تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

انتشاره في جميع ما على الأرض من الذوات وأحوالها.

وضمائر : (لَهُمْ) ، و (لَأُغْوِيَنَّهُمْ) و (مِنْهُمُ) ، لبني آدم ، لأنه قد علم علما ألقي في وجدانه بأن آدم ـ عليه‌السلام ـ ستكون له ذرية ، أو اكتسب ذلك من أخبار العالم العلوي أيام كان من أهله وملئه.

وجعل المغوين هم الأصل ، واستثني منهم عباد الله المخلصين لأن عزيمته منصرفة إلى الإغواء ، فهو الملحوظ ابتداء عنده ، على أن المغوين هم الأكثر. وعكسه قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ) [سورة الحجر : ٤٢]. والاستثناء لا يشعر بقلّة المستثنى بالنسبة للمستثنى منه ولا العكس.

وقرئ (الْمُخْلَصِينَ) ـ بفتح اللام ـ لنافع وحمزة وعاصم والكسائي على معنى الذين أخلصتهم وطهّرتهم. و ـ بكسر اللام ـ لابن كثير وابن عامر وأبي عمرو ، أي الذين أخلصوا لك في العمل.

[٤١ ـ ٤٢] (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤))

الصراط المستقيم : هو الخبر والرشاد.

فالإشارة إلى ما يؤخذ من الجملة الواقعة بعد اسم الإشارة المبيّنة للإخبار عن اسم الإشارة وهي جملة (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) ، فتكون الإشارة إلى غير مشاهد تنزيلا له منزلة المشاهد ، وتنزيلا للمسموع منزلة المرئي.

ثم إن هذا المنزل منزلة المشاهد هو مع ذلك غير مذكور لقصد التشويق إلى سماعه عند ذكره. فاسم الإشارة هنا بمنزلة ضمير الشأن ، كما يكتب في العهود والعقود : هذا ما قاضي عليه فلان فلانا أنه كيت وكيت ، أو هذا ما اشترى فلان من فلان أنه باعه كذا وكذا.

ويجوز أن تكون الإشارة إلى الاستثناء الذي سبق في حكاية كلام إبليس من قوله : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [سورة الحجر : ٤٠] لتضمنه أنه لا يستطيع غواية العباد الذين أخلصهم الله للخير ، فتكون جملة (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) مستأنفة

٤١

أفادت نفي سلطانه.

والصراط : مستعار للعمل الذي يقصد منه عاملة فائدة. شبه بالطريق الموصل إلى المكان المطلوب وصوله إليه أي هذا هو السنّة التي وضعتها في الناس وفي غوايتك إياهم وهي أنّك لا تغوي إلا من اتّبعك من الغاوين ، أو أنك تغوي من عدا عبادي المخلصين.

و (مُسْتَقِيمٌ) نعت ل (صِراطٌ) ، أي لا اعوجاج فيه. واستعيرت الاستقامة لملازمة الحالة الكاملة.

و (عَلَيَ) مستعملة في الوجوب المجازي ، وهو الفعل الدائم التي لا يتخلّف كقوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) [سورة الليل : ١٢] أي أنّا التزمنا الهدي لا نحيد عنه لأنه مقتضى الحكمة وعظمة الإلهية.

وهذه الجملة مما يرسل من الأمثال القرآنية.

وقرأ الجمهور (عَلَيَ) بفتح اللام وفتح الياء ـ على أنها (على) اتصلت بها ياء المتكلم. وقرأه يعقوب ـ بكسر اللام وضم الياء وتنوينها ـ على أنه وصف من العلوّ وصف به صراط ، أي صراط شريف عظيم القدر.

والمعنى أن الله وضع سنّة في نفوس البشر أن الشيطان لا يتسلّط إلا على من كان غاويا ، أي مائلا للغواية مكتسبا لها دون من كبح نفسه عن الشر. فإن العاقل إذا تعلق به وسواس الشيطان علم ما فيه من إضلال وعلم أن الهدى في خلافه فإذا توفّق وحمل نفسه على اختيار الهدى وصرف إليه عزمه قوي على الشيطان فلم يكن له عليه سلطان ، وإذا مال إلى الضلال واستحسنه واختار إرضاء شهوته صار متهيئا إلى الغواية فأغواه الشيطان فغوى. فالاتباع مجاز بمعنى الطاعة واستحسان الرأي كقوله : (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [سورة آل عمران : ٣١].

وإطلاق (الْغاوِينَ) من باب إطلاق اسم الفاعل على الحصول في المستقبل بالقرينة لأنه لو كان غاويا بالفعل لم يكن لسلطان الشيطان عليه فائدة. وقد دلّ على هذا المعنى تعلّق نفي السلطان بجميع العباد ، ثم استثناء من كان غاويا. فلما كان سلطان الشيطان لا يتسلط إلا على من كان غاويا علمنا أن ثمّة وصفا بالغواية هو مهيئ تسلط سلطان الشيطان على موصوفه. وذلك هو الموصوف بالغواية بالقوة لا بالفعل ، أي بالاستعداد

٤٢

للغواية لا بوقوعها.

فالإضافة في قوله تعالى : (عِبادِي) للعموم كما هو شأن الجمع المعرّف بالإضافة ، والاستثناء حقيقي ولا حيرة في ذلك.

وضمير «موعدهم» عائد إلى (مَنِ اتَّبَعَكَ) ، والموعد مكان الوعد. وأطلق هنا على المصير إلى الله استعير الموعد لمكان اللقاء تشبيها له بالمكان المعين بين الناس للقاء معين وهو الوعد.

ووجه الشبه تحقّق المجيء بجامع الحرص عليه شأن المواعيد ، لأن إخلاف الوعد محاور ، وفي ذلك تمليح بهم لأنهم ينكرون البعث والجزاء ، فجعلوا بمنزلة من عيّن ذلك المكان للإتيان.

وجملة (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) مستأنفة لوصف حال جهنم وأبوابها لإعداد الناس بحيث لا تضيق عن دخولهم.

والظاهر أن السبعة مستعملة في الكثرة فيكون كقوله : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) [سورة الرعد : ٢٣] ؛ أو أريد بالأبواب الكناية عن طبقات جهنم لأن الأبواب تقتضي منازل فهي مراتب مناسبة لمراتب الإجرام بأن تكون أصول الجرائم سبعة تتفرع عنها جميع المعاصي الكبائر. وعسى أن نتمكن من تشجيرها في وقت آخر.

وقد يكون من جملة طبقاتها طبقة النفاق قال تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [سورة النساء : ١٤٥]. وانظر ما قدمناه من تفريع ما ينشأ عن النفاق من المذام في قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) في سورة البقرة [٨].

وجملة (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) صفة ل (أَبْوابٍ) وتقسيمها بالتعيين يعلمه الله تعالى. وضمير (مِنْهُمْ) عائد ل (مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) ، أي لكل باب فريق يدخل منه ، أو لكل طبقة من النار قسم من أهل النار مقسوم على طبقات أقسام النار.

واعلم أن هذه الأقوال التي صدرت من الشيطان لدى الحضرة القدسية هي انكشاف لجبلّة التطور الذي تكيّفت به نفس إبليس من حين أبى من السجود وكيف تولد كل فصل من ذلك التطور عما قبله حتى تقومت الماهية الشيطانية بمقوماتها كاملة عند ما صدر منه قوله : (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [سورة

٤٣

الحجر : ٣٩ ، ٤٠] ، فكلّما حدث في جبلّته فصل من تلك الماهية صدر منه قول يدل عليه ؛ فهو شبيه بنطق الجوارح بالشهادة على أهل الضلالة يوم الحساب.

وأما الأقوال الإلهية التي أجيبت بها أقوال الشيطان فمظهر للأوامر التكوينية التي قدّرها الله تعالى في علمه لتطور أطوار إبليس المقومة لماهية الشيطنة ، وللألطاف التي قدرها الله لمن يعتصم بها من عباده لمقاومة سلطان الشيطان. وليست تلك الأقوال كلها بمناظرة بين الله وأحد مخلوقاته ولا بغلبة من الشيطان لخالقه ، فإن ضعفه تجاه عزّة خالقه لا يبلغ به إلى ذلك.

[٤٥ ـ ٤٨] (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨))

استئناف ابتدائي ، انتقال من وعيد المجرمين إلى بشارة المتّقين على عادة القرآن في التفنن.

والمتّقون : الموصوفون بالتقوى. وتقدمت عند صدر سورة البقرة.

والجنّات : جمع جنة. وقد تقدمت عند قوله تعالى (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) في أول سورة البقرة [٢٥].

والعيون : جمع عين اسم لثقب أرضي يخرج منه الماء من الأرض. فقد يكون انفجارها بدون عمل الإنسان. وأسبابه كثيرة تقدمت عند قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) في سورة البقرة [٧٤]. وقد يكون بفعل فاعل وهو التفجير.

وجملة (ادْخُلُوها) معمولة لقول محذوف يقدر حالا من (الْمُتَّقِينَ) والقرينة ظاهرة. والتقدير : يقال لهم ادخلوها. والقائل هو الملائكة عند إدخال المتقين الجنة.

والباء من (بِسَلامٍ) للمصاحبة.

والسلام : التحية. وتقدم في قوله : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) في سورة الأنعام [٥٤].

والأمن النجاة من الخوف.

٤٤

وجملة (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) عطف على الخبر ، وهو (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ). والتقدير : إن المتقين نزعنا ما في صدورهم من غلّ.

والغلّ ـ بكسر الغين ـ البغض. وتقدم في قوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) في سورة الأعراف [٤٣] ، أي ما كان بين بعضهم من غلّ في الدنيا.

و (إِخْواناً) حال ، وهو على معنى التشبيه ، أي كالإخوان ، أي كحال الإخوان في الدنيا.

وأول من يدخل في هذا العموم أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما شجر بينهم من الحوادث الدافع إليها اختلاف الاجتهاد في إقامة مصالح المسلمين ، والشدة في إقامة الحق على حسب اجتهادهم. كما روي عن علي ـ كرّم الله وجهه ـ أنه قال : إني لأرجو من أن أكون أنا وطلحة ممن قال الله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً). فقال جاهل من شيعة عليّ اسمه الحارث بن الأعور الهمذاني : كلا ، الله أعدل من أن يجمعك وطلحة في مكان واحد. فقال عليّ : «فلمن هذه الآية لا أمّ لك بفيك التراب».

والسرر : جمع سرير. وهو محمل كالكرسي متّسع يمكن الاضطجاع عليه. والاتّكاء : مجلس أصحاب الدعة والرفاهية لتمكن الجالس عليه من التقلّب كيف شاء حتى إذا ملّ جلسة انقلب لغيرها.

والتقابل : كون الواحد قبالة غيره ، وهو أدخل في التأنس بالرؤية والمحادثة.

والمسّ : كناية عن الإصابة.

والنصب : التعب النّاشئ عن استعمال الجهد.

[٤٩ ، ٥٠] (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠))

هذا تصدير لذكر القصص التي أريد من التذكير بها الموعظة بما حلّ بأهلها ، وهي قصة قوم لوط وقصة أصحاب الأيكة وقصة ثمود.

وابتدئ ذلك بقصة إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما فيها من كرامة الله له تعريضا بالمشركين إذ لم يقتفوا آثاره في التوحيد.

٤٥

فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا وهو مرتبط بقوله في أوائل السورة : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) [سورة الحجر : ٤].

وابتداء الكلام بفعل الإنباء لتشويق السامعين إلى ما بعده كقوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) [سورة البروج : ١٧] ونحوه. والمقصود هو قوله تعالى الآتي : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) [سورة الحجر : ٥١]. وإنما قدم الأمر بإعلام الناس بمغفرة الله وعذابه ابتداء بالموعظة الأصلية قبل الموعظة بجزئيات حوادث الانتقام من المعاندين وإنجاء من بينهم من المؤمنين لأن ذلك دائر بين أثر الغفران وبين أثر العذاب.

وقدمت المغفرة على العذاب لسبق رحمته غضبه.

وضمير (أَنَا) وضمير (هُوَ) ضميرا فصل يفيدان تأكيد الخبر.

واعلم أن في قوله تعالى : نبئ عبادي إلى (الرَّحِيمُ) من المحسّنات البديعية محسّن الاتّزان إذا سكنت ياء (أَنِّي) على قراءة الجمهور بتسكينها ، فإن الآية تأتي متزنة على ميزان بحر المجتث الذي لحقه الخبن في عروضه وضربه فهو متفعلن فعلاتن مرتين.

[٥١ ـ ٥٦] (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦))

هذا العطف مع اتحاد الفعل المعطوف بالفعل المعطوف عليه في الصيغة دليل على أن المقصود الإنباء بكلا الأمرين لمناسبة ذكر القصة أنها من مظاهر رحمته تعالى وعذابه.

و (ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) : الملائكة الذين تشكلوا بشكل أناس غرباء مارّين ببيته. وتقدمت القصة في سورة هود.

وجملة (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) جاءت مفصولة بدون عطف لأنها جواب عن جملة (فَقالُوا سَلاماً). وقد طوي ذكر رده السلام عليهم إيجازا لظهوره. صرح به في قوله : (قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) [سورة الذاريات : ٢٥] ، أي قال إنا منكم وجلون بعد أن رد السلام. وفي سورة هود أنه أوجس منهم خيفة حين رآهم لم يمدّوا أيديهم للأكل.

وضمير (إِنَّا) من كلام إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ فهو يعني به نفسه وأهله ، لأن

٤٦

الضيف طرقوا بيتهم في غير وقت طروق الضيف فظنّهم يريدون به شرا ، فلما سلموا عليه فاتحهم بطلب الأمن ، فقال : (إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) ، أي أخفتمونا. وفي سورة الذاريات أنه قال لهم : (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) [سورة الحجر : ٢٥].

والوجل : الخائف. والوجل ـ بفتح الجيم ـ الخوف. ووقع في سورة هود [٧٠] (نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً).

وقد جمع في هذه الآية متفرق كلام الملائكة ، فاقتصر على مجاوبتهم إياه عن قوله : (إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) ، فنهاية الجواب هو (لا تَوْجَلْ).

وأما جملة (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) فهي استئناف كلام آخر بعد أن قدّم إليهم القرى وحضرت امرأته فبشّروه بحضرتها كما فصّل في سورة هود.

والغلام العليم : إسحاق ـ عليه‌السلام ـ أي عليم بالشريعة بأن يكون نبيئا.

وقد حكي هنا قولهم لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، وحكي في سورة هود قولهم لامرأته لأن البشارة كانت لهما معا فقد تكون حاصلة في وقت واحد فهي بشارتان باعتبار المبشّر ، وقد تكون حصلت في وقتين متقاربين بشّروه بانفراد ثم جاءت امرأته فبشروها.

وقرأ الجمهور (نُبَشِّرُكَ) ـ بضم النون وفتح الموحدة وتشديد الشين المكسورة مضارع بشر بالتشديد ـ. وقرأ حمزة وحده (نُبَشِّرُكَ) ـ بفتح النون وسكون الموحدة وضم الشين ـ وهي لغة. يقال بشره يبشره من باب نصر.

والاستفهام في (أَبَشَّرْتُمُونِي) للتعجب.

و (عَلى) بمعنى (مع) : دالة على شدة اقتران البشارة بمسّ الكبر إياه.

والمسّ : الإصابة. والمعنى تعجب من بشارته بولد مع أن الكبر مسّه.

وأكد هذا التعجب بالاستفهام الثاني بقوله : (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) استفهام تعجب. نزل الأمر العجيب المعلوم منزلة الأمر غير المعلوم لأنه يكاد يكون غير معلوم.

وقد علم إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ من البشارة أنهم ملائكة صادقون فتعين أن الاستفهام للتعجب.

وحذف مفعول «بشرتموني» لدلالة الكلام عليه.

٤٧

قرأ نافع تبشرون ـ بكسر النون مخففة دون إشباع ـ على حذف نون الرفع وحذف ياء المتكلم وكل ذلك تخفيف فصيح. وقرأ ابن كثير ـ بكسر النون مشددة ـ على حذف ياء المتكلم خاصة. وقرأ الباقون ـ بفتح النون ـ على حذف المفعول لظهوره من المقام ، أي تبشرونني.

وجواب الملائكة إياه بأنهم بشّروه بالخبر الحق ، أي الثابت لا شك فيه إبطالا لما اقتضاه استفهامه بقوله : (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) من أن ما بشروه به أمر يكاد أن يكون منتفيا وباطلا. فكلامهم رد لكلامه وليس جوابا على استفهامه لأنه استفهام غير حقيقي.

ثم نهوه عن استبعاد ذلك بأنه استبعاد رحمة القدير بعد أن علم أن المبشّرين بها مرسلون إليه من الله فاستبعاد ذلك يفضي إلى القنوط من رحمة الله فقالوا : (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ). ذلك أنه لما استبعد ذلك استبعاد المتعجب من حصوله كان ذلك أثرا من آثار رسوخ الأمور المعتادة في نفسه بحيث لم يقلعه منها الخبر الذي يعلم صدقه فبقي في نفسه بقية من التردّد في حصول ذلك فقاربت حاله تلك حال الذين ييأسون من أمر الله. ولما كان إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ منزّها عن القنوط من رحمة الله جاءوا في موعظته بطريقة الأدب المناسب فنهوه عن أن يكون من زمرة القانطين تحذيرا له مما يدخله في تلك الزمرة ، ولم يفرضوا أن يكون هو قانطا لرفعة مقام نبوءته عن ذلك. وهو في هذا المقام كحاله في مقام ما حكاه الله عنه من قوله : (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [سورة البقرة : ٢٦٠].

وهذا النّهي كقول الله تعالى لنوح ـ عليه‌السلام ـ (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [سورة هود : ٤٦].

وقد ذكرته الموعظة مقاما نسيه فقال : (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ). وهو استفهام إنكار في معنى النفي ، ولذلك استثنى منه (إِلَّا الضَّالُّونَ). يعني أنه لم يذهب عنه اجتناب القنوط من رحمة الله ، ولكنه امتلكه المعتاد فتعجب فصار ذلك كالذهول عن المعلوم فلما نبّهه الملائكة أدنى تنبيه تذكّر.

القنوط : اليأس.

وقرأ الجمهور (وَمَنْ يَقْنَطُ) ـ بفتح النون ـ. وقرأه أبو عمرو والكسائي ويعقوب وخلف ـ بكسر النون ـ وهما لغتان في فعل قنط.

٤٨

قال أبو علي الفارسي : قنط يقنط ـ بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل ـ من أعلى اللغات. قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) [سورة الشورى : ٢٨].

قلت : ومن فصاحة القرآن اختياره كل لغة في موضع كونها فيه أفصح ، فما جاء فيه إلا الفتح في الماضي ، وجاء المضارع بالفتح والكسر على القراءتين.

[٥٧ ـ ٦٠] (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠))

حكاية هذا الحوار بين إبراهيم والملائكة ـ عليهم‌السلام ـ لأنه يجمع بين بيان فضل إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وبين موعظة قريش بما حل ببعض الأمم المكذبين ، انتقل إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ إلى سؤالهم عن سبب نزولهم إلى الأرض ، لأنه يعلم أن الملائكة لا ينزلون إلا لأمر عظيم كما قال تعالى : ما تنزل الملائكة إلا بالحق [سورة الحجر : ٨]. وقد نزل الملائكة يوم بدر لاستئصال سادة المشركين ورؤسائهم.

والخطب تقدم في قوله تعالى (قالَ ما خَطْبُكُنَ) في [سورة يوسف : ٥١].

والقوم المجرمون هم قوم لوط أهل سدوم وقراها. وتقدم ذكرهم في سورة هود.

والاستثناء في (إِلَّا آلَ لُوطٍ) منقطع لأنهم غير مجرمين. واستثناء (إِلَّا امْرَأَتَهُ) متصل لأنها من آل لوط.

وجملة (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) استئناف بياني لبيان الإجمال الذي في استثناء آل لوط من متعلق فعل (أُرْسِلْنا) لدفع احتمال أنهم لم يرسلوا إليهم ولا أمروا بإنجائهم.

وفي قوله : (أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) إيجاز حذف. وتقدير الكلام : إنا أرسلنا إلى لوط لأجل قوم مجرمين ، أي لعذابهم. ودل على ذلك الاستثناء في (إِلَّا آلَ لُوطٍ).

وقرأ الجمهور (لَمُنَجُّوهُمْ) ـ بفتح النون وتشديد الجيم ـ مضارع نجّى المضاعف. وقرأه حمزة والكسائي وخلف ـ بسكون النون وتخفيف الجيم ـ مضارع أنجى المهموز.

وإسناد التقدير إلى ضمير الملائكة لأنهم مزمعون على سببه. وهو ما وكلوا به من تحذير لوط ـ عليه‌السلام ـ وآله من الالتفات إلى العذاب ، وتركهم تحذير امرأته حتى التفتت فحل بها ما حل بقوم لوط.

٤٩

وقرأ الجمهور (قَدَّرْنا) ـ بتشديد الدال ـ من التقدير. وقرأه أبو بكر عن عاصم ـ بتخفيف الدال ـ من قدر المجرد وهما لغتان.

وجملة (إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) مستأنفة. و (إن) معلقة لفعل (قَدَّرْنا) عن العمل في مفعوله. وأصل الكلام قدرنا غبورها ، أي ذهابها وهلاكها.

والتعليق يطرأ على الأفعال كلها وإنما يكثر في أفعال القلوب ويقلّ في غيرها. وليس من خصائصها على التحقيق.

وتقدم ذكر الغابرين في سورة الأعراف.

[٦١ ـ ٦٥] (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥))

تفريع على حكاية قصتهم مع إبراهيم وقد طوي ما هو معلوم من خروج الملائكة من عند إبراهيم. والتقدير : ففارقوه وذهبوا إلى لوط فلما جاءوا لوطا.

وعبر بآل لوط ـ عليه‌السلام ـ لأنهم نزلوا في منزلة بين أهله فجاءوا آله وإن كان المقصود بالخطاب والمجيء هو لوط.

وتولى لوط ـ عليه‌السلام ـ تلقيهم كما هو شأن كبير المنزل ولكنه وجدهم في شكل غير معروف في القبائل التي كانت تمر بهم فألهم إلى أن لهم قصة غريبة ولذلك قال لهم : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) ، أي لا تعرف قبيلتكم. وتقدم عند قوله تعالى : (نَكِرَهُمْ) في سورة هود [٧٠].

وقد أجابوه بما يزيل ذلك إذ (قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) إضرابا عن قوله: (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) وإبطالا لما ظنه من كونهم من البشر الذين لم يعرف قبيلتهم فلا يأمنهم أن يعاملوه بما يضرّه.

وعبر عن العذاب ب «ما كانوا فيه يمترون» إيماء إلى وجه بناء الخبر وهو التعذيب ، أي بالأمر الذي كان قومك يشكون في حلوله بهم وهو العذاب ، فعلم أنهم ملائكة.

والمراد بالحق الخبر الحق ، أي الصدق ، ولذلك ذيل بجملة (وَإِنَّا لَصادِقُونَ).

٥٠

وقوله : (قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ* وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) حكاية لخطاب الملائكة لوطا ـ عليه‌السلام ـ لمعنى عباراتهم محولة إلى نظم عربي يفيد معنى كلامهم في نظم عربي بليغ ، فبنا أن نبيّن خصائص هذا النظم العربي : فإعادة فعل (أَتَيْناكَ) بعد واو العطف مع أن فعل (أَتَيْناكَ) مرادف لفعل (جِئْناكَ) دون أن يقول : و (بِالْحَقِ) ، يحتمل أن يكون للتأكيد اللفظي بالمرادف. والتعبير في أحد الفعلين بمادة المجيء وفي الفعل الآخر بمادة الإتيان لمجرد التفنن لدفع تكرار الفعل الواحد ، كقوله تعالى في سورة الفرقان [٣٣] : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً). وعليه تكون الباء في قوله : (بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) وقوله : (بِالْحَقِ) للملابسة.

ويحتمل أن تكون لذكر الفعل الثاني وهو (وَأَتَيْناكَ) خصوصية لا تفي بها واو العطف وهي مراعاة اختلاف المجرورين بالباء في مناسبة كل منهما للفعل الذي تعلق هو به. فلما كان المتعلق بفعل (جِئْناكَ) أمرا حسيا وهو العذاب الذي كانوا فيه يمترون ، وكان مما يصح أن يسند إليه المجيء بمعنى كالحقيقي ، إذ هو مجيء مجازي مشهور مساو للحقيقي ، أوثر فعل (جِئْناكَ) ليسند إلى ضمير المخاطبين ويعلق به «ما كانوا فيه يمترون». وتكون الباء المتعلقة به للتعدية لأنهم أجاءوا العذاب ، فموقع قوله تعالى : (بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) موقع مفعول به ، كما تقول (ذهبت به) بمعنى أذهبته وإن كنت لم تذهب معه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) [سورة الزخرف : ٤١] أي نذهبك من الدنيا ، أي نميتك. فهذه الباء للتعدية وهي بمنزلة همزة التعدية.

وأما متعلق فعل (أَتَيْناكَ) وهو (بِالْحَقِ) فهو أمر معنوي لا يقع منه الإتيان فلا يتعلق بفعل الإتيان فغيرت مادة المجيء إلى مادة الإتيان تنبيها على إرادة معنى غير المراد بالفعل السابق ، أعني المجيء المجازي. فإن هذا الإتيان مسند إلى الملائكة بمعناه الحقيقي ، وكانوا في إتيانهم ملابسين للحق ، أي الصدق ، وليس الصدق مسندا إليه الإتيان. فالباء في قوله تعالى : (بِالْحَقِ) للملابسة لا للتعدية.

والقطع ـ بكسر القاف وسكون الطاء ـ الجزء الأخير من الليل. وتقدم عند قوله تعالى : (قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) في سورة يونس [٢٧].

وأمروه أن يجعل أهله قدامه ويكون من خلفهم ، فهو يتبع أدبارهم ، أي ظهورهم ليكون كالحائل بينهم وبين العذاب الذي يحل بقومه بعقب خروجه تنويها ببركة الرسول ـ

٥١

عليه‌السلام ـ ، ولأنهم أمروه أن لا يلتفت أحد من أهله إلى ديار قومهم لأن العذاب يكون قد نزل بديارهم. فبكونه وراء أهله يخافون الالتفات لأنه يراقبهم. وقد مضى تفصيل ذلك في سورة هود ، وأن امرأته التفتت فأصابها العذاب.

و (حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) أي حيث تؤمرون بالمضي. ولم يبينوا له المكان الذي يقصده إلا وقت الخروج ، وهو مدينة عمورية ، كما تقدم في سورة هود.

(وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦))

(قَضَيْنا) قدرنا ، وضمن معنى أوحينا فعدي ب (إلى). والتقدير : وقضينا ذلك الأمر فأوحينا إليه ، أي إلى لوط ـ عليه‌السلام ـ ، أي أوحينا إليه بما قضينا.

و (ذلِكَ الْأَمْرَ) إبهام للتهويل. والإشارة للتعظيم ، أي الأمر العظيم.

و (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ) جملة مفسرة ل (ذلِكَ الْأَمْرَ) وهي المناسبة للفعل المضمن وهو (أوحينا). فصار التقدير : وقضينا الأمر وأوحينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع. فنظم الكلام هذا النظم البديع الوافر المعنى بما في قوله : (ذلِكَ الْأَمْرَ) من الإبهام والتعظيم.

ومجيء جملة (دابِرَ) مفسرة مع صلوحية (أَنَ) لبيان كل من إبهام الإشارة ومن فعل (أوحينا) المقدر المضمن ، فتم بذلك إيجاز بديع معجز.

والدابر : الآخر ، أي آخر شخص.

وقطعه : إزالته. وهو كناية عن استئصالهم كلهم ، كما تقدم عند قوله تعالى : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) في سورة الأنعام [٤٥].

وإشارة (هؤُلاءِ) إلى قومه.

و (مُصْبِحِينَ) داخلين في الصباح ، أي في أول وقته ، وهو حال من اسم الإشارة.

ومبدأ الصباح وقت شروق الشمس ولذلك قال بعده (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) [سورة الحجر : ٧٣].

[٦٧ ـ ٦٩] (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩))

٥٢

عطف جزء من قصة قوم لوط وهو الجزء الأهم فيها.

ومجيء أهل المدينة إليه ومحاورته معهم كان قبل أن يعلم أنهم ملائكة ولو علم ذلك لما أشفق مما عزم عليه أهل المدينة لمّا علم بما عزموا عليه بعد مجادلتهم معه ، كما جاء في قوله تعالى : (قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) في سورة هود [٨١]. والواو لا تفيد ترتيب معطوفها.

ويجوز جعل الجملة في موضع الحال من ضمير لوط المستتر في فعل (قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) [سورة الحجر : ٦٢] ، أو من الهاء في (إِلَيْهِ) ، ولا إشكال حينئذ. والمدينة هي سدوم.

و (يَسْتَبْشِرُونَ) يفرحون ويسرون. وهو مطاوع بشره فاستبشر ، قال تعالى : (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ) في سورة براءة [١١١]. وصيغ بصيغة المضارع لإفادة التجدد مبالغة في الفرح. ذلك أنهم علموا أن رجالا غرباء حلوا ببيت لوط ـ عليه‌السلام ـ ففرحوا بذلك ليغتصبوهم كعادتهم السيئة. وقد تقدمت القصة في سورة هود.

والفضح والفضيحة : شهرة حال شنيعة. وكانوا يتعيرون بإهانة الضيف ويعد ذلك مذلة لمضيفه. وقد ذكرهم بالوازع الديني وإن كانوا كفارا استقصاء للدعوة التي جاء بها ، وبالوازع العرفي فقال : (وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ) كما في قول عبد بني الحسحاس :

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

والخزي : الذلّ والإهانة. وتقدم في قوله تعالى : (إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) في أوائل سورة البقرة [٨٥]. وتقدم في مثل هذه القصة في سورة هود.

[٧٠ ـ ٧٧] (قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧))

الواو في (أَوَلَمْ نَنْهَكَ) عطف على كلام لوط ـ عليه‌السلام ـ جار على طريقة العطف على كلام الغير كقوله تعالى : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) بعد قوله تعالى : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) في سورة البقرة [١٢٤].

٥٣

والاستفهام إنكاري ، والمعطوف هو الإنكار.

و (الْعالَمِينَ) الناس. وتعدية النّهي إلى ذات العالمين على تقدير مضاف دلّ عليه المقام ، أي ألم ننهك عن حماية الناس أو عن إجارتهم ، أي أن عليك أن تخلي بيننا وبين عادتنا حتى لا يطمع المارون في حمايتك ، وقد كانوا يقطعون السبيل يتعرضون للمارين على قراهم. و (الْعالَمِينَ) تقدم في الفاتحة. وأرادوا به هنا أصناف القبائل لقصد التعميم.

وعرض عليهم بناته ظنا أن ذلك يردعهم ويطفئ شبقهم. ولذلك قال : (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ).

وقد تقدم في سورة هود معنى عرضه بناته ، وأن قوله : (بَناتِي) يجوز أن يراد به بنات صلبه وكنّ اثنتين أو ثلاثا ، ويجوز أن يراد به بنات القوم كلهم تنزيلا لهم منزلة بناته لأن النبي كأب لأمّته.

وجملة (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي) سكراتهم يعمهون معترضة بين أجزاء القصة للعبرة في عدم جدوى الموعظة فيمن يكون في سكرة هواه.

والمخاطب بها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل الله تعالى. وقيل هو من كلام الملائكة بتقدير قول.

وكلمة (لَعَمْرُكَ) صيغة قسم. واللام الداخلة على لفظ (عمر) لام القسم.

والعمر ـ بفتح العين وسكون اللام ـ أصله لغة في العمر بضم العين ، فخص المفتوح بصيغة القسم لخفّته بالفتح لأن القسم كثير الدوران في الكلام. فهو قسم بحياة المخاطب به. وهو في الاستعمال إذا دخلت عليه لام القسم رفعوه على الابتداء محذوف الخبر وجوبا. والتقدير : لعمرك قسمي.

وهو من المواضع التي يحذف فيها الخبر حذفا لازما في استعمال العرب اكتفاء بدلالة اللام على معنى القسم. وقد يستعملونه بغير اللّام فحينئذ يقرنونه باسم الجلالة وينصبونهما ، كقول عمر بن أبي ربيعة :

عمرك الله كيف يلتقيان

فنصب عمر بنزع الخافض وهو ياء القسم ونصب اسم الجلالة على أنه مفعول المصدر ، أي بتعميرك الله بمعنى بتعظيمك الله ، أي قولك لله لعمرك تعظيما لله لأن القسم

٥٤

باسم أحد تعظيم له ، فاستعمل لفظ القسم كناية عن التعظيم ، كما استعمل لفظ التحية كناية عن التعظيم في كلمات التشهد «التّحيّات لله» أي أقسم عليك بتعظيمك ربّك. هذا ما يظهر لي في توجيه النصب ، وقد خالفت فيه أقوال أهل اللّغة بعض مخالفة لأدفع ما عرض لهم من إشكال.

والسكرة : ذهاب العقل. مشتقّة من السكر ـ بفتح السين ـ وهو السدّ والغلق. وأطلقت هنا على الضلال تشبيها لغلبة دواعي الهوى على دواعي الرشاد بذهاب العقل وغشيته.

و (يَعْمَهُونَ) يتحيّرون ولا يهتدون. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) في سورة البقرة [١٥].

وجملة (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) تفريع على جملة (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) [سورة الحجر : ٦٦].

و (الصَّيْحَةُ) : صعقة في الهواء ، وهي صواعق وزلازل وفيها حجارة من سجّيل. وقد مضى بيانها في سورة هود.

وانتصب (مُشْرِقِينَ) على الحال من ضمير الغيبة. وهو اسم فاعل من أشرقوا إذا دخلوا في وقت شروق الشمس.

وضميرا (عالِيَها سافِلَها) للمدينة. وضمير (عَلَيْهِمْ) عائد إلى ما عادت عليه ضمائر الجمع قبله.

وجملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) : تذييل. والآيات : الأدلّة ، أي دلائل على حقائق من الهداية وضدّها ، وعلى تعرّض المكذبين رسلهم لعقاب شديد.

والإشارة (فِي ذلِكَ) إلى جميع ما تضمّنته القصة المبدوءة بقوله تعالى : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) [سورة الحجر : ٥١]. ففيها من الآيات آية نزول الملائكة في بيت إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ كرامة له ، وبشارته بغلام عليم ، وإعلام الله إيّاه بما سيحلّ بقوم لوط كرامة لإبراهيم ـ عليهما‌السلام ـ ، ونصر الله لوطا بالملائكة ، وإنجاء لوط ـ عليه‌السلام ـ وآله ، وإهلاك قومه وامرأته لمناصرتها إيّاهم ، وآية عماية أهل الضلالة عن دلائل الإنابة ، وآية غضب الله على المسترسلين في عصيان الرّسل.

٥٥

وتقدم الكلام على لفظ آية عند قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) في سورة البقرة [٣٩]. وقوله : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) في سورة الأنعام [٣٧].

والمتوسّمون أصحاب التوسم وهو التأمّل في السّمة ، أي العلامة الدّالة على المعلّم ، والمراد للمتأملين في الأسباب وعواقبها وأولئك هم المؤمنون. وهو تعريض بالّذين لم تردعهم العبر بأنهم دون مرتبة النظر تعريضا بالمشركين الذين لم يتّعظوا ؛ بأن يحلّ بهم ما حلّ بالأمم من قبلهم التي عرفوا أخبارها ورأوا آثارها.

ولذلك أعقب الجملة بجملة (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) ، أي المدينة المذكورة آنفا هي بطريق باق يشاهد كثير منكم آثارها في بلاد فلسطين في طريق تجارتكم إلى الشّام وما حولها ، وهذا كقوله : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [سورة الصافات : ١٣٧ ـ ١٣٨].

والمقيم : أصله الشخص المستقرّ في مكانه غير مرتحل. وهو هنا مستعار لآثار المدينة الباقية في المكان بتشبيهه بالشخص المقيم.

وجملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) تذييل. والإشارة إلى ما تقدم من قوله من القصّة مع ما انضمّ إليها من التذكير بأن قراهم واضحة فيها آثار الخسف والأمطار بالحجارة المحماة.

وعبّر في التذييل بالمؤمنين للتنبيه على أن المتوسّمين هم المؤمنون.

وجعل ذلك (آية) بالإفراد تفنّنا لأن (آية) اسم جنس يصدق بالمتعدّد ، على أن مجموع ما حصل لهم آية على المقصود من القصة وهو عاقبة المكذبين. وفي مطاوي تلك الآيات آيات. والذي في درة التنزيل ، أي الفرق بين جمع الآيات في الأول ، وإفراده ثانيا في هذه الآية بأن ما قصّ من حديث لوط وضيف إبراهيم وما كان من عاقبة أمرهم كل جزء من ذلك في نفسه آية. فالمشار إليه بذلك هو عدة آيات. وأمّا كون قرية لوط بسبيل مقيم فهو في جملته آية واحدة. فتأمّل.

[٧٨ ، ٧٩] (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩))

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ).

٥٦

عطف قصة على قصة لما في كلتيهما من الموعظة. وذكر هاتين القصّتين المعطوفتين تكميل وإدماج ، إذ لا علاقة بينهما وبين ما قبلهما من قصة إبراهيم والملائكة. وخصّ بالذكر أصحاب الأيكة وأصحاب الحجر لأنهم مثل قوم لوط في موعظة المشركين من الملائكة لأن أهل مكة يشاهدون ديار هذه الأمم الثّلاث.

و (إِنْ) مخفّفة (إنّ) وقد أهمل عملها بالتخفيف فدخلت على جملة فعلية. واللام الداخلة على (الظالمين) اللام الفارقة بين (إن) التي أصلها مشددة وبين (إن) النافية.

و (الْأَيْكَةِ) : الغيضة من الأشجار الملتفّ بعضها ببعض. واسم الجمع (أيك) ، وأطلقت هنا مرادا بها الجنس إذ قد كانت منازلهم في غيضة من الأشجار الكثيرة الورق. وقد تخفّف الأيكة فيقال : ليكة.

و (أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) : هم قوم شعيب ـ عليه‌السلام ـ وهم مدين. وقيل أصحاب الأيكة فريق من قوم شعيب غير أهل مدين. فأهل مدين هم سكان الحاضرة وأصحاب الأيكة هم باديتهم ، وكان شعيب رسولا إليهم جميعا. قال تعالى : (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ) [سورة الشعراء : ١٧٦ ـ ١٧٧]. وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى في سورة الشّعراء.

والظالمون : المشركون.

والانتقام : العقوبة لأجل ذنب ، مشتقّة من النّقم ، وهو الإنكار على الفعل. يقال : نقم عليه كما في هذه الآية ، ونقم منه أيضا. وتقدم في قوله : (وَما تَنْقِمُ مِنَّا) في سورة الأعراف [١٢٦]. وأجمل الانتقام في هذه الآية وبيّن في آيات أخرى مثل آية هود.

(وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ)

ضمير (إِنَّهُما) لقرية قوم لوط وأيكة قوم شعيب ـ عليهما‌السلام ـ ..

والإمام : الطريق الواضح لأنه يأتمّ به السائر ، أي يعرف أنه يوصل إذ لا يخفى عنه شيء منه. والمبين : البيّن ، أي أن كلتا القريتين بطريق القوافل بأهل مكّة.

وقد تقدم آنفا قوله : (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) [سورة الحجر : ٧٦] فإدخال مدينة لوط ـ عليه‌السلام ـ في الضمير هنا تأكيد للأول.

ويظهر أن ضمير التثنية عائد على أصحاب الأيكة باعتبار أنهم قبيلتان ، وهما مدين

٥٧

وسكان الغيضة الأصليون الذين نزل مدين بجوارهم ، فإن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أسكن ابنه مدين في شرق بلاد الخليل ، ولا يكون إلا في أرض مأهولة. وهذا عندي هو مقتضى ذكر قوم شعيب ـ عليه‌السلام ـ باسم مدين مرّات وباسم أصحاب الأيكة مرّات. وسيأتي لذلك زيادة إيضاح في سورة الشّعراء.

[٨٠ ـ ٨٤] (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤))

جمعت قصص هؤلاء الأمم الثّلاث : قوم لوط ، وأصحاب الأيكة ، وأصحاب الحجر في نسق ، لتماثل حال العذاب الّذي سلط عليها وهو عذاب الصّيحة والرّجفة والصّاعقة.

وأصحاب الحجر هم ثمود كانوا ينزلون الحجر ـ بكسر الحاء وسكون الجيم ـ. والحجر : المكان المحجور ، أي الممنوع من النّاس بسبب اختصاص به ، أو اشتقّ من الحجارة لأنهم كانوا ينحتون بيوتهم في صخر الجبل نحتا محكما. وقد جعلت طبقات وفي وسطها بئر عظيمة وبئار كثيرة.

والحجر هو المعروف بوادي القرى وهو بين المدينة والشّام ، وهو المعروف اليوم باسم مدائن صالح على الطريق من خيبر إلى تبوك.

وأما حجر اليمامة مدينة بني حنيفة فهي ـ بفتح الحاء ـ وهي في بلاد نجد وتسمى العروض وهي اليوم من بلاد البحرين.

وقد توهّم بعض المستشرقين من الإفرنج أن البيوت المنحوتة في ذلك الجبل كانت قبورا ، وتعلقوا بحجج وهمية. ومما يفنّد أقوالهم خلوّ تلك الكهوف عن أجساد آدمية. وإذا كانت تلك قبورا فأين كانت منازل الأحياء؟.

والظاهر أن ثمود لما أخذتهم الصّيحة كانوا منتشرين في خارج البيوت لقوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ). وقد وجدت في مداخل تلك البيوت نقر صغيرة تدلّ على أنّها مجعولة لوصد أبواب المداخل في اللّيل.

وتعريف (الْمُرْسَلِينَ) للجنس ، فيصدق بالواحد ، إذ المراد أنّهم كذبوا صالحا ـ

٥٨

عليه‌السلام ـ فهو كقوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [سورة الشعراء : ١٠٥]. وقد تقدم. وكذلك جمع الآيات في قوله : (آياتِنا) مراد به الجنس ، وهي آية النّاقة ، أو أريد أنها آية تشتمل على آيات في كيفيّة خروجها من صخرة ، وحياتها ، ورعيها ، وشربها. وقد روي أنّها خرج معها فصيلها ، فهما آيتان.

وجملة (وَكانُوا يَنْحِتُونَ) معترضة. والنّحت : بري الحجر أو العود من وسطه أو من جوانبه.

و (مِنَ الْجِبالِ) تبعيض متعلق ب (يَنْحِتُونَ). والمعنى من صخر الجبال ، لما دلّ عليه فعل (يَنْحِتُونَ).

و (آمِنِينَ) حال من ضمير (يَنْحِتُونَ) وهي حال مقدرة ، أي مقدرين أن يكونوا آمنين عقب نحتها وسكناها. وكانت لهم بمنزلة الحصون لا ينالهم فيها العدو.

ولكنهم نسوا أنها لا تأمنهم من عذاب الله فلذلك قال : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ).

والفاء في (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) للتعقيب والسببية. و (مُصْبِحِينَ) حال ، أي داخلين في وقت الصّباح.

و (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي يصنعون ، أي البيوت التي عنوا بتحصينها وتحسينها كما دلّ عليه فعل (كانُوا). وصيغة المضارع في (يَكْسِبُونَ) لدلالتها على التكرّر والتجدّد المكنّى به عن إتقان الصنعة. وبذلك كان موقع الموصول والصلة أبلغ من موقع لفظ (بيوتهم) مثلا ، ليدل على أن الذي لم يغن عنهم شيء متّخذ للإغناء ومن شأنه ذلك.

[٨٥ ، ٨٦] (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦))

موقع الواو في صدر هذه الجملة بديع. فهذه الجملة صالحة لأن تكون تذييلا لقصص الأمم المعذبة ببيان أن ما أصابهم قد استحقّوه فهو من عدل الله بالجزاء على الأعمال بما يناسبها ، ولأن تكون تصديرا للجملة التي بعدها وهي جملة (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ). والمراد ساعة جزاء المكذّبين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي ساعة البعث. فعلى الأول تكون الواو اعتراضية أو حالية ، وعلى الثّاني عاطفة جملة على جملة وخبرا على خبر.

٥٩

على أنه قد يكون العطف في الحالين لجعلها مستقلة بإفادة مضمونها لأهميته مع كونها مكمّلة لغيرها ، وإنما أكسبها هذا الموقع البديع نظم الجمل المعجز والتنقل من غرض إلى غرض بما بينها من المناسبة.

وتشمل (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) أصناف المخلوقات من حيوان وجماد ، فشمل الأمم التي على الأرض وما حلّ بها ، وشمل الملائكة الموكّلين بإنزال العذاب ، وشمل الحوادث الكونية التي حلّت بالأمم من الزلازل والصواعق والكسف.

والباء في (إِلَّا بِالْحَقِ) للملابسة متعلقة ب (خَلَقْنَا) ، أي خلقا ملابسا للحقّ ومقارنا له بحيث يكون الحقّ باديا في جميع أحوال المخلوقات.

والملابسة هنا عرفية ؛ فقد يتأخّر ظهور الحقّ عن خلق بعض الأحوال والحوادث تأخّرا متفاوتا. فالملابسة بين الخلق والحقّ تختلف باختلاف الأحوال من ظهور الحقّ وخفائه ؛ على أنّه لا يلبث أن يظهر في عاقبة الأمور كما دلّ عليه قوله تعالى : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) [سورة الأنبياء : ١٨].

والحقّ : هنا هو إجراء أحوال المخلوقات على نظام ملائم للحكمة والمناسبة في الخير والشرّ ، والكمال والنقص ، والسموّ والخفض ، في كلّ نوع بما يليق بماهيته وحقيقته وما يصلحه ، وما يصلح هو له ، بحسب ما يقتضيه النظام العام لا بحسب الأميال والشهوات ، فإذا لاح ذلك الحقّ الموصوف مقارنا وجوده لوجود محقوقه فالأمر واضح ، وإذا لاح تخلّف شيء عن مناسبة فبالتأمّل والبحث يتّضح أن وراء ذلك مناسبة قضت بتعطيل المقارنة المحقوقة ، ثم لا يتبدّل الحقّ آخر الأمر.

وهذا التأويل يظهره موقع الآية عقب ذكر عقاب الأمم التي طغت وظلمت ، فإن ذلك جزاء مناسب تمردها وفسادها ، وأنها وإن أمهلت حينا برحمة من الله لحكمة استبقاء عمران جزء من العالم زمانا فهي لم تفلت من العذاب المستحقّ لها ، وهو من الحقّ أيضا فما كان إمهالها إلّا حقّا ، وما كان حلول العذاب بها إلّا حقّا عند حلول أسبابه ، وهو التمرّد على أنبيائهم. وكذلك القول في جزاء الآخرة أن تعطّل الجزاء في الدّنيا بسبب عطل ما اقتضته الحكمة العامة أو الخاصة.

وموقع جملة (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) في الكلام يجعلها بمنزلة نتيجة الاستدلال ، فمن عرف أن جميع المخلوقات خلقت خلقا ملابسا للحقّ وأيقن به علم أن الحقّ لا يتخلّف

٦٠