تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [سورة آل عمران : ١٥].

والمراد ب «الذين هاجروا» المهاجرون إلى الحبشة الذين أذن لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالهجرة للتخلّص من أذى المشركين. ولا يستقيم معنى الهجرة هنا إلا لهذه الهجرة إلى أرض الحبشة.

قال ابن إسحاق : «فلما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ومن عمّه أبي طالب ، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء ، قال لهم : لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد ، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه ، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا بدينهم» اه.

فإن الله لما ذكر الذين آمنوا وصبروا على الأذى وعذر الذين اتّقوا عذاب الفتنة بأن قالوا كلام الكفر بأفواههم ولكن قلوبهم مطمئنة بالإيمان ذكر فريقا آخر فازوا بفرار من الفتنة ، لئلا يتوهّم متوهّم أن بعدهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلك الشدّة يوهن جامعة المسلمين فاستوفي ذكر فرق المسلمين كلها. وقد أومأ إلى حظّهم من الفضل بقوله : (هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) ، فسمّى عملهم هجرة.

وهذا الاسم في مصطلح القرآن يدل على مفارقة الوطن لأجل المحافظة على الدين ، كما حكي عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ (وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) [سورة العنكبوت : ٢٦]. وقال في الأنصار «يحبّون من هاجر إليهم» ، أي المؤمنين الذين فارقوا مكّة.

وسمّى ما لقوه من المشركين فتنة. والفتنة : العذاب والأذى الشديد المتكرّر الذي لا يترك لمن يقع به صبرا ولا رأيا ، قال تعالى : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) [سورة الذاريات : ١٤] ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [سورة البروج : ١٠]. وتقدم بيانها عند قوله تعالى : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) في سورة البقرة [١٩١]. أي فقد نالهم الأذى في الله.

والمجاهدة : المقاومة بالجهد ، أي الطاقة.

والمراد بالمجاهدة هنا دفاعهم المشركين عن أن يردّوهم إلى الكفر.

وهاتان الآيتان مكّيتان نازلتان قبل شرع الجهاد الذي هو بمعنى قتال الكفار لنصر الدين.

٢٤١

والصبر : الثبات على تحمّل المكروه والمشاق ، وتقدم في قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) في سورة البقرة [٤٥].

وأكّد الخبر بحرف التوكيد وبالتوكيد اللفظي لتحقيق الوعد ، والاهتمام يدفع النقيصة عنهم في الفضل.

ويدلّ على ذلك ما في «صحيح البخاري» : أن أسماء بنت عميس ، وهي ممّن قدم من أرض الحبشة ، دخلت على حفصة فدخل عمر عليهما فقال لها : سبقناكم بالهجرة فنحن أحقّ برسول الله منكم ، فغضبت أسماء وقالت : كلا والله ، كنتم مع النبي يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم ، وكنّا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة ونحن كنا نؤذى ونخاف ، وذلك في الله ورسوله ، وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله ، فلما جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيت حفصة قالت أسماء : يا رسول الله إن عمر قال كذا وكذا ، قال : فما قلت له؟ قالت : قلت له كذا وكذا ، قال : «ليست بأحقّ بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان».

واللام في قوله : (لِلَّذِينَ هاجَرُوا) متعلّق ب «غفور» مقدّم عليه للاهتمام. وأعيد (إِنَّ رَبَّكَ) ثانيا لطول الفصل بين اسم (إِنَ) وخبرها المقترن بلام الابتداء مع إفادة التأكيد اللّفظي.

وتعريف المسند إليه الذي هو اسم (إِنَ) بطريق الإضافة دون العلمية لما يومئ إليه إضافة لفظ (ربّ) إلى ضمير النبي من كون المغفرة والرحمة لأصحابه كانت لأنهم أوذوا لأجل الله ولأجل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان إسناد المغفرة إلى الله بعنوان كونه ربّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاصلا بأسلوب يدلّ على الذّات العليّة وعلى الذّات المحمدية.

وهذا من أدقّ لطائف القرآن في قرن اسم النبي باسم الله بمناسبة هذا الإسناد بخصوصه.

وضمير (مِنْ بَعْدِها) عائد إلى الهجرة المستفادة من (هاجَرُوا) ، أو إلى المذكورات : من هجرة وفتنة وجهاد وصبر ، أو إلى الفتنة المأخوذة من (فُتِنُوا). وكل تلك الاحتمالات تشير إلى أن المغفرة والرحمة لهم جزاء على بعض تلك الأفعال أو كلّها.

وقرأ ابن عامر (فُتِنُوا) ـ بفتح الفاء والتاء ـ على البناء للفاعل ، وهي لغة في افتتن ،

٢٤٢

بمعنى وقع في الفتنة.

(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١))

يجوز أن يكون هذا استئنافا وتذييلا بتقدير : اذكر يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ، وقع عقب التحذير والوعيد وعيدا للذين أنذروا ووعدا للذين بشّروا.

ويجوز أن يكون متّصلا بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة النحل : ١١٠] ، فيكون انتصاب (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ) على الظرفية (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ، أي يغفر لهم ويرحمهم يوم القيامة بحيث لا يجدون أثرا لذنوبهم التي لا يخلو عنها غالب الناس ويجدون رحمة من الله بهم يومئذ. فهذا المعنى هو مقتضى الإتيان بهذا الظرف.

والمجادلة : دفاع بالقول للتخلّص من تبعة فعل. وتقدم عند قوله تعالى : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) في سورة النساء [١٠٧].

والنّفس الأول : بمعنى الذات والشخص كقوله : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) سورة المائدة [٤٥]. والنّفس الثانية ما به الشخص شخص ؛ فالاختلاف بينهما بالاعتبار كقول أعرابي قتل أخوه ابنا له (من الحماسة) :

أقول للنفس تأساء وتسلية

إحدى يديّ أصابتني ولم ترد

وتقدم في قوله : (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) في سورة البقرة [٤٤].

وذلك أن العرب يستشعرون للإنسان جملة مركّبة من جسد وروح فيسمونها النفس ، أي الذات وهي ما يعبّر عنه المتكلّم بضمير (أنا) ، ويستشعرون للإنسان قوّة باطنيّة بها إدراكه ويسمّونها نفسا أيضا. ومنه أخذ علماء المنطق اسم النفس الناطقة.

والمعنى : يأتي كل أحد يدافع عن ذاته ، أي يدافع بأقواله ليدفع تبعات أعماله. ففاعل المجادلة وما هو في قوّة مفعوله شيء واحد. وهذا قريب من وقوع الفاعل والمفعول شيئا واحدا في أفعال الظنّ والدّعاء ، بكثرة مثل : أراني فاعلا كذا ، وقولهم ؛ عدمتني وفقدتني ، وبقلّة في غير ذلك مع الأفعال نحو قول امرئ القيس :

قد بتّ أحرسني وحدي ويمنعني

صوت السّباع به يضبحن والهام

و (تُوَفَّى) تعطى شيئا وافيا ، أي كاملا غير منقوص ، و (ما عَمِلَتْ) مفعول ثان

٢٤٣

ل (تُوَفَّى) ، وهو على حذف مضاف تقديره : جزاء ما عملت ، أي من ثواب أو عقاب ، وإظهار كل نفس في مقام الإضمار لتكون الجملة مستقلّة فتجري مجرى المثل.

والظّلم : الاعتداء على الحقّ. وأطلق هنا على مجاوزة الحدّ المعيّن للجزاء في الشر والإجحاف عنه في الخير ، لأن الله لما عيّن الجزاء على الشرّ ووعد بالجزاء على الخير صار ذلك كالحقّ لكل فريق. والعلم بمراتب هذا التحديد مفوّض لله تعالى : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [سورة الكهف : ٤٩].

وضميرا (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) عائدان إلى كل نفس بحسب المعنى ، لأن (كُلُّ نَفْسٍ) يدلّ على جمع من النفوس.

وزيادة هذه الجملة للتصريح بمفهوم (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) ، لأن توفية الجزاء على العمل تستلزم كون تلك التوفية عدلا ، فصرّح بهذا اللازم بطريقة نفي ضدّه وهو نفي الظلم عنهم ، وللتّنبيه على أن العدل من صفات الله تعالى. وحصل مع ذلك تأكيد المعنى الأول.

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢))

عطف عظة على عظة. والمعطوف عليها هي جمل الامتنان بنعم الله تعالى عليهم من قوله : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣] وما اتّصل بها إلى قوله : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) [سورة النحل : ٨٣]. فانتقل الكلام بعد ذلك بتهديد من قوله : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) [سورة النحل : ٨٤].

فبعد أن توعّدهم بقوارع الوعيد بقوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [سورة النحل : ١٠٤] وقوله : (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [سورة النحل : ١٠٦] إلى قوله (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) [سورة النحل : ١٠٩] عاد الكلام إلى تهديدهم بعذاب في الدنيا بأن جعلهم مضرب مثل لقرية عذبت عذاب الدنيا ، أو جعلهم مثلا وعظة لمن يأتي بمثل ما أتوا به من إنكار نعمة الله.

ويجوز أن يكون المعطوف عليها جملة (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ) [سورة النحل : ١١١]

٢٤٤

إلخ. على اعتبار تقدير (اذكر) ، أي اذكر لهم هول يوم تأتي كل نفس تجادل إلخ. وضرب الله مثلا لعذابهم في الدنيا شأن قرية كانت آمنة إلخ.

و (ضَرَبَ) : بمعنى جعل ، أي جعل المركّب الدّال عليه وكوّن نظمه ، وأوحى به إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما يقال : أرسل فلان مثلا قوله : كيت وكيت.

والتعبير عن ضرب المثل الواقع في حال نزول الآية بصيغة الماضي للتشويق إلى الإصغاء إليه ، وهو من استعمال الماضي في الحال لتحقيق وقوعه ، مثل (أَتى أَمْرُ اللهِ) [سورة النحل : ١] أو لتقريب زمن الماضي من زمن الحال ، مثل قد قامت الصلاة.

ويجوز أن يكون (ضَرَبَ) مستعملا في معنى الطلب والأمر ، أي أضرب يا محمد لقومك مثلا قرية إلى آخره ، كما سيجيء عند قوله تعالى (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ) في سورة الزمر [٢٩]. وإنما صيغ في صيغة الخبر توسّلا إلى إسناده إلى الله تشريفا له وتنويها به. ويفرّق بينه وبين ما صيغ بصيغة الطلب نحو (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) [سورة يس : ١٣] بما سيذكر في سورة الزمر فراجعه. وقد تقدّم في قوله تعالى : إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) في سورة البقرة [٢٦] ، وقوله في سورة إبراهيم [٢٤] (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً).

وجعل المثل قرية موصوفة بصفات تبيّن حالها المقصود من التمثيل ، فاستغني عن تعيين القرية.

والنكتة في ذلك أن يصلح هذا المثل للتعريض بالمشركين باحتمال أن تكون القرية قريتهم أعني مكة بأن جعلهم مثلا للناس من بعدهم. ويقوى هذا الاحتمال إذا كانت هذه الآية قد نزلت بعد أن أصاب أهل مكّة الجوع الذي أنذروا به في قوله تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) [سورة الدخان : ١٠]. وهو الدخان الذي كان يراه أهل مكة أيام القحط الذي أصابهم بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويؤيد هذا قوله بعد (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) [سورة النحل : ١١٣].

ولعلّ المخاطب بهذا المثل هم المسلمون الذين هاجروا من بعد ما فتنوا ، أي أصحاب هجرة الحبشة تسلية لهم عن مفارقة بلدهم ، وبعثا لهم على أن يشكروا الله تعالى إذ أخرجهم من تلك القرية فسلموا مما أصاب أهلها وما يصيبهم.

٢٤٥

وتقدّم معنى القرية عند قوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) في سورة البقرة [٢٥٩].

والمراد بالقرية أهلها إذ هم المقصود من القرية كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [سورة يوسف : ٨٢].

والأمن : السلامة من تسلّط العدو.

والاطمئنان : الدّعة وهدوء البال. وقد تقدّم في قوله تعالى : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) في سورة البقرة [٢٦٠] ، وقوله : (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) في [سورة النساء : ١٠٣].

وقدم الأمن على الطمأنينة إذ لا تحصل الطمأنينة بدونه ، كما أن الخوف يسبّب الانزعاج والقلق.

وقوله : (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً) تيسير الرزق فيها من أسباب راحة العيش ، وقد كانت مكّة كذلك. قال تعالى : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) تجبى (إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) [سورة القصص : ٥٧]. والرزق : الأقوات. وقد تقدم عند قوله : (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ) في سورة يوسف [٣٧].

والرّغد : الوافر الهنيء. وتقدم عند قوله : (وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما) في سورة البقرة [٣٥].

و (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) بمعنى من أمكنة كثيرة. و (كُلِ) تستعمل في معنى الكثرة ، كما تقدم في قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) في سورة الأنعام [٢٥].

والأنعم : جمع نعمة على غير قياس.

ومعنى الكفر بأنعم الله : الكفر بالمنعم ، لأنهم أشركوا غيره في عبادته فلم يشكروا المنعم الحقّ. وهذا يشير إلى قوله تعالى : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) [سورة النحل : ٨٣].

واقتران فعل «كفرت» بفاء التعقيب بعد (كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) باعتبار حصول الكفر عقب النعم التي كانوا فيها حين طرأ عليهم الكفر ، وذلك عند بعثة الرسول إليهم.

وأما قرن (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ) بفاء التعقيب فهو تعقيب عرفي في مثل ذلك

٢٤٦

المعقّب لأنّه حصل بعد مضي زمن عليهم وهم مصرّون على كفرهم والرسول يكرّر الدعوة وإنذارهم به ، فلما حصل عقب ذلك بمدة غير طويلة وكان جزاء على كفرهم جعل كالشيء المعقّب به كفرهم.

والإذاقة : حقيقتها إحساس اللسان بأحوال الطعوم. وهي مستعارة هنا وفي مواضع من القرآن إلى إحساس الألم والأذى إحساسا مكينا كتمكّن ذوق الطعام من فم ذائقه لا يجد له مدفعا ، وقد تقدم في قوله تعالى : (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) في سورة العقود [٩٥].

واللباس : حقيقته الشيء الذي يلبس. وإضافته إلى الجوع والخوف قرينة على أنه مستعار إلى ما يغشى من حالة إنسان ملازمة له كملازمة اللباس لابسه ، كقوله تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) [سورة البقرة : ١٨٧] بجامع الإحاطة والملازمة.

ومن قبيلها استعارة (البلى) لزوال صفة الشخص تشبيها للزوال بعد التمكّن ببلى الثوب بعد جدته في قول أبي الغول الطهوي :

ولا تبلى بسالتهم وإن هم

صلوا بالحرب حينا بعد حين

واستعارة سلّ الثياب إلى زوال المعاشرة في قول امرئ القيس :

فسلي ثيابي عن ثيابك تنسل

ومن لطائف البلاغة جعل اللباس لباس شيئين ، لأن تمام اللبسة أن يلبس المرء إزارا ودرعا.

ولما كان اللباس مستعارا لإحاطة ما غشيهم من الجوع والخوف وملازمته أريد إفادة أن ذلك متمكّن منهم ومستقرّ في إدراكهم استقرار الطعام في البطن إذ يذاق في اللسان والحلق ويحسّ في الجوف والأمعاء.

فاستعير له فعل الإذاقة تمليحا وجمعا بين الطعام واللباس ، لأن غاية القرى والإكرام أن يؤدب للضيف ويخلع عليه خلعة من إزار وبرد ، فكانت استعارتان تهكّميتان.

فحصل في الآية استعارتان : الأولى : استعارة الإذاقة وهي تبعية مصرحة ، والثانية : اللباس وهي أصليّة مصرّحة.

ومن بديع النظم أن جعلت الثانية متفرّعة على الأولى ومركّبة عليها بجعل لفظها مفعولا للفظ الأولى. وحصل بذلك أن الجوع والخوف محيطان بأهل القرية في سائر

٢٤٧

أحوالهم وملازمان لهم وأنهم بالغان منهم مبلغا أليما.

وأجمل (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) اعتمادا على سبق ما يبيّنه من قوله : فكفرت بأنعام الله.

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣))

لما أخبر عنهم بأنهم أذيقوا لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ، وكان إنما ذكر من صنعهم أنهم كفروا بأنعم الله ، زيد هنا أن ما كانوا يصنعون عامّ لكل عمل لا يرضي الله غير مخصوص بكفرهم نعمة الله ، وإن من أشنع ما كانوا يصنعون تكذيبهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أنه منهم. وذلك أظهر في معنى الإنعام عليهم والرّفق بهم. وما من قرية أهلكت إلا وقد جاءها رسول من أهلها (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) [سورة القصص : ٥٩].

والأخذ : الإهلاك. وقد تقدم عند قوله تعالى : (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) في سورة الأعراف [٩٥].

وتأكيد الجملة بلام القسم وحرف التّحقيق للاهتمام بهذا الخبر تنبيها للسامعين المعرّض بهم لأنه محل الإنذار.

وتعريف (الْعَذابُ) للجنس ، أي فأخذهم عذاب كقوله : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ) نبيء (إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [سورة الأعراف : ٩٥].

(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤))

تفريع على الموعظة وضرب المثل ، وخوطب به فريق من المسلمين كما دلّ عليه قوله : إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) [سورة النحل : ١١٤ ، ١١٥] إلى آخره.

٢٤٨

ولعلّ هذا موجّه إلى أهل هجرة الحبشة إذ أصبحوا آمنين عند ملك عادل في بلد يجدون فيه رزقا حلالا وهو ما يضافون به وما يكتسبونه بكدّهم ، أي إذا علمتم حال القرية الممثّل بها أو المعرّض بها فاشكروا الله الذي نجّاكم من مثل ما أصاب القرية ، فاشكروا الله ولا تكفروه كما كفر بنعمته أهل تلك القرية. فقوله : (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ) مقابل قوله في المثل : (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) [سورة النحل : ١١٢] إن كنتم لا تعبدون غيره كما هو مقتضى الإيمان.

وتعليق ذلك بالشرط للبعث على الامتثال لإظهار صدق إيمانهم.

وإظهار اسم الجلالة في قوله : (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ) مع أن مقتضى الظاهر الإضمار لزيادة التذكير ، ولتكون جملة هذا الأمر مستقلّة بدلالتها بحيث تصحّ أن تجري مجرى المثل.

وقيل : هذه الآية نزلت بالمدينة (والمعنى واحد) وهو قول بعيد.

والأمر في قوله : (فَكُلُوا) للامتنان. وإدخال حرف التفريع عليه باعتبار أن الأمر بالأكل مقدمة للأمر بالشكر وهو المقصود بالتّفريع. والمقصود : فاشكروا نعمة الله ولا تكفروها فيحلّ بكم ما حلّ بأهل القرية المضروبة مثلا.

والحلال : المأذون فيه شرعا. والطيّب : ما يطيب للناس طعمه وينفعهم قوته.

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥))

هذه الجملة بيان لمضمون جملة (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) [سورة النحل : ١١٤] لتمييز الطيّب من الخبيث ، فإن المذكورات في المحرّمات هي خبائث خبثا فطريا لأن بعضها مفسد لتولد الغذاء لما يشتمل عليه من المضرّة. وتلك هي الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ؛ وبعضها مناف للفطرة وهو ما أهلّ به لغير الله لأنه مناف لشكر المنعم بها ، فالله خلق الأنعام ، والمشركون يذكرون اسم غير الله عليها.

ولإفادة بيان الحلال الطيّب بهذه الجملة جيء فيها بأداة الحصر ، أي ما حرّم عليكم إلا الأربع المذكورات ، فبقي ما عداها طيّبا.

وهذا بالنظر إلى الطيب والخبث بالذات. وقد يعرض الخبث لبعض المطعومات عرضا.

٢٤٩

ومناسبة هذا التحديد في المحرّمات أن بعض المسلمين كانوا بأرض غربة وقد يؤكل فيها لحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله ، وكان بعضهم ببلد يؤكل فيه الدم وما أهلّ به لغير الله. وقد مضى تفسير نظير هذه الآية في سورة البقرة والأنعام.

[١١٦ ، ١١٧] (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧))

عاد الخطاب إلى المشركين بقرينة قوله : (لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ). فالجملة معطوفة على جملة (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً) [سورة النحل : ١١٢] الآية.

وفيه تعريض بتحذير المسلمين لأنهم كانوا قريبي عهد بجاهلية ، فربّما بقيت في نفوس بعضهم كراهية أكل ما كانوا يتعفّفون عن أكله في الجاهلية.

وعلّق النهي بقولهم : (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ). ولم يعلّق بالأمر بأكل ما عدا ما حرم لأن المقصود النهي عن جعل الحلال حراما والحرام حلالا لا أكل جميع الحلال وترك جميع الحرام حتى في حال الاضطرار ، لأن إمساك المرء عن أكل شيء لكراهية أو عيف هو عمل قاصر على ذاته. وأما قول : (وَهذا حَرامٌ) فهو يفضي إلى التحجير على غيره ممن يشتهي أن يتناوله.

واللام في قوله : (لِما تَصِفُ) هي إحدى اللامين اللّتين يتعدّى بهما فعل القول وهي التي بمعنى (عن) الداخلة على المتحدّث عنه فهي كاللام في قوله : (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) [سورة آل عمران : ١٦٨] ، أي قالوا عن إخوانهم. وليست هي لام التقوية الداخلة على المخاطب بالقول.

و (تَصِفُ) معناه تذكر وصفا وحالا ، كما في قوله تعالى : (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) [سورة النحل : ٦٢]. وقد تقدم ذلك في هذه السورة ، أي لا تقولوا ذلك وصفا كذبا لأنه تقوّل لم يقله الذي له التحليل والتحريم وهو الله تعالى.

وانتصب (الْكَذِبَ) على المفعول المطلق ل (تَصِفُ) ، أي وصفا كذبا ، لأنه مخالف للواقع ، لأن الذي له التحليل والتحريم لم ينبئهم بما قالوا ولا نصب لهم دليلا عليه.

٢٥٠

وجملة (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) هي مقول (تَقُولُوا) ، واسم الإشارة حكاية بالمعنى لأوصافهم أشياء بالحلّ وأشياء بالتّحريم.

و (لِتَفْتَرُوا) علة ل (تَقُولُوا) باعتبار كون الافتراء حاصلا ، لا باعتبار كونه مقصودا للقائلين ، فهي لام العاقبة وليست لام العلّة. وقد تقدّم قريبا أن المقصد منها تنزيل الحاصل المحقّق حصوله بعد الفعل منزلة الغرض ا لمقصود من الفعل.

وافتراء الكذب تقدّم آنفا. والذين يفترون هم المشركون الذين حرموا أشياء.

وجملة (مَتاعٌ قَلِيلٌ) استئناف بياني في صورة جواب عما يجيش بخاطر سائل يسأل عن عدم فلاحهم مع مشاهدة كثير منهم في حالة من الفلاح ، فأجيب بأن ذلك متاع ، أي نفع موقّت زائل ولهم بعده عذاب أليم.

والآية تحذّر المسلمين من أن يتقوّلوا على الله ما لم يقله بنصّ صريح أو بإيجاد معان وأوصاف للأفعال قد جعل لأمثالها أحكاما ، فمن أثبت حلالا وحراما بدليل من معان ترجع إلى مماثلة أفعال تشتمل على تلك المعاني فقد قال بما نصب الله عليه دليلا.

وقدم (لَهُمْ) للاهتمام زيادة في التحذير. وجيء بلام الاستحقاق للتنبيه على أن العذاب حقّهم لأجل افترائهم.

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨))

لما شنّع على المشركين أنهم حرّموا على أنفسهم ما لم يحرّمه الله ، وحذّر المسلمين من تحريم أشياء على أنفسهم جريا على ما اعتاده قومهم من تحريم ما أحلّ لهم ، نظّر أولئك وحذّر هؤلاء. فهذا وجه تعقيب الآية السالفة بآية (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ).

والمراد منه ما ذكر في سورة الأنعام ، كما روي عن الحسن وعكرمة وقتادة. وقد أشار إلى تلك المناسبة قوله : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ، أي وما ظلمناهم بما حرّمنا عليهم ولكنهم كفروا النعمة فحرموا من نعم عظيمة. وغيّر أسلوب الكلام إلى خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن جانب التحذير فيه أهم من جانب التنظير.

وتقديم المجرور في (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) للاهتمام ، وللإشارة إلى أن ذلك حرّم

٢٥١

عليهم ابتداء ولم يكن محرّما من شريعة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ التي كان عليها سلفهم ، كما قال تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) [سورة آل عمران : ٩٣] ، أي عليهم دون غيرهم فلا تحسبوا أن ذلك من الحنيفية.

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩))

موقع هذه الآية من اللواتي قبلها كموقع قوله السابق (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) [سورة النحل : ١١٠]. فلما ذكرت أحوال أهل الشرك وكان منها ما حرّموه على أنفسهم ، وكان المسلمون قد شاركوهم أيام الجاهلية في ذلك ، ووردت قوارع الذمّ لما صنعوا ، كان مما يتوهم علوقه بأذهان المسلمين أن يحسبوا أنهم سينالهم شيء من غمص لما اقترفوه في الجاهلية ، فطمأن الله نفوسهم بأنهم لما تابوا بالإقلاع عن ذلك بالإسلام وأصلحوا عملهم بعد أن أفسدوا فإن الله قد غفر لهم مغفرة عظيمة ورحمهم رحمة واسعة.

ووقع الإقبال بالخطاب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيماء إلى أن تلك المغفرة من بركات الدين الذي أرسل به.

وذكر اسم الرب مضافا إلى ضمير النبي للنكتة المتقدمة آنفا في قوله : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا).

والجهالة : انتفاء العلم بما يجب. والمراد : جهالتهم بأدلّة الإسلام.

و (ثُمَ) للترتيب الرتبي ، لأن الجملة المعطوفة ب (ثُمَ) تضمّنت حكم التوبة وأن المغفرة والرحمة من آثارها ، وذلك أهم عند المخاطبين مما سبق من وعيد ، أي الذين عملوا السوء جاهلين بما يدلّ على فساد ما علموه. وذلك قبل أن يستجيبوا لدعوة الرسول فإنهم في مدّة تأخّرهم عن الدخول في الإسلام موصوفون بأنهم أهل جهالة وجاهلية ، أو جاهلين بالعقاب المنتظر على معصية الرسول وعنادهم إياه.

ويدخل في هذا الحكم من عمل حراما من المسلمين جاهلا بأنه حرام وكان غير مقصّر في جهله. وقد تقدم عند قوله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ

٢٥٢

بِجَهالَةٍ) في سورة النساء [١٧].

وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) تأكيد لفظي لقوله : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ) لزيادة الاهتمام بالخبر على الاهتمام الحاصل بحرف التوكيد ولام الابتداء. ويتصل خبر (إِنَ) باسمها لبعد ما بينهما.

ووقع الخبر بوصف الله بصفة المبالغة في المغفرة والرحمة ، وهو كناية عن غفرانه لهم ورحمته إيّاهم في ضمن وصف الله بهاتين الصفتين العظيمتين.

والباء في (بِجَهالَةٍ) للملابسة ، وهي في موضع الحال من ضمير (عَمِلُوا).

وضمير (مِنْ بَعْدِها) عائد إلى الجهالة أو إلى التوبة.

[١٢٠ ـ ١٢٢] (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢))

استئناف ابتدائي للانتقال إلى غرض التّنويه بدين الإسلام بمناسبة قوله : (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) [سورة النحل : ١١٩] المقصود به أنّهم كانوا في الجاهلية ثم اتّبعوا الإسلام ، فبعد أن بشرهم بأنه غفر لهم ما عملوه من قبل زادهم فضلا ببيان فضل الدين الذي اتّبعوه.

وجعل الثناء على إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ مقدّمة لذلك لبيان أن فضل الإسلام فضل زائد على جميع الأديان بأن مبدأه برسول ومنتهاه برسول. وهذا فضل لم يحظ به دين آخر.

فالمقصود بعد هذا التمهيد وهاته المقدّمة هو الإفضاء إلى قوله : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [سورة النحل : ١٢٣] ، وقد قال تعالى في الآية الأخرى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) [سورة الحج : ٧٨].

والأصل الأصيل الذي تفرّع عنه وعن فروعه هذا الانتقال ما ذكر في الآية قبلها من تحريم أهل الجاهلية على أنفسهم كثيرا مما أنعم الله به على الناس.

ونظّرهم باليهود إذ حرّم الله عليهم أشياء ، تشديدا عليهم ، فجاء بهذا الانتقال لإفادة أن كلا الفريقين قد حادوا عن الحنيفية التي يزعمون أنهم متابعوها ، وأن الحنيفية هي ما

٢٥٣

جاء به الإسلام من إباحة ما في الأرض جميعا من الطيّبات ، إلا ما بيّن الله تحريمه في آية (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) [سورة الأنعام : ١٤٥] الآية.

وقد وصف إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بأنه كان أمّة. والأمّة : الطائفة العظيمة من الناس التي تجمعها جهة جامعة. وتقدم في قوله تعالى (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) في سورة البقرة [٢١٣]. ووصف إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بذلك وصف بديع جامع لمعنيين :

أحدهما : أنه كان في الفضل والفتوة والكمال بمنزلة أمّة كاملة. وهذا كقولهم : أنت الرجل كل الرجل ، وقول البحتري :

ولم أر أمثال الرجال تفاوتا

لدى الفضل حتى عدّ ألف بواحد

وعن عمر بن الخطاب ـ رضي‌الله‌عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «معاذ أمّة قانت لله».

والثاني : أنه كان أمّة وحده في الدين لأنه لم يكن في وقت بعثته ، موحّد لله غيره. فهو الذي أحيا الله به التوحيد ، وبثّه في الأمم والأقطار ، وبنى له معلما عظيما ، وهو الكعبة ، ودعا الناس إلى حجّه لإشاعة ذكره بين الأمم ، ولم يزل باقيا على العصور. وهذا كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطر بن مالك الكاهن : «وأنه يبعث يوم القيامة أمّة وحده» ، رواه السهيلي في «الروض الأنف». ورأيت رواية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال هذه المقالة في زيد بن عمرو بن نفيل.

والقانت : المطيع. وقد تقدم في قوله تعالى (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) في سورة البقرة [٢٣٨].

واللام لام التقوية لأن العامل فرع في العمل.

والحنيف : المجانب للباطل. وقد تقدم عند قوله : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) في سورة البقرة [١٣٥] ، والأسماء الثلاثة أخبار (كانَ) وهي فضائل.

(وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) اعتراض لإبطال مزاعم المشركين أن ما هم عليه هو دين إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ. وقد صوّروا إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما‌السلام ـ يستقسمان بالأزلام ووضعوا الصورة في جوف الكعبة ، كما جاء في حديث غزوة الفتح ، فليس قوله : (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) مسوقا مساق الثناء على إبراهيم ولكنه تنزيه له عمّا اختلقه عليه المبطلون. فوزانه وزان قوله : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) [سورة التكوير : ٢٢]. وهو

٢٥٤

كالتأكيد لوصف الحنيف بنفي ضدّه مثل (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) [سورة طه : ٧٩].

ونفي كونه من المشركين بحرف (لَمْ) لأن (لَمْ) تقلب زمن الفعل المضارع إلى الماضي ، فتفيد انتفاء مادة الفعل في الزمن الماضي ، وتفيد تجدّد ذلك المنفي الذي هو من خصائص الفعل المضارع فيحصل معنيان : انتفاء مدلول الفعل بمادته ، وتجدّد الانتفاء بصيغته ، فيفيد أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لم يتلبّس بالإشراك قط ، فإن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لم يشرك بالله منذ صار مميّزا ، وأنه لا يتلبّس بالإشراك أبدا.

و (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) خبر رابع عن (كانَ). وهو مدح لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وتعريض بذرّيّته الذين أشركوا وكفروا نعمة الله مقابل قوله : (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) [سورة النحل : ١١٢]. وتقدم قريبا الكلام على أنعم الله.

وجملة (اجْتَباهُ) مستأنفة استئنافا بيانيا ، لأن الثّناء المتقدّم يثير سؤال سائل عن سبب فوز إبراهيم بهذه المحامد ، فيجاب بأن الله اجتباه ، كقوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ) رسالاته [سورة الأنعام : ١٢٤].

والاجتباء : الاختيار ، وهو افتعال من جبى إذا جمع. وتقدم في قوله تعالى واجتباهم (وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) في سورة الأنعام [٨٧].

والهداية إلى الصراط المستقيم : الهداية إلى التوحيد ودين الحنيفية.

وضمير (آتَيْناهُ) التفات من الغيبة إلى التكلّم تفنّنا في الأسلوب لتوالي ثلاثة ضمائر غيبة.

والحسنة في الدنيا : كل ما فيه راحة العيش من اطمئنان القلب بالدين ، والصحة ، والسلامة ، وطول العمر ، وسعة الرزق الكافي ، وحسن الذكر بين الناس. وقد تقدّم في قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) [سورة البقرة : ٢٠١].

والصلاح : تمام الاستقامة في دين الحقّ. واختير هذا الوصف إشارة إلى أن الله أكرمه بإجابة دعوته ، إذ حكى عنه أنه قال : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [سورة الشعراء : ٨٣].

(ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣))

٢٥٥

(ثُمَ) للترتيب الرتبي المشير إلى أن مضمون الجملة المعطوفة متباعد في رتبة الرفعة على مضمون ما قبلها تنويها جليلا بشأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبشريعة الإسلام ، وزيادة في التّنويه بإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، أي جعلناك متّبعا ملّة إبراهيم ، وذلك أجلّ ما أوليناكما من الكرامة. وقد بيّنت آنفا أن هذه الجملة هي المقصود ، وأن جملة (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) [سورة النحل : ١٢٠] إلخ. تمهيد لها.

وزيد (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) للتّنبيه على أن اتّباع محمد ملّة إبراهيم كان بوحي من الله وإرشاد صادق ، تعريضا بأن الذين زعموا اتباعهم ملّة إبراهيم من العرب من قبل قد أخطئوها بشبهة مثل أميّة بن أبي الصلت ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، أو بغير شبهة مثل مزاعم قريش في دينهم.

و (أَنِ) تفسيرية لفعل (أَوْحَيْنا) لأن فيه معنى القول دون حروفه ، فاحتيج إلى تفسيره بحرف التفسير.

والاتّباع : اقتفاء السير على سير آخر. وهو هنا مستعار للعمل بمثل عمل الآخر.

وانتصب (حَنِيفاً) على الحال من (إِبْراهِيمَ) فيكون زيادة تأكيد لمماثله قبله أو حالا من ضمير (إِلَيْكَ) أو من ضمير (اتَّبِعْ) ، أي كن يا محمد حنيفا كما كان إبراهيم حنيفا. ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت بالحنيفية السمحة».

وتفسير فعل (أَوْحَيْنا) بجملة (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) تفسير بكلام جامع لما أوحى الله به إلى محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ من شرائع الإسلام مع الإعلام بأنها مقامة على أصول ملّة إبراهيم. وليس المراد أوحينا إليك كلمة (اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يعلم تفاصيل ملّة إبراهيم ، فتعيّن أن المراد أن الموحى به إليه منبجس من شريعة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ.

وقوله : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) هو مما أوحاه الله إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المحكي بقوله : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ، وهو عطف على (حَنِيفاً) على كلا الوجهين في صاحب ذلك الحال ، فعلى الوجه الأول يكون الحال زيادة تأكيد لقوله قبله : (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [سورة النحل : ١٢٠] ، وعلى الوجه الثاني يكون تنزيها لشريعة الإسلام المتبعة لملّة إبراهيم من أن يخالطها شيء من الشرك.

ونفي كونه من المشركين هنا بحرف (ما) النافية لأن (ما) إذا نفت فعل (كانَ)

٢٥٦

أفادت قوّة النفي ومباعدة المنفي. وحسبك أنها يبنى عليها الجحود في نحو : ما كان ليفعل كذا.

فحصل من قوله السابق (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل : ١٢٠] ومن قوله هنا : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ثلاث فوائد : نفي الإشراك عن إبراهيم في جميع أزمنة الماضي ، وتجدّد نفي الإشراك تجدّدا مستمرّا ، وبراءته من الإشراك براءة تامة.

وقد علم من هذا أن دين الإسلام منزّه عن أن تتعلّق به شوائب الإشراك لأنه جاء كما جاء إبراهيم معلنا توحيدا لله بالإلهية ومجتثّا لوشيج الشرك. والشرائع الإلهية كلها وإن كانت تحذّر من الإشراك فقد امتاز القرآن من بينها بسدّ المنافذ التي يتسلّل منها الإشراك بصراحة أقواله وفصاحة بيانه ، وأنه لم يترك في ذلك كلاما متشابها كما قد يوجد في بعض الكتب الأخرى ، مثل ما جاء في التوراة من وصف اليهود بأبناء الله ، وما في الأناجيل من موهم بنوّة عيسى ـ عليه‌السلام ـ لله سبحانه عما يصفون.

وقد أشار إلى هذا المعنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبة حجّة الوداع : «أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه (أي أرض الإسلام) أبدا ، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم».

ومعنى اتّباع محمد ملّة إبراهيم الواقع في كثير من آيات القرآن أن دين الإسلام بني على أصول ملّة إبراهيم ، وهي أصول الفطرة ، والتوسّط بين الشدّة واللّين ، كما قال تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) [سورة الحج : ٧٨].

وفي قضية أمر إبراهيم بذبح ولده ـ عليهما‌السلام ـ ، ثم فدائه بذبح شاة رمز إلى الانتقال من شدّة الأديان الأخرى في قرابينها إلى سماحة دين الله الحنيف في القربان بالحيوان دون الآدمي. ولذلك قال تعالى : (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [سورة الصافات : ١٠٧].

فالشريعة التي تبنى تفاصيلها وتفاريعها على أصول شريعة تعتبر كأنها تلك الشريعة. ولذلك قال المحققون من علمائنا : إن الحكم الثابت بالقياس في الإسلام يصح أن يقال إنه دين الله وإن كان لا يصح أن يقال : قاله الله. وليس المراد أن جميع ما جاء به الإسلام قد جاء به إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ إذ لا يخطر ذلك بالبال ، فإن الإسلام شريعة قانونية

٢٥٧

سلطانية ، وشرع إبراهيم شريعة قبائلية خاصة بقوم ، ولا أن المراد أن الله أمر النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم باتّباع ملّة إبراهيم ابتداء قبل أن يوحي إليه بشرائع دين الإسلام ، لأن ذلك وإن كان صحيحا من جهة المعنى وتحتمله ألفاظ الآية لكنه لا يستقيم إذ لم يرد في شيء من التشريع الإسلامي ما يشير إلى أنه نسخ لما كان عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل.

فاتّباع النبي ملّة إبراهيم كان بالقول والعمل في أصول الشريعة من إثبات التوحيد والمحاجّة له واتّباع ما تقتضيه الفطرة. وفي فروعها مما أوحى الله إليه من الحنيفية مثل الختان وخصال الفطرة والإحسان.

(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤))

موقع هذه الآية ينادي على أنها تضمّنت معنى يرتبط بملّة إبراهيم وبمجيء الإسلام على أساسها.

فلما نفت الآية قبل هذه أن يكون إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ من المشركين ردّا على مزاعم العرب المشركين أنهم على ملّة إبراهيم ، انتقل بهذه المناسبة إلى إبطال ما يشبه تلك المزاعم. وهي مزاعم اليهود أن ملّة اليهودية هي ملّة إبراهيم زعما ابتدعوه حين ظهور الإسلام جحدا لفضيلة فاتتهم ، وهي فضيلة بناء دينهم على أول دين للفطرة الكاملة حسدا من عند أنفسهم. وقد بيّنا ذلك عند قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) في سورة آل عمران [٦٥].

فهذه الآية مثل آية آل عمران (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، فذلك دالّ على أن هؤلاء الفرق الثلاث اختلفوا في إبراهيم ، فكل واحدة من هؤلاء تدّعي أنها على ملته ، إلا أنه اقتصر في هذه الآية على إبطال مزاعم المشركين بأعظم دليل وهو أن دينهم الإشراك وإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ما كان من المشركين. وعقب ذلك بإبطال مزاعم اليهود لأنها قد تكون أكثر رواجا ، لأن اليهود كانوا مخالطين العرب في بلادهم ، فأهل مكة كانوا يتّصلون باليهود في أسفارهم وأسواقهم بخلاف النّصارى.

٢٥٨

ولما كانت هذه السورة مكّية لم يتعرّض فيها للنّصارى الذين تعرّض لهم في سورة آل عمران.

ولهذا تكون جملة (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ) استئنافا بيانيا نشأ عن قوله : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [سورة النحل : ١٢٣] إذ يثير سؤالا من المخالفين : كيف يكون الإسلام من ملّة إبراهيم؟ وفيه جعل يوم الجمعة اليوم المقدس. وقد جعلت التوراة لليهود يوم التّقديس يوم السبت. ولعلّ اليهود شغبوا بذلك على المسلمين ، فكان قوله : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) بيانا لجواب هذا السؤال.

وقد وقعت هذه الجملة معترضة بين جملة (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [سورة النحل : ١٢٣] وجملة (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ) [سورة النحل : ١٢٥] إلخ.

ولذلك افتتحت الجملة بأداة الحصر إشعارا بأنها لقلب ما ظنّه السائلون المشغبون.

وهذا أسلوب معروف في كثير من الأجوبة الموردة لردّ رأي موهوم ، فالضمير في قوله : (فِيهِ) عائد إلى إبراهيم على تقدير مضاف ، أي اختلفوا في ملّته ، وليس عائدا على السبت ، إذ لا طائل من المعنى في ذلك. والذين اختلفوا في إبراهيم ، أي في ملّته هم اليهود لأنهم أصحاب السبت.

ومعنى (جُعِلَ السَّبْتُ) فرض وعيّن عليهم ، أي فرضت عليهم أحكام السبت : من تحريم العمل فيه ، وتحريم استخدام الخدم والدوابّ في يوم السبت.

وعدل عن ذكر اسم اليهود أو بني إسرائيل مع كونه أوجز إلى التّعبير عنهم بالموصول لأن اشتهارهم بالصّلة كاف في تعريفهم مع ما في الموصول وصلته من الإيماء إلى وجه بناء الخبر. وذلك الإيماء هو المقصود هنا لأن المقصود إثبات أن اليهود لم يكونوا على الحنيفية كما علمت آنفا.

وليس معنى فعل (اخْتَلَفُوا) وقوع خلاف بينهم بأمر السبت بل فعل (اخْتَلَفُوا) مراد به خالفوا كما في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «واختلافهم أنبيائهم» ، أي عملهم خلاف ما أمر به أنبياؤهم. فحاصل المعنى هكذا : ما فرض السبت على أهل السبت إلا لأنهم لم يكونوا على ملّة إبراهيم ، إذ مما لا شكّ فيه عندهم أن ملّة إبراهيم ليس منها حرمة السبت ولا هو من شرائعها.

٢٥٩

ولم يقع التعرّض لليوم المقدّس عند النصارى لعدم الداعي إلى ذلك حين نزول هذه السورة كما علمت.

ولا يؤخذ من هذا أن ملّة إبراهيم كان اليوم المقدّس فيها يوم الجمعة لعدم ما يدلّ على ذلك ، والكافي في نفي أن يكون اليهود على ملّة إبراهيم أن يوم حرمة السبت لم تكن من ملّة إبراهيم.

ثم الأظهر أن حرمة يوم الجمعة ادخرت للملّة الإسلامية لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله إليه فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد». فقوله: «فهدانا الله إليه» يدلّ على أنه لم يسبق ذلك في ملّة أخرى.

فهذا وجه تفسير هذه الآية ، ومحمل الفعل والضمير المجرور في قوله : (اخْتَلَفُوا فِيهِ).

وما ذكره المفسّرون من وجوه لا يخلو من تكلّف وعدم طائل. وقد جعلوا ضمير (فِيهِ) عائدا إلى (السَّبْتُ). وتأوّلوا معنى الاختلاف فيه بوجوه. ولا مناسبة بين الخبر وبين ما توهّم أنه تعليل له على معنى جعل السبت عليهم لأنهم اختلفوا على نبيئهم موسى ـ عليه‌السلام ـ لأجل السبت ، لأن نبيّهم أمرهم أن يعظّموا يوم الجمعة فأبوا ، وطلبوا أن يكون السبت هو المفضّل من الأسبوع بعلّة أن الله قضى خلق السماوات والأرضين قبل يوم السبت ، ولم يكن في يوم السبت خلق ، فعاقبهم الله بالتّشديد عليهم في حرمة السبت. كذا نقل عن ابن عباس. وهو لا يصحّ عنه ، وكيف وقد قال الله تعالى : (وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) [سورة النساء : ١٥٤]. وكيف يستقيم أن يعدل موسى ـ عليه‌السلام ـ عن اليوم الذي أمر الله بتعظيمه إلى يوم آخر لشهوة قومه وقد عرف بالصلابة في الدين.

من المفسرين من زعم أن التوراة أمرتهم بيوم غير معيّن فعيّنوه السبت. وهذا لا يستقيم لأن موسى ـ عليه‌السلام ـ عاش بينهم ثمانين سنة فكيف يصحّ أن يكونوا فعلوا ذلك لسوء فهمهم في التوراة. ولعلّك تلوح لك حيرة المفسّرين في التئام معاني هذه الآية.

و (إِنَّما) للحصر وهو قصر قلب مقصود به الردّ على اليهود بالاستدلال عليهم بأنهم ليسوا على ملّة إبراهيم ، لأن السبت جعله الله لهم شرعا جديدا بصريح كتابهم إذ لم يكن عليه سلفهم. وتركيب الاستدلال : إن حرمة السبت لم تكن من ملّة إبراهيم فأصحاب تلك الحرمة ليسوا على ملّة إبراهيم.

٢٦٠