تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

وأمعاء.

و (من) في قوله تعالى : (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) ابتدائية ، لأن اللبن يفرز عن العلف الذي في البطون. وما صدق «ما في بطونه» العلف. ويجوز جعلها تبعيضية ويكون ما صدق «ما في بطونه» هو اللبن اعتدادا بحالة مروره في داخل الأجهزة الهضمية قبل انحداره في الضرع.

و (مِنْ) في قوله تعالى : (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ) زائدة لتوكيد التوسّط ، أي يفرز في حالة بين حالتي الفرث والدم.

ووقع البيان ب (نُسْقِيكُمْ) دون أن يقال : تشربون أو نحوه ، إدماجا للمنّة مع العبرة.

ووجه العبرة في ذلك أن ما تحتويه بطون الأنعام من العلف والمرعى ينقلب بالهضم في المعدة ، ثم الكبد ، ثم غدد الضرع ، مائعا يسقى وهو مفرز من بين أفراز فرث ودم.

والفرث : الفضلات التي تركها الهضم المعدي فتنحدر إلى الأمعاء فتصير فرثا. والدّم : إفراز تفرزه الكبد من الغذاء المنحدر إليها ويصعد إلى القلب فتدفعه حركة القلب الميكانيكية إلى الشرايين والعروق ويبقى يدور كذلك بواسطة القلب. وقد تقدم ذكره عند قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) في سورة العقود [٣].

ومعنى كون اللّبن من بين الفرث والدم أنه إفراز حاصل في حين إفراز الدّم وإفراز الفرث. وعلاقته بالفرث أن الدم الذي ينحدر في عروق الضرع يمرّ بجوار الفضلات البوليّة والثفلية ، فتفرزه غدد الضرع لبنا كما تفرزه غدد الكليتين بولا بدون معالجة زائدة ، وكما تفرز تكاميش الأمعاء ثفلا بدون معالجة بخلاف إفراز غدد المثانة للمنيّ لتوقّفه على معالجة ينحدر بها الدم إليها.

وليس المراد أن اللّبن يتميّع من بين طبقتي فرث ودم ، وإنما الذي أوهم ذلك من توهمه حمله (بَيْنِ) على حقيقتها من ظرف المكان ، وإنما هي تستعمل كثيرا في المكان المجازي فيراد بها الوسط بين مرتبتين كقولهم : الشجاعة صفة بين التهوّر والجبن. فمن بلاغة القرآن هذا التعبير القريب للأفهام لكل طبقة من الناس بحسب مبالغ علمهم ، مع كونه موافقا للحقيقة.

والمعنى : إفراز ليس هو بدم لأنه ألين من الدم ، ولأنه غير باق في عروق الضرع كبقاء الدّم في العروق ، فهو شبيه بالفضلات في لزوم إفرازه ، وليس هو بالفضلة لأنه إفراز

١٦١

طاهر نافع مغذّ ، وليس قذرا ضارا غير صالح للتغذية كالبول والثفل.

وموقع (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ) موقع الصفة ل (لَبَناً) ، قدمت عليه للاهتمام بها لأنها موضع العبرة ، فكان لها مزيد اهتمام ، وقد صارت بالتقديم حالا.

ولما كان اللبن يحصل في الضرع لا في البطن جعل مفعولا ل (نُسْقِيكُمْ) ، وجعل (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) تبيينا لمصدره لا لمورده ، فليس اللبن مما في البطون ؛ ولذلك كان (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) متقدما في الذكر ليظهر أنه متعلق بفعل (نُسْقِيكُمْ) وليس وصفا للّبن.

وقد أحاط بالأوصاف التي ذكرناها للّبن قوله تعالى : (خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ). فخلوصه نزاهته مما اشتمل عليه البول والثفل ، وسوغه للشاربين سلامته مما يشتمل عليه الدم من المضار لمن شربه ، فلذلك لا يسيغه الشارب ويتجهّمه.

وهذا الوصف العجيب من معجزات القرآن العلمية ، إذ هو وصف لم يكن لأحد من العرب يومئذ أن يعرف دقائق تكوينه ، ولا أن يأتي على وصفه بما لو وصف به العالم الطبيعي لم يصفه بأوجز من هذا وأجمع.

وإفراد ضمير الأنعام في قوله تعالى : (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) مراعاة لكون اللفظ مفردا لأن اسم الجمع لفظ مفرد ، إذ ليس من صيغ الجموع ، فقد يراعى اللفظ فيأتي ضميره مفردا ، وقد يراعى معناه فيعامل معاملة الجموع ، كما في آية سورة المؤمنين [٢١] (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها).

والخالص : المجرّد مما يكدّر صفاءه ، فهو الصافي. والسائغ : السهل المرور في الحلق.

وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب (نُسْقِيكُمْ) ـ بفتح النون ـ مضارع سقى. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف ـ بضم النون ـ على أنه مضارع أسقى ، وهما لغتان ، وقرأه أبو جعفر بمثناة فوقية مفتوحة عوضا عن النون على أن الضمير للأنعام.

(وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧))

عطف على جملة (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) [سورة النحل : ٦٦].

١٦٢

ووجود (مِنْ) في صدر الكلام يدلّ على تقدير فعل يدلّ عليه الفعل الذي في الجملة قبلها وهو (نُسْقِيكُمْ) [النحل : ٦٦]. فالتقدير : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب. وليس متعلقا ب (تَتَّخِذُونَ) ، كما دلّ على ذلك وجود (من) الثانية في قوله : (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) المانع من اعتبار تعلّق (مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ) ب (تَتَّخِذُونَ) ، فإن نظم الكلام يدل على قصد المتكلم ولا يصحّ جعله متعلقا ب (تَتَّخِذُونَ) مقدما عليه ، لأنه يبعد المعنى عن الامتنان بلطف الله تعالى إذ جعل نفسه الساقي للناس.

وهذا عطف منّة على منّة ، لأن (نُسْقِيكُمْ) وقع بيانا لجملة (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً).

ومفاد فعل (نُسْقِيكُمْ) مفاد الامتنان لأن السقي مزية. وكلتا العبرتين في السقي. والمناسبة أن كلتيهما ماء وأن كلتيهما يضغط باليد ، وقد أطلق العرب الحلب على عصير الخمر والنبيذ ، قال حسّان يذكر الخمر الممزوجة والخالصة :

كلتاهما حلب العصير فعاطني

بزجاجة أرخاهما للمفصل

ويشير إلى كونهما عبرتين من نوع متقارب جعل التذييل بقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) عقب ذكر السقيين دون أن يذيّل سقي الألبان بكونه آية ، فالعبرة في خلق تلك الثمار صالحة للعصر والاختمار ، ومشتملة على منافع للناس ولذّات. وقد دلّ على ذلك قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). فهذا مرتبط بما تقدم من العبرة بخلق النبات والثمرات من قوله تعالى : (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ) [سورة النحل : ١١] الآية.

وجملة (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) إلخ في موضع الحال.

و (من) في الموضعين ابتدائية ، فالأولى متعلّقة بفعل (نُسْقِيكُمْ) المقدر ، والثانية متعلقة بفعل (تَتَّخِذُونَ). وليست الثانية تبعيضية ، لأن السكر ليس بعض الثمرات ، فمعنى الابتداء ينتظم كلا الحرفين.

والسكر ـ بفتحتين ـ : الشراب المسكر.

وهذا امتنان بما فيه لذّتهم المرغوبة لديهم والمتفشّية فيهم (وذلك قبل تحريم الخمر لأن هذه الآية مكّية وتحريم الخمر نزل بالمدينة) فالامتنان حينئذ بمباح.

والرزق : الطعام ، ووصف ب (حَسَناً) لما فيه من المنافع ، وذلك التمر والعنب

١٦٣

لأنهما حلوان لذيذان يؤكلان رطبين ويابسين قابلان للادخار ، ومن أحوال عصير العنب أن يصير خلا وربّا.

وجملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) تكرير لتعداد الآية لأنها آية مستقلة.

والقول في جملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) مثل قوله آنفا : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) [سورة النحل : ٦٥]. والإشارة إلى جميع ما ذكر من نعمة سقي الألبان وسقي السكر وطعم الثمر.

واختير وصف العقل هنا لأن دلالة تكوين ألبان الأنعام على حكمة الله تعالى يحتاج إلى تدبّر فيما وصفته الآية هنا ، وليس هو ببديهي كدلالة المطر كما تقدم.

[٦٨ ، ٦٩] (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩))

عطف عبرة على عبرة ومنّة على منّة. وغيّر أسلوب الاعتبار لما في هذه العبرة من تنبيه على عظيم حكمة الله تعالى ، إذ أودع في خلقة الحشرة الضعيفة هذه الصّنعة العظيمة وجعل فيها هذه المنفعة ، كما أودع في الأنعام ألبانها وأودع في ثمرات النخيل والأعناب شرابا ، وكان ما في بطون النّحل وسطا بين ما في بطون الأنعام وما في قلب الثمار ، فإن النّحل يمتصّ ما في الثمرات والأنوار من المواد السكّرية العسليّة ثم يخرجه عسلا كما يخرج اللبن من خلاصة المرعى.

وفيه عبرة أخرى وهي أن أودع الله في ذبابة النحل إدراكا لصنع محكم مضبوط منتج شرابا نافعا لا يحتاج إلى حلب الحالب.

فافتتحت الجملة بفعل (أَوْحى) دون أن تفتتح باسم الجلالة مثل جملة (وَاللهُ أَنْزَلَ) [سورة النحل : ٦٥] ، لما في (أَوْحى) من الإيماء إلى إلهام تلك الحشرة الضعيفة تدبيرا عجيبا وعملا متقنا وهندسة في الجبلة.

فكان ذلك الإلهام في ذاته دليلا على عظيم حكمة الله تعالى فضلا على ما بعده من دلالة على قدرة الله تعالى ومنّة منه.

والوحي : الكلام الخفيّ والإشارة الدّالة على معنى كلاميّ. ومنه سمّي ما يلقيه

١٦٤

الملك إلى الرسول وحيا لأنه خفيّ عن أسماع الناس.

وأطلق الوحي هنا على التكوين الخفيّ الذي أودعه الله في طبيعة النحل ، بحيث تنساق إلى عمل منظّم مرتّب بعضه على بعض لا يختلف فيه آحادها تشبيها للإلهام بكلام خفيّ يتضمّن ذلك الترتيب الشّبيه بعمل المتعلّم بتعليم المعلّم ، أو المؤتمر بإرشاد الآمر ، الذي تلقّاه سرّا ، فإطلاق الوحي استعارة تمثيليّة.

و (النَّحْلِ) : اسم جنس جمعي ، واحده نحلة ، وهو ذباب له جرم بقدر ضعفي جرم الذّباب المتعارف ، وأربعة أجنحة ، ولون بطنه أسمر إلى الحمرة ، وفي خرطومه شوكة دقيقة كالشوكة التي في ثمرة التين البربري (المسمى بالهندي) مختفية تحت خرطومه يلسع بها ما يخافه من الحيوان ، فتسمّ الموضع سمّا غير قوي ، ولكن الذبابة إذا انفصلت شوكتها تموت. وهو ثلاثة أصناف : ذكر وأنثى وخنثى ، فالذكور هي التي تحرس بيوتها ولذلك تكون محوّمة بالطيران والدّوي أمام البيت وهي تلقح الإناث لقاحا به تلد الإناث إناثا.

والإناث هي المسمّاة اليعاسيب ، وهي أضخم جرما من الذكور. ولا تكون التي تلد في البيوت إلا أنثى واحدة ، وهي قد تلد بدون لقاح ذكر ؛ ولكنّها في هذه الحالة لا تلد إلا ذكورا فليس في أفراخها فائدة لإنتاج الوالدات.

وأما الخنثى فهي التي تفرز العسل ، وهي العواسل ، وهي أصغر جرما من الذكور وهي معظم سكان بيت النّحل.

و (أَنِ) تفسيرية ، وهي ترشيح للاستعارة التمثيلية ، لأنّ (أَنِ) التفسيريّة من روادف الأفعال الدالة على معنى القول دون حروفه.

واتّخاذ البيوت هو أوّل مراتب الصنع الدّقيق الذي أودعه الله في طبائع النحل فإنها تبني بيوتا بنظام دقيق ، ثم تقسم أجزاءها أقساما متساوية بأشكال مسدّسة الأضلاع بحيث لا يتخلّل بينها فراغ تنساب منه الحشرات ، لأن خصائص الأشكال المسدّسة إذا ضمّ بعضها إلى بعض أن تتّصل فتصير كقطعة واحدة ، وما عداها من الأشكال من المثلّث إلى المعشّر إذا جمع كلّ واحد منها إلى أمثاله لم تتّصل وحصلت بينها فرج ، ثم تغشي على سطوح المسدّسات بمادة الشمع ، وهو مادة دهنية متميّعة أقرب إلى الجمود ، تتكوّن في كيس دقيق جدا تحت حلقة بطن النحلة العاملة فترفعه النحلة بأرجلها إلى فمها وتمضغه وتضع بعضه لصق بعض لبناء المسدّس المسمى بالشهد لتمنع تسرّب العسل منها.

١٦٥

ولما كانت بيوت النحل معروفة للمخاطبين اكتفي في الاعتبار بها بالتّنبيه عليها والتذكير بها.

وأشير إلى أنها تتّخذ في أحسن البقاع من الجبال أو الشجر أو العرش دون بيوت الحشرات الأخرى ، وذلك لشرفها بما تحتويه من المنافع ، وبما تشتمل عليه من دقائق الصّنعة ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى في ضدّها : (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) [سورة العنكبوت : ٤١].

وتقدم الكلام على الجبال عند قوله تعالى : (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) في سورة البقرة [٢٦٠].

و (مِنَ) الداخلة على (الْجِبالِ) وما عطف عليها بمعنى (في) ، وأصلها (مِنَ) الابتدائية ، فالتعبير بها دون (في) الظرفية لأن النحل تبني لنفسها بيوتا ولا تجعل بيوتها جحور الجبال ولا أغصان الشجر ولا أعواد العريش وذلك كقوله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) [سورة البقرة : ١٢٥]. وليست مثل (من) التي في قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) [سورة النحل : ٨١].

و «ما يعرشون» أي ما يجعلونه عروشا ، جمع عرش ، وهو مجلس مرتفع على الأرض في الحائط أو الحقل يتّخذ من أعواد ويسقف أعلاه بورق ونحوه ليكون له ظل فيجلس فيه صاحبه مشرفا على ما حوله.

يقال : عرش ، إذا بنى ورفع ، ومنه سمّي السرير الذي يرتفع عن الأرض ليجلس عليه العظماء عرشا.

وتقدم عند قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ) في سورة الأنعام [١٤١] ، وقوله تعالى : (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) في سورة الأعراف [١٣٧].

وقرأ جمهور القراء ـ بكسر راء ـ (يَعْرِشُونَ). وقرأه ابن عامر ـ بضمّها ـ.

و (ثُمَ) للترتيب الرتبي ، لأن إلهام النحل للأكل من الثمرات يترتّب عليه تكوّن العسل في بطونها ، وذلك أعلى رتبة من اتخاذها البيوت لاختصاصها بالعسل دون غيرها من الحشرات التي تبني البيوت ، ولأنه أعظم فائدة للإنسان ، ولأن منه قوتها الذي به بقاؤها. وسمّي امتصاصها أكلا لأنها تقتاته فليس هو بشرب.

١٦٦

و (الثَّمَراتِ) : جمع ثمرة. وأصل الثمرة ما تخرجه الشجرة من غلّة ، مثل التّمر والعنب ؛ والنحل يمتصّ من الأزهار قبل أن تصير ثمرات ، فأطلق (الثَّمَراتِ) في الآية على الأزهار على سبيل المجاز المرسل بعلاقة الأول.

وعطفت جملة (فَاسْلُكِي) بفاء التفريع للإشارة إلى أن الله أودع في طبع النحل عند الرعي التنقّل من زهرة إلى زهرة ومن روضة إلى روضة ، وإذا لم تجد زهرة أبعدت الانتجاع ثم إذا شبعت قصدت المبادرة بالطيران عقب الشبع لترجع إلى بيوتها فتقذف من بطونها العسل الذي يفضل عن قوتها ، فذلك السلوك مفرع على طبيعة أكلها.

وبيان ذلك أن للأزهار وللثمار غددا دقيقة تفرز سائلا سكريا تمتصّه النحل وتملأ به ما هو كالحواصل في بطونها وهو يزداد حلاوة في بطون النحل باختلاطه بمواد كيميائية مودعة في بطون النحل ، فإذا راحت من مرعاها إلى بيوتها أخرجت من أفواهها ما حصل في بطونها بعد أن أخذ منه جسمها ما يحتاجه لقوته ، وذلك يشبه اجترار الحيوان المجترّ. فذلك هو العسل.

والعسل حين القذف به في خلايا الشهد يكون مائعا رقيقا ، ثم يأخذ في جفاف ما فيه من رطوبة مياه الأزهار بسبب حرارة الشمع المركّب منه الشهد وحرارة بيت النحل حتى يصير خاثرا ، ويكون أبيض في الربيع وأسمر في الصيف.

والسلوك : المرور وسط الشيء من طريق ونحوه. وتقدم عند قوله تعالى : (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) في سورة الحجر [١٢].

ويستعمل في الأكثر متعدّيا كما في آية الحجر بمعنى أسلكه ، وقاصرا بمعنى مرّ كما هنا ، لأن السّبل لا تصلح لأن تكون مفعول (سلك) المتعدي ، فانتصاب (سُبُلَ) هنا على نزع الخافض توسعا.

وإضافة السبل إلى (رَبِّكِ) للإشارة إلى أن النحل مسخّرة لسلوك تلك السبل لا يعدلها عنها شيء ، لأنها لو لم تسلكها لاختلّ نظام إفراز العسل منها.

و (ذُلُلاً) جمع ذلول ، أي مذلّلة مسخّرة لذلك السلوك. وقد تقدم عند قوله تعالى: (ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ) في سورة البقرة [٧١].

وجملة (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ) مستأنفة استئنافا بيانيا ، لأن ما تقدم من الخبر عن إلهام النحل تلك الأعمال يثير في نفس السامع أن يسأل عن الغاية من هذا التكوين

١٦٧

العجيب ، فيكون مضمون جملة (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ) بيانا لما سأل عنه. وهو أيضا موضع المنّة كما كان تمام العبرة.

وجيء بالفعل المضارع للدّلالة على تجدّد الخروج وتكرّره.

وعبّر عن العسل باسم الشراب دون العسل لما يومئ إليه اسم الجنس من معنى الانتفاع به وهو محل المنّة ، وليرتب عليه جملة (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ). وسمّي شرابا لأنه مائع يشرب شربا ولا يمضغ. وقد تقدم ذكر الشراب في قوله تعالى : (لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) في أوائل هذه السورة [النحل : ١٠].

ووصفه ب (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) لأن له مدخلا في العبرة ، كقوله تعالى : تسقى (بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [سورة الرعد : ٤] ، فذلك من الآيات على عظيم القدرة ودقيق الحكمة.

وفي العسل خواص كثيرة المنافع مبيّنة في علم الطب.

وجعل الشّفاء مظروفا في العسل على وجه الظرفية المجازية. وهي الملابسة للدلالة على تمكّن ملابسة الشفاء إياه ، وإيماء إلى أنه لا يقتضي أن يطّرد الشفاء به في كل حالة من أحوال الأمزجة ، أو قد تعرض للأمزجة عوارض تصير غير ملائم لها شرب العسل. فالظرفية تصلح للدّلالة على تخلّف المظروف عن بعض أجزاء الظرف ، لأن الظرف يكون أوسع من المظروف غالبا. شبه تخلّف المقارنة في بعض الأحوال بقلّة كمية المظروف عن سعة الظرف في بعض أحوال الظروف ومظروفاتها ، وبذلك يبقى تعريف «الناس» على عمومه ، وإنما التخلّف في بعض الأحوال العارضة ، ولو لا العارض لكانت الأمزجة كلها صالحة للاستشفاء بالعسل.

وتنكير (شِفاءٌ) في سياق الإثبات لا يقتضي العموم فلا يقتضي أنه شفاء من كل داء ، كما أن مفاد (في) من الظرفية المجازية لا يقتضي عموم الأحوال.

وعموم التعريف في قوله تعالى : (لِلنَّاسِ) لا يقتضي العموم الشمولي لكل فرد فرد بل لفظ (الناس) عمومه بدلي. والشفاء ثابت للعسل في أفراد الناس بحسب اختلاف حاجات الأمزجة إلى الاستشفاء. وعلى هذا الاعتبار محمل ما جاء في الحديث الذي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري : أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنّ أخي استطلق بطنه ، فقال : اسقه عسلا. فذهب فسقاه عسلا. ثم جاء ، فقال : يا رسول الله

١٦٨

سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا ؛ قال : اذهب فاسقه عسلا ، فذهب فسقاه عسلا ثم جاء ، فقال : يا رسول الله ما زاده إلا استطلاقا. فقال رسول الله : «صدق الله وكذب بطن أخيك ؛ فذهب فسقاه عسلا فبرأ».

إذ المعنى أن الشفاء الذي أخبر الله عنه بوجوده في العسل ثابت ، وأن مزاج أخي السائل لم يحصل فيه معارض ذلك ، كما دلّ عليه أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيّاه أن يسقيه العسل ، فإن خبره يتضمّن أن العسل بالنسبة إليه باق على ما جعل الله فيه من الشفاء.

ومن لطيف النّوادر ما في «الكشاف» : أن من تأويلات الروافض أن المراد بالنحل في الآية عليّ وآله. وعن بعضهم أنه قال عند المهدي : إنما النحل بنو هاشم يخرج من بطونهم العلم ، فقال له رجل : جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم ، فضحك المهدي وحدّث به المنصور فاتّخذوه أضحوكة من أضاحيكهم.

قلت : الرجل الذي أجاب الرافضي هو بشّار بن برد. وهذه القصّة مذكورة في أخبار بشّار.

وجملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) مثل الجملتين المماثلتين لها. وهو تكرير لتعداد الاستدلال ، واختير وصف التفكّر هنا لأن الاعتبار بتفصيل ما أجملته الآية في نظام النحل محتاج إلى إعمال فكر دقيق ، ونظر عميق.

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠))

انتقال من الاستدلال بدقائق صنع الله على وحدانيته إلى الاستدلال بتصرّفه في الخلق التصرّف الغالب لهم الذي لا يستطيعون دفعه ، على انفراده بربوبيّتهم ، وعلى عظيم قدرته. كما دلّ عليه تذييلها بجملة (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) فهو خلقهم بدون اختيار منهم ثم يتوفّاهم كرها عليهم أو يردّهم إلى حالة يكرهونها فلا يستطيعون ردّا لذلك ولا خلاصا منه ، وبذلك يتحقّق معنى العبودية بأوضح مظهر.

وابتدئت الجملة باسم الجلالة للغرض الذي شرحناه عند قوله تعالى : (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) [سورة النحل : ٦٥]. وأما إعادة اسم الجلالة هنا دون الإضمار فلأن مقام الاستدلال يقتضي تكرير اسم المستدلّ ـ بفتح الدال ـ على إثبات صفاته تصريحا

١٦٩

واضحا.

وجيء بالمسند فعليا لإفادة تخصيص المسند إليه بالمسند الفعلي في الإثبات ، نحو : أنا سعيت في حاجتك. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً). فهذه عبرة وهي أيضا منّة ، لأن الخلق وهو الإيجاد نعمة لشرف الوجود والإنسانية ، وفي التوفّي أيضا نعم على المتوفّى لأن به تندفع آلام الهرم ، ونعم على نوعه إذ به ينتظم حال أفراد النوع الباقين بعد ذهاب من قبلهم ، هذا كلّه بحسب الغالب فردا ونوعا ، والله يخصّ بنعمته وبمقدارها من يشاء.

ولما قوبل «ثم توفّاكم» بقوله تعالى : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) علم أن المعنى ثم يتوفّاكم في إبان الوفاة ، وهو السنّ المعتادة الغالبة لأن الوصول إلى أرذل العمر نادر.

والأرذل : تفضيل في الرذالة ، وهي الرداءة في صفات الاستياء.

و (الْعُمُرِ) : مدة البقاء في الحياة ، لأنه مشتقّ من العمر ، وهو شغل المكان ، أي عمر الأرض ، قال تعالى : (وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها) [سورة الروم : ٩]. فإضافة (أَرْذَلِ) إلى (الْعُمُرِ) التي هي من إضافة الصّفة إلى الموصوف على طريقة المجاز العقلي ، لأن الموصوف بالأرذل حقيقة هو حال الإنسان في عمره لا نفس العمر. فأرذل العمر هو حال هرم البدن وضعف العقل ، وهو حال في مدة العمر. وأما نفس مدّة العمر فهي هي لا توصف برذالة ولا شرف.

والهرم لا ينضبط حصوله بعدد من السنين ، لأنه يختلف باختلاف الأبدان والبلدان والصحة والاعتدال على تفاوت الأمزجة المعتدلة ، وهذه الرذالة رذالة في الصحّة لا تعلّق لها بحالة النفس ، فهي مما يعرض للمسلم والكافر فتسمّى أرذل العمر فيهما ، وقد استعاذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن يردّ إلى أرذل العمر.

ولام التعليل الداخلة على (كي) المصدرية مستعملة في معنى الصيرورة والعاقبة تشبيها للصيرورة بالعلّة استعارة تشير إلى أنه لا غاية للمرء في ذلك التعمير تعريضا بالناس ، إذ يرغبون في طول الحياة ؛ وتنبيها على وجوب الإقصار من تلك الرغبة ، كأنه قيل : منكم من يردّ إلى أرذل العمر ليصير غير قابل لعلم ما لم يعلمه لأنه يبطئ قبوله للعلم. وربّما لم يتصوّر ما يتلقاه ثم يسرع إليه النسيان. والإنسان يكره حالة انحطاط علمه

١٧٠

لأنه يصير شبيها بالعجماوات.

واستعارة حرف العلّة إلى معنى العاقبة مستعملة في الكلام البليغ في مقام التوبيخ أو التخطئة أو نحو ذلك. وتقدم عند قوله تعالى : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) في سورة آل عمران : [١٧٨]. وقد تقدّم القول قريبا في ذلك عند قوله تعالى : (إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) في هذه السورة [٥٥].

وتنكير (عِلْمٍ) تنكير الجنس. والمعنى : لكيلا يعلم شيئا بعد أن كان له علم ، أي ليزول منه قبول العلم.

وجملة (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) تذييل تنبيها على أن المقصود من الجملة الدلالة على عظم قدرة الله وعظم علمه. وقدم وصف العليم لأن القدرة تتعلّق على وفق العلم ، وبمقدار سعة العلم يكون عظم القدرة ، فضعيف القدرة يناله تعب من قوة علمه لأن همّته تدعوه إلى ما ليس بالنائل ، كما قال أبو الطّيب :

وإذا كانت النفوس كبارا

تعبت في مرادها الأجسام

(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١))

هذا من الاستدلال على أن التّصرف القاهر لله تعالى. وذلك أنه أعقب الاستدلال بالإحياء والإماتة وما بينهما من هرم بالاستدلال بالرّزق.

ولما كان الرّزق حاصلا لكل موجود بني الاستدلال على التّفاوت فيه بخلاف الاستدلال بقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) [سورة النحل : ٧٠].

ووجه الاستدلال به على التصرّف القاهر أن الرزق حاصل لجميع الخلق وأن تفاضل الناس فيه غير جار على رغباتهم ولا على استحقاقهم ؛ فقد تجد أكيس الناس وأجودهم عقلا وفهما مقتّرا عليه في الرزق ، وبضدّه ترى أجهل الناس وأقلّهم تدبيرا موسّعا عليه في الرزق ، وكلا الرجلين قد حصل له ما حصل قهرا عليه ، فالمقتّر عليه لا يدري أسباب التّقتير ، والموسّع عليه لا يدري أسباب تيسير رزقه ، ذلك لأن الأسباب كثيرة متوالدة ومتسلسلة ومتوغّلة في الخفاء حتى يظن أن أسباب الأمرين مفقودة وما هي بمفقودة ولكنها غير محاط بها. ومما ينسب إلى الشافعي :

١٧١

ومن الدّليل على القضاء وكونه

بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق

ولذلك أسند التفضيل في الرزق إلى الله تعالى لأن أسبابه خارجة عن إحاطة عقول البشر ، والحكيم لا يستفزّه ذلك بعكس قول ابن الراوندي :

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه

وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا

هذا الذي ترك الأوهام حائرة

وصيّر العالم النّحرير زنديقا

وهذا الحكم دلّ على ضعف قائله في حقيقة العلم فكيف بالنّحريرية.

وتفيد وراء الاستدلال معنى الامتنان لاقتضائها حصول الرزق للجميع.

فجملة (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) مقدمة للدّليل ومنّة من المنن لأن التفضيل في الرزق يقتضي الإنعام بأصل الرزق.

وليست الجملة مناط الاستدلال ، إنما الاستدلال في التمثيل من قوله تعالى : (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ) الآية.

والقول في جعل المسند إليه اسم الجلالة وبناء المسند الفعلي عليه كالقول في قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) [سورة النحل : ٧٠]. والمعنى : الله لا غيره رزقكم جميعا وفضّل بعضكم على بعض في الرزق ولا يسعكم إلا الإقرار بذلك له.

وقد تمّ الاستدلال عند قوله تعالى : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) بطريقة الإيجاز ، كما قيل : لمحة دالة.

وفرع على هذه الجملة تفريع بالفاء على وجه الإدماج قوله تعالى : (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ). وهو إدماج جاء على وجه التمثيل لتبيان ضلال أهل الشرك حين سوّوا بعض المخلوقات بالخالق فأشركوها في الإلهية فسادا في تفكيرهم. وذلك مثل ما كانوا يقولون في تلبية الحجّ (لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك). فمثل بطلان عقيدة الإشراك بالله بعض مخلوقاته بحالة أهل النّعمة المرزوقين ، لأنهم لا يرضون أن يشركوا عبيدهم معهم في فضل رزقهم فكيف يسوّون بالله عبيده في صفته العظمى وهي الإلهيّة.

ورشاقة هذا الاستدلال أن الحالتين المشبّهتين والمشبّه بهما حالتا مولى وعبد ، كما قال تعالى : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما

١٧٢

رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) [سورة الروم : ٢٨].

والغرض من التمثيل تشنيع مقالتهم واستحالة صدقها بحسب العرف ، ثم زيادة التشنيع بأنهم رضوا لله ما لا يرضونه لأنفسهم ، كقوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) إلى قوله : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) [سورة النحل : ٥٧ ـ ٦٠].

وقرينة التمثيل والمقصد منه دلالة المقام.

وقوله تعالى : (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا) نفي. و (ما) نافية ، والباء في (بِرَادِّي رِزْقِهِمْ) الباء التي تزاد في خبر النفي ب (ما) و (ليس).

والرادّ : المعطي. كما في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والخمس مردود عليكم» ، أي فما هم بمعطين رزقهم لعبيدهم إعطاء مشاطرة بحيث يسوّونهم بهم ، أي فما ذلك بواقع.

وإسناد الملك إلى اليمين مجاز عقلي ، لأن اليمين سبب وهمي للملك ، لأن سبب الملك إما أسر وهو أثر للقتال بالسيف الذي تمسكه اليد اليمنى ، وإما شراء ودفع الثمن يكون باليد اليمنى عرفا ، فهي سبب وهمي ناشئ عن العادة.

وفرعت جملة (فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) على جملة (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ) ، أي لا يشاطرون عبيدهم رزقهم فيستووا فيه ، أي لا يقع ذلك فيقع هذا. فموقع هذه الجملة الاسميّة شبيه بموقع الفعل بعد فاء السببية في جواب النفي.

وأما جملة (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) فصالحة لأن تكون مفرّعة على جملة (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) باعتبار ما تضمّنته من الامتنان ، أي تفضّل الله عليكم جميعا بالرزق أفبنعمة الله تجحدون ، استفهاما مستعملا في التوبيخ ، حيث أشركوا مع الذي أنعم عليهم آلهة لا حظّ لها في الإنعام عليهم. وذلك جحود النعمة كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ) [سورة العنكبوت : ١٧]. وتكون جملة (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا) إلى قوله تعالى : (فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) معترضة بين الجملتين.

وعلى هذا الوجه يكون في (يَجْحَدُونَ) على قراءة الجمهور بالتحتية التفات من الخطاب إلى الغيبة. ونكتته أنهم لما كان المقصود من الاستدلال المشركين فكانوا موضع التوبيخ ناسب أن يعرض عن خطابهم وينالهم المقصود من التوبيخ بالتعريض كقول :

١٧٣

أبى لك كسب الحمد رأي مقصّر

ونفس أضاق الله بالخير باعها

إذا هي حثّته على الخير مرّة

عصاها وإن همّت بشر أطاعها

ثم صرّح بما وقع التعريض به بقوله : (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ).

وقرأ أبو بكر عن عاصم ورويس عن يعقوب تجحدون بالمثناة الفوقية على مقتضى الظاهر ويكون الاستفهام مستعملا في التحذير.

وتصلح جملة (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أن تكون مفرّعة على جملة (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ) ، فيكون التوبيخ متوجّها إلى فريق من المشركين وهم الذين فضلوا بالرزق وهم أولو السّعة منهم وسادتهم وقد كانوا أشدّ كفرا بالدين وتألّبا على المسلمين ، أي أيجحد الذين فضلوا بنعمة الله إذ أفاض عليهم النّعمة فيكونوا أشد إشراكا به ، كقوله تعالى : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) [سورة المزمل : ١١].

وعلى هذا الوجه يكون قوله تعالى : (يَجْحَدُونَ) في قراءة الجمهور بالتحتية جاريا على مقتضى الظاهر. وفي قراءة أبي بكر عن عاصم بالمثناة الفوقية التفاتا من الغيبة إلى خطابهم إقبالا عليهم بالخطاب لإدخال الروع في نفوسهم.

وقد عدّي فعل (يَجْحَدُونَ) بالباء لتضمّنه معنى يكفرون ، وتكون الباء لتوكيد تعلّق الفعل بالمفعول مثل (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [سورة المائدة : ٦]. وتقديم «بنعمة الله» على متعلّقة وهو (يَجْحَدُونَ) للرعاية على الفاصلة.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢))

عطف على التي قبلها ، وهو استدلال ببديع الصنع في خلق النسل إذ جعل مقارنا للتأنّس بين الزوجين ، إذ جعل النسل منهما ولم يجعله مفارقا لأحد الأبوين أو كليهما.

وجعل النسل معروفا متصلا بأصوله بما ألهمه الإنسان من داعية حفظ النسب ، فهي من الآيات على انفراده تعالى بالوحدانية كما قال تعالى في سورة الروم [٢١] : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). فجعلها آية تنطوي على آيات ، ويتضمّن ذلك الصنع نعما كثيرة ، كما أشار إليه قوله تعالى : (وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ).

١٧٤

والقول في جملة (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ) كالقول في نظيرتيها المتقدمتين.

واللام في (جَعَلَ لَكُمْ) لتعدية فعل (جَعَلَ) إلى ثان.

ومعنى (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) من نوعكم ، كقوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [سورة النور : ٢١] أي على الناس الذين بالبيوت ، وقوله : (رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [سورة آل عمران : ١٦٤] وقوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) [سورة البقرة : ٨٥].

والخطاب بضمير الجماعة المخاطبين موجّه إلى الناس كلّهم ، وغلب ضمير التذكير.

وهذه نعمة إذ جعل قرين الإنسان متكوّنا من نوعه ، ولو لم يجعل له ذلك لاضطرّ الإنسان إلى طلب التأنّس بنوع آخر فلم يحصل التأنّس بذلك للزوجين. وهذه الحالة وإن كانت موجودة في أغلب أنواع الحيوان فهي نعمة يدركها الإنسان ولا يدركها غيره من الأنواع. وليس من قوام ماهيّة النّعمة أن ينفرد بها المنعم عليه.

والأزواج : جمع زوج ، وهو الشيء الذي يصير مع شيء آخر اثنين ، فلذا وصف بزوج المرادف لثان. وقد مضى الكلام عليه في قوله تعالى : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) في [سورة البقرة : ٣٥].

والوصف بالزوج يؤذن بملازمته لآخر ، فلذا سمّي بالزوج قرين المرأة وقرينة الرجل. وهذه نعمة اختصّ بها الإنسان إذ ألهمه الله جعل قرين له وجبله على نظام محبّة وغيرة لا يسمحان له بإهمال زوجه كما تهمل العجماوات إناثها وتنصرف إناثها عن ذكورها.

و (مِنْ) الداخلة على (أَنْفُسِكُمْ) للتّبعيض.

وجعل البنين للإنسان نعمة ، وجعل كونهم من زوجة نعمة أخرى ، لأن بها تحقّق كونهم أبناءه بالنسبة للذكر ودوام اتّصالهم به بالنّسبة ، ووجود المشارك له في القيام بتدبير أمرهم في حالة ضعفهم.

و (مِنْ) الداخلة على (أَزْواجِكُمْ) للابتداء ، أي جعل لكم بنين منحدرين من أزواجكم.

والحفدة : جمع حافد ، مثل كملة جمع كامل. والحافد أصله المسرع في الخدمة. وأطلق على ابن الابن لأنه يكثر أن يخدم جدّه لضعف الجدّ بسبب الكبر ، فأنعم الله على

١٧٥

الإنسان بحفظ سلسلة نسبه بسبب ضبط الحلقة الأولى منها ، وهي كون أبنائه من زوجه ثم كون أبناء أبنائه من أزواجهم ، فانضبطت سلسلة الأنساب بهذا النظام المحكم البديع. وغير الإنسان من الحيوان لا يشعر بحفدته أصلا ـ لا يشعر بالبنوّة إلا أنثى الحيوان مدة قليلة قريبة من الإرضاع. والحفدة للإنسان زيادة في مسرّة العائلة ، قال تعالى : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [سورة هود : ٧١]. وقد عملت (مِنْ) الابتدائية في (حَفَدَةً) بواسطة حرف العطف لأن الابتداء يكون مباشرة وبواسطة.

وجملة (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) معطوفة على جملة (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) وما بعدها ، لمناسبة ما في الجمل المعطوف عليها من تضمّن المنّة بنعمة أفراد العائلة ، فإن من مكمّلاتها سعة الرزق ، كما قال تعالى في آل عمران (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) [سورة النحل : ١٤] الآية. وقال طرفة :

فأصبحت ذا مال كثير وطاف بي

بنون كرام سادة لمسود

فالمال والعائلة لا يروق أحدها بدون الآخر.

ثم الرزق يجوز أن يكون مرادا منه المال كما في قوله تعالى في قصة قارون : (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) [سورة القصص: ٨٢]. وهذا هو الظاهر وهو الموافق لما في الآية المذكورة آنفا. ويجوز أن يكون المراد منه إعطاء المأكولات الطيّبة ، كما في قوله تعالى : (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) [سورة آل عمران : ٣٧].

و (مِنْ) تبعيضية.

و (الطَّيِّباتِ) : صفة لموصوف محذوف دلّ عليه فعل رزقكم ، أي الأرزاق الطّيبات. والتأنيث لأجل الجمع. والطيّب : فيعل صفة مبالغة في الوصف بالطّيب. والطيّب : أصله النزاهة وحسن الرائحة ، ثم استعمل في الملائم الخالص من النّكد ، قال تعالى : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [سورة النحل : ٩٧]. واستعمل في الصالح من نوعه كقوله تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) ، في سورة الأعراف [٥٨]. ومنه قوله تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) [سورة النحل : ٣٢] وقد تقدم آنفا.

فالطيّبات هنا الأرزاق الواسعة المحبوبة للناس كما ذكر في الآية في سورة

١٧٦

آل عمران ؛ أو المطعومات والمشروبات اللذيذة الصالحة. وقد تقدم ذكر الطيّبات عند قوله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) في سورة العقود [٥] ، وذكر الطيّب في قوله تعالى : (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) في سورة البقرة [١٦٨].

وفرع على هذه الحجّة والمنّة استفهام توبيخ على إيمانهم بالباطل البيّن ، فتفريع التوبيخ عليه واضح الاتجاه.

والباطل : ضد الحقّ لأن ما لا يخلق لا يعبد بحقّ. وتقديم المجرور في قوله تعالى : (أَفَبِالْباطِلِ) على متعلّقه للاهتمام بالتعريف بباطلهم.

والالتفات عن الخطاب السابق إلى الغيبة في قوله تعالى : (أَفَبِالْباطِلِ) يجري الكلام فيه على نحو ما تقدم في قوله تعالى : (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [سورة النحل : ٧١].

وقوله تعالى : (وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) عطف على جملة التوبيخ ، وهو توبيخ متوجّه على ما تضمّنه قوله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) إلى قوله : (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) من الامتنان بذلك الخلق والرزق بعد كونهما دليلا على انفراد الله بالإلهية.

وتقديم المجرور في قوله تعالى : (بِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) على عامله للاهتمام.

وضمير الغيبة في قوله تعالى : (هُمْ يَكْفُرُونَ) ضمير فصل لتأكيد الحكم بكفرانهم النّعمة لأن كفران النّعمة أخفى من الإيمان بالباطل ، لأن الكفران يتعلّق بحالات القلب ، فاجتمع في هذه الجملة تأكيدان : التأكيد الذي أفاده التقديم ، والتأكيد الذي أفاده ضمير الفصل.

والإتيان بالمضارع في (يُؤْمِنُونَ) و (يَكْفُرُونَ) للدّلالة على التجدّد والتّكرير.

وفي الجمع بين (يُؤْمِنُونَ) و (يَكْفُرُونَ) محسن بديع الطباق.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣))

عطف على جملتي التّوبيخ وهو مزيد من التّوبيخ فإن الجملتين المعطوف عليهما أفادتا توبيخا على إيمانهم بالآلهة الباطل وكفرهم بنعمة المعبود الحقّ.

١٧٧

وهذه الجملة المعطوفة أفادت التّوبيخ على شكر ما لا يستحقّ الشكر ، فإن العبادة شكر ، فهم عبدوا ما لا يستحقّ العبادة ولا بيده نعمة ، وهو الأصنام ، لأنها لا تملك ما يأتيهم من الرزق لاحتياجها ، ولا تستطيع رزقهم لعجزها. فمفاد هذه الجملة مؤكّد لمفاد ما قبلها مع اختلاف الاعتبار بموجب التّوبيخ في كلتيهما.

وملك الرزق القدرة على إعطائه. والملك يطلق على القدرة ، كما تقدم في قوله تعالى: (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) في سورة العقود [١٧].

والرزق هنا مصدر منصوب على المفعوليّة ، أي لا يملك أن يرزق.

و (مِنْ) في (مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ابتدائية ، أي رزقا موصوفا بوروده من السماوات والأرض.

و (شَيْئاً) مبالغة في المنفيّ ، أي ولا يملكون جزءا قليلا من الرزق ، وهو منصوب على البدلية من (رِزْقاً). فهو في معنى المفعول به كأنه قيل : لا يملك لهم شيئا من الرزق.

(وَلا يَسْتَطِيعُونَ) عطف على (يَمْلِكُ) ، فهو من جملة صلة (ما) ، فضمير الجمع عائد إلى (ما) الموصولة باعتبار دلالتها على جماعة الأصنام المعبودة لهم. وأجريت عليها صيغة جمع العقلاء مجاراة لاعتقادهم أنها تعقل وتشفع وتستجيب.

وحذف مفعول (يَسْتَطِيعُونَ) لقصد التعميم ، أي لا يستطيعون شيئا لأن تلك الأصنام حجارة لا تقدر على شيء. والاستطاعة : القدرة.

(فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤))

تفريع على جميع ما سبق من الآيات والعبر والمنن ، إذ قد استقام من جميعها انفراد الله تعالى بالإلهية ، ونفي الشريك له فيما خلق وأنعم ، وبالأولى نفي أن يكون له ولد وأن يشبه بالحوادث ؛ فلا جرم استتبّ للمقام أن يفرع على ذلك زجر المشركين عن تمثيلهم غير الله بالله في شيء من ذلك ، وأن يمثّلوه بالموجودات.

وهذا جاء على طريقة قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) [سورة البقرة : ٢١] إلى قوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [سورة البقرة:

١٧٨

٢٢] ، وقوله : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [سورة يس : ٧٨].

و (الْأَمْثالَ) هنا جمع مثل ـ بفتحتين ـ بمعنى المماثل ، كقولهم : شبه بمعنى مشابه. وضرب الأمثال شاع استعماله في تشبيه حالة بحالة وهيئة بهيئة ، وهو هنا استعمال آخر.

ومعنى الضرب في قولهم : ضرب كذا مثلا ، بيّنّاه عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) في سورة البقرة [٢٦].

واللّام في (لِلَّهِ) متعلقة ب (الْأَمْثالَ) لا ب (تَضْرِبُوا) ، إذ ليس المراد أنهم يضربون مثل الأصنام بالله ضربا للناس كقوله تعالى : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [سورة الروم : ٢٨].

ووجه كون الإشراك ضرب مثل لله أنهم أثبتوا للأصنام صفات الإلهية وشبّهوها بالخالق ، فإطلاق ضرب المثل عليه مثل قوله تعالى : (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) [سورة الزخرف : ٥٨]. وقد كانوا يقولون عن الأصنام هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، والملائكة هنّ بنات الله من سروات الجنّ ، فذلك ضرب مثل وتشبيه لله بالحوادث في التأثّر بشفاعة الأكفاء والأعيان والازدهاء بالبنين.

وجملة (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ) تعليل للنّهي عن تشبيه الله تعالى بالحوادث ، وتنبيه على أن جهلهم هو الذي أوقعهم في تلك السخافات من العقائد ، وأن الله إذ نهاهم وزجرهم عن أن يشبّهوه بما شبّهوه إنما نهاهم لعلمه ببطلان اعتقادهم.

وفي قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) استدعاء لإعمال النّظر الصحيح ليصلوا إلى العلم البريء من الأوهام.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥))

أعقب زجرهم عن أن يشبّهوا الله بخلقه أو أن يشبّهوا الخلق بربّهم بتمثيل حالهم في ذلك بحال من مثل عبدا بسيّده في الإنفاق ، فجملة (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً) إلخ مستأنفة

١٧٩

استئنافا بيانيا ناشئا عن قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ) [سورة النحل : ٧٣].

فشبّه حال أصنامهم في العجز عن رزقهم بحال مملوك لا يقدر على تصرّف في نفسه ولا يملك مالا ، وشبّه شأن الله تعالى في رزقه إيّاهم بحال الغنيّ المالك أمر نفسه بما شاء من إنفاق وغيره ، ومعرفة الحالين المشبّهتين يدلّ عليها المقام ، والمقصود نفي المماثلة بين الحالتين ، فكيف يزعمون مماثلة أصنامهم لله تعالى في الإلهية ، ولذلك أعقب بجملة (هَلْ يَسْتَوُونَ).

وذيّل هذا التمثيل بقوله تعالى : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) كما في سورة إبراهيم [٢٦] (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً) إلى قوله تعالى : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) الآية ، فإن المقصود في المقامين متّحد ، والاختلاف في الأسلوب إنما يومئ إلى الفرق بين المقصود أولا والمقصود ثانيا كما أشرنا إليه هنالك.

والعبد : الإنسان الذي يملكه إنسان آخر بالأسر أو بالشّراء أو بالإرث.

وقد وصف (عَبْداً) هنا بقوله : (مَمْلُوكاً) تأكيدا للمعنى المقصود وإشعارا لما في لفظ عبد من معنى المملوكية المقتضية أنه لا يتصرّف في عمله تصرف الحرّية.

وانتصب (عَبْداً) على البدلية من قوله تعالى : (مَثَلاً) وهو على تقدير مضاف ، أي حال بعد ، لأن المثل هو للهيئة المنتزعة من مجموع هذه الصّفات. وجملة (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) صفة (عَبْداً) ، أي عاجزا عن كلّ ما يقدر عليه الناس ، كأن يكون أعمى وزمنا وأصمّ ، بحيث يكون أقل العبيد فائدة.

فهذا مثل لأصنامهم ، كما قال تعالى : والذين تدعون (مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) [سورة النحل : ٢٠] ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) [سورة العنكبوت : ١٧].

و (مَنْ) موصولة ما صدقها حرّ ، بقرينة أنه وقع في مقابلة عبد مملوك ، وأنه وصف بالرزق الحسن فهو ينفق منه سرّا وجهرا ، أي كيف شاء. وهذا من تصرّفات الأحرار ، لأن العبيد لا يملكون رزقا في عرف العرب. وأما حكم تملّك العبد مالا في الإسلام فذلك يرجع إلى أدلّة أخرى من أصول الشريعة الإسلامية ولا علاقة لهذه الآية به.

١٨٠