشهر الأنعام عند العرب الإبل ، ولذلك يغلب أن يطلق لفظ الأنعام عندهم على الإبل.

والخطاب صالح لشمول المشركين ، وهم المقصود ابتداء من الاستدلال ، وأن يشمل جميع الناس ولا سيما فيما تضمّنه الكلام من الامتنان.

وفيه التفات من طريق الغيبة الذي في قوله تعالى : (عَمَّا يُشْرِكُونَ) [سورة النحل: ٣] باعتبار بعض المخاطبين.

والدّفء ـ بكسر الدال ـ اسم لما يتدفّأ به كالملء والحمل. وهو الثياب المنسوجة من أوبار الأنعام وأصوافها وأشعارها تتّخذ منها الخيام والملابس.

فلمّا كانت تلك مادة النسج جعل المنسوج كأنه مظروف في الأنعام.

وخص الدفء بالذكر من بين عموم المنافع للعناية به.

وعطف (مَنافِعُ) على (دِفْءٌ) من عطف العام على الخاص لأن أمر الدفء قلّما تستحضره الخواطر.

٨٣

ثم عطف الأكل منها لأنه من ذواتها لا من ثمراتها.

وجملة (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) عطف على جملة (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ).

وجملة (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) عطف على جملة (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ). وهذا امتنان بنعمة تسخيرها للأكل منها والتغذي ، واسترداد القوة لما يحصل من تغذيتها.

وتقديم المجرور في قوله تعالى : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) للاهتمام ، لأنهم شديد والرغبة في أكل اللحوم ، وللرعاية على الفاصلة. والإتيان بالمضارع في (تَأْكُلُونَ) لأن ذلك من الأعمال المتكررة.

والإراحة : فعل الرواح ، وهو الرجوع إلى المعاطن ، يقال : أراح نعمه إذا أعادها بعد السروح.

والسروح : الإسامة ، أي الغدوّ بها إلى المراعي. يقال : سرحها ـ بتخفيف الراء ـ سرحا وسروحا ، وسرّحها ـ بتشديد الراء ـ تسريحا.

وتقديم الإراحة على التسريح لأن الجمال عند الإراحة أقوى وأبهج ، لأنها تقبل حينئذ ملأى البطون حافلة الضروع مرحة بمسرّة الشبع ومحبّة الرجوع إلى منازلها من معاطن ومرابض.

والإتيان بالمضارع في (تُرِيحُونَ) و (تَسْرَحُونَ) لأن ذلك من الأحوال المتكررة. وفي تكررها تكرر النعمة بمناظرها.

وجملة (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) معطوفة على (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) فهي في موضع الحال أيضا. والضمير عائد إلى أشهر الأنعام عندهم وهي الإبل ، كقولها في قصّة أم زرع «ركب شريا وأخذ خطيّا فأراح علي نعما ثريا» ، فإن النعم التي تؤخذ بالرمح هي الإبل لأنها تؤخذ بالغارة.

وضمير (وَتَحْمِلُ) عائد إلى بعض الأنعام بالقرينة. واختيار الفعل المضارع بتكرر ذلك الفعل.

والأثقال : جمع ثقل ـ بفتحتين ـ وهو ما يثقل على الناس حمله بأنفسهم.

والمراد ب (بَلَدٍ) جنس البلد الذي يرتحلون إليه كالشام واليمن بالنسبة إلى أهل الحجاز ، ومنهم أهل مكة في رحلة الصيف والشتاء والرحلة إلى الحجّ.

٨٤

وقد أفاد (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) معنى تحملكم وتبلغكم ، بطريقة الكناية القريبة من التصريح. ولذلك عقب بقوله تعالى : (لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ).

وجملة (لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ) صفة ل (بَلَدٍ) ، وهي مفيدة معنى البعد ، لأن بلوغ المسافر إلى بلد بمشقّة هو من شأن البلد البعيد ، أي لا تبلغونه بدون الأنعام الحاملة أثقالكم.

والشّقّ ـ بكسر الشين ـ في قراءة الجمهور : المشقة. والباء للملابسة. والمشقة : التعب الشّديد.

وما بعد أداة الاستثناء مستثنى من أحوال لضمير المخاطبين.

وقرأ أبو جعفر (إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) ـ بفتح الشين ـ وهو لغة في الشق المكسور الشين.

وقد نفت الجملة أن يكونوا بالغيه إلا بمشقّة ، فأفاد ظاهرها أنهم كانوا يبلغونه بدون الرواحل بمشقّة وليس مقصودا ، إذ كان الحمل على الأنعام مقارنا للأسفار بالانتقال إلى البلاد البعيدة ، بل المراد : لم تكونوا بالغيه لو لا الإبل أو بدون الإبل ، فحذف لقرينة السياق.

وجملة (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) تعليل لجملة (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها) ، أي خلقها لهذه المنافع لأنه رءوف رحيم بكم.

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨))

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً).

(وَالْخَيْلَ) معطوف على (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها) [سورة النحل : ٥]. فالتقدير : وخلق الخيل.

والقول في مناط الاستدلال وما بعده من الامتنان والعبرة في كلّ كالقول فيما تقدّم من قوله تعالى : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) الآية.

والفعل المحذوف يتعلق به (لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) ، أي خلقها الله لتكون مراكب للبشر ، ولو لا ذلك لم تكن في وجودها فائدة لعمران العالم.

٨٥

وعطف (وَزِينَةً) بالنصب عطفا على شبه الجملة في (لِتَرْكَبُوها) ، فجنّب قرنه بلام التعليل من أجل توفر شرط انتصابه على المفعولية لأجله ، لأن فاعله وفاعل عامله واحد ، فإن عامله فعل خلق في قوله تعالى : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها) إلى قوله تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ) فذلك كله مفعول به لفعل (خَلَقَها).

ولا مرية في أن فاعل جعلها زينة هو الله تعالى ، لأن المقصود أنها في ذاتها زينة ، أي خلقها تزين الأرض ، أو زين بها الأرض ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) [سورة الملك : ٥].

وهذا النصب أوضح دليل على أن المفعول لأجله منصوب على تقدير لام التعليل.

وهذا واقع موقع الامتنان فكان مقتصرا على ما ينتفع به المخاطبون الأولون في عادتهم.

وقد اقتصر على منّة الركوب على الخيل والبغال والحمير والزينة ، ولم يذكر الحمل عليها كما قال في شأن الأنعام (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) [سورة النحل : ٧] ، لأنهم لم تكن من عادتهم الحمل على الخيل والبغال والحمير ، فإن الخيل كانت تركب للغزو وللصيد ، والبغال تركب للمشي والغزو. والحمير تركب للتنقل في القرى وشبهها.

وفي حديث البخاري عن ابن عباس في حجّة الوداع أنه قال «جئت على حمار أتان ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي بالناس» الحديث.

وكان أبو سيارة يجيز بالناس من عرفة في الجاهلية على حمار وقال فيه :

خلوا السبيل عن أبي سيارة

وعن مواليه بني فزاره

حتى يجيز راكبا حماره

مستقبل الكعبة يدعو جاره

فلا يتعلق الامتنان بنعمة غير مستعملة عند المنعم عليهم ، وإن كان الشيء المنعم به قد تكون له منافع لا يقصدها المخاطبون مثل الحرث بالإبل والخيل والبغال والحمير ، وهو مما يفعله المسلمون ولا يعرف منكر عليهم.

أو منافع لم يتفطن لها المخاطبون مثل ما ظهر من منافع الأدوية في الحيوان مما لم يكن معروفا للناس من قبل ، فيدخل كل ذلك في عموم قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) في سورة البقرة [٢٩] ، فإنه عموم في الذوات يستلزم عموم

٨٦

الأحوال عدا ما خصّصه الدليل مما في آية الأنعام [١٤٥] (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) الآية.

وبهذا يعلم أن لا دليل في هذه الآية على تحريم أكل لحوم الخيل والبغال والحمير لأن أكلها نادر الخطور بالبال لقلّته ، وكيف وقد أكل المسلمون لحوم الحمر في غزوة خيبر بدون أن يستأذنوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا في حالة اضطرار ، وآية سورة النحل يومئذ مقروءة منذ سنين كثيرة فلم ينكر عليهم أحد ولا أنكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

كما جاء في الصحيح : أنه أتي فقيل له : أكلت الحمر ، فسكت ، ثم أتي فقيل : أكلت الحمر فسكت. ثم أتي فقيل : أفنيت الحمر فنادى منادي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله ورسوله ينهيانكم عن أكل لحوم الحمر. فأهرقت القدور. وأن الخيل والبغال والحمير سواء في أن الآية لا تشمل حكم أكلها. فالمصير في جواز أكلها ومنعه إلى أدلّة أخرى.

فأما الخيل والبغال ففي جواز أكلها خلاف قوي بين أهل العلم ، وجمهورهم أباحوا أكلها. وهو قول الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والظاهري ، وروي عن ابن مسعود وأسماء بنت أبي بكر وعطاء والزهري والنخعي وابن جبير.

وقال مالك وأبو حنيفة : يحرم أكل لحوم الخيل ، وروي عن ابن عباس. واحتجّ بقوله تعالى : (لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) ، ولو كانت مباحة الأكل لامتنّ بأكلها كما امتنّ في الأنعام بقوله : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) [سورة النحل : ٥]. وهو دليل لا ينهض بمفرده. فيجاب عنه بما قرّرنا من جريان الكلام على مراعاة عادة المخاطبين به. وقد ثبتت أحاديث كثيرة أن المسلمين أكلوا لحوم الخيل في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلمه. ولكنه كان نادرا في عادتهم.

وعن مالك رضي‌الله‌عنه رواية بكراهة لحوم الخيل واختار ذلك القرطبي.

وأما الحمير فقد ثبت أكل المسلمين لحومها يوم خيبر. ثم نهوا عن ذلك كما في الحديث المتقدم. واختلف في محمل ذلك ، فحمله الجمهور على التحريم لذات الحمير. وحمله بعضهم على تأويل أنها كانت حمولتهم يومئذ فلو استرسلوا على أكلها لانقطعوا بذلك المكان فآبوا رجالا ولم يستطيعوا حمل أمتعتهم. وهذا رأي فريق من السلف. وأخذ فريق من السّلف بظاهر النهي فقالوا بتحريم أكل لحوم الحمر الإنسية لأنها مورد النهي وأبقوا الوحشية على الإباحة الأصلية. وهو قول جمهور الأئمة مالك وأبي حنيفة

٨٧

والشافعي ـ رضي‌الله‌عنهم ـ وغيرهم.

وفي هذا إثبات حكم تعبدي في التفرقة وهو مما لا ينبغي المصير إليه في الاجتهاد إلا بنصّ لا يقبل التأويل كما بيّناه في كتاب «مقاصد الشريعة الإسلامية».

على أنه لا يعرف في الشريعة أن يحرّم صنف إنسي لنوع من الحيوان دون وحشيه.

وأما البغال فالجمهور على تحريمها. فأما من قال بحرمة أكل الخيل فلأن البغال صنف مركّب من نوين محرمين ، فتعين أن يكون أكله حراما. ومن قال بإباحة أكل الخيل فلتغليب تحريم أحد النوعين المركب منهما وهو الحمير على تحليل النوع الآخر وهو الخيل. وعن عطاء أنه رآها حلالا.

والخيل : اسم جمع لا واحد له من لفظه على الأصح. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) في سورة آل عمران [١٤].

و (الْبِغالَ) : جمع بغل. وهو اسم للذكر والأنثى من نوع أمّه من الخيل وأبوه من الحمير. وهو من الأنواع النادرة والمتولدة من نوعين. وعكسه البرذون ، ومن خصائص البغال عقم أنثاها بحيث لا تلد.

و (الْحَمِيرَ) : جمع تكسير حمار وقد يجمع على أحمرة وعلى حمر. وهو غالب للذكر من النوع ، وأما الأنثى فأتان. وقد روعي في الجمع التغليب.

(وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ).

اعتراض في آخر الكلام أو في وسطه على ما سيأتي.

و (يَخْلُقُ) مضارع مراد به زمن الحال لا الاستقبال ، أي هو الآن يخلق ما لا تعلمون أيها الناس مما هو مخلوق لنفعهم وهم لا يشعرون به ، فكما خلق لهم الأنعام والكراع خلق لهم ويخلق لهم خلائق أخرى لا يعلمونها الآن ، فيدخل في ذلك ما هو غير معهود أو غير معلوم للمخاطبين وهو معلوم عند أمم أخرى كالفيل عند الحبشة والهنود ، وما هو غير معلوم لأحد ثم يعلمه الناس من بعد مثل دواب الجهات القطبية كالفقمة والدب الأبيض ، ودواب القارة الأمريكية التي كانت مجهولة للناس في وقت نزول القرآن ، فيكون المضارع مستعملا في الحال للتجديد ، أي هو خالق ويخلق.

ويدخل فيه كما قيل ما يخلقه الله من المخلوقات في الجنة ، غير أن ذلك خاصّ

٨٨

بالمؤمنين ، فالظاهر أنه غير مقصود من سياق الامتنان العام للناس المتوسّل به إلى إقامة الحجّة على كافري النعمة.

فالذي يظهر لي أن هذه الآية من معجزات القرآن الغيبية العلمية ، وأنها إيماء إلى أن الله سيلهم البشر اختراع مراكب هي أجدى عليهم من الخيل والبغال والحمير ، وتلك العجلات التي يركبها الواحد ويحركها برجليه وتسمى (بسكلات) ، وأرتال السكك الحديدية ، والسيارات المسيّرة بمصفّى النفط وتسمى (أطوموبيل) ، ثم الطائرات التي تسير بالنفط المصفّى في الهواء. فكل هذه مخلوقات نشأت في عصور متتابعة لم يكن يعلمها من كانوا قبل عصر وجود كل منها.

وإلهام الله الناس لاختراعها هو ملحق بخلق الله ، فالله هو الذي ألهم المخترعين من البشر بما فطرهم عليه من الذكاء والعلم وبما تدرجوا في سلّم الحضارة واقتباس بعضهم من بعض إلى اختراعها ، فهي بذلك مخلوقة لله تعالى لأن الكلّ من نعمته.

(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩))

جملة معترضة .. اقتضت اعتراضها مناسبة الامتنان بنعمة تيسير الأسفار بالرواحل والخيل والبغال والحمير.

فلما ذكرت نعمة تيسير السبيل الموصلة إلى المقاصد الجثمانية ارتقي إلى التذكير بسبيل الوصول إلى المقاصد الرّوحانية وهو سبيل الهدى ، فكان تعهّد الله بهذه السبيل نعمة أعظم من تيسير المسالك الجثمانية لأن سبيل الهدى تحصل به السعادة الأبدية. وهذه السبيل هي موهبة العقل الإنساني الفارق بين الحقّ والباطل ، وإرسال الرسل لدعوة الناس إلى الحقّ ، وتذكيرهم بما يغفلون عنه ، وإرشادهم إلى ما لا تصل إليه عقولهم أو تصل إليه بمشقّة على خطر من التورّط في بيّنات الطريق.

فالسبيل : مجاز لما يأتيه الناس من الأعمال من حيث هي موصلة إلى دار الثواب أو دار العقاب ، كما في قوله : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) [سورة يوسف : ١٠٨]. ويزيد هذه المناسبة بيانا أنه لما شرحت دلائل التوحيد ناسب التنبيه على أن ذلك طريق للهدى ، وإزالة للعذر ، وأن من بين الطرق التي يسلكها الناس طريق ضلال وجور.

وقد استعير لتعهّد الله بتبيين سبيل الهدى حرف على المستعار كثيرا في القرآن وكلام العرب لمعنى التعهّد ، كقوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى). شبه التزام هذا البيان

٨٩

والتعهّد به بالحقّ الواجب على المحقوق به.

والقصد : استقامة الطريق. وقع هنا وصفا للسبيل من قبيل الوصف بالمصدر ، لأنه يقال : طريق قاصد ، أي مستقيم ، وطريق قصد ، وذلك أقوى في الوصف بالاستقامة كشأن الوصف بالمصادر ، وإضافة (قَصْدُ) إلى (السَّبِيلِ) من إضافة الصفة إلى الموصوف ، وهي صفة مخصّصة لأن التعريف في (السَّبِيلِ) للجنس. ويتعين تقدير مضاف لأن الذي تعهّد الله به هو بيان السبيل لا ذات السبيل.

وضمير (وَمِنْها) عائد إلى (السَّبِيلِ) على اعتبار جواز تأنيثه.

و (جائِرٌ) وصف ل (السَّبِيلِ) باعتبار استعماله مذكرا. أي من جنس السبيل الذي منه أيضا قصد سبيل جائر غير قصد.

والجائر : هو الحائد عن الاستقامة. وكنّي به عن طريق غير موصل إلى المقصود ، أي إلى الخير ، وهو المفضي إلى ضرّ ، فهو جائر بسالكه. ووصفه بالجائر على طريقة المجاز العقلي. ولم يضف السبيل الجائر إلى الله لأن سبيل الضلال اخترعها أهل الضلالة اختراعا لا يشهد له العقل الذي فطر الله الناس عليه ، وقد نهى الله الناس عن سلوكها.

وجملة (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) تذييل.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠))

استئناف لذكر دليل آخر من مظاهر بديع خلق الله تعالى أدمج فيه امتنان بما يأتي به ذلك الماء العجيب من المنافع للناس من نعمة الشراب ونعمة الطعام للحيوان الذي به قوام حياة الناس وللناس أنفسهم.

وصيغة تعريف المسند إليه والمسند أفادت الحصر ، أي هو لا غيره. وهذا قصر على خلاف مقتضى الظاهر ، لأن المخاطبين لا ينكرون ذلك ولا يدّعون له شريكا في ذلك ، ولكنهم لما عبدوا أصناما لم تنعم عليهم بذلك كان حالهم كحال من يدّعي أن الأصنام أنعمت عليهم بهذه النّعم ، فنزلوا منزلة من يدّعي الشركة لله في الخلق ، فكان القصر قصر إفراد تخريجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر.

وإنزال الماء من السماء تقدم معناه عند قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ

٩٠

بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) في سورة البقرة [٢٢].

وذكر في الماء منّتين : الشّراب منه ، والإنبات للشجر والزّرع.

وجملة (لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) صفة ل (ماءً) ، و (لَكُمْ) متعلق ب (شَرابٌ) قدم عليه للاهتمام ، و (مِنْهُ) خبر مقدم كذلك ، وتقديمه سوّغ أن يكون المبتدأ نكرة.

والشراب : اسم للمشروب ، وهو المائع الذي تشتفّه الشفتان وتبلغه إلى الحلق فيبلع دون مضغ.

و (من) تبعيضية. وقوله تعالى : (وَمِنْهُ شَجَرٌ) نظير قوله : (مِنْهُ شَرابٌ). وأعيد حرف (من) بعد واو العطف لأن حرف (من) هنا للابتداء ، أو للسببية فلا يحسن عطف (شَجَرٌ) على (شَرابٌ).

والشجر : يطلق على النبات ذي الساق الصلبة ، ويطلق على مطلق العشب والكلأ تغليبا.

وروعي هذا التغليب هنا لأنه غالب مرعى أنعام أهل الحجاز لقلة الكلأ في أرضهم ، فهم يرعون الشعاري والغابات. وفي حديث «ضالة الإبل تشرب الماء وترعى الشجر حتى يأتيا ربّها».

ومن الدقائق البلاغية الإتيان بحرف (في) الظرفية ، فالإسامة فيه تكون بالأكل منه والأكل مما تحته من العشب.

والإسامة : إطلاق الإبل للسّوم وهو الرعي. يقال : سامت الماشية فهي سائمة وأسامها ربّها.

(يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١))

جملة (يُنْبِتُ) حال من ضمير (أَنْزَلَ) [سورة النحل : ١٠] ، أي ينبت الله لكم.

وإنما لم يعطف هذا على الجملة (لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) [سورة النحل : ١٠] لأنّه ليس مما يحصل بنزول الماء وحده بل لا بدّ معه من زرع وغرس.

وهذا الإنبات من دلائل عظيم القدرة الربّانية ، فالغرض منه الاستدلال ممزوجا

٩١

بالتذكير بالنّعمة ، كما دلّ عليه قوله : (لَكُمْ) على وزان ما تقدم في قوله تعالى : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) [سورة النحل : ٥] الآية ، وقوله تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها) [سورة النحل : ٨] الآية.

وأسند الإنبات إلى الله لأنه الملهم لأسبابه والخالق لأصوله تنبيها للناس على دفع غرورهم بقدرة أنفسهم ، ولذلك قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) لكثرة ما تحت ذلك من الدقائق.

وذكر الزرع والزيتون وما معهما تقدم غير مرة في سورة الأنعام.

والتفكّر تقدم عند قوله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) في سورة الأنعام [٥٠].

وإقحام لفظ «قوم» للدلالة على أن التفكّر من سجاياهم ، كما تقدم عند قوله تعالى :(لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤].

(وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) عطف على (الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ) ، أي وينبت لكم به من كل الثمرات مما لم يذكر هنا.

والتعريف تعريف الجنس. والمراد : أجناس ثمرات الأرض التي ينبتها الماء ، ولكل قوم من الناس ثمرات أرضهم وجوّهم. و (مِنْ) تبعيضية قصد منها تنويع الامتنان على كل قوم بما نالهم من نعم الثمرات. وإنما لم تدخل على الزرع وما عطف عليه لأنها من الثمرات التي تنبت في كل مكان.

وجملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) تذييل.

والآية : الدلالة على أنه تعالى المبدع الحكيم. وتلك هي إنبات أصناف مختلفة من ماء واحد ، كما قال : تسقى بماء واحد في سورة الرعد [٤].

ونيطت دلالة هذه بوصف التفكير لأنها دلالة خفية لحصولها بالتدريج. وهو تعريض بالمشركين الذين لم يهتدوا بما في ذلك من دلالة على تفرّد الله بالإلهية بأنهم قوم لا يتفكرون.

وقرأ الجمهور (يُنْبِتُ) بياء الغيبة. وقرأه أبو بكر عن عاصم بنون العظمة.

٩٢

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢))

آيات أخرى على دقيق صنع الله تعالى وعلمه ممزوجة بامتنان.

وتقدم ما يفسّر هذه الآية في صدر سورة يونس. وتسخير هذه الأشياء تقدم عند قوله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) في أوائل سورة الأعراف [٥٤] وفي أوائل سورة الرعد وفي سورة إبراهيم.

وهذا انتقال للاستدلال بإتقان الصنع على وحدانية الصانع وعلمه ، وإدماج بين الاستدلال والامتنان. ونيطت الدلالات بوصف العقل لأن أصل العقل كاف في الاستدلال بها على الوحدانية والقدرة ، إذ هي دلائل بيّنة واضحة حاصلة بالمشاهدة كل يوم وليلة.

وتقدم وجه إقحام لفظ (قوم) آنفا ، وأن الجملة تذييل.

وقرأ الجمهور جميع هذه الأسماء منصوبة على المفعولية لفعل «سخر». وقرأ ابن عامر (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ) بالرفع على الابتداء ورفع (مُسَخَّراتٌ) على أنه خبر عنها. فنكتة اختلاف الإعراب الإشارة إلى الفرق بين التسخيرين. وقرأ حفص برفع (النُّجُومُ) و (مُسَخَّراتٌ). ونكتة اختلاف الأسلوب الفرق بين التسخيرين من حيث إن الأول واضح والآخر خفيّ لقلّة من يرقب حركات النجوم.

والمراد بأمره أمر التكوين للنظام الشمسي المعروف.

وقد أبدى الفخر في كتاب «درّة التنزيل» وجها للفرق بين إفراد آية في المرة الأولى والثالثة وبين جمع آيات في المرة الثانية : بأن ما ذكر أول وثالثا يرجع إلى ما نجم من الأرض ، فجميعه آية واحدة تابعة لخلق الأرض وما تحتويه (أي وهو كله ذو حالة واحدة وهي حالة النبات في الأرض في الأول وحالة واحدة وهي حالة الذرء في التناسل في الحيوان في الآية الثالثة) وأما ما ذكر في المرة الثانية فإنه راجع إلى اختلاف أحوال الشمس والقمر والكواكب ، وفي كل واحد منها نظام يخصّه ودلائل تخالف دلائل غيره ، فكان ما ذكر في ذلك مجموع آيات (أي لأن بعضها أعراض كالليل والنهار وبعضها أجرام لها أنظمة مختلفة ودلالات متعددة).

(وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ

٩٣

يَذَّكَّرُونَ (١٣)).

عطف على (اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) [سورة النحل : ١٢] ، أي وسخّر لكم ما ذرأ لكم في الأرض. وهو دليل على دقيق الصّنع والحكمة لقوله تعالى : مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ). وأومئ إلى ما فيه من منّة بقوله (لَكُمْ).

والذرء : الخلق بالتناسل والتولّد بالحمل والتفريخ ، فليس الإنبات ذرءا ، وهو شامل للأنعام والكراع (وقد مضت المنّة به) ولغيرها مثل كلاب الصيد والحراسة ، وجوارح الصيد ، والطيور ، والوحوش المأكولة ، ومن الشجر والنبات.

وزيد هنا وصف اختلاف ألوانه وهو زيادة للتعجيب ولا دخل له في الامتنان ، فهو كقوله تعالى : تسقى (بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) في سورة الرعد [٤] ، وقوله تعالى : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) في سورة فاطر [٢٧]. وبذلك صار هذا آية مستقلة فلذلك ذيّله بجملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) ، ولكون محل الاستدلال هو اختلاف الألوان مع اتّحاد أصل الذرء أفردت الآية في قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً).

والألوان : جمع لون. وهو كيفية لسطوح الأجسام مدركة بالبصر تنشأ من امتزاج بعض العناصر بالسطح بأصل الخلقة أو بصبغها بعنصر ذي لون معروف. وتنشأ من اختلاط عنصرين فأكثر ألوان غير متناهية. وقد تقدم عند قوله تعالى : (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها) في سورة البقرة [٦٩].

ونيط الاستدلال باختلاف الألوان بوصف التذكّر لأنه استدلال يحصل بمجرّد تذكّر الألوان المختلفة إذ هي مشهورة.

وإقحام لفظ (قوم) وكون الجملة تذييلا تقدم آنفا.

وأبدى الفخر في «درة التنزيل» وجها لاختلاف الأوصاف في قوله تعالى : (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [سورة النحل : ١١] وقوله : (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [سورة النحل : ١٢] وقوله : (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) : بأن ذلك لمراعاة اختلاف شدّة الحاجة إلى قوة التأمل بدلالة المخلوقات الناجمة عن الأرض يحتاج إلى التفكر ، وهو إعمال النظر المؤدي إلى العلم. ودلالة ما ذرأه في الأرض من الحيوان محتاجة إلى مزيد تأمّل في التفكير للاستدلال على اختلاف أحوالها وتناسلها وفوائدها ، فكانت بحاجة إلى التذكّر ، وهو التفكّر مع تذكّر أجناسها

٩٤

واختلاف خصائصها. وأما دلالة تسخير الليل والنهار والعوالم العلوية فلأنها أدقّ وأحوج إلى التعمّق. عبر عن المستدلّين عليها بأنهم يعقلون ، والتعقّل هو أعلى أحوال الاستدلال اه.

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤))

القول في هذا الاستدلال وإدماج الامتنان فيه كالقول فيما سبق.

وتقدّم الكلام على تسخير الفلك في البحر وتسخير الأنهار في أثناء سورة إبراهيم.

ومن تسخير البحر خلقه على هيئة يمكن معها السبح والسير بالفلك ، وتمكين السابحين والماخرين من صيد الحيتان المخلوقة فيه والمسخّرة لحيل الصائدين. وزيد في الامتنان أن لحم صيده طريّ.

و (من) ابتدائية ، أي تأكلوا لحما طريّا صادرا من البحر.

والطريّ : ضد اليابس. والمصدر : الطراوة. وفعله : طرو ، بوزن خشن.

والحلية : ما يتحلّى به الناس ، أي يتزينون. وتقدم في قوله تعالى (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ) في سورة الرعد [١٧]. وذلك اللؤلؤ والمرجان ؛ فاللؤلؤ يوجد في بعض البحار مثل الخليج الفارسي ، والمرجان يوجد في جميع البحار ويكثر ويقلّ. وسيأتي الكلام على اللؤلؤ في سورة الحجّ ، وفي سورة الرحمن. ويأتي الكلام على المرجان في سورة الرحمن.

والاستخراج : كثرة الإخراج ، فالسين والتاء للتأكيد مثل : استجاب لمعنى أجاب.

واللبس : جعل الثوب والعمامة والمصوغ على الجسد. يقال : لبس التاج ، ولبس الخاتم ، ولبس القميص. وتقدم عند قوله تعالى : (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) في سورة الأعراف [٢٦].

وإسناد لباس الحلية إلى ضمير جمع الذكور تغليب ، وإلا فإن غالب الحلية يلبسها النساء عدا الخواتيم وحلية السيوف.

وجملة (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) معترضة بين الجمل المتعاطفة مع إمكان العطف

٩٥

لقصد مخالفة الأسلوب للتعجيب من تسخير السير في البحر باستحضار الحالة العجيبة بواسطة فعل الرؤية. وهو يستعمل في التعجيب كثيرا بصيغ كثيرة نحو : ولو ترى ، وأ رأيت ، وما ذا ترى. واجتلاب فعل الرؤية في أمثاله يفيد الحثّ على معرفة ذلك. فهذا النظم للكلام لإفادة هذا المعنى ولولاها لكان الكلام هكذا : وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وتبتغوا من فضله في فلك مواخر.

وعطف (وَلِتَبْتَغُوا) على (وَتَسْتَخْرِجُوا) ليكون من جملة النّعم التي نشأت عن حكمة تسخير البحر. ولم يجعل علة لمخر الفلك كما جعل في سورة فاطر [١٢] (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) لأن تلك لم تصدر بمنّة تسخير البحر بل جاءت في غرض آخر.

وأعيد حرف التعليل في قوله تعالى : (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) لأجل البعد بسبب الجملة المعترضة.

والابتغاء من فضل الله : التجارة كما عبّر عنها بذلك في قوله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) في سورة البقرة [١٩٨].

وعطف (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) على بقية العلل لأنه من الحكم التي سخّر الله بها البحر للناس حملا لهم على الاعتراف لله بالعبودية ونبذهم إشراك غير ربّه فيها. وهو تعريض بالذين أشركوا.

[١٥ ، ١٦] (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦))

انتقال إلى الاستدلال والامتنان بما على سطح الأرض من المخلوقات العظيمة التي في وجودها لطف بالإنسان. وهذه المخلوقات لما كانت مجعولة كالتكملة للأرض وموضوعة على ظاهر سطحها عبّر عن خلقها ووضعها بالإلقاء الذي هو رمي شيء على الأرض. ولعلّ خلقها كان متأخرا عن خلق الأرض ، إذ لعلّ الجبال انبثقت باضطرابات أرضيّة كالزلزال العظيم ثم حدثت الأنهار بتهاطل الأمطار. وأما السبل والعلامات فتأخّر وجودها ظاهر ، فصار خلق هذه الأربعة شبيها بإلقاء شيء في شيء بعد تمامه.

ولعل أصل تكوين الجبال كان من شظايا رمت بها الكواكب فصادفت سطح

٩٦

الأرض ، كما أن الأمطار تهاطلت فكوّنت الأنهار ؛ فيكون تشبيه حصول هذين بالإلقاء بيّنا. وإطلاقه على وضع السبل والعلامات تغليب. ومن إطلاق الإلقاء على الإعطاء ونحوه قوله تعالى : (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) [سورة القمر : ٢٥].

و (رَواسِيَ) جمع راس. وهو وصف من الرسو ـ بفتح الراء وسكون السين ـ. ويقال ـ بضم الراء والسين مشددة وتشديد الواو ـ. وهو الثبات والتمكن في المكان ، قال تعالى : (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) [سورة سبأ : ١٣].

ويطلق على الجبل رأس بمنزلة الوصف الغالب. وجمعه على زنة فواعل على خلاف القياس. وهو من النوادر مثل عواذل وفوارس. وتقدم بعض الكلام عليه في أول الرعد.

وقوله تعالى : (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) تعليل لإلقاء الرواسي في الأرض. والميد : الاضطراب. وضمير (تَمِيدَ) عائد إلى (الْأَرْضِ) بقرينة قرنه بقوله تعالى : (بِكُمْ) ، لأن الميد إذا عدّي بالباء علم أن المجرور بالباء هو الشيء المستقرّ في الظرف المائد ، والاضطراب يعطّل مصالح الناس ويلحق بهم آلاما.

ولما كان المقام مقام امتنان علم أن المعلل به هو انتفاء الميد لا وقوعه. فالكلام جار على حذف تقتضيه القرينة ، ومثله كثير في القرآن وكلام العرب ، قال عمرو بن كلثوم :

فعجّلنا القرى أن تشتمونا

أراد أن لا تشتمونا. فالعلّة هي انتفاء الشتم لا وقوعه. ونحاة الكوفة يخرجون أمثال ذلك على حذف حرف النّفي بعد (أَنْ). والتقدير : لأن لا تميد بكم ولئلا تشتمونا ، وهو الظاهر. ونحاة البصرة يخرجون مثله على حذف مضاف بين الفعل المعلل و (أَنْ). تقديره : كراهيّة أن تميد بكم.

وهذا المعنى الذي أشارت إليه الآية معنى غامض. ولعلّ الله جعل نتوء الجبال على سطح الأرض معدّلا لكرويتها بحيث لا تكون بحدّ من الملاسة يخفّف حركتها في الفضاء تخفيفا يوجب شدّة اضطرابها.

ونعمة الأنهار عظيمة ، فإن منها شرابهم وسقي حرثهم ، وفيها تجري سفنهم لأسفارهم.

٩٧

ولهذه المنّة الأخيرة عطف عليها (وَسُبُلاً) جمع سبيل. وهو الطريق الذي يسافر فيه برا.

وجملة (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) معترضة ، أي رجاء اهتدائكم. وهو كلام موجه يصلح للاهتداء إلى المقاصد في الأسفار من رسم الطرق وإقامة المراسي على الأنهار واعتبار المسافات. وكل ذلك من جعل الله تعالى لأن ذلك حاصل بإلهامه. ويصلح للاهتداء إلى الدّين الحقّ وهو دين التوحيد ، لأن في تلك الأشياء دلالة على الخالق المتوحّد بالخلق.

والعلامات : الأمارات التي ألهم الله الناس أن يضعوها أو يتعارفوها لتكون دلالة على المسافات والمسالك المأمونة في البرّ والبحر فتتبعها السابلة.

وجملة (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) معطوفة على جملة (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) ، لأنها في معنى : وهداكم بالنجم فأنتم تهتدون به. وهذه منّة بالاهتداء في الليل لأن السبيل والعلامات إنما تهدي في النهار ، وقد يضطرّ السالك إلى السير ليلا ؛ فمواقع النجوم علامات لاهتداء الناس السائرين ليلا تعرف بها السموات ، وأخصّ من يهتدي بها البحّارة لأنهم لا يستطيعون الإرساء في كل ليلة فهم مضطرّون إلى السير ليلا ، وهي هداية عظيمة في وقت ارتباك الطريق على السائر ، ولذلك قدم المتعلق في قوله تعالى : (وَبِالنَّجْمِ) تقديما يفيد الاهتمام ، وكذلك بالمسند الفعلي في قوله تعالى : (هُمْ يَهْتَدُونَ).

وعدل عن الخطاب إلى الغيبة التفاتا يومئ إلى فريق خاص وهم السّيارة والملّاحون فإن هدايتهم بهذه النجوم لا غير.

والتعريف في «النجم» تعريف الجنس. والمقصود منه النجوم التي تعارفها الناس للاهتداء بها مثل القطب. وتقدم في قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها) في [سورة الأنعام : ٩٧].

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله تعالى (هُمْ يَهْتَدُونَ) لمجرّد تقوي الحكم ، إذ لا يسمح المقام بقصد القصر وإن تكلّفه في «الكشاف».

[١٧ ، ١٨] (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨))

بعد أن أقيمت الدلائل على انفراد الله بالخلق ابتداء من قوله تعالى(خَلَقَ السَّماواتِ

٩٨

وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) [سورة النحل : ٣] وثبتت المنّة وحقّ الشّكر ، فرع على ذلك هاتان الجملتان لتكونا كالنتيجتين للأدلّة السابقة إنكارا على المشركين. فالاستفهام عن المساواة إنكاري ، أي لا يستوي من يخلق بمن لا يخلق. فالكاف للمماثلة ، وهي مورد الإنكار حيث جعلوا الأصنام آلهة شريكة لله تعالى. ومن مضمون الصّلتين يعرف أي الموصولين أولى بالإلهية فيظهر مورد الإنكار.

وحين كان المراد بمن لا يخلق الأصنام كان إطلاق «من» الغالبة في العاقل مشاكلة لقوله (أَفَمَنْ يَخْلُقُ).

وفرع على إنكار التسوية استفهام عن عدم التذكّر في انتفائها. فالاستفهام في قوله : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) مستعمل في الإنكار على انتفاء التذكر ، وذلك يختلف باختلاف المخاطبين ، فهو إنكار على إعراض المشركين عن التذكر في ذلك.

جملة (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) عطف على جملة (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ). وهي كالتكملة لها لأنها نتيجة لما تضمنته تلك الأدلّة من الامتنان كما تقدم. وهي بمنزلة التذييل للامتنان لأن فيها عموما يشمل النعم المذكورة وغيرها.

وهذا كلام جامع للتنبيه على وفرة نعم الله تعالى على الناس بحيث لا يستطيع عدّها العادّون ، وإذا كانت كذلك فقد حصل التّنبيه إلى كثرتها بمعرفة أصولها وما يحويها من العوالم.

وفي هذا إيماء إلى الاستكثار من الشكر على مجمل النعم ، وتعريض بفظاعة كفر من كفروا بهذا المنعم ، وتغليظ التهديد لهم. وتقدم نظيرها في سورة إبراهيم.

وجملة (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) استئناف عقب به تغليظ الكفر والتّهديد عليه تنبيها على تمكّنهم من تدارك أمرهم بأن يقلعوا عن الشرك ، ويتأهبوا للشكر بما يطيقون ، على عادة القرآن من تعقيب الزواجر بالرغائب كيلا يقنط المسرفون.

وقد خولف بين ختام هذه الآية وختام آية سورة إبراهيم ، إذ وقع هنا لك (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [سورة إبراهيم : ٣٤] لأن تلك جاءت في سياق وعيد وتهديد عقب قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) [سورة إبراهيم : ٢٨] فكان المناسب لها تسجيل ظلمهم وكفرهم بنعمة الله.

وأما هذه الآية فقد جاءت خطابا للفريقين كما كانت النّعم المعدودة عليهم منتفعا بها

٩٩

كلاهما.

ثم كان من اللطائف أن قوبل الوصفان اللذان في آية سورة إبراهيم (لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) بوصفين هنا (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) إشارة إلى أن تلك النّعم كانت سببا لظلم الإنسان وكفره وهي سبب لغفران الله ورحمته. والأمر في ذلك منوط بعمل الإنسان.

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩))

عطف على جملة (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [سورة النحل : ١٧]. فبعد أن أثبت أن الله منفرد بصفة الخلق دون غيره بالأدلّة العديدة ثم باستنتاج ذلك بقوله : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) انتقل هنا إلى إثبات أنه منفرد بعموم العلم.

ولم يقدم لهذا الخبر استدلال ولا عقّب بالدّليل لأنه مما دلّت عليه أدلّة الانفراد بالخلق ، لأن خالق أجزاء الإنسان الظاهرة والباطنة يجب له أن يكون عالما بدقائق حركات تلك الأجزاء وهي بين ظاهر وخفيّ ، فلذلك قال : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ).

والمخاطب هنا هم المخاطبون بقوله تعالى : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [سورة النحل : ١٧]. وفيه تعريض بالتهديد والوعيد بأن الله محاسبهم على كفرهم.

وفيه إعلام بأن أصنامهم بخلاف ذلك كما دلّ عليه تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي فإنه يفيد القصر لردّ دعوى الشركة.

وقرأ حفص ما يسرون وما يعلنون بالتحتية فيهما ، وهو التفات من الخطاب إلى الغيبة. وعلى قراءته تكون الجملة أظهر في التهديد منها في قصد التعليم.

[٢٠ ، ٢١] (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١))

عطف على جملة (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [سورة النحل : ١٧] وجملة (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ) [سورة النحل : ١٩].

وما صدق (الَّذِينَ) الأصنام. وظاهر أن الخطاب هنا متمحّض للمشركين وهم بعض المخاطبين في الضمائر السابقة.

١٠٠