تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

وفي ذلك إيماء إلى أن بقاء الضلالة من كسب أنفسهم ؛ ولكن ورد في آيات أخرى أن الله يضلّ الضالّين ، كما في قوله : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) [سورة الأنعام : ١٢٥] ، وقوله عقب هذا (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) [سورة النحل: ٣٧] على قراءة الجمهور ، ليحصل من مجموع ذلك علم بأن الله كوّن أسبابا عديدة بعضها جاء من توالد العقول والأمزجة واقتباس بعضها من بعض ، وبعضها تابع للدعوات الضالّة بحيث تهيّأت من اجتماع أمور شتّى لا يحصيها إلا الله ، أسباب تامّة تحول بين الضالّ وبين الهدى. فلا جرم كانت تلك الأسباب هي سبب حقّ الضلالة عليهم ، فباعتبار الأسباب المباشرة كان ضلالهم من حالات أنفسهم ، وباعتبار الأسباب العالية المتوالدة كان ضلالهم من لدن خالق تلك الأسباب وخالق نواميسها في متقادم العصور. فافهم.

ثم فرّع على ذلك الأمر بالسير في الأرض لينظروا آثار الأمم فيروا منها آثار استئصال مخالف لأحوال الفناء المعتاد ، ولذلك كان الاستدلال بها متوقّفا على السير في الأرض ، ولو كان المراد مطلق الفناء لأمرهم بمشاهدة المقابر وذكر السّلف الأوائل.

(إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧))

استئناف بياني ، لأن تقسيم كل أمّة ضالّة إلى مهتد منها وباق على الضلال يثير سؤالا في نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حال هذه الأمّة : أهو جار على حال الأمم التي قبلها ، أو أن الله يهديهم جميعا. وذلك من حرصه على خيرهم ورأفته بهم ، فأعلمه الله أنه مع حرصه على هداهم فإنهم سيبقى منهم فريق على ضلاله.

وفي الآية لطيفتان :

الأولى : التعريض بالثناء على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حرصه على خيرهم مع ما لقيه منهم من الأذى الذي شأنه أن يثير الحنق في نفس من يلحقه الأذى ؛ ولكن نفس محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. مطهّرة من كل نقص ينشأ عن الأخلاق الحيوانية.

واللطيفة الثانية : الإيماء إلى أن غالب أمّة الدعوة المحمّدية سيكونون مهتدين وأن الضلال منهم فئة قليلة ، وهم الذين لم يقدر الله هديهم في سابق علمه بما نشأ عن خلقه وقدرته من الأسباب التي هيّأت لهم البقاء في الضلال.

١٢١

والحرص : فرط الإرادة الملحّة في تحصيل المراد بالسّعي في أسبابه.

والشرط هنا ليس لتعليق حصول مضمون الجواب على حصول مضمون الشرط ، لأن مضمون الشرط معلوم الحصول ، لأن علاماته ظاهرة بحيث يعلمه النّاس ، كما قال تعالى : (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) [سورة التوبة : ١٢٨] ؛ وإنّما هو لتعليق العلم بمضمون الجواب على دوام حصول مضمون الشرط. فالمعنى : إن كنت حريصا على هداهم حرصا مستمرا فاعلم أن من أضلّه الله لا تستطيع هديه ولا تجد لهداه وسيلة ولا يهديه أحد. فالمضارع مستعمل في معنى التجدد لا غير ، كقول عنترة :

إن تغد في دوني القناع فإنّني

طبّ بأخذ الفارس المستلئم

وأظهر منه في هذا المعنى قوله أيضا :

إن كنت أزمعت الفراق فإنما

زمّت ركابكم بليل مظلم

فإنّ فعل الشرط في البيتين في معنى : إن كان ذلك تصميما ، وجواب الشرط فيهما في معنى إفادة العلم.

وجعل المسند إليه في جملة الإخبار عن استمرار ضلالهم اسم الجلالة للتهويل المشوق إلى استطلاع الخبر. والخبر هو أن هداهم لا يحصل إلّا إذا أراده الله ولا يستطيع أحد تحصيله لا أنت ولا غيرك ، فمن قدّر الله دوام ضلاله فلا هادي له. ولو لا هذه النكتة لكان مقتضى الظاهر أن يكون المسند إليه ضمير المتحدّث عنهم بأن يقال : فإنهم لا يهديهم غير الله.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب (لا يَهْدِي) ـ بضم الياء وفتح الدّال ـ مبنيا للنائب ، وحذف الفاعل للتعميم ، أي لا يهديه هاد.

و (مَنْ) نائب فاعل ، وضمير (يُضِلُ) عائد إلى الله ، أي فإن الله لا يهدى المضلّل ـ بفتح اللّام ـ منه. فالمسند سببي وحذف الضمير السببي المنصوب لظهوره وهو في معنى قوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) [سورة الرعد : ٣٣] وقوله تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) [سورة الأعراف : ١٨٦].

وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف (لا يَهْدِي) ـ بفتح الياء ـ بالبناء للفاعل ، وضمير اسم الجلالة هو الفاعل ، و (مَنْ) مفعول (يَهْدِي) ، والضمير في (يُضِلُ) لله ، والضمير السببي أيضا محذوف ، والمعنى : أنّ الله لا يهدي من قدّر دوام ضلاله ، كقوله

١٢٢

تعالى : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) [سورة الجاثية : ٢٣] إلى قوله : (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) [سورة الجاثية : ٢٣].

ومعنى (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ما لهم ناصر ينجيهم من العذاب ، أي كما أنهم ما لهم منقذ من الضلال الواقعين فيه ما لهم ناصر يدفع عنهم عواقب الضلال.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨))

انتقال لحكاية مقالة أخرى من شنيع مقالاتهم في كفرهم ، واستدلال من أدلّة تكذيبهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يخبر به إظهارا لدعوته في مظهر المحال ، وذلك إنكارهم الحياة الثانية ولبعث بعد الموت. وذلك لم يتقدم له ذكر في هذه السورة سوى الاستطراد بقوله : (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) [سورة النحل : ٢٢].

والقسم على نفي البعث أرادوا به الدّلالة على يقينهم بانتفائه.

وتقدّم القول في (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) عند قوله تعالى : (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) في سورة العقود [٥٣].

وإنما أيقنوا بذلك وأقسموا عليه لأنّهم توهّموا أن سلامة الأجسام وعدم انخرامها شرط لقبولها الحياة ، وقد رأوا أجساد الموتى معرّضة للاضمحلال فكيف تعاد كما كانت.

وجملة (لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) عطف بيان لجملة (أَقْسَمُوا) وهي ما أقسموا عليه.

والبعث تقدّم آنفا في قوله تعالى : (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [سورة النمل : ٦٥].

والعدول عن (الموتى) إلى (مَنْ يَمُوتُ) لقصد إيذان الصّلة بتعليل نفي البعث ، فإن الصّلة أقوى دلالة على التعليل من دلالة المشتق على عليّة الاشتقاق ، فهم جعلوا الاضمحلال منافيا لإعادة الحياة ، كما حكي عنهم (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) [سورة النمل : ٦٧].

و (بَلى) حرف لإبطال النفي في الخبر والاستفهام ، أي بل يبعثهم الله. وانتصب (وَعْداً) على المفعول المطلق مؤكدا لما دلّ عليه حرف الإبطال من حصول البعث بعد الموت. ويسمى هذا النوع من المفعول المطلق مؤكدا لنفسه ، أي مؤكدا لمعنى فعل هو

١٢٣

عين معنى المفعول المطلق.

و (عَلَيْهِ) صفة ل (وَعْداً) ، أي وعدا كالواجب عليه في أنه لا يقبل الخلف. ففي الكلام استعارة مكنية. شبه الوعد الذي وعده الله بمحض إرادته واختياره بالحقّ الواجب عليه ورمز إليه بحرف الاستعلاء.

و (حَقًّا) صفة ثانية ل (وَعْداً). والحقّ هنا بمعنى الصدق الذي لا يتخلّف. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) في سورة براءة [١١١].

والمراد بأكثر الناس المشركون ، وهم يومئذ أكثر الناس. ومعنى (لا يَعْلَمُونَ) أنهم لا يعلمون كيفيّة ذلك فيقيمون من الاستبعاد دليل استحالة حصول البعث بعد الفناء.

والاستدراك ناشئ عن جعله وعدا على الله حقّا ، إذ يتوهّم السامع أن مثل ذلك لا يجهله أحد فجاء الاستدراك لرفع هذا التوهّم ، ولأن جملة (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) تقتضي إمكان وقوعه والناس يستبعدون ذلك.

(لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩))

(لِيُبَيِّنَ) تعليل لقوله تعالى : (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) [سورة النحل : ٣٨] لقصد بيان حكمة جعله وعدا لازما لا يتخلّف ، لأنه منوط بحكمة ، والله تعالى حكيم لا تجري أفعاله على خلاف الحكمة التامّة ، أي جعل البعث ليبيّن للناس الشيء الذي يختلفون فيه من الحقّ والباطل فيظهر حقّ المحقّ ويظهر باطل المبطل في العقائد ونحوها من أصول الدّين وما ألحق بها.

وشمل قوله : (يَخْتَلِفُونَ) كل معاني المحاسبة على الحقوق لأن تمييز الحقوق من المظالم كلّه محل اختلاف الناس وتنازعهم.

وعطف على هذه الحكمة العامّة حكمة فرعيّة خاصّة بالمردود عليهم هنا ، وهي حصول العلم للّذين كفروا بأنهم كانوا كاذبين فيما اخترعوه من الشرك وتحريم الأشياء وإنكار البعث.

وفي حصول علمهم بذلك يوم البعث مثار للندامة والتحسّر على ما فرط منهم من

١٢٤

إنكاره. وقد تقدّم بيان حكمة الجزاء في يوم البعث في أول سورة يونس.

و (كانُوا كاذِبِينَ) أقوى في الوصف بالكذب من (كذبوا أو كاذبون) ، لما تدلّ عليه (كان) من الوجود زيادة على ما يقتضيه اسم الفاعل من الاتّصاف ، فكأنه قيل : وجد كذبهم ووصفوا به. وكذبهم يستلزم أنهم معذّبون عقوبة على كذبهم. ففيه شتم صريح تعريض بالعقاب.

(إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠))

هذه الجملة متّصلة بجملة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [سورة النحل : ٣٨] لبيان أنّ جهلهم بمدى قدرة الله تعالى هو الذي جرّأهم على إنكار البعث واستحالته عندهم ، فهي بيان للجملة التي قبلها ولذلك فصلت ، ووقعت جملة (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [سورة النحل : ٣٩] إلى آخرها اعتراضا بين البيان والمبيّن.

والمعنى أنه لا يتوقف تكوين شيء إذا أراده الله إلا على أن تتعلّق قدرته بتكوينه. وليس إحياء الأموات إلا من جملة الأشياء ، وما البعث إلا تكوين ، فما بعث الأموات إلا من جملة تكوين الموجودات ، فلا يخرج عن قدرته.

وأفادت (إِنَّما) قصرا هو قصر وقوع التّكوين على صدور الأمر به ، وهو قصر قلب لإبطال اعتقاد المشركين تعذّر إحياء الموتى ظنّا منهم أنّه لا يحصل إلا إذا سلمت الأجساد من الفساد كما تقدم آنفا ، فأريد ب (قَوْلُنا لِشَيْءٍ) تكويننا شيئا ، أي تعلّق القدرة بخلق شيء. وأريد بقوله : (إِذا أَرَدْناهُ) إذا تعلّقت به الإرادة الإلهية تعلّقا تنجيزيا ، فإذا كان سبب التكوين ليس زائدا على قول (كُنْ) فقد بطل تعذّر إحياء الموتى. ولذلك كان هذا قصر قلب لإبطال اعتقاد المشركين.

والشيء : أطلق هنا على المعدوم باعتبار إرادة وجوده ، فهو من إطلاق اسم ما يؤول إليه ، أو المراد بالشيء مطلق الحقيقة المعلومة وإن كانت معدومة ، وإطلاق الشيء على المعدوم مستعمل.

و (أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ) خبر عن (قَوْلُنا).

والمراد بقول (كُنْ) توجّه القدرة إلى إيجاد المقدور. عبر عن ذلك التوجّه بالقول بالكلام كما عبّر عنه بالأمر في قوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)

١٢٥

[سورة يس : ٨٢] وشبّه الشيء الممكن حصوله بشخص مأمور ، وشبّه انفعال الممكن لأمر التكوين بامتثال المأمور لأمر الآمر. وكلّ ذلك تقريب للناس بما يعقلون ، وليس هو خطابا للمعدوم ولا أن للمعدوم سمعا يعقل به الكلام فيمتثل للآمر.

و (كان) تامة.

وقرأ الجمهور (فَيَكُونُ) ـ بالرفع ـ أي فهو يكون ، عطفا على الخبر وهو جملة (أَنْ نَقُولَ). وقرأ ابن عامر والكسائي ـ بالنصب ـ عطفا على (نَقُولَ) ، أي أن نقول له كن وأن يكون.

[٤١ ، ٤٢] (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢))

لما ثبتت حكمة البعث بأنها تبيين الذي اختلف فيه الناس من هدى وضلالة ، ومن ذلك أن يتبين أن الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين يعلم منه أنّه بتبيين بالبعث أن الذين آمنوا كانوا صادقين بدلالة المضادة وأنهم مثابون ومكرمون. فلما علم ذلك من السياق وقع التصريح به في هذه الآية.

وأدمج مع ذلك وعدهم بحسن العاقبة في الدنيا مقابلة وعيد الكافرين بسوء العاقبة فيها الواقع بالتّعريض في قوله تعالى : (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [سورة النحل : ٣٦].

فالجملة معطوفة على جملة (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) [سورة النحل: ٣٩].

والمهاجر : متاركة الدّيار لغرض ما.

و (فِي) مستعملة في التّعليل ، أي لأجل الله. والكلام على تقدير مضاف يظهر من السّياق. تقديره : هاجروا لأجل مرضاة الله.

وإسناد فعل (ظُلِمُوا) إلى المجهول لظهور الفاعل من السّياق وهو المشركون. والظلم يشمل أصناف الاعتداء من الأذى والتعذيب.

والتبوئة : الإسكان. وأطلقت هنا على الجزاء بالحسنى على المهاجرة بطريق المضادّة للمهاجرة ، لأن المهاجرة الخروج من الدّيار فيضادّها الإسكان.

١٢٦

وفي الجمع بين (هاجَرُوا) و (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) محسّن الطباق. والمعنى : لنجازينّهم جزاء حسنا. فعبر عن الجزاء بالتّبوئة لأنه جزاء على ترك المباءة.

و (حَسَنَةً) صفة لمصدر محذوف جار على «نبوئنهم» ، أي تبوئة حسنة.

وهذا الجزاء يجبر كل ما اشتملت عليه المهاجرة من الأضرار التي لقيها المهاجرون من مفارقة ديارهم وأهليهم وأموالهم ، وما لاقوه من الأذى الذي ألجأهم إلى المهاجرة من تعذيب واستهزاء ومذلّة وفتنة ، فالحسنة تشتمل على تعويضهم ديارا خيرا من ديارهم ، ووطنا خيرا من وطنهم ، وهو المدينة ، وأموالا خيرا من أموالهم ، وهي ما نالوه من المغانم ومن الخراج. روي أن عمر ـ رضي‌الله‌عنه ـ كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال له : «هذا ما وعدك ربّك في الدنيا ، وما ذخر لك في الآخرة أكبر» ؛ وغلبة لأعدائهم في الفتوح وأهمّها فتح مكّة ، وأمنا في حياتهم بما نالوه من السلطان ، قال تعالى : (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) [سورة النور : ٥٥]. وسبب النزول الذين هاجروا إلى أرض الحبشة من المسلمين لا محالة ، أو الذين هاجروا إلى المدينة الهجرة الأولى قبل هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبقية أصحابه ـ رضي‌الله‌عنهم ـ مثل مصعب بن عمير وأصحابه إن كانت هذه الآية نازلة بعد الهجرة الأولى إلى المدينة. وكلا الاحتمالين لا ينافي كون السورة مكّية. ولا يقتضي تخصيص أولئك بهذا الوعد.

ثم أعقب هذا الوعد بالوعد العظيم المقصود وهو قوله : (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ).

ومعنى (أَكْبَرُ) أنّه أهمّ وأنفع. وإضافته إلى (الْآخِرَةِ) على معنى (في) ، أي الأمر الذي في الآخرة.

وجملة (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) معترضة ، وهي استئناف بياني ناشئ عن جملة الوعد كلّها ، لأن ذلك الوعد العظيم بخير الدنيا والآخرة يثير في نفوس السامعين أن يسألوا كيف لم يقتد بهم من بقوا على الكفر فتقع جملة (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) بيانا لما استبهم على السّائل. والتقدير : لو كانوا يعلمون ذلك لاقتدوا بهم ولكنّهم لا يعلمون. فضمير (يَعْلَمُونَ) عائد إلى (الَّذِينَ كَفَرُوا) [سورة النحل : ٣٩].

ويجوز أن يكون السؤال المثار هو : كيف يحزن المهاجرون على ما تركوه من ديارهم وأموالهم وأهليهم ، فيكون : المعنى لو كان المهاجرون يعلمون ما أعدّ لهم علم مشاهدة لما حزنوا على مفارقة ديارهم ولكانت هجرتهم عن شوق إلى ما يلاقونه بعد هجرتهم ، لأن تأثير العلم الحسّي على المزاج الإنساني أقوى من العلم العقلي لعدم

١٢٧

احتياج العلم الحسّي إلى استعمال نظر واستدلال ، ولعدم اشتمال العلم العقلي على تفاصيل الكيفيات التي تحبّها النفوس وترتمي إليها الشهوات ، كما أشار إليه قوله تعالى : (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [سورة البقرة : ٢٦٠]. فليس المراد بقوله تعالى : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لو كانوا يعتقدون ويؤمنون ، لأن ذلك حاصل لا يناسب موقع (لَوْ) الامتناعية.

فضمير (يَعْلَمُونَ) على هذا «للذين هاجروا». وفي هذا الوجه تتناسق الضمائر.

و (الَّذِينَ صَبَرُوا) صفة «للذين هاجروا». والصبر : تحمّل المشاقّ. والتّوكّل : الاعتماد.

وتقدم الصبر عند قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) أوائل سورة البقرة [٤٥]. والتوكل عند قوله تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في سورة آل عمران [١٥٩].

والتعبير في جانب الصبر بالمضي وفي جانب التوكّل بالمضارع إيماء إلى أن صبرهم قد آذن بالانقضاء لانقضاء أسبابه ، وأن الله قد جعل لهم فرجا بالهجرة الواقعة والهجرة المترقّبة. فهذا بشارة لهم.

وأنّ التوكّل ديدنهم لأنهم يستقبلون أعمالا جليلة تتمّ لهم بالتوكّل على الله في أمورهم فهم يكرّرونه. وفي هذا بشارة بضمان النجاح.

وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [سورة الزمر : ١٠].

وتقديم المجرور في قوله تعالى : (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) للقصر ، أي لا يتوكّلون إلّا على ربّهم دون التوكّل على سادة المشركين وولائهم.

[٤٣ ، ٤٤] (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤))

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ٤٣ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ).

١٢٨

كانت الآيات السابقة جارية على حكاية تكذيب المشركين نبوءة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنكارهم أنه مرسل من عند الله وأن القرآن وحي الله إليه ، ابتداء من قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [سورة النحل : ٢٤] ، وردّ مزاعمهم الباطلة بالأدلّة القارعة لهم متخلّلا بما أدمج في أثنائه من معان أخرى تتعلّق بذلك ، فعاد هنا إلى إبطال شبهتهم في إنكار نبوءته من أنه بشر لا يليق بأن يكون سفيرا بين الله والناس ، إبطالا بقياس التّمثيل بالرّسل الأسبقين الذين لا تنكر قريش رسالتهم مثل نوح وإبراهيم ـ عليهما‌السلام ـ. وهذا ينظر إلى قوله في أول السورة (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [سورة النحل : ١].

وقد غيّر أسلوب نظم الكلام هنا بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن كان جاريا على أسلوب الغيبة ابتداء من قوله تعالى : (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) [سورة النحل : ٢٢] ، وقوله تعالى (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) [سورة النحل : ٣٥] الآية ، تأنيسا للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأن فيما مضى من الكلام آنفا حكاية تكذيبهم إيّاه تصريحا وتعريضا ، فأقبل الله على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخطاب لما في هذا الكلام من تنويه منزلته بأنه في منزلة الرسل الأولين ـ عليهم الصلاة والسلام ـ.

وفي هذا الخطاب تعريض بالمشركين ، ولذلك التفت إلى خطابهم بقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ).

وصيغة القصر لقلب اعتقاد المشركين وقولهم : (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [سورة الإسراء : ٩٤] ، فقصر الإرسال على التعلّق برجال موصوفين بأنهم يوحى إليهم.

ثم أشهد على المشركين بشواهد الأمم الماضية وأقبل عليهم بالخطاب توبيخا لهم لأن التوبيخ يناسبه الخطاب لكونه أوقع في نفس الموبّخ ، فاحتجّ عليهم بقوله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) إلخ. فهذا احتجاج بأهل الأديان السابقين أهل الكتب اليهود والنصارى والصابئة.

و (الذِّكْرِ) : كتاب الشريعة. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) في أول سورة الحجر [٦].

وفي قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) إيماء إلى أنهم يعلمون ذلك ولكنهم قصدوا المكابرة والتمويه لتضليل الدهماء ، فلذلك جيء في الشرط بحرف (إِنْ) التي ترد في

١٢٩

الشرط المظنون عدم وجوده.

وجملة (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) معترضة بين جملة (وَما أَرْسَلْنا) وبين قوله تعالى : (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ).

والجملة المعترضة تقترن بالفاء إذا كان معنى الجملة مفرّعا على ما قبله ، وقد جعلها في «الكشاف» معترضة على اعتبار وجوه ذكرها في متعلّق قوله تعالى : (بِالْبَيِّناتِ).

ونقل عنه في سورة الإنسان [٢٩] عند قوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أنه لا تقترن الجملة المعترضة بالفاء. وتردد صاحب «الكشاف» في صحة ذلك عنه لمخالفته كلامه في آية سورة النحل.

وقوله (بِالْبَيِّناتِ) متعلّق بمستقر صفة أو حالا من (رِجالاً). وفي تعلّقه وجوه أخر ذكرها في «الكشاف» ، والباء للمصاحبة ، أي مصحوبين بالبينات والزبر ، فالبينات دلائل الصّدق من معجزات أو أدلّة عقلية. وقد اجتمع ذلك في القرآن وافترق بين الرسل الأوّلين كما تفرّق منه كثير لرسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

و (الزُّبُرِ) : جمع زبور وهو مشتقّ من الزبر أي الكتابة ، ففعول بمعنى مفعول. و (الزُّبُرِ) الكتب التي كتب فيها ما أوحي إلى الرسل مثل صحف إبراهيم والتوراة وما كتبه الحواريون من الوحي إلى عيسى ـ عليه‌السلام ـ وإن لم يكتبه عيسى.

ولعل عطف (الزُّبُرِ) على (بِالْبَيِّناتِ) عطف تقسيم بقصد التوزيع ، أي بعضهم مصحوب بالبينات وبعضهم بالأمرين لأنه قد تجيء رسل بدون كتب ، مثل حنظلة بن صفوان رسول أهل الرّسّ وخالد بن سنان رسول عبس. ولم يذكر الله لنوح ـ عليه‌السلام ـ كتابا.

وقد تجعل (الزُّبُرِ) خاصة بالكتب الوجيزة التي ليست فيها شريعة واسعة مثل صحف إبراهيم وزبور داود ـ عليهما‌السلام ـ والإنجيل كما فسّروها به في سورة فاطر.

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)

لما اتّضحت الحجّة بشواهد التاريخ الذي لا ينكر ذكرت النتيجة المقصودة ، وهو أن ما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما هو ذكر وليس أساطير الأوّلين.

والذكر الكلام الذي شأنه أن يذكر ، أي يتلى ويكرّر. وقد تقدّم عند قوله تعالى :

١٣٠

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) في سورة الحجر [٦]. أي ما كنت بدعا من الرّسل فقد أوحينا إليك الذكر. والذكر : ما أنزل ليقرأه الناس ويتلونه تكرارا ليتذكروا ما اشتمل عليه. وتقديم المتعلّق المجرور على المفعول للاهتمام بضمير المخاطب.

وفي الاقتصار على إنزال الذكر عقب قوله : (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) إيماء إلى أن الكتاب المنزّل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو بيّنة وزبور معا ، أي هو معجزة وكتاب شرع. وذلك من مزايا القرآن التي لم يشاركه فيها كتاب آخر ، ولا معجزة أخرى ، وقد قال الله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) سورة العنكبوت [٥٠ ، ٥١]. وفي الحديث : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من الأنبياء نبيء إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».

والتبيين : إيضاح المعنى.

والتعريف في «الناس» للعموم.

والإظهار في قوله تعالى : (ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) يقتضي أن ما صدق الموصول غير الذكر المتقدم ، إذ لو كان إيّاه لكان مقتضى الظاهر أن يقال لتبيّنه : للناس. ولذا فالأحسن أن يكون المراد بما نزل إليهم الشرائع التي أرسل الله بها محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعل القرآن جامعا لها ومبينا لها ببليغ نظمه ووفرة معانيه ، فيكون في معنى قوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [سورة النحل : ٨٩].

وإسناد التبيين إلى النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ باعتبار أنه المبلّغ للناس هذا البيان. واللّام على هذا الوجه لذكر العلّة الأصلية في إنزال القرآن.

وفسر (ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) بأنه عين الذكر المنزّل ، أي أنزلنا إليك الذكر لتبيّنه للناس ، فيكون إظهارا في مقام الإضمار لإفادة أن إنزال الذكر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو إنزاله إلى الناس كقوله تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [سورة الأنبياء : ١٠].

وإنّما أتي بلفظه مرتين للإيماء إلى التّفاوت بين الإنزالين : فإنزاله إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مباشرة ، وإنزاله إلى إبلاغه إليهم.

فالمراد بالتبيين على هذا تبيين ما في القرآن من المعاني ، وتكون اللّام لتعليل بعض

١٣١

الحكم الحاقّة بإنزال القرآن فإنها كثيرة ، فمنها أن يبيّنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتحصل فوائد العلم والبيان ، كقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) [سورة آل عمران : ١٨٧].

وليس في هذه الآية دليل لمسائل تخصيص القرآن بالسّنة ، وبيان مجمل القرآن بالسنّة ، وترجيح دليل السنّة المتواترة على دليل الكتاب عند التعارض المفروضات في أصول الفقه إذ كل من الكتاب والسنّة هو من تبيين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ هو واسطته.

عطف (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) حكمة أخرى من حكم إنزال القرآن ، وهي تهيئة تفكّر الناس فيه وتأمّلهم فيما يقرّبهم إلى رضى الله تعالى. فعلى الوجه الأول في تفسير (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) يكون المراد أن يتفكّروا بأنفسهم في معاني القرآن وفهم فوائده ، وعلى الوجه الثاني أن يتفكّروا في بيانك ويعوه بأفهامهم.

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥))

بعد أن ذكرت مساويهم ومكائدهم وبعد تهديدهم بعذاب يوم البعث تصريحا وبعذاب الدنيا تعريضا ، فرع على ذلك تهديدهم الصريح بعذاب الدنيا بطريق استفهام التعجيب من استرسالهم في المعاندة غير مقدّرين أن يقع ما يهدّدهم به الله على لسان رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يقلعون عن تدبير المكر بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانت حالهم في استرسالهم كحال من هم آمنون بأس الله. فالاستفهام مستعمل في التعجيب المشوب بالتوبيخ.

و (الَّذِينَ مَكَرُوا) : هم المشركون.

والمكر تقدم في قوله تعالى : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) في هذه السورة.

وقوله تعالى : (السَّيِّئاتِ) صفة لمصدر (مَكَرُوا) محذوفا يقدّر مناسبا لتأنيث صفته. فالتقدير : مكروا المكرات السيئات ، كما وصف المكر بالسيّئ في قوله تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [سورة فاطر : ٤٣]. والتأنيث في مثل هذا يقصد منه الدلالة على معنى الخصلة أو الفعلة ، كالغدرة للغدر.

ويجوز أن يضمن (مَكَرُوا) معنى (اقترفوا) فانتصب (السَّيِّئاتِ) على المفعولية به. ويجوز أن يكون منصوبا على نزع الخافض وهو باء الجرّ التي معناها الآلة.

١٣٢

والخسف : زلزال شديد تنشقّ به الأرض فتحدث بانشقاقها هوّة عظيمة تسقط فيها الديار والناس ، ثم تنغلق الأرض على ما دخل فيها. وقد أصاب ذلك أهل بابل ، ومكانهم يسمّى خسف بابل. وأصاب قوم لوط إذ جعل الله عاليها سافلها. وبلادهم مخسوفة اليوم في بحيرة لوط من فلسطين.

وخسف من باب ضرب. ويستعمل قاصرا ومتعدّيا. يقال : خسفت الأرض ، ويقال: خسف الله الأرض ، قال تعالى : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) [سورة القصص : ٨١] ، ولا يتعدّى إلى ما زاد على المفعول إلا بحرف التعدية ، والأكثر أن يعدّى بالباء كما هنا وقوله تعالى : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) ، أي جعلناها خاسفة به ، فالباء للتعدية ، كما يقال : ذهب به.

و (الْعَذابُ) يعمّ كل ما فيه تأليم يستمرّ زمنا ، فلذلك عطف على الخسف. وإتيان العذاب إليهم : إصابته إياهم. شبّه ذلك بالإتيان.

و (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) من مكان لا يترقّبون أن يأتيهم منه ضرّ. فمعنى (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) أنه يأتيهم بغتة لا يستطيعون دفعه ، لأنهم لبأسهم ومنعتهم لا يبغتهم ما يحذرونه إذ قد أعدّوا له عدّته ، فكان الآتي من حيث لا يشعرون عذابا غير معهود. فوقع قوله : (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) كناية عن عذاب لا يطيقون دفعه بحسب اللزوم العرفي ، وإلا فقد جاء العذاب عادا من مكان يشعرون به ، قال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) [سورة الأحقاف : ٢٤]. وحلّ بقوم نوح عذاب الطوفان وهم ينظرون ، وكذلك عذاب الغرق لفرعون وقومه.

[٤٦ ، ٤٧] (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧))

الأخذ مستعار للإهلاك قال تعالى : (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) [سورة الحاقة : ١٠].

وتقدّم عند قوله : (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) في سورة الأنعام [٤٤].

والتّقلّب : السعي في شئون الحياة من متاجرة ومعاملة وسفر ومحادثة ومزاحمة. وأصله: الحركة إقبالا وإدبارا ، والمعنى : أن يهلكهم الله وهم شاعرون بمجيء العذاب.

وهذا قسيم قوله تعالى : (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) [سورة النحل:

١٣٣

٤٥]. وفي معناه قوله تعالى : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [سورة الأعراف : ٩٨].

وتفريع (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) اعتراض ، أي لا يمنعهم من أخذه إيّاهم تقلّبهم شيء إذ لا يعجزه اجتماعهم وتعاونهم.

و (فِي) للظرفية المجازية ، أي الملابسة ، وهي حال من الضمير المنصوب في (يَأْخُذَهُمْ).

والتخوّف في اللغة يأتي مصدر تخوّف القاصر بمعنى خاف ومصدر تخوّف المتعدّي بمعنى تنقّص ، وهذا الثاني لغة هذيل ، وهي من اللغات الفصيحة التي جاء بها القرآن.

فللآية معنيان : إما أن يكون المعنى يأخذهم وهم في حالة توقّع نزول العذاب بأن يريهم مقدماته مثل الرعد قبل الصّواعق ، وإما أن يكون المعنى يأخذهم وهم في حالة تنقّص من قبل أن يتنقّصهم قبل الأخذ بأن يكثر فيهم الموتان والفقر والقحط.

وحرف (عَلى) مستعمل في التمكّن على كلا المعنيين ، ومحل المجرور حال من ضمير النصب في (يَأْخُذَهُمْ) وهو كقولهم : أخذه على غرّة.

روى الزمخشري وابن عطية يزيد أحدهما على الآخر : أن عمر بن الخطاب ـ رضي‌الله‌عنه ـ خفي عليه معنى التخوّف في هذه الآية وأراد أن يكتب إلى الأمصار ، وأنه سأل الناس وهو على المنبر : ما تقولون فيها؟ فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا. التخوّف : التنقّص. قال : فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال : نعم ، قال شاعرنا :

تخوّف الرحل منها تامكا قردا

كما تخوّف عود النبعة السفن (١)

__________________

(١) قلت : نسب في «الكشاف» هذا البيت إلى زهير وكذلك في الأساس وليس زهير بهذلي. ونسبه صاحب «اللسان» إلى ابن مقبل وليس ابن مقبل بهذلي وكيف وقد قال الشيخ الهذلي لعمر قال شاعرنا فهو هذلي ووقع في «تفسير البيضاوي» أن الشيخ الهذلي أجاب عمر بقوله نعم : «قال شاعرنا أبو كبير وقال الخفاجي البيت من قصيدة له مذكورة في شعر هذيل فنسبة البيت إلى أبي كبير أثبت ، وهذا البيت في وصف راحلة أثر الرحل في سنامها فتنقص من وبره. والتامك : بكسر الميم السنام المشرف. والقرد بكسر الراء المتلبد الوبر ، والنبعة قصبة شجر النبع تتخذ منه القسي. والسفن بالتحريك البرد.

١٣٤

فقال عمر ـ رضي‌الله‌عنه ـ : «أيها الناس عليكم بديوانكم لا يضلّ ، قالوا وما ديواننا؟ قال شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم».

وتفرّع (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) على الجمل الماضية تفريع العلّة على المعلّل. وحرف (إن) هنا مفيد للتعليل ومغن عن فاء التفريع كما بيّنه عبد القاهر ، فهي مؤكدة لما أفادته الفاء. والتّعليل هنا لما فهم من مجموع المذكورات في الآية من أنه تعالى قادر على تعجيل هلاكهم وأنه أمهلهم حتى نسوا بأس الله فصاروا كالآمنين منه بحيث يستفهم عنهم : أهم آمنون من ذلك أم لا.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨))

بعد أن نهضت براهين انفراده تعالى بالخلق بما ذكر من تعداد مخلوقاته العظيمة جاء الانتقال إلى دلالة من حال الأجسام التي على الأرض كلّها مشعرة بخضوعها لله تعالى خضوعا مقارنا لوجودها وتقلّبها آنا فآنا علم بذلك من علمه وجهله من جهله. وأنبأ عنه لسان الحال بالنسبة لما لا علم له ، وهو ما خلق الله عليه النظام الأرضي خلقا ينطق لسان حاله بالعبودية لله تعالى ، وذلك في أشدّ الأعراض ملازمة للذوات ، ومطابقة لأشكالها وهو الظلّ.

وقد مضى تفصيل هذا الاستدلال عند قوله تعالى : (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) في سورة الرعد [١٥].

فالجملة معطوفة على الجمل التي قبلها عطف القصّة على القصّة.

والاستفهام إنكاري ، أي قد رأوا ، والرؤية بصرية.

وقرأ الجمهور (أَوَلَمْ يَرَوْا) بتحتية. وقرأه حمزة والكسائي وخلف أولم تروا بالمثناة الفوقية على الخطاب على طريقة الالتفات.

و (مِنْ شَيْءٍ) بيان للإبهام الذي في (ما) الموصولة ، وإنما كان بيانا باعتبار ما جرى عليه من الوصف بجملة (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) الآية.

والتفيّؤ : تفعّل من فاء الظلّ فيئا ، أي عاد بعد أن أزاله ضوء الشمس. لعلّ أصله من فاء إذا رجع بعد مغادرة المكان ، وتفيؤ الظلال تنقّلها من جهات بعد شروق الشمس وبعد

١٣٥

زوالها.

وتقدم ذكر الظلال عند قوله : (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) في سورة الرعد [١٥].

وقوله : (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) ، أي عن جهات اليمين وجهات الشمائل مقصود به إيضاح الحالة العجيبة للظلّ إذ يكون عن يمين الشخص مرّة وعن شماله أخرى ، أي إذا استقبل جهة ما ثم استدبرها.

وليس المراد خصوص اليمين والشمال بل كذلك الأمام والخلف ، فاختصر الكلام.

وأفرد اليمين ، لأن المراد به جنس الجهة كما يقال المشرق. وجمع (الشَّمائِلِ) مرادا به تعدّد جنس جهة الشمال بتعدّد أصحابها ، كما قال : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ) [سورة المعارج : ٤٠]. فالمخالفة بالإفراد والجمع تفنّن.

ومجيء فعل (يَتَفَيَّؤُا) بتحتية في أوله على صيغة الإفراد جرى على أحد وجهين في الفعل إذا كان فاعله جمعا غير جمع تصحيح ، وبذلك قرأ الجمهور. وقرأ أبو عمرو ويعقوب تتفيأ بفوقيتين على الوجه الآخر.

وأفرد الضمير المضاف إليه (ظلال) مراعاة للفظ (شَيْءٍ) وإن كان في المعنى متعدّدا ، وباعتبار المعنى أضيف إليه الجمع.

و (سُجَّداً) حال من ضمير (ظِلالُهُ) العائد إلى (مِنْ شَيْءٍ) فهو قيد للتفيّؤ ، أي أن ذلك التفيّؤ يقارنه السجود مقارنة الحصول ضمنه. وقد مضى بيان ذلك عند قوله تعالى : (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) في سورة الرعد.

وجملة (وَهُمْ داخِرُونَ) في موضع الحال من الضمير في (ظِلالُهُ) لأنه في معنى الجمع لرجوعه (ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ). وجمع بصيغة الجمع الخاصة بالعقلاء تغليبا لأن في جملة الخلائق العقلاء وهم الجنس الأهمّ.

والدّاخر : الخاضع الذّليل ، أي داخرون لعظمة الله تعالى.

[٤٩ ، ٥٠] (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠))

لما ذكر في الآية السابقة السجود القسري ذكر بعده هنا سجود آخر بعضه اختيار وفي

١٣٦

بعضه شبه اختيار.

وتقديم المجرور على فعله مؤذن بالحصر ، أي سجد لله لا لغيره ما في السموات وما في الأرض ، وهو تعريض بالمشركين إذ يسجدون للأصنام.

وأوثرت (ما) الموصولة دون (من) تغليبا لكثرة غير العقلاء.

و (مِنْ دابَّةٍ) بيان ل (ما فِي الْأَرْضِ) ، إذ الدابة ما يدبّ على الأرض غير الإنسان.

ومعنى سجود الدواب لله أن الله جعل في تفكيرها الإلهامي التذاذها بوجودها وبما هي فيه من المرح والأكل والشرب ، وتطلب الدفع عن نفسها من المتغلّب ومن العوارض بالمدافعة أو بالتوقّي ، ونحو ذلك من الملائمات. فحالها بذلك كحال شاكر تتيسر تلك الملائمات لها ، وإنما تيسيرها لها ممن فطرها. وقد تصحب أحوال تنعّمها حركات تشبه إيماء الشاكر المقارب للسجود ، ولعلّ من حركاتها ما لا يشعر به الناس لخفائه وجهلهم بأوقاته ، وإطلاق السجود على هذا مجاز.

ويشمل (ما فِي السَّماواتِ) مخلوقات غير الملائكة ، مثل الأرواح ، أو يراد بالسماوات الأجواء فيراد بما فيها الطيور والفراش.

وفي ذكر أشرف المخلوقات وأقلّها تعريض بذمّ من نزل من البشر عن مرتبة الدواب في كفران الخالق ، وبمدح من شابه من البشر حال الملائكة.

وفي جعل الدوابّ والملائكة معمولين ل (يَسْجُدُ) استعمال للفظ في حقيقته ومجازه.

ووصف الملائكة بأنهم (لا يَسْتَكْبِرُونَ) تعريض ببعد المشركين عن أوج تلك المرتبة الملكية. والجملة حال من (الْمَلائِكَةُ).

وجملة (يَخافُونَ رَبَّهُمْ) بيان لجملة (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ).

والفوقية في قوله : (مِنْ فَوْقِهِمْ) فوقية تصرف وملك وشرف كقوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [سورة الأنعام : ١٨] وقوله (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) [سورة الأعراف : ١٢٧].

وقوله تعالى : (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) ، أي يطيعون ولا تصدر منهم مخالفة.

وهنا موضع سجود للقارئ بالاتّفاق. وحكمته هنا إظهار المؤمن أنه من الفريق

١٣٧

الممدوح بأنه مشابه للملائكة في السجود لله تعالى.

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١))

لما أشبع القول في إبطال تعدّد الآلهة الشائع في جميع قبائل العرب ، وأتبع بإبطال الاختلاق على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ، نقل الكلام إلى إبطال نوع آخر من الشّرك متّبع عند قبائل من العرب وهو الإشراك بإلهية أصلين للخير والشرّ ، تقلّدته قبائل العرب المجاورة بلاد فارس والساري فيهم سلطان كسرى وعوائدهم ، مثل بني بكر بن وائل وبني تميم ، فقد دان منهم كثير بالمجوسية ، أي المزدكية والمانوية في زمن كسرى أبرويش وفي زمن كسرى أنوشروان ، والمجوسية تثبت عقيدة بإلهين : إله للخير وهو النّور ، وإله للشرّ وهو الظلمة ، فإله الخير لا يصدر منه إلا الخير والأنعام ، وإله الشرّ لا يصدر عنه إلا الشرّ والآلام ، وسمّوا إله الخير (يزدان) ، وسموا إله الشرّ (أهرمن) (١). وزعموا أن يزدان كان منفردا بالإلهية وكان لا يخلق إلا الخير فلم يكن في العالم إلا الخير ، فخطر في نفسه مرة خاطر شرّ فتولّد عنه إله آخر شريك له هو إله الشرّ ، وقد حكى هذا المعرّي في لزومياته بقوله :

فكّر يزدان على غرة

فصيغ من تفكيره أهرمن

ولم يكونوا يجعلون لهذين الأصلين صورا مجسّمة ، فلذلك لم يكن دينهم من عداد عبادة الطاغوت لاختصاص اسم الطاغوت بالصور والأجسام المعبودة. وهذا الدين من هذه الجهة يشبه الأديان التي لا تعبد صورا محسوسة. وسيأتي الكلام على المجوسيّة عند تفسير قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) إلى قوله (وَالْمَجُوسَ) في سورة الحج [١٧].

ويدلّ على أن هذا الدين هو المراد التّعقيب بآية (ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) [سورة النحل : ٥٣] كما سيأتي.

فقوله تعالى : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) عطف قصّة على قصّة وهو مرتبط بجملة (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [سورة النحل : ٣٦].

__________________

(١) يزدان بتحتية مفتوحة وزاي ساكنة. وأهرمن بهمزة مفتوحة وهاء ساكنة وراء وميم مضمومتين ونون ساكنة.

١٣٨

ومعنى (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ) أنه دعا الناس ونصب الأدلّة على بطلان اعتقاده. وهذا كقوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) [سورة الفتح : ١٥] وقوله : (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) [سورة الفتح : ١٥].

وصيغة التّثنية من قوله : (إِلهَيْنِ) أكدت بلفظ (اثْنَيْنِ) للدّلالة على أن الاثنينية مقصودة بالنّهي إبطالا لشرك مخصوص من إشراك المشركين ، وأن لا اكتفاء بالنّهي عن تعدّد الإله بل المقصود النّهي عن التّعدد الخاص وهو قول المجوس بإلهين. ووقع في «الكشاف» توجيه ذكر (اثْنَيْنِ) بأنه لدفع احتمال إرادة الجنس حقيقة لا مجازا.

وإذ نهوا عن اتخاذ إلهين فقد دلّ بدلالة الاقتضاء على إبطال اتخاذ آلهة كثيرة.

وجملة (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) يجوز أن تكون بيانا لجملة (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) ، فالجملة مقولة لفعل (وَقالَ اللهُ) لأن عطف البيان تابع للمبيّن كموقع الجملة الثانية في قول الشاعر(١) :

أقول له ارحل لا تقيمنّ عندنا

فلذلك فصلت ، وبذلك أفيد بالمنطوق ما أفيد قبل بدلالة الاقتضاء.

والضمير من قوله تعالى : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) عائد إلى اسم الجلالة في قوله : (وَقالَ اللهُ) ، أي قال الله إنما الله إله واحد ، وهذا جري على أحد وجهين في حكاية القول وما في معناه بالمعنى كما هنا ، وقوله تعالى حكاية عن عيسى ـ عليه‌السلام ـ (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُم) [سورة المائدة : ١١٧] ف (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) مفسر «أمرتني» ، وفعل «أمرتني» فيه معنى القول ، والله قال له : قل لهم اعبدوا الله ربك وربهم ، فحكاه بالمعنى ، فقال : ربّي.

والقصر في قوله : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) قصر موصوف على صفة ، أي الله مختصّ بصفة توحّد الإلهية ، وهو قصر قلب لإبطال دعوى تثنية الإله.

ويجوز أن تكون جملة (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) معترضة واقعة تعليلا لجملة (لا تَتَّخِذُوا

__________________

(١) هذا البيت من شواهد النحو وعلم المعاني وتمام البيت :

ولا فكن في السر والجهر مسلما

ولا يعرف قائله.

١٣٩

إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) أي نهى الله عن اتخاذ إلهين لأن الله واحد ، أي والله هو مسمّى إله فاتّخاذ إلهين اثنين قلب لحقيقة الإلهية.

وحصر صفة الوحدانية في علم الجلالة بالنّظر إلى أن مسمّى ذلك العلم مساو لمسمّى إله ، إذ الإله منحصر في مسمّى ذلك العلم.

وتفريع (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) يجوز أن يكون تفريعا على جملة (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) فيكون (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) من مقول القول ، ويكون في ضمير المتكلم من قوله : (فَارْهَبُونِ) التفات من الغيبة إلى الخطاب.

ويجوز أن يكون تفريعا على فعل (وَقالَ اللهُ) فلا يكون من مقول القول ، أي قال الله لا تتخذوا إلهين فلا ترهبوا غيري. وليس في الكلام التفات على هذا الوجه.

وتفرّع على ذلك قوله تعالى : (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) بصيغة القصر ، أي قصر قلب إضافيا ، أي قصر الرهبة التامة منه عليه فلا اعتداد بقدرة غيره على ضرّ أحد. وهو ردّ على الذين يرهبون إله الشرّ فالمقصود هو المرهوب.

والاقتصار على الأمر بالرّهبة وقصرها على كونها من الله يفهم منه الأمر بقصر الرغبة عليه لدلالة قصر الرهبة على اعتقاد قصر القدرة التامة عليه تعالى فيفيد الردّ على الذين يطمعون في إله الخير بطريق الأولى ، وإنما اقتصر على الرّهبة لأن شأن المزدكية أن تكون عبادتهم عن خوف إله الشرّ لأن إله الخير هم في أمن منه فإنه مطبوع على الخير.

ووقع في ضمير (فَإِيَّايَ) التفات من الغيبة إلى التكلم لمناسبة انتقال الكلام من تقرير دليل وحدانية الله على وجه كلّي إلى تعيين هذا الواحد أنه الله منزل القرآن تحقيقا لتقرير العقيدة الأصلية. وفي هذا الالتفات اهتمام بالرّهبة لما في الالتفات من هزّ فهم المخاطبين. وتقدّم تركيب نظيره بدون التفات في سورة البقرة.

واقتران فعل (فَارْهَبُونِ) بالفاء ليكون تفريعا على تفريع فيفيد مفاد التأكيد لأن تعلّق فعل «ارهبون» بالمفعول لفظا يجعل الضمير المنفصل المذكور قبله في تقدير معمول لفعل آخر ، فيكون التقدير : فإياي ارهبوا فارهبون ، أي أمرتكم بأن تقصروا رهبتكم عليّ فارهبون امتثالا للأمر.

(وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢))

١٤٠