تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

وفي كلاميهما من الوهن أنه لا وجه لتخصيص الاستعاذة بإرادة قراءة القرآن.

وقول ابن عطية : «الفاء في (فَإِذا) واصلة بين الكلامين والعرب تستعملها في مثل هذا» ، فتكون الفاء على هذا لمجرّد وصل كلام بكلام واستشهد له بالاستعمال والعهدة عليه.

وقال شرف الدين الطيبي : «قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) متّصل بالفاء بما سبق من قوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [سورة النحل : ٨٩]. وذلك لأنه تعالى لما منّ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنزال كتاب جامع لصفات الكمال وأنه تبيان لكل شيء ، ونبّه على أنه تبيان لكل شيء بالكلمة الجامعة وهي قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) [سورة النحل : ٩٠] الآية. وعطف عليه (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) [سورة النحل : ٩١] ، وأكّده ذلك التأكيد ، قال بعد ذلك (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) ، أي إذا شرعت في قراءة هذا الكتاب الشريف الجامع الذي نبهت على بعض ما اشتمل عليه ، ونازعك فيه الشيطان بهمزه ونفثه فاستعذ بالله منه والمقصود إرشاد الأمّة» اه.

وهذا أحسن الوجوه وقد انقدح في فكري قبل مطالعة كلامه ثم وجدته في كلامه فحمدت الله وترحّمته عليه. وعليه فما بين جملة (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً) [النحل : ٨٩] إلخ ، وجملة (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) جملة معترضة. والمقصود بالتفريع الشروع في التنويه بالقرآن.

وإظهار اسم (الْقُرْآنَ) دون أن يضمر للكتاب لأجل بعد المعاد.

والأظهر أن (قَرَأْتَ) مستعمل في إرادة الفعل ، مثل قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [سورة المائدة : ٦] ، وقوله : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ) [سورة الإسراء : ٣٥] وقوله : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) [سورة المجادلة : ٣]، أي يريدون العود إلى أزواجهم بقرينة قوله بعده (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) في سورة المجادلة [٣] ، وقوله تعالى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً) في سورة النساء [٩] ، أي أوشكوا أن يتركوا بعد موتهم ، وقوله (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [سورة الأحزاب : ٥٣] ، أي إذا أردتم أن تسألوهن ، وفي الحديث «إذا بايعت فقل : لا خلابة».

وحمله قليل من العلماء على الظاهر من وقوع الفعل فجعلوا إيقاع الاستعاذة بعد

٢٢١

القراءة. ونسب إلى مالك في المجموعة. والصحيح عن مالك خلافه ، ونسب إلى النخعي وابن سيرين وداود الظاهري وروي عن أبي هريرة.

والباء في (بِاللهِ) لتعدية فعل الاستعاذة. يقال : عاذ بحصن ، وعاذ بالحرم.

والسين في (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) للطلب ، أي فاطلب العوذ بالله من الشيطان ، والعوذ: اللجأ إلى ما يعصم ويقي من أمر مضرّ.

ومعنى طلب العوذ بالله محاولة العوذ به. ولا يتصوّر ذلك في جانب الله إلا بالدعاء أن يعيذه. ومن أحسن الامتثال محاكاة صيغة الأمر فيما هو من قبيل الأقوال بحيث لا يغيّر إلا التغيير الذي لا مناص منه فتكون محاكاة لفظ «استعذ» بما يدلّ على طلب العوذ بأن يقال : أستعيذ ، أو أعوذ ، فاختير لفظ أعوذ لأنه من صيغ الإنشاء ، ففيه إنشاء الطلب بخلاف لفظ أستعيذ فإنه أخفى في إنشاء الطلب ، على أنه اقتداء بما في الآية الأخرى (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) [سورة المؤمنون : ٩٧] وأبقي ما عدا ذلك من ألفاظ آية الاستعاذة على حاله. وهذا أبدع الامتثال ، فقد ورد في عمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا الأمر أنه كان يقول : «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» يحاكي لفظ هذه الآية ولم يقل في الاستعاذة (أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) لأن ذلك في غير قراءة القرآن ، فلذلك لم يحاكه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في استعاذته للقراءة.

قال ابن عطية : لم يصح عن النبي زيادة على هذا اللفظ. وما يروى من الزيادات لم يصحّ منه شيء. وجاء حديث الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : «كان رسول الله إذا قام من الليل يقول : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه إلخ». فتلك استعاذة تعوّذ وليست الاستعاذة لأجل قراءة القرآن.

واسم الشيطان تقدم عند قوله تعالى : (إِلى شَياطِينِهِمْ) في سورة البقرة [١٤].

و (الرَّجِيمِ) تقدم عند قوله تعالى : (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) في سورة الحجر [١٧].

والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد عمومه لأمّته بقرينة قوله تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

وإنما شرعت الاستعاذة عند ابتداء القراءة إيذانا بنفاسة القرآن ونزاهته ، إذ هو نازل من العالم القدسي الملكي ، فجعل افتتاح قراءته بالتجرّد عن النقائص النفسانية التي هي من

٢٢٢

عمل الشيطان ولا استطاعة للعبد أن يدفع تلك النقائص عن نفسه إلا بأن يسأل الله تعالى أن يبعد الشيطان عنه بأن يعوذ بالله ، لأن جانب الله قدسيّ لا تسلك الشياطين إلى من يأوي إليه ، فأرشد الله رسوله إلى سؤال ذلك ، وضمن له أن يعيذه منه ، وأن يعيذ أمّته عوذا مناسبا ، كما شرعت التسمية في الأمور ذوات البال وكما شرعت الطهارة للصلاة.

وإنما لم تشرع لذلك كلمة (باسم الله) لأن المقام مقام تخلّ عن النقائص ، لا مقام استجلاب التيمّن والبركة ، لأن القرآن نفسه يمن وبركة وكمال تامّ ، فالتيمّن حاصل وإنما يخشى الشيطان أن يغشى بركاته فيدخل فيها ما ينقصها ، فإن قراءة القرآن عبارة مشتملة على النطق بألفاظه والتّفهّم لمعانيه وكلاهما معرّض لوسوسة الشيطان وسوسة تتعلّق بألفاظه مثل الإنساء ، لأن الإنساء يضيع على القارئ ما يحتوي عليه المقدار المنسي من إرشاد ، ووسوسة تتعلّق بمعانيه مثل أن يخطئ فهما أو يقلب عليه مرادا ، وذلك أشد من وسوسة الإنساء. وهذا المعنى يلائم محمل الأمر بالاستعاذة عند الشروع في القراءة.

فأما الذين حملوا تعلّق الأمر بالاستعاذة أنها بعد الفراغ من القراءة ، فقالوا لأن القارئ كان في عبادة فربما دخله عجب أو رياء وهما من الشيطان فأمر بالتعوّذ منه للسلامة من تسويله ذلك.

ومحمل الأمر في هذه الآية عند الجمهور على النّدب لانتفاء أمارات الإيجاب ، فإنه لم يثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيّنه. فمن العلماء من ندبه مطلقا في الصلاة وغيرها عند كل قراءة. وجعل بعضهم جميع قراءة الصلاة قراءة واحدة تكفي استعاذة واحدة في أوّلها ، وهو قول جمهور هؤلاء. ومنهم من جعل قراءة كل ركعة قراءة مستقلة.

ومن العلماء من جعله مندوبا للقراءة في غير الصلاة ، وهو قول مالك ، وكرهها في قراءة صلاة الفريضة وأباحها بلا ندب في قراءة صلاة النافلة.

ولعلّه رأى أن في الصلاة كفاية في الحفظ من الشيطان.

وقيل : الأمر للوجوب ، فقيل في قراءة الصلاة خاصة ونسب إلى عطاء. وقد أطلق القرآن على قرآن الصلاة في قوله تعالى : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [سورة الإسراء: ٧٨] وقال : الثوري بالوجوب في قراءة الصلاة وغيرها. وعن ابن سيرين تجب الاستعاذة عند القراءة مرّة في العمر ، وقال قوم : الوجوب خاص بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم والنّدب لبقية أمّته.

ومدارك هذه الأقوال ترجع إلى تأويل الفعل في قوله تعالى : (قَرَأْتَ) ، وتأويل

٢٢٣

الأمر في قوله تعالى : (فَاسْتَعِذْ) ، وتأويل القرآن مع ما حفّ بذلك من السّنة فعلا وتركا.

وعلى الأقوال كلها فالاستعاذة مشروعة للشروع في القراءة أو لإرادته ، وليست مشروعة عند كلّ تلفّظ بألفاظ القرآن كالنّطق بآية أو آيات من القرآن في التعليم أو الموعظة أو شبههما ، خلافا لما يفعله بعض المتحذّقين إذا ساق آية من القرآن في غير مقام القراءة أن يقول كقوله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ويسوق آية.

وجملة (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ) الآية تعليل للأمر بالاستعاذة من الشيطان عند إرادة قراءة القرآن وبيان لصفة الاستعاذة.

فأما كونها تعليلا فلزيادة الحثّ على الامتثال للأمر بأن الاستعاذة تمنع تسلّط الشيطان على المستعيذ لأن الله منعه من التسلّط على الذين آمنوا المتوكّلين ، والاستعاذة منه شعبة من شعب التوكّل على الله لأن اللّجأ إليه توكّل عليه. وفي الإعلام بالعلّة تنشيط للمأمور بالفعل على الامتثال إذ يصير عالما بالحكمة وأما كونها بيانا فلما تضمّنته من ذكر التوكّل على الله ليبيّن أن الاستعاذة إعراب عن التوكّل على الله تعالى لدفع سلطان الشيطان ليعقد المستعيذ نيّته على ذلك. وليست الاستعاذة مجرّد قول بدون استحضار نيّة العوذ بالله.

فجملة (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) صفة ثانية للموصول. وقدّم المجرور على الفعل للقصر ، أي لا يتوكّلون إلا على ربّهم. وجعل فعلها مضارعا لإفادة تجدّد التوكّل واستمراره. فنفي سلطان الشيطان مشروط بالأمرين : الإيمان ، والتوكّل. ومن هذا تفسير لقوله تعالى في الآية الأخرى (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [سورة الحجر : ٤٢].

والسّلطان : مصدر بوزن الغفران ، وهو التسلّط والتصرّف المكين.

فالمعنى أن الإيمان مبدأ أصيل لتوهين سلطان الشيطان في نفس المؤمن فإذا انضمّ إليه التوكّل على الله اندفع سلطان الشيطان عن المؤمن المتوكّل.

وجملة (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) مستأنفة استئنافا بيانيا لأن مضمون الجملة قبلها يثير سؤال سائل يقول : فسلطانه على من؟.

والقصر المستفاد من (إِنَّما) قصر إضافي بقرينة المقابلة ، أي دون الذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكّلون ، فحصل به تأكيد جملة (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) لزيادة الاهتمام بتقرير مضمونها ، فلا يفهم من القصر أنه لا سلطان له على غير هذين الفريقين

٢٢٤

وهم المؤمنون الذين أهملوا التوكّل والذين انخدعوا لبعض وسوسة الشيطان.

ومعنى (يَتَوَلَّوْنَهُ) يتّخذونه وليا لهم ، وهم الملازمون للملل المؤسّسة على ما يخالف الهدي الإلهي عن رغبة فيها وابتهاج بها. ولا شكّ أن الذين يتولّونه فريق غير المشركين لأن العطف يقتضي بظاهره المغايرة ، وهم أصناف كثيرة من أهل الكتاب. وإعادة اسم الموصول في قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) لأن ولايتهم للشيطان أقوى.

وعبّر بالمضارع للدّلالة على تجدّد التولّي ، أي الذين يجدّدون تولّيه ، للتّنبيه على أنهم كلما تولّوه بالميل إلى طاعته تمكّن منهم سلطانه ، وأنه إذا انقطع التولّي بالإقلاع أو بالتوبة انسلخ سلطانه عليهم.

وإنما عطف (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) دون إعادة اسم الموصول للإشارة إلى أن الوصفين كصلة واحدة لموصول واحد لأن المقصود اجتماع الصّلتين.

والباء في (بِهِ مُشْرِكُونَ) للسببية ، والضمير المجرور عائد إلى الشيطان ، أي صاروا مشركين بسببه. وليست هي كالباء في قوله تعالى : (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) [سورة الأعراف : ٣٣].

وجعلت الصّلة جملة اسمية لدلالتها على الدّوام والثّبات ، لأن الإشراك صفة مستمرّة لأن قرارها القلب ، بخلاف المعاصي لأن مظاهرها الجوارح ، للإشارة إلى أن سلطان الشيطان على المشركين أشدّ وأدوم لأن سببه ثابت ودائم.

وتقديم المجرور في (بِهِ مُشْرِكُونَ) لإفادة الحصر ، أي ما أشركوا إلا بسببه ، ردّا عليهم إذ يقولون (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) [سورة الأنعام : ١٤٨] وقولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) [سورة النحل : ٣٥] وقولهم : (وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [سورة الأعراف : ٢٨].

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١))

استمرّ الكلام على شأن القرآن وتنزيهه عما يوسوسه الشيطان في الصدّ عن متابعته.

ولما كان من أكبر الأغراض في هذه السورة بيان أن القرآن منزل من عند الله ، وبيان فضله وهديه فابتدئ فيها بآية (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) [سورة النحل : ٢] ، ثم

٢٢٥

قفّيت بما اختلقه المشركون من الطّعن فيه بعد تنقلات جاء فيها (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [سورة النحل : ٢٤] ، وأتبع ذلك بتنقلات بديعة فأعيد الكلام على القرآن وفضائله من قوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) [سورة النحل : ٦٤] ثم قوله (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [سورة النحل : ٨٩]. وجاء في عقب ذلك بشاهد يجمع ما جاء به القرآن ، وذلك آية (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) [سورة النحل : ٩٠] ، فلما استقرّ ما يقتضي تقرّر فضل القرآن في النفوس نبّه على نفاسته ويمنه بقوله : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [سورة النحل : ٩٨] ، لا جرم تهيأ المقام لإبطال اختلاق آخر من اختلاقهم على القرآن اختلاقا مموّها بالشبهات كاختلاقهم السابق الذي أشير إليه بقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [سورة النحل : ٢٤]. ذلك الاختلاق هو تعمّدهم التّمويه فيما يأتي من آيات القرآن مخالفا لآيات أخرى لاختلاف المقتضي والمقام. والمغايرة باللين والشدّة ، أو بالتعميم والتخصيص ، ونحو ذلك مما يتبع اختلافه اختلاف المقامات واختلاف الأغراض واختلاف الأحوال التي يتعلّق بها ، فيتّخذون من ظاهر ذلك دون وضعه مواضعه وحمله محامله مغامز يتشدّقون بها في نواديهم ، يجعلون ذلك اضطرابا من القول ويزعمونه شاهدا باقتداء قائله في إحدى المقالتين أو كلتيهما. وبعض ذلك ناشئ عن قصور مداركهم عن إدراك مرامي القرآن وسموّ معانيه ، وبعضه ناشئ عن تعمّد للتجاهل تعلّقا بظواهر الكلام يلبّسون بذلك على ضعفاء الإدراك من أتباعهم ، ولذلك قال تعالى : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ، أي ومنهم من يعلمون ولكنهم يكابرون.

روي عن ابن عباس أنه قال : «كان إذا نزلت آية فيها شدّة ثم نزلت آية ألين منها يقول كفار قريش : والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه ، اليوم يأمر بأمر وغدا ينهى عنه ، وأنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه» اه.

وهذه الكلمة أحسن ما قاله المفسّرون في حاصل معنى هذه الآية. فالمراد من التبديل في قوله تعالى ؛ (بَدَّلْنا) مطلق التغاير بين الأغراض والمقامات ، أو التغاير في المعاني واختلافها باختلاف المقاصد والمقامات مع وضوح الجمع بين محاملها.

والمرد بالآية الكلام التام من القرآن ، وليس المراد علامة صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعني المعجزة بقرينة قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ).

فيشمل التبديل نسخ الأحكام مثل نسخ قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ

٢٢٦

بِها) [سورة الإسراء : ١١٠] بقوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [سورة الحجر : ٩٤]. وهذا قليل في القرآن الذي يقرأ على المشركين لأن نسخ الأحكام إنما كثر بعد الهجرة حين تكوّنت الجامعة الإسلامية ، وأما نسخ التلاوة فلم يرد من الآثار ما يقتضي وقوعه في مكّة فمن فسّر به الآية كما نقل عن مجاهد فهو مشكل.

ويشمل التعارض بالعموم والخصوص ونحو ذلك من التعارض الذي يحمل بعضه على بعض ، فيفسّر بعضه بعضا ويؤوّل بعضه بعضا ، كقوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) في سورة الشورى [٥] مع قوله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) في سورة المؤمن [٧] ، فيأخذون بعموم (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) [سورة الشورى : ٥] فيجعلونه مكذّبا لخصوص (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) [سورة غافر : ٧] فيزعمونه إعراضا عن أحد الأمرين إلى الأخير منهما.

وكذلك قوله تعالى : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) [سورة المزمل : ١٠] يأخذون من ظاهره أنه أمر بمتاركتهم فإذا جاءت آيات بعد ذلك لدعوتهم وتهديدهم زعموا أنه انتقض كلامه وبدا له ما لم يكن يبدو له من قبل.

وكذلك قوله تعالى : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) [سورة الأحقاف : ٩] مع آيات وصف عذاب المشركين وثواب المؤمنين.

وكذلك قوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [سورة الإسراء : ١٥] مع قوله تعالى : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [سورة النحل : ٢٥].

ومن هذا ما يبدو من تخالف بادئ الأمر كقوله بعد ذكر خلق الأرض (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) في [سورة فصلت : ١١] مع قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) من سورة النازعات [٣٠] ، فيحسبونه تناقضا مع الغفلة عن محمل (بَعْدَ ذلِكَ) من جعل (بعد) بمعنى (مع) وهو استعمال كثير ، فهم يتوهّمون التناقض مع جهلهم أو تجاهلهم بالوحدات الثماني المقرّرة في المنطق.

فالتبديل في قوله تعالى : (بَدَّلْنا) هو التعويض ببدل ، أي عوض. والتعويض لا يقتضي إبطال المعوّض ـ بفتح الواو ـ بل يقتضي أن يجعل شيء عوضا عن شيء. وقد

٢٢٧

يبدو للسامع أن مثل لفظ المعوّض ـ بفتح الواو ـ جعل عوضا عن مثل لفظ العوض ـ بالكسر ـ في آيات مختلفة باختلاف الأغراض من تبشير وإنذار ، أو ترغيب وترهيب ، أو إجمال وبيان ، فيجعله الطاعنون اضطرابا لأن مثله قد كان بدل ولا يتأملون في اختلاف الأغراض. وقد تقدم شيء من هذا المعنى عند قوله تعالى : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) في سورة يونس [١٥].

و (مَكانَ آيَةٍ) منصوب على الظرفية المكانية بأن تأتي آية في الدعوة والخطاب في مكان آية أخرى أتت في مثل تلك الدعوة ، فالمكان هنا مكان مجازي ، وهو حالة الكلام والخطاب ، كما يسمّى ذلك مقاما ، فيقال : هذا مقام الغضب ، فلا تأت فيه بالمزح. وليس المراد مكانها من ألواح المصحف ولا بإبدالها محوها منه.

وجملة (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) معترضة بين شرط (إِذا) وجوابها. والمقصود منها تعليم المسلمين لا الردّ على المشركين ، لأنهم لو علموا أن الله هو المنزل للقرآن لارتفع البهتان. والمعنى : أنه أعلم بما ينزل من آية بدل آية ، فهو أعلم بمكان الأولى ومكان الثانية ومحمل كلتيهما ، وكل عنده بمقدار وعلى اعتبار.

وقرأ الجمهور (بِما يُنَزِّلُ) ـ بفتح النون وتشديد الزاي ـ. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ـ بسكون النون وتخفيف الزاي ـ.

وحكاية طعنهم في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصيغة قصر الموصوف على الصّفة ، فجعلوه لا صفة له إلا الافتراء ، وهو قصر إضافي ، أي لست بمرسل من الله. وهذا من مجازفتهم وسرعتهم في الحكم الجائر فلم يقتصروا على أن تبديله افتراء بل جعلوا الرسول مقصورا على كونه مفتريا لإفادة أن القرآن الوارد مقصور على كونه افتراء.

وأصل الافتراء : الاختراع ، وغلب على اختراع الخبر ، أي اختلاقه ، فساوى الكذب في المعنى ، ولذلك قد يطلق وحده كما هنا ، وقد يطلق مقترنا بالكذب كقوله الآتي : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [سورة النحل : ١٠٥] إرجاعا به إلى أصل الاختراع فيجعل له مفعول هو آيل إلى معناه فصار في معنى المفعول المطلق. وقد تقدم عند قوله تعالى: (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في [سورة العقود : ١٠٣].

و (بَلْ) للإضراب الإبطالي على كلامهم ، وهو من طريقة النقض الإجمالي في علم المناظرة.

٢٢٨

وضمير (أَكْثَرُهُمْ) للذين قالوا إنما أنت مفتر ، أي ليس كما قالوا ولكن أكثر القائلين ذلك لا يعلمون ، أي لا يفهمون وضع الكلام مواضعه وحمله محامله.

وفهم من الحكم على أكثرهم بعدم العلم أن قليلا منهم يعلمون أن ذلك ليس افتراء ولكنهم يقولون ذلك تلبيسا وبهتانا ولا يعلمون أن التّنزيل من عند الله لا ينافي إبطال بعض الأحكام إذا اختلفت المصالح أو روعي الرّفق.

ويجوز حمل لفظ أكثر على إرادة جميعهم كما تقدّم في هذه السورة.

(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢))

جواب عن قولهم : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) [سورة النحل : ١٠١] فلذلك فصل فعل (قُلْ) لوقوعه في المحاورة ، أي قل لهم : لست بمفتر ولا القرآن بافتراء بل نزّله روح القدس من الله. وفي أمره بأن يقول لهم ذلك شدّ لعزمه لكيلا يكون تجاوزه الحدّ في البهتان صارفا إيّاه عن محاورتهم.

فبعد أن أبطل الله دعواهم عليه أنه مفتر بطريقة النّقض أمر رسوله أن يبيّن لهم ماهيّة القرآن. وهذه نكتة الالتفات في قوله تعالى : (مِنْ رَبِّكَ) الجاري على خلاف مقتضى ظاهر حكاية المقول المأمور بأن يقوله ، لأن مقتضى الظاهر أن يقول : من ربي ، فوقع الالتفات إلى الخطاب تأنيسا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزيادة توغّل الكلام معه في طريقة الخطاب.

واختير اسم الربّ لما فيه من معنى العناية والتدبير.

و (رُوحُ الْقُدُسِ) : جبريل. وتقدّم عند قوله تعالى (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) في سورة البقرة [٨٧]. والروح : الملك ، قال تعالى : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) [سورة مريم : ١٧] ، أي ملكا من ملائكتنا.

و (الْقُدُسِ) : الطهر. وهو هنا مراد به معنياه الحقيقي والمجازي الذي هو الفضل وجلالة القدر.

وإضافة الروح إلى القدس من إضافة الموصوف إلى الصّفة ، كقولهم : حاتم الجود ، وزيد الخير. والمراد : حاتم الجواد ، وزيد الخيّر. فالمعنى : الملك المقدس.

والباء في (بِالْحَقِ) للملابسة ، وهي ظرف مستقرّ في موضع الحال من الضمير

٢٢٩

المنصوب في (نَزَّلَهُ) مثل (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [سورة المؤمنون : ٢٠] ، أي ملابسا للحقّ لا شائبة للباطل فيه.

وذكرت علّة من علل إنزال القرآن على الوصف المذكور ، أي تبديل آية مكان آية ، بأن في ذلك تثبيتا للذين آمنوا إذ يفهمون محمل كل آية ويهدون بذلك وتكون آيات البشرى بشارة لهم وآيات الإنذار محمولة على أهل الكفر.

ففي قوله تعالى : (نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ) إبطال لقولهم : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) [سورة النحل : ١٠١] ، وفي قوله تعالى ؛ (بِالْحَقِ) إيقاظ للناس بأن ينظروا في حكمة اختلاف أغراضه وأنها حقّ.

وفي التعليل بحكمة التثبيت والهدى والبشرى بيان لرسوخ إيمان المؤمنين وسداد آرائهم في فهم الكلام السامي ، وأنه تثبيت لقلوبهم بصحة اليقين وهدى وبشرى لهم.

وفي تعلّق الموصول وصلته بفعل التثبيت إيماء إلى أن حصول ذلك لهم بسبب إيمانهم ، فيفيد تعريضا بأن غير المؤمنين تقصر مداركهم عن إدراك ذلك الحقّ فيختلط عليهم الفهم ويزدادون كفرا ويضلّون ويكون نذارة لهم.

والمراد بالمسلمين الذين آمنوا ، فكان مقتضى الظاهر أن يقال : وهدى وبشرى لهم ، فعدل إلى الإظهار لزيادة مدحهم بوصف آخر شريف.

وقوله تعالى : (وَهُدىً وَبُشْرى) عطف على الجار والمجرور من قوله : (لِيُثَبِّتَ) ، فيكون (هُدىً وَبُشْرى) مصدرين في محل نصب على المفعول لأجله ، لأن قوله (لِيُثَبِّتَ) وإن كان مجرور اللفظ باللام إذ لا يسوغ نصبه على المفعول لأجله لأنه ليس مصدرا صريحا.

وأما (هُدىً وَبُشْرى) فلما كانا مصدرين كانا حقيقين بالنصب على المفعول لأجله بحيث لو ظهر إعرابهما لكانا منصوبين كما في قوله تعالى : (لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) [سورة النحل : ٨].

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣))

عطف على جملة (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [سورة النحل : ١٠١]. وهذا إبطال

٢٣٠

لتلبيس آخر مما يلبّسون به على عامّتهم ، وذلك أن يقولوا : إن محمدا يتلقّى القرآن من رجل من أهل مكة. قيل : قائل ذلك الوليد بن المغيرة وغيره ، قال عنه تعالى : (فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) [سورة المدثر : ٢٤] ، أي لا يلقّنه ملك بل يعلّمه إنسان ، وقد عيّنوه بما دلّ عليه قوله تعالى (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ).

وافتتاح الجملة بالتأكيد بلام القسم و (قد) يشير إلى أن خاصة المشركين كانوا يقولون ذلك لعامّتهم ولا يجهرون به بين المسلمين لأنه باطل مكشوف ، وأن الله أطلع المسلمين على ذلك. فقد كان في مكّة غلام روميّ كان مولى لعامر بن الحضرمي اسمه جبر كان يصنع السيوف بمكّة ويقرأ من الإنجيل ما يقرأ أمثاله من عامّة النصارى من دعوات الصلوات ، فاتّخذ زعماء المشركين من ذلك تمويها على العامة ، فإن معظم أهل مكّة كانوا أمّيين فكانوا يحسبون من يتلو كلمات يحفظها ولو محرّفة ، أو يكتب حروفا يتعلّمها ، يحسبونه على علم ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما جانبه قومه وقاطعوه يجلس إلى هذا الغلام ، وكان هذا الغلام قد أظهر الإسلام فقالت قريش. هذا يعلّم محمدا ما يقوله.

وقيل : كان غلام رومي اسمه بلعام ، كان عبدا بمكة لرجل من قريش ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقف عليه يدعوه إلى الإسلام ، فقالوا : إن محمدا يتعلّم منه ، وكان هذا العبد يقول: إنّما يقف عليّ يعلّمني الإسلام.

وظاهر الإفراد في (إِلَيْهِ) أن المقصود رجل واحد. وقد قيل : المراد عبدان هما جبر ويسار كانا قنّين ، فيكون المراد ب (بَشَرٌ) الجنس ، وبإفراد ضميره جريانه على أفراد معاده.

وقد كشف القرآن هذا اللّبس هنا بأوضح كشف إذ قال قولا فصلا دون طول جدال (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) ، أي كيف يعلّمه وهو أعجميّ لا يكاد يبين ، وهذا القرآن فصيح عربي معجز.

والجملة جواب عن كلامهم ، فهي مستأنفة استئنافا بيانيا لأن قولهم : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) يتضمّن أنه ليس منزّلا من عند الله فيسأل سائل : ما ذا جواب قولهم؟ فيقال : (لِسانُ الَّذِي ...) إلخ ، وهذا النّظم نظير نظم قوله تعالى : (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ) رسالاته [سورة الأنعام : ١٢٤].

وألحد : مثل لحد ، أي مال عن القويم. فهو مما جاء من الأفعال مهموز بمعنى

٢٣١

المجرد ، كقولهم : أبان بمعنى بان. فمعنى (يُلْحِدُونَ) يميلون عن الحقّ لأن ذلك اختلاق معاذير ، فهم يتركون الحقّ القويم من أنه كلام منزّل من الله إلى أن يقولوا (يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) ، فذلك ميل عن الحقّ وهو إلحاد.

ويجوز أن يراد بالإلحاد الميل بكلامهم المبهم إلى قصد معين لأنهم قالوا : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) وسكتوا عن تعيينه توسعة على أنفسهم في اختلاق المعاذير ، فإذا وجدوا ساذجا أبله يسأل عن المعني بالبشر قالوا له : هو جبر أو بلعام ، وإذا توسّموا نباهة السائل تجاهلوا وقالوا : هو بشر من الناس ، فإطلاق الإلحاد على هذا المعنى مثل إطلاق الميل على الاختيار.

وقرأ نافع والجمهور (يُلْحِدُونَ) ـ بضمّ الياء ـ مضارع ألحد. وقرأ حمزة والكسائي (يُلْحِدُونَ) بفتح الياء من لحد مرادف ألحد. وقد تقدّم الإلحاد في قوله تعالى : (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) في سورة الأعراف [١٨٠]. وليست هذه الهمزة كقولهم : ألحد الميت ، لأن تلك للجعل ذا لحد.

واللسان : الكلام. سمّي الكلام باسم آلته. والأعجمي : المنسوب إلى الأعجم ، وهو الذي لا يبين عن مراده من كل ناطق لا يفهمون ما يريده. ولذلك سمّوا الدوابّ العجماوات. فالياء فيه ياء النسب. ولما كان المنسوب إليه وصفا كان النسب لتقوية الوصف.

والمبين : اسم فاعل من أبان ، إذا صار ذا إبانة ، أي زائد في الإبانة بمعنى الفصاحة والبلاغة ، فحصل تمام التضادّ بينه وبين (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ).

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤))

جملة معترضة. وورود هذه الآية عقب ذكر اختلاق المتقعّرين على القرآن المرجفين بالقالة فيه بين الدهماء يومئ إلى أن المراد بالذين لا يؤمنون هم أولئك المردود عليهم آنفا. وهم فريق معلوم بشدة العداوة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالتصلّب في التصدّي لصرف الناس عنه بحيث بلغوا من الكفر غاية ما وراءها غاية ، فحقّت عليهم كلمة الله أنهم لا يؤمنون ، فهؤلاء فريق غير معيّن يومئذ ولكنهم مشار إليهم على وجه الإجمال ، وتكشف عن تعيينهم عواقب أحوالهم.

٢٣٢

فقد كان من الكافرين بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو جهل وأبو سفيان. وكان أبو سفيان أطول مدة في الكفر من أبي جهل ؛ ولكن أبا جهل كان يخلط كفره بأذى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والحنق عليه. وكان أبو سفيان مقتصرا على الانتصار لدينه ولقومه ودفع المسلمين عن أن يغلبوهم فحرم الله أبا جهل الهداية فأهلكه كافرا ، وهدى أبا سفيان فأصبح من خيرة المؤمنين ، وتشرف بصهر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكان الوليد بن المغيرة وعمر بن الخطاب كافرين وكان كلاهما يدفع الناس من اتّباع الإسلام ، ولكن الوليد كان يختلق المعاذير والمطاعن في القرآن وذلك من الكيد ، وعمر كان يصرف الناس بالغلظة علنا دون اختلاق ، فحرم الله الوليد بن المغيرة الاهتداء ، وهدى عمر إلى الإسلام فأصبح الإسلام به عزيز الجانب. فتبيّن الناس أن الوليد من الذين لا يؤمنون بآيات الله ، وأن عمر ليس منهم ، وقد كانا معا كافرين في زمن ما. ويشير إلى هذا المعنى الذي ذكرناه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) [سورة الزمر : ٣] فوصف من لا يهديه الله بوصفين الكذب وشدة الكفر.

فتبيّن أن معنى قوله تعالى : (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) من كان الإيمان منافيا لجبلّة طبعه لا لأميال هواه. وهذا يعلم الله أنه لا يؤمن وأنه ليس معرّضا للإيمان ، فلذلك لا يهديه الله ، أي لا يكوّن الهداية في قلبه.

وهذا الأسلوب عكس أسلوب قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ) كلمات (رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) [سورة يونس : ٩٦] ، وكل يرمي إلى معنى عظيم.

فموقع هذه الجملة من التي قبلها موقع التعليل لجميع أقوالهم المحكيّة والتذييل لخلاصة أحوالهم ، ولذلك فصلت بدون عطف.

وعطف (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) على (لا يَهْدِيهِمُ) للدّلالة على حرمانهم من الخير وإلقائهم في الشرّ لأنهم إذا حرموا الهداية فقد وقعوا في الضلالة ، وما ذا بعد الحقّ إلا الضلال ، وهذا كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) [سورة الحج : ٤]. ويشمل العذاب عذاب الدنيا وهو عذاب القتل مثل ما أصاب أبا جهل يوم بدر من ألم الجراح وهو في سكرات الموت ، ثم من إهانة الإجهاز عليه عقب ذلك.

(إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥))

٢٣٣

هذا ردّ لقولهم : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) [سورة النحل : ١٠١] بقلب ما زعموه عليهم ، كما كان قوله تعالى : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ) [سورة النحل : ١٠٣] جوابا عن قولهم : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [سورة النحل : ١٠٣]. فبعد أن نزّه القرآن عن أن يكون مفترى والمنزّل عليه عن أن يكون مفتريا ثني العنان لبيان من هو المفتري. وهذا من طريقة القلب في الحال.

ووجه مناسبة ذكره هنا أن قولهم : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) يستلزم تكذيب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في أن ما جاء به منزّل إليه من عند الله ، فصاروا بهذا الاعتبار يؤكّدون بمضمونه قولهم : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) يؤكّد أحد القولين القول الآخر ، فلما ردّ قولهم : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) بقوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ* قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) [سورة النحل : ١٠١ ـ ١٠٢]. وردّت مقالتهم الأخرى في صريحها بقوله (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ) ، وردّ مضمونها هنا بقوله (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) الآية ، حاصلا به ردّ نظيرها أعني قولهم (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) بكلام أبلغ من كلامهم ، لأنهم أتوا في قولهم (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) بصيغة قصر هي أبلغ مما قالوه ، لأن قولهم : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) قصر للمخاطب على صفة الافتراء الدائمة ، إذ الجملة الاسمية تقتضي الثبات والدّوام ، فردّ عليهم بصيغة تقصرهم على الافتراء المتكرّر المتجدّد ، إذ المضارع يدلّ على التجدّد.

وأكّد فعل الافتراء بمفعوله الذي هو بمعنى المفعول المطلق لكونه آئلا إليه المعنى.

وعرّف (الْكَذِبَ) بأداة تعريف الجنس الدّالة على تميّز ماهية الجنس واستحضارها ، فإن تعريف اسم الجنس أقوى من تنكيره ، كما تقدّم في قوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [سورة الفاتحة : ٢].

وعبّر عن المقصور عليهم باسم الموصول دون أن يذكر ضميرهم ، فيقال : إنما يفتري الكذب أنتم ، ليفيد اشتهارهم بمضمون الصّلة ، ولأن للصّلة أثرا في افترائهم ، لما تفيده الموصولية من الإيماء إلى وجه بناء الخبر.

وعليه فإن من لا يؤمن بالدلائل الواضحة التي هي آيات صدق لا يسعه إلا الافتراء لترويج تكذيبه بالدلائل الواضحة. وفي هذا كناية عن كون تكذيبهم بآيات الله عن مكابرة لا عن شبهة.

ثم أردفت جملة القصر بجملة قصر أخرى بطريق ضمير الفصل وطريق تعريف

٢٣٤

المسند وهي جملة (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ).

وافتتحت باسم الإشارة ، بعد إجراء وصف انتفاء الإيمان بآيات الله عنهم ، لينبه على أن المشار إليهم جديرون بما يرد من الخبر بعد اسم الإشارة ، وهو قصرهم على الكذب ، لأن من لا يؤمن بآيات الله يتّخذ الكذب ديدنا له متجدّدا.

وجعل المسند في هذه الجملة معرّفا باللام ليفيد أن جنس الكاذبين اتّحد بهم وصار منحصرا فيهم ، أي الذين تعرف أنهم طائفة الكاذبين هم هؤلاء. وهذا يؤول إلى معنى قصر جنس المسند على المسند إليه ، فيحصل قصران في هذه الجملة : قصر موصوف على صفة ، وقصر تلك الصفة على ذلك الموصوف. والقصران الأوّلان الحاصلان من قوله : (إِنَّما يَفْتَرِي) وقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ) إضافيان ، أي لا غيرهم الذي رموه بالافتراء وهو محاشى منه ، والثالث (أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) قصر حقيقي ادّعائي للمبالغة ، إذ نزل بلوغ الجنس فيهم مبلغا قويا منزلة انحصاره فيهم.

واختير في الصّلة صيغة (لا يُؤْمِنُونَ) دون : لم يؤمنوا ، لتكون على وزان ما عرفوا به سابقا في قوله : (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) ، ولما في المضارع من الدلالة على أنهم مستمرّون على انتفاء الإيمان لا يثبت لهم ضدّ ذلك.

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦))

لما سبق التّحذير من نقض عهد الله الذي عاهدوه ، وأن لا يغرّهم ما لأمّة المشركين من السّعة والربو ، والتحذير من زلل القدم بعد ثبوتها ، وبشروا بالوعد بحياة طيبة ، وجزاء أعمالهم الصالحة من الإشارة إلى التّمسك بالقرآن والاهتداء به ، وأن لا تغرّهم شبه المشركين وفتونهم في تكذيب القرآن ، عقب ذلك بالوعيد على الكفر بعد الإيمان ، فالكلام استئناف ابتدائي.

ومناسبة الانتقال أن المشركين كانوا يحاولون فتنة الراغبين في الإسلام والذين أسلموا ، فلذلك ردّ عليهم بقوله : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) إلى قوله : (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) [سورة النحل : ١٠٢] ، وكانوا يقولون : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [سورة النحل : ١٠٣] فردّ عليهم بقوله : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ) [سورة النحل : ١٠٣]. وكان الغلام الذي عنوه بقولهم (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) قد أسلم ثم فتنه المشركون فكفر ، وهو جبر مولى

٢٣٥

عامر بن الحضرمي. وكانوا راودوا نفرا من المسلمين على الارتداد ، منهم : بلال ، وخبّاب بن الأرتّ ، وياسر ، وسميّة أبوا عمار بن ياسر ، وعمّار ابنهما ، فثبتوا على الإسلام. وفتنوا عمارا فأظهر لهم الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. وفتنوا نفرا آخرين فكفروا ، وذكر منهم الحارث بن ربيعة بن الأسود ، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة ، وعلي بن أمية بن خلف ، والعاصي بن منبّه بن الحجّاج ، وأحسب أن هؤلاء هم الذين نزل فيهم قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) في سورة العنكبوت [١٠] ، فكان من هذه المناسبة ردّ لعجز الكلام على صدره.

على أن مضمون (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) مقابل لمضمون (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) [سورة النحل : ٩٧] ، فحصل الترهيب بعد الترغيب ، كما ابتدئ بالتحذير تحفّظا على الصالح من الفساد ، ثم أعيد الكلام بإصلاح الذين اعتراهم الفساد ، وفتح باب الرخصة للمحافظين على صلاحهم بقدر الإمكان.

واعلم أن الآية إن كانت تشير إلى نفر كفروا بعد إسلامهم كانت (مَنْ) موصولة وهي مبتدأ والخبر (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ). وقرن الخبر بالفاء لأن في المبتدا شبها بأداة الشرط. وقد يعامل الموصول معاملة الشرط ، ووقع في القرآن في غير موضع. ومنه قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) [سورة البروج : ١٠] ، وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) إلى قوله (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) في سورة براءة [٣٤]. وقيل إن فريقا كفروا بعد إسلامهم ، كما روي في شأن جبر غلام ابن الحضرمي. وهذا الوجه أليق بقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [سورة النحل : ١٠٨] الآية.

وإن كان ذلك لم يقع فالآية مجرّد تحذير للمسلمين من العود إلى الكفر ، ولذلك تكون (مَنْ) شرطية ، والشرط غير مراد به معيّن بل هو تحذير ، أي من يكفروا بالله ، لأن الماضي في الشرط ينقلب إلى معنى المضارع ، ويكون قوله : (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ) جوابا.

والتّحذير حاصل على كلا المعنيين.

وأما قوله : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فهو ترخيص ومعذرة لما صدر من عمار بن ياسر وأمثاله إذا اشتدّ عليهم عذاب من فتنوهم.

٢٣٦

وقوله : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) استثناء من عموم (مَنْ كَفَرَ) لئلا يقع حكم الشرط عليه ، أي إلا من أكرهه المشركون على الكفر ، أي على إظهاره فأظهره بالقول لكنه لم يتغير اعتقاده. وهذا فريق رخّص الله لهم ذلك كما سيأتي.

ومصحّح الاستثناء هو أن الذي قال قول الكفّار قد كفر بلفظه.

والاستدراك بقوله : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) استدراك على الاستثناء ، وهو احتراس من أن يفهم من الاستثناء أن المكره مرخّص له أن ينسلخ عن الإيمان من قلبه.

و (مَنْ شَرَحَ) معطوف ب (لكِنْ) على (مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ، لأنه في معنى المنفي لوقوعه عقب الاستثناء من المثبت ، فحرف (لكِنْ) عاطف ولا عبرة بوجود الواو على التحقيق.

واختير (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) دون نحو : فقد غضب الله عليهم ، لما تدلّ عليه الجملة الاسمية من الدوام والثبات ، أي غضب لا مغفرة معه.

وتقديم الخبر المجرور على المبتدإ للاهتمام بأمرهم ، فقدّم ما يدلّ عليهم ، ولتصحيح الإتيان بالمبتدإ نكرة حين قصد بالتّنكير التعظيم ، أي غضب عظيم ، فاكتفي بالتنكير عن الصفة.

وأما تقديم (لَهُمْ) على (عَذابٌ عَظِيمٌ) فللاهتمام.

والإكراه : الإلجاء إلى فعل ما يكره فعله. وإنما يكون ذلك بفعل شيء تضيق عن تحمّله طاقة الإنسان من إيلام بالغ أو سجن أو قيد أو نحوه.

وقد رخّصت هذه الآية للمكره على إظهار الكفر أن يظهره بشيء من مظاهره التي يطلق عليها أنها كفر في عرف الناس من قول أو فعل.

وقد أجمع علماء الإسلام على الأخذ بذلك في أقوال الكفر ، فقالوا : فمن أكره على الكفر غير جارية عليه أحكام الكفر ، لأن الإكراه قرينة على أن كفره تقية ومصانعة بعد أن كان مسلما. وقد رخّص الله ذلك رفقا بعباده واعتبارا للأشياء بغاياتها ومقاصدها.

وفي الحديث : أن ذلك وقع لعمار بن ياسر ، وأنه ذكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصوّبه وقال له : «وإن عادوا لك فعد».

وأجمع على ذلك العلماء. وشذّ محمد بن الحسن فأجرى على هذا التظاهر بالكفر

٢٣٧

حكم الكفّار في الظاهر كالمرتدّ فيستتاب عن المكنة منه.

وسوّى جمهور العلماء بين أقوال الكفر وأفعاله كالسجود للصنم. وقالت طائفة : إن الإكراه على أفعال الكفر لا يبيحها. ونسب إلى الأوزاعي وسحنون والحسن البصري ، وهي تفرقة غير واضحة. وقد ناط الله الرخصة باطمئنان القلب بالإيمان وغفر ما سوّل القلب.

وإذا كان الإكراه موجب الرخصة في إظهار الكفر فهو في غير الكفر من المعاصي أولى كشرب الخمر والزنا ، وفي رفع أسباب المؤاخذة في غير الاعتداء على الغير كالإكراه على الطلاق أو البيع.

وأما في الاعتداء على الناس من ترتّب الغرم فبين مراتب الإكراه ومراتب الاعتداء المكره عليه تفاوت ، وأعلاها الإكراه على قتل نفس. وهذا يظهر أنه لا يبيح الإقدام على القتل لأن التوعّد قد لا يتحقق وتفوت نفس القتيل.

على أن أنواعا من الاعتداء قد يجعل الإكراه ذريعة إلى ارتكابها بتواطؤ بين المكره والمكره. ولهذا كان للمكره ـ بالكسر ـ جانب من النظر في حمل التبعة عليه.

وهذه الآية لم تتعرّض لغير مؤاخذة الله تعالى في حقّه المحض وما دون ذلك فهو مجال الاجتهاد.

والخلاف في طلاق المكره معلوم ، والتفاصيل والتفاريع مذكورة في كتب الفروع وبعض التفاسير.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧))

هذه الجملة واقعة موقع التعليل فلذلك فصلت عن التي قبلها ، وإشارة ذلك إلى مضمون قوله (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [سورة النحل : ١٠٦].

وضمير (بِأَنَّهُمُ) عائد إلى (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ) [سورة النحل : ١٠٦] سواء كان ما صدق (مَنْ) معيّنا أو مفروضا على أحد الوجهين السابقين.

والباء للسببية ، فمدخولها سبب.

٢٣٨

و (اسْتَحَبُّوا) مبالغة في (أحبوا) مثل استأخر واستكان. وضمن (استحبّوا) معنى (فضّلوا) فعدي بحرف (على) ، أي لأنهم قدّموا نفع الدنيا على نفع الآخرة ، لأنهم قد استقر في قلوبهم أحقّية الإسلام وما رجعوا عنه إلا خوف الفتنة أو رغبة في رفاهية العيش ، فيكون كفرهم أشدّ من كفر المستصحبين للكفر من قبل البعثة.

(وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) سبب ثان للغضب والعذاب ، أي وبأن الله حرمهم الهداية فهم موافونه على الكفر. وقد تقدم تفسير ذلك عند قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) [سورة النحل : ١٠٤].

وهو تذييل لما في صيغة (الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) من العموم الشامل للمتحدّث عنهم وغيرهم ، فليس ذلك إظهارا في مقام الإضمار ولكنه عموم بعد خصوص.

وإقحام لفظ (قوم) للدّلالة على أن من كان هذا شأنهم فقد عرفوا به وتمكّن منهم وصار سجيّة حتى كأنهم يجمعهم هذا الوصف.

وقد تقدّم أن جريان وصف أو خبر على لفظ (قوم) يؤذن بأنه من مقوّمات قوميتهم كما في قوله تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤] ، وقوله تعالى : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) في سورة يونس [١٠١].

[١٠٨ ، ١٠٩] (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩))

جملة مبيّنة لجملة (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) [سورة النحل : ١٠٧] بأن حرمانهم الهداية بحرمانهم الانتفاع بوسائلها : من النظر الصادق في دلائل الوحدانية ، ومن الوعي لدعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن المنزّل عليه ، ومن ثبات القلب على حفظ ما داخله من الإيمان ، حيث انسلخوا منه بعد أن تلبّسوا به.

وافتتاح الجملة باسم الإشارة لتمييزهم أكمل تمييز تبيينا لمعنى الصّلة المتقدمة ، وهي اتصافهم بالارتداد إلى الكفر بعد الإيمان بالقول والاعتقاد.

وأخبر عن اسم الإشارة بالموصول لما فيه من الإيماء إلى وجه بناء الحكم المبين بهذه الجملة. وهو مضمون جملة (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [النحل : ١٠٦].

٢٣٩

والطّبع : مستعار لمنع وصول الإيمان وأدلّته ، على طريقة تشبيه المعقول بالمحسوس. وقد تقدّم مفصّلا عند قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) في سورة البقرة [٧].

وجملة (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) تكملة للبيان ، أي الغافلون الأكملون في الغفلة ، لأن الغافل البالغ الغاية ينافي حالة الاهتداء.

والقصر قصر موصوف على صفة ، وهو حقيقي ادعائي يقصد به المبالغة ، لعدم الاعتداد بالغافلين غيرهم ، لأنهم بلغوا الغاية في الغفلة حتى عدّ كل غافل غيرهم كمن ليس بغافل. ومن هنا جاء معنى الكمال في الغفلة لا من لام التّعريف.

وجملة (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) واقعة موقع النتيجة لما قبلها ، لأن ما قبلها صار كالدليل على مضمونها ، ولذلك افتتحت بكلمة نفي الشكّ.

فإن (لا جَرَمَ) بمعنى (لا محالة) أو (لا بد). وقد تقدّم آنفا في هذه السورة عند قوله تعالى : (لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) وتقدم بسط تفسيرها عند قوله تعالى: (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) في سورة هود [٢٢].

والمعنى : أن خسارتهم هي الخسارة ، لأنهم أضاعوا النعيم إضاعة أبدية.

ويجري هذا المعنى على كلا الوجهين المتقدّمين في ما صدق (من) من قوله : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ) [سورة النحل : ١٠٦] الآية.

ووقع في سورة هود [٢٢] (هُمُ الْأَخْسَرُونَ) ، ووقع هنا (هُمُ الْخاسِرُونَ) لأن آية سورة هود [٢١] تقدّمها (أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) ، فكان المقصود بيان أن خسارتهم في الآخرة أشدّ من خسارتهم في الدنيا.

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠))

عطف على جملة (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) إلى قوله : (هُمُ الْخاسِرُونَ) [سورة النحل : ١٠٦ ـ ١٠٩].

و (ثُمَ) للترتيب الرتبي ، كما هو شأنها في عطفها الجمل. وذلك أن مضمون هذه الجلة المعطوفة أعظم رتبة من المعطوف عليها ، إذ لا أعظم من رضى الله تعالى كما قال

٢٤٠