تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

عن مستحقّه ولو غاب وتأخّر ، وإن كان نظام حوادث الدنيا قد يعطّل ظهور الحقّ في نصابه وتخلّفه عن أربابه.

فعلم أنّ وراء هذا النّظام نظاما مدّخرا يتّصل فيه الحقّ بكل مستحقّ إن خيرا وإن شرا ، فلا يحسبنّ من فات من الذين ظلموا قبل حلول العذاب بهم مفلتا من الجزاء فإن الله قد أعدّ عالما آخر يعطي فيه الأمور مستحقّيها.

فلذلك أعقب الله و (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) بآية (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) ، أي أن ساعة إنفاذ الحقّ آتية لا محالة فلا يريبك ما تراه من سلامة مكذّبيك وإمهالهم كما قال تعالى : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) [سورة يونس : ٤١]. والمقصود من هذا تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما لقيه من أذى المشركين وتكذيبهم واستمرارهم على ذلك إلى أمد معلوم.

وقد كانت هذه الجملة في مقتضى الظاهر حريّة بالفصل وعدم العطف لأن حقّها الاستئناف ولكنها عطفت لإبرازها في صورة الكلام المستقلّ اهتماما بمضمونها ، ولأنها تسلية للرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ على ما يلقاه من قومه ، وليصحّ تفريع أمره بالصّفح عنهم في الدنيا لأن جزاءهم موكول إلى الوقت المقدر.

وفي إمهال الله تعالى المشركين ثم في إنجائهم من عذاب الاستئصال حكمة تحقّق بها مراد الله من بقاء هذا الدّين وانتشاره في العالم بتبليغ العرب إيّاه وحمله إلى الأمم.

والمرد بالساعة ساعة البعث وذلك الذي افتتحت به السورة. وذلك انتقال من تهديدهم ووعيدهم بعذاب الدنيا إلى تهديدهم بعذاب الآخرة. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) في سورة الأحقاف [٣].

وتفريع (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) على قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) باعتبار المعنى الكنائي له ، وهو أن الجزاء على أعمالهم موكول إلى الله تعالى فلذلك أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عن أذاهم وسوء تلقّيهم للدّعوة.

و (الصَّفْحَ) : العفو. وقد تقدم في قوله تعالى : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) في سورة العقود [١٣]. وهو مستعمل هنا في لازمه وهو عدم الحزن والغضب من صنيع أعداء الدّين وحذف متعلق الصّفح لظهوره ، أي عمن كذّبك وآذاك.

٦١

و (الْجَمِيلَ) : الحسن. والمراد الصفح الكامل.

ثمّ إن في هذه الآية ضربا من ردّ العجز على الصدر ، إذ كان قد وقع الاستدلال على المكذبين بالبعث بخلق السماوات والأرض عند قوله : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) [سورة الحجر : ١٤ ـ ١٦] الآيات. وختمت بآية : (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) إلى قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) [سورة الحجر : ٢٣ ـ ٢٥].

وانتقل هنا لك إلى التذكير بخلق آدم ـ عليه‌السلام ـ وما فيه من العبر. ثم إلى سوق قصص الأمم الّتي عقبت عصور الخلقة الأولى فآن الأوان للعود إلى حيث افترق طريق النظم حيث ذكر خلق السماوات ودلالته على البعث بقوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) الآيات ، فجاءت على وزان قوله تعالى : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) [سورة الحجر : ١٦] الآيات. فإن ذلك خلق بديع.

وزيد هنا أن ذلك خلق بالحقّ.

وكان قوله تعالى : (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) فذلكة لقوله تعالى : (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) ـ إلى ـ : (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) [سورة الحجر : ٢٥] ، فعاد سياق الكلام إلى حيث فارق مهيعه. ولذلك تخلص إلى ذكر القرآن بقوله : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) [سورة الحجر : ٨٧] الناظر إلى قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [سورة الحجر : ٩].

وجملة (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ) الخالق العليم في موقع التعليل للأمر بالصّفح عنهم ، أي لأن في الصّفح عنهم مصلحة لك ولهم يعلمها ربك ، فمصلحة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصّفح هي كمال أخلاقه ، ومصلحتهم في الصّفح رجاء إيمانهم ، فالله الخلّاق لكم ولهم ولنفسك وأنفسهم ، العليم بما يأتيه كل منكم ، وهذا كقوله تعالى : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) [سورة فاطر : ٨].

ومناسبة لقوله تعالى : (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) ظاهرة.

وفي وصفه ب الخالق العليم إيماء إلى بشارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله يخلق من أولئك من يعلم أنّهم يكونون أولياء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم الذين آمنوا بعد نزول هذه الآية والّذين

٦٢

ولدوا ، كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده».

وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب وكان في أيام الجاهلية من المؤذين للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم :

دعاني داع غير نفسي وردّني

إلى الله من أطردته كل مطرد

يعني بالداعي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وتلك هي نكتة ذكر وصف (الْخالِقُ) دون غيره من الأسماء الحسنى.

والعدول إلى (إِنَّ رَبَّكَ) دون (إنّ الله) للإشارة إلى أن الّذي هو ربّه ومدبّر أمره لا يأمره إلا بما فيه صلاحه ولا يقدر إلّا ما فيه خيره.

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧))

اعتراض بين جملة (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [سورة الحجر : ٨٥] وجملة (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً) الآية.

أتبع التسلية والوعد بالمنّة ليذكر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنّعمة العظيمة فيطمئن بأنه كما أحسن إليه بالنّعم الحاصلة فهو منجزه الوعود الصادقة.

وفي هذا الامتنان تعريض بالردّ على المكذبين. وهو ناظر إلى قوله : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) إلى قوله تعالى : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [سورة الحجر:٩].

فالجملة عطف على الجمل السابقة عطف الغرض على الغرض والقصّة على القصّة. وهذا افتتاح غرض من التنويه بالقرآن والتحقير لعيش المشركين.

وإيتاء القرآن : أي إعطاؤه ، وهو تنزيله عليه والوحي به إليه.

وأوثر فعل (آتَيْناكَ) دون (أوحينا) أو (أنزلنا) لأن الإعطاء أظهر في الإكرام والمنّة.

وجعل (الْقُرْآنَ) معطوفا على (سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) يشعر بأن السبع المثاني من القرآن. وذلك ما درج عليه جمهور المفسّرين ودلّ عليه الحديث الآتي.

وقد وصف القرآن في سورة الزمر [٢٣] بالمثاني في قوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) ، فتعين أن السبع هي أشياء تجري تسميتها على التأنيث لأنّها

٦٣

أجري عليها اسم عدد المؤنّث. ويتعيّن أن المراد آيات أو سور من القرآن ، وأن (مِنَ) تبعيضية. وذلك أيضا شأن (مِنَ) إذا وقعت بعد اسم عدد. وأن المراد أجزاء من القرآن آيات أو سور لها مزية اقتضت تخصيصها بالذكر من بين سائر القرآن ، وأنّ المثاني أسماء القرآن كما دلّت عليه آية الزّمر ، وكما اقتضته (مِنَ) التبعيضية ، ولكون المثاني غير السبع مغايرة بالكليّة والجزئية تصحيحا للعطف.

و (الْمَثانِي) يجوز أن يكون جمع مثنّى ـ بضم الميم وتشديد النّون ـ اسم مفعول مشتقا من ثنّى إذا كرّر تكريرة. قيل (الْمَثانِي) جمع مثناة ـ بفتح الميم وسكون الثاء المثلّثة وبهاء تأنيث في آخره ـ. فهو مشتق من اسم الاثنين.

والأصح أن السبع المثاني هي سورة فاتحة الكتاب لأنّها يثنى بها ، أي تعاد في كلّ ركعة من الصلاة فاشتقاقها من اسم الاثنين المراد به مطلق التكرير ، فيكون استعماله هذا مجازا مرسلا بعلاقة الإطلاق ، أو كناية لأن التّكرير لازم كما استعملت صيغة التثنية فيه في قوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [سورة الملك : ٤] أي كرّات وفي قولهم : لبّيك وسعديك ودواليك.

أو هو جمع مثناة مصدرا ميميا على وزن المفعلة أطلق المصدر على المفعول.

ثم إن كان المراد بالسبع سبع آيات فالمؤتى هو سورة الفاتحة لأنها سبع آيات وهذا الذي ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث أبي سعيد بن المعلى وأبيّ بن كعب وأبي هريرة في الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أن أمّ القرآن هي السبع المثاني» فهو الأولى بالاعتماد عليه.

وقد تقدم ذلك في ذكر أسماء الفاتحة. ومعنى التكرير في الفاتحة أنّها تكرّر في الصّلاة.

وعن ابن عبّاس : أن السبع المثاني هي السور السبع الطوال : أولاها البقرة وآخرها براءة. وقيل : السور الّتي فوق ذوات المئين.

وعطف (الْقُرْآنَ) على السبع من عطف الكل على الجزء لقصد التعميم ليعلم أن إيتاء القرآن كلّه نعمة عظيمة. وفي حديث أبي سعيد بن المعلّى قال : قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والقرآن العظيم الّذي أوتيته» على تأويله بأن كلمة «القرآن» مرفوعة بالابتداء «والّذي أوتيته» خبره.

٦٤

وأجري وصف (الْعَظِيمَ) على القرآن تنويها به.

وإن كان المراد بالسبع سورا كما هو مروي من قول ابن عباس وكثير من الصّحابة والسّلف واختلفوا في تعيينها بما لا ينثلج له الصدر ، فيكون إبهامها مقصودا لصرف الناس للعناية بجميع ما نزل من سور القرآن كما أبهمت ليلة القدر.

[٨٨ ، ٨٩] (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩))

استئناف بياني لما يثيره المقصود من قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) [سورة الحجر : ٨٥] ، ومن تساؤل يجيش في النّفس عن الإملاء للمكذّبين في النّعمة والتّرف مع ما رمقوا به من الغضب والوعيد فكانت جملة (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) بيانا لما يختلج في نفس السامع من ذلك ، ولكونها بهذه المثابة فصلت عن الّتي قبلها فصل البيان عن المبيّن.

ولو لا أن الجملة الّتي وقعت قبلها كانت بمنزلة التمهيد لها والإجمال لمضمونها لعطفت هذه الجملة لأنها تكون حينئذ مجرد نهي لا اتّصال له بما قبله ، كما عطفت نظيرتها في قوله تعالى في سورة طه [١٢٩ ـ ١٣١] : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا). فلما فصلت الجملة هنا فهم أن الجملة الّتي قبلها مقصودة التمهيد بهذه الجملة ولو عطفت هذه لما فهم هذا المعنى البديع من النظم.

والمدّ : أصله الزيادة. وأطلق على بسط الجسم وتطويله. يقال : مدّ يده إلى كذا ، ومدّ رجله في الأرض. ثم استعير للزيادة من شيء. ومنه مدد الجيش ، ومدّ البحر ، والمد في العمر. وتلك إطلاقات شائعة صارت حقيقة. واستعير المدّ هنا إلى التّحديق بالنظر والطموح به تشبيها له بمدّ اليد للمتناول ، لأن المنهي عنه نظر الإعجاب مما هم فيه من حسن الحال في رفاهية عيشهم مع كفرهم ، أي فإن ما أوتيته أعظم من ذلك فلو كانوا بمحل العناية لاتّبعوا ما آتيناك ولكنّهم رضوا بالمتاع العاجل فليسوا ممن يعجب حالهم.

والأزواج هنا يحتمل أن يكون على معناه المشهور ، أي الكفّار ونسائهم. ووجه تخصيصهم بالذكر أن حالتهم أتم أحوال التمتّع لاستكمالها جميع اللّذات والأنس.

٦٥

ويحتمل أن يراد به المجاز عن الأصناف وهو استعمال أثبته الراغب. فوجه ذكره في الآية أن التمتّع الّذي تمتدّ إلى مثله العين ليس ثابتا لجميع الكفّار بل هو شأن كبرائهم ، أي فإن فيهم من هم في حال خصاصة فاعتبر بهم كيف جمع لهم الكفر وشظف العيش.

والنّهي عن الحزن عليهم شامل لكلّ حال من أحوالهم من شأنها أن تحزن الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وتؤسفه. فمن ذلك كفرهم كما قال تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [سورة الكهف : ٦]. ومنه حلول العذاب بهم مثل ما حلّ بهم يوم بدر فإنهم سادة أهل مكة ، فلعلّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتحسّر على إصرارهم حتى حلّ بهم ما حلّ من العذاب. ففي هذا النهي كناية عن قلّة الاكتراث بهم وعن توعدهم بأن سيحلّ بهم ما يثير الحزن لهم ، وكناية عن رحمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنّاس.

ولما كان هذا النّهي يتضمن شدّة قلب وغلظة لا جرم اعترضه بالأمر بالرفق للمؤمنين بقوله (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ). وهو اعتراض مراد منه الاحتراس. وهذا كقوله : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [سورة الفتح : ٢٩].

وخفض الجناح تمثيل للرفق والتواضع بحال الطائر إذا أراد أن ينحطّ للوقوع حفض جناحه يريد الدنوّ ، وكذلك يصنع إذا لاعب أنثاه فهو راكن إلى المسالمة والرفق ، أو الذي يتهيأ لحضن فراخه. وفي ضمن هذه التمثيلية استعارة مكنية ، والجناح تخييل. وقد بسطناه في سورة الإسراء في قوله : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) [سورة الإسراء : ٢٤] وقد شاعت هذه التمثيلية حتى صارت كالمثل في التواضع واللّين في المعاملة. وضد ذلك رفع الجناح تمثيل للجفاء والشدّة.

ومن شعر العلامة الزمخشري يخاطب من كان متواضعا فظهر منه تكبّر (ذكره في سورة الشعراء) :

وأنت الشّهير بخفض الجناح

فلا تك في رفعه أجدلا

وفي هذه الآية تمهيد لما يجيء بعدها من قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [سورة الحجر : ٩٤].

وجملة (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) عطف على جملة (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ). فالمقول لهم هذا القول هم المتحدّث عنهم بالضّمائر السابقة في قوله تعالى : (مِنْهُمْ) وقوله : (عَلَيْهِمْ). فالتقدير : وقل لهم لأن هذا القول مراد منه المتاركة ، أي ما عليّ إلّا

٦٦

إنذاركم ، والقرينة هي ذكر النذارة دون البشارة لأن النذارة تناسب المكذبين إذ النذارة هي الإعلام بحدث فيه ضرّ.

والنّذير : فعيل بمعنى مفعل مثل الحكيم بمعنى المحكم ، وضرب وجيع ، أي موجع.

والقصر المستفاد من ضمير الفصل ومن تعريف الجزءين قصر قلب ، أي لست كما تحسبون أنكم تغيظونني بعدم إيمانكم فإنّي نذير مبين غير متقايض معكم لتحصيل إيمانكم.

و (الْمُبِينُ) : الموضح المصرح.

[٩٠ ، ٩١] (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١))

التشبيه الذي أفاده الكاف تشبيه بالذي أنزل على المقتسمين.

و (ما) موصولة أو مصدرية ، وهي المشبه به.

وأما المشبه فيجوز أن يكون الإيتاء المأخوذ من فعل (آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) [سورة الحجر : ٨٧] ، أي إيتاء كالذي أنزلنا أو كإنزالنا على المقتسمين. شبّه إيتاء بعض القرآن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أنزل عليه في شأن المقتسمين ، أي أنزلناه على رسل المقتسمين بحسب التفسيرين الآتيين في معنى (الْمُقْتَسِمِينَ).

ويجوز أن يكون المشبّه الإنذار المأخوذ من قوله تعالى : (إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) [سورة الحجر : ٨٩] ، أي الإنذار بالعقاب من قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة الحجر : ٩٢ ـ ٩٣].

وأسلوب الكلام على هذين الوجهين أسلوب تخلّص من تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى وعيد المشركين الطاعنين في القرآن بأنهم سيحاسبون على مطاعنهم.

وهو إما وعيد صريح إن أريد بالمقتسمين نفس المراد من الضميرين في قوله تعالى : (أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) [سورة الحجر : ٨٨].

وحرف على هنا بمعنى لام التّعليل كما في قوله تعالى : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) [سورة البقرة : ١٨٥] وقوله : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) [سورة المائدة : ٤] ، وقول علقمة بن شيبان من بني تيم الله بن ثعلبة :

ونطاعن الأعداء عن أبنائنا

وعلى بصائرنا وإن لم نبصر

٦٧

ولفظ (الْمُقْتَسِمِينَ) افتعال من قسم إذا جعل شيئا أقساما. وصيغة الافتعال هنا تقتضي تكلف الفعل.

والمقتسمون يجوز أن يراد بهم جمع من المشركين من قريش وهم ستّة عشر رجلا ، سنذكر أسماءهم ، فيكون المراد بالقرآن مسمى هذا الاسم العلم ، وهو كتاب الإسلام.

ويجوز أن يراد بهم طوائف أهل الكتاب قسّموا كتابهم أقساما ، منها ما أظهروه ومنها ما أنسوه ، فيكون القرآن مصدرا أطلق بمعناه اللغوي ، أي المقروء من كتبهم ؛ أو قسّموا كتاب الإسلام ، منه ما صدّقوا به وهو ما وافق دينهم ، ومنه ما كذّبوا به وهو ما خالف ما هم عليه.

وقد أجمل المراد بالمقتسمين إجمالا بيّنه وصفهم بالصلة في قوله تعالى : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) ؛ فلا يحتمل أن يكون المقتسمون غير الفريقين المذكورين آنفا.

ومعنى التقسيم والتجزئة هنا تفرقة الصّفات والأحوال لا تجزئة الذّات.

و (الْقُرْآنَ) هنا يجوز أن يكون المراد به الاسم المجعول علما لكتاب الإسلام. ويجوز أن يكون المراد به الكتاب المقروء فيصدق بالتوراة والإنجيل.

و (عِضِينَ) جمع عضة ، والعضة : الجزء والقطعة من الشيء. وأصلها عضو فحذفت الواو التي هي لام الكلمة وعوض عنها الهاء مثل الهاء في سنة وشفة. وحذف اللّام قصد منه تخفيف الكلمة لأن الواو في آخر الكلمة تثقل عند الوقف عليها ، فعوضوا عنها حرفا لئلا تبقى الكلمة على حرفين ، وجعلوا العوض هاء لأنّها أسعد الحروف بحالة الوقف. وجمع (عضة) على صيغة جمع المذكر السّالم على وجه شاذ.

وعلى الوجهين المتقدّمين في المراد من القرآن في هذه الآية فالمقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين هم أهل الكتاب اليهود والنصارى فهم جحدوا بعض ما أنزل إليهم من القرآن ، أطلق على كتابهم القرآن لأنه كتاب مقروء ، فأظهروا بعضا وكتموا بعضا ، قال الله تعالى : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) [سورة الأنعام : ٩١] فكانوا فيما كتموه شبيهين بالمشركين فيما رفضوه من القرآن المنزّل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم أيضا جعلوا القرآن المنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عضين فصدّقوا بعضه وهو ما وافق أحوالهم ، وكذبوا بعضه المخالف لأهوائهم مثل نسخ شريعتهم وإبطال بنوّة عيسى لله تعالى ، فكانوا إذا سألهم المشركون : هل القرآن صدق؟ قالوا : بعضه صدق وبعضه كذب ، فأشبه اختلافهم اختلاف

٦٨

المشركين في وصف القرآن بأوصاف مختلفة ، كقولهم : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [سورة الأنعام : ٢٥] ، و «قول كاهن» ، و «قول شاعر».

وروي عن قتادة أن المقتسمين نفر من مشركي قريش جمعهم الوليد بن المغيرة لما جاء وقت الحجّ فقال : إن وفود العرب ستقدم عليكم وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا ، فانتدب لذلك ستة عشر رجلا فتقاسموا مداخل مكة وطرقها لينفّروا الناس عن الإسلام ، فبعضهم يقول : لا تغترّوا بهذا القرآن فهو سحر ، وبعضهم يقول : هو شعر ، وبعضهم يقول : كلام مجنون ، وبعضهم يقول : قول كاهن ، وبعضهم يقول : هو أساطير الأولين اكتتبها ، فقد قسموا القرآن أنواعا باعتبار اختلاف أوصافه.

وهؤلاء النّفر هم : حنظلة بن أبي سفيان ، وعتبة بن ربيعة ، وأخوه شيبة ، والوليد بن المغيرة ، وأبو جهل بن هشام ، وأخوه العاص ، وأبو قيس بن الوليد ، وقيس بن الفاكه ، وزهير بن أميّة ، وهلال بن عبد الأسود ، والسائب بن صيفي ، والنضر بن الحارث ، وأبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الحجّاج ، وأميّة بن خلف ، وأوس بن المغيرة.

واعلم أن معنى المقتسمين على الوجه المختار المقتسمون القرآن. وهذا هو معنى (جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) ، فكان ثاني الوصفين بيانا لأولهما وإنّما اختلفت العبارتان للتفنّن.

وأن ذمّ المشبّه بهم يقتضي ذمّ المشبهين فعلم أن المشبهين قد تلقوا القرآن العظيم بالردّ والتكذيب.

[٩٢ ، ٩٣] (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣))

الفاء للتفريع ، وهذا تفريع على ما سبق من قوله تعالى : (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [سورة الحجر : ٨٥].

والواو للقسم ، فالمفرع هو القسم وجوابه. والمقصود بالقسم تأكيد الخبر. وليس الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ممن يشكّ في صدق هذا الوعيد ؛ ولكن التأكيد متسلّط على ما في الخبر من تهديد معاد ضمير النصب في (لَنَسْئَلَنَّهُمْ).

ووصف الربّ مضافا إلى ضمير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيماء إلى أن في السؤال المقسم عليه حظّا من التنويه به ، وهو سؤال الله المكذّبين عن تكذيبهم إياه سؤال ربّ يغضب لرسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

٦٩

والسؤال مستعمل في لازم معناه وهو عقاب المسئول كقوله تعالى : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [سورة التكاثر : ٨] فهو وعيد للفريقين.

[٩٤ ـ ٩٦] (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦))

تفريع على جملة (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) [سورة الحجر : ٨٧] بصريحه وكنايته عن التسلية على ما يلاقيه من تكذيب قومه.

نزلت هذه الآية في السنة الرابعة أو الخامسة من البعثة ورسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ مختف في دار الأرقم بن أبي الأرقم. روي عن عبد الله بن مسعود قال : ما زال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستخفيا حتى نزلت : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) فخرج هو وأصحابه. يعني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت سورة المدثّر كان يدعو النّاس خفية وكان من أسلم من النّاس إذا أراد الصّلاة يذهب إلى بعض الشّعاب يستخفي بصلاته من المشركين ، فلحقهم المشركون يستهزءون بهم ويعيبون صلاتهم ، فحدث تضارب بينهم وبين سعد بن أبي وقاص أدمى فيه سعد رجلا من المشركين. فبعد تلك الوقعة دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه دار الأرقم عند الصّفا فكانوا يقيمون الصّلاة بها واستمروا كذلك ثلاث سنين أو تزيد ، فنزل قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) الآية. وبنزولها ترك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاختفاء بدار الأرقم وأعلن بالدّعوة للإسلام جهرا.

والصدع : الجهر والإعلان. وأصله الانشقاق. ومنه انصداع الإناء ، أي انشقاقه. فاستعمل الصدع في لازم الانشقاق وهو ظهور الأمر المحجوب وراء الشيء المنصدع ؛ فالمراد هنا الجهر والإعلان.

وما صدق «ما تؤمر» هو الدّعوة إلى الإسلام.

وقصد شمول الأمر كلّ ما أمر الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بتبليغه هو نكتة حذف متعلّق (تُؤْمَرُ) ، فلم يصرح بنحو بتبليغه أو بالأمر به أو بالدّعوة إليه. وهو إيجاز بديع.

والإعراض عن المشركين الإعراض عن بعض أحوالهم لا عن ذواتهم. وذلك إبايتهم الجهر بدعوة الإسلام بين ظهرانيهم ، وعن استهزائهم ، وعن تصدّيهم إلى أذى المسلمين.

٧٠

وليس المراد الإعراض عن دعوتهم لأن قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) مانع من ذلك ، وكذلك جملة (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ).

وجملة (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) تعليل للأمر بالإعلان بما أمر به ، فإن اختفاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بدار الأرقم كان بأمر من الله تعالى لحكمة علمها الله أهمّها تعدّد الداخلين في الإسلام في تلك المدّة بحيث يغتاظ المشركون من وفرة الداخلين في الدّين مع أن دعوته مخفية ، ثم إن الله أمر رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ بإعلان دعوته لحكمة أعلى تهيّأ اعتبارها في علمه تعالى.

والتّعبير عنهم بوصف (الْمُسْتَهْزِئِينَ) إيماء إلى أنّه كفاه استهزاءهم وهو أقلّ أنواع الأذى ، فكفايته ما هو أشدّ من الاستهزاء من الأذى مفهوم بطريق الأحرى.

وتأكيد الخبر ب (إنّ) لتحقيقه اهتماما بشأنه لا للشكّ في تحقّقه.

والتّعريف في (الْمُسْتَهْزِئِينَ) للجنس فيفيد العموم ، أي كفيناك كل مستهزئ. وفي التّعبير عنهم بهذا الوصف إيماء إلى أن قصارى ما يؤذونه به الاستهزاء ، كقوله تعالى : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) [سورة آل عمران : ١١١] ، فقد صرفهم الله عن أن يؤذوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير الاستهزاء. وذلك لطف من الله برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومعنى الكفاية تولّي الكافي مهم المكفي ، فالكافي هو متولي عمل عن غيره لأنه أقدر عليه أو لأنه يبتغي راحة المكفي. يقال : كفيت مهمك ، فيتعدّى الفعل إلى مفعولين ثانيهما هو المهم المكفي منه. فالأصل أن يكون مصدرا فإذا كان اسم ذات فالمراد أحواله التي يدلّ عليها المقام ، فإذا قلت : كفيتك عدوّك ، فالمراد : كفيتك بأسه ، وإذا قلت : كفيتك غريمك ، فالمراد : كفيتك مطالبته. فلما قال هنا (كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) فهم أن المراد كفيناك الانتقام منهم وإراحتك من استهزائهم. وكانوا يستهزءون بصنوف من الاستهزاء كما تقدم.

ويأتي في آيات كثيرة من استهزائهم استهزاؤهم بأسماء سور القرآن مثل سورة العنكبوت وسورة البقرة ، كما في «الإتقان» في ذكر أسماء السور.

وعد من كبرائهم خمسة هم : الوليد بن المغيرة ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطّلب ، والحارث بن عيطلة (ويقال ابن عيطل وهو اسم أمّه دعي لها واسم أبيه قيس. وفي «الكشاف» و «القرطبي» أنه ابن الطلاطلة ، ومثله في «القاموس» ، وهي بضم الطاء

٧١

الأولى وكسر الطاء الثّانية) والعاصي بن وائل ، هلكوا بمكّة متتابعين ، وكان هلاكهم العجيب المحكي في كتب السيرة صارفا أتباعهم عن الاستهزاء لانفراط عقدهم.

وقد يكون من أسباب كفايتهم زيادة الداخلين في الإسلام بحيث صار بأس المسلمين مخشيّا ؛ وقد أسلم حمزة بن عبد المطلب رضي‌الله‌عنه فاعتزّ به المسلمون ، ولم يبق من أذى المشركين إياهم إلّا الاستهزاء ، ثم أسلم عمر بن الخطاب ـ رضي‌الله‌عنه ـ فخشيه سفهاء المشركين ، وكان إسلامه في حدود سنة خمس من البعثة.

ووصفهم ب (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) للتشويه بحالهم ، ولتسلية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنهم ما اقتصروا على الافتراء عليه فقد افتروا على الله.

وصيغة المضارع في قوله تعالى : (يَجْعَلُونَ) للإشارة إلى أنهم مستمرون على ذلك مجدّدون له.

وفرع على الأمرين الوعيد بقوله تعالى : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ). وحذف مفعول (يَعْلَمُونَ) لدلالة المقام عليه ، أي فسوف يعلمون جزاء بهتانهم.

[٩٧ ـ ٩٩] (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩))

لما كان الوعيد مؤذنا بإمهالهم قليلا كما قال تعالى : (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) [سورة المزمل : ١١] كما دلّ عليه حرف التنفيس في قوله تعالى : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [سورة الحجر : ٩٦] طمأن الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه مطّلع على تحرّجه من أذاهم وبهتانهم من أقوال الشرك وأقوال الاستهزاء فأمره بالثبات والتفويض إلى ربّه لأن الحكمة في إمهالهم ، ولذلك افتتحت الجملة بلام القسم وحرف التحقيق.

وليس المخاطب ممن يداخله الشكّ في خبر الله تعالى ولكن التحقيق كناية عن الاهتمام بالمخبر وأنه بمحل العناية من الله ؛ فالجملة معطوفة على جملة (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [سورة الحجر : ٩٥] أو حال.

وضيق الصدر : مجاز عن كدر النفس. وقد تقدّم في قوله تعالى : (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) في سورة هود [١٢].

وفرع على جملة (وَلَقَدْ نَعْلَمُ) أمره بتسبيح الله تعالى وتنزيهه عمّا يقولونه من نسبة

٧٢

الشريك ، أي عليك بتنزيه ربّك فلا يضرّك شركهم. على أن التسبيح قد يستعمل في معناه الكنائي مع معناه الأصلي فيفيد الإنكار على المشركين فيما يقولون ، أي فاقتصر في دفعهم على إنكار كلامهم. وهذا مثل قوله تعالى : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [سورة الإسراء : ٩٣].

والباء في (بِحَمْدِ رَبِّكَ) للمصاحبة. والتقدير : فسبح ربّك بحمده ؛ فحذف من الأول لدلالة الثاني. وتسبيح الله تنزيهه بقول : سبحان الله.

والأمر في (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ) مستعملان في طلب الدّوام.

و (مِنَ السَّاجِدِينَ) أبلغ في الاتّصاف بالسجود من (ساجدا) كما تقدم في قوله تعالى : (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) في سورة براءة [١١٩] ، وقوله (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) في سورة البقرة [٦٧] ونظائرهما.

والساجدون : هم المصلّون. فالمعنى : ودم على الصلاة أنت ومن معك.

وليس هذا موضع سجدة من سجود التلاوة عند أحد من فقهاء المسلمين. وفي «تفسير القرطبي» عن أبي بكر النقاش أن أبا حذيفة (لعلّه يعني به أبا حذيفة اليمان بن المغيرة البصري من أصحاب عكرمة وكان منكر الحديث) واليمان بن رئاب (كذا) رأياها سجدة تلاوة واجبة.

قال ابن العربي : شاهدت الإمام بمحراب زكرياء من البيت المقدس سجد في هذا الموضع حين قراءته في تراويح رمضان وسجدت معه فيها. وسجود الإمام عجيب وسجود أبي بكر بن العربي معه أعجب للإجماع ؛ على أنه لا سجدة هنا ، فالسجود فيها يعدّ زيادة وهي بدعة لا محالة.

و (الْيَقِينُ) : المقطوع به الذي لا شكّ فيه وهو النصر الذي وعده الله به.

٧٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

١٦ ـ سورة النحل

سمّيت هذه السورة عند السّلف سورة النحل ، وهو اسمها المشهور في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنّة.

ووجه تسميتها بذلك أن لفظ النحل لم يذكر في سورة أخرى.

وعن قتادة أنّها تسمّى سورة النعم ـ أي بكسر النّون وفتح العين ـ. قال ابن عطيّة : لما عدّد الله فيها من النّعم على عباده.

وهي مكية في قول الجمهور وهو عن ابن عباس وابن الزّبير. وقيل : إلّا ثلاث آيات نزلت بالمدينة منصرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة أحد ، وهي قوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) [سورة النحل : ١٢٦] إلى آخر السورة. قيل : نزلت في نسخ عزم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن يمثل بسبعين من المشركين إن أظفره الله بهم مكافأة على تمثيلهم بحمزة.

وعن قتادة وجابر بن زيد أن أولها مكي إلى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) [سورة النحل : ٤١] فهو مدني إلى آخر السورة.

وسيأتي في تفسير قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ) [سورة النحل : ٧٩] ما يرجّح أن بعض السورة مكّي وبعضها مدني ، وبعضها نزل بعد الهجرة إلى الحبشة كما يدل عليه قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) [سورة النحل : ١١٠] ، وبعضها متأخر النزول عن سورة الأنعام لقوله في هذه (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) [سورة النحل : ١١٨] ، يعني بما قصّ من قبل قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) [سورة الأنعام : ١٤٦]

٧٤

الآيات.

وذكر القرطبي أنه روي عن عثمان بن مظعون : لمّا نزلت هذه الآية قرأتها على أبي طالب فتعجّب وقال : يا آل غالب اتبعوا ابن أخي تفلحوا فو الله إن الله أرسله ليأمركم بمكارم الأخلاق.

وروى أحمد عن ابن عباس أن عثمان بن مظعون لما نزلت هذه الآية كان جالسا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يسلم قال : فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره الله أن يضعها في موضعها هذا من هذه السورة.

وهذه السورة نزلت بعد سورة الأنبياء وقبل سورة الم السجدة. وقد عدّت الثانية والسبعين في ترتيب نزول السور.

وآيها مائة وثمان وعشرون بلا خلاف. ووقع للخفاجي عن الداني أنها نيف وتسعون. ولعله خطأ أو تحريف أو نقص.

أغراض هذه السورة

معظم ما اشتملت عليه السورة إكثار متنوع الأدلّة على تفرّد الله تعالى بالإلهية ، والأدلة على فساد دين الشرك وإظهار شناعته.

وأدلة إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإنزال القرآن عليه ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

وإن شريعة الإسلام قائمة على صول ملة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ.

وإثبات البعث والجزاء ؛ فابتدئت بالإنذار بأنه قد اقترب حلول ما أنذر به المشركون من عذاب الله الذي يستهزءون به ، وتلا ذلك قرع المشركين وزجرهم على تصلّبهم في شركهم وتكذيبهم.

وانتقل إلى الاستدلال على إبطال عقيدة الشرك ؛ فابتدئ بالتذكير بخلق السماوات والأرض ، وما في السماء من شمس وقمر ونجوم ، وما في الأرض من ناس وحيوان ونبات وبحار وجبال ، وأعراض الليل والنهار.

٧٥

وما في أطوار الإنسان وأحواله من العبر.

وخصّت النحل وثمراتها بالذكر لوفرة منافعها والاعتبار بإلهامها إلى تدبير بيوتها وإفراز شهدها.

والتّنويه القرآن وتنزيهه عن اقتراب الشيطان ، وإبطال افترائهم على القرآن.

والاستدلال على إمكان البعث وأنه تكوين كتكوين الموجودات.

والتّحذير مما حلّ بالأمم التي أشركت بالله وكذبت رسله ـ عليهم‌السلام ـ عذاب الدنيا وما ينتظرهم من عذاب الآخرة. وقابل ذلك بضدّه من نعيم المتّقين المصدقين والصابرين على أذى المشركين والذين هاجروا في الله وظلموا.

والتّحذير من الارتداد عن الإسلام ، والتّرخيص لمن أكره على الكفر في التقية من المكرهين.

والأمر بأصول من الشريعة ؛ من تأصيل العدل ، والإحسان ، والمواساة ، والوفاء بالعهد ، وإبطال الفحشاء والمنكر والبغي ، ونقض العهود ، وما على ذلك من جزاء بالخير في الدنيا والآخرة.

وأدمج في ذلك ما فيها من العبر والدلائل ، والامتنان على الناس بما في ذلك من المنافع الطيبات المنتظمة ، والمحاسن ، وحسن المناظر ، ومعرفة الأوقات ، وعلامات السير في البر والبحر ، ومن ضرب الأمثال.

ومقابلة الأعمال بأضدادها.

والتحذير من الوقوع في حبائل الشيطان.

والإنذار بعواقب كفران النّعمة.

ثم عرّض لهم بالدعوة إلى التوبة (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) [سورة النحل : ١١٩] إلخ ....

وملاك طرائق دعوة الإسلام (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ) [سورة النحل : ١٢٥].

وتثبيت الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ووعده بتأييد الله إياه.

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١))

٧٦

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ).

لمّا كان معظم أغراض هذه السورة زجر المشركين عن الإشراك وتوابعه وإنذارهم بسوء عاقبة ذلك ، وكان قد تكرّر وعيدهم من قبل في آيات كثيرة بيوم يكون الفارق بين الحق والباطل فتزول فيه شوكتهم وتذهب شدّتهم. وكانوا قد استبطئوا ذلك اليوم حتى اطمأنوا أنه غير واقع فصاروا يهزءون بالنبيء ـ عليه الصلاة والسلام ـ والمسلمين فيستعجلون حلول ذلك اليوم.

صدّرت السورة بالوعيد المصوغ في صورة الخبر بأن قد حلّ ذلك المتوعد به. فجيء بالماضي المراد به المستقبل المحقق الوقوع بقرينة تفريع (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) ، لأن النهي عن استعجال حلول ذلك اليوم يقتضي أنه لما يحل بعد.

والأمر : مصدر بمعنى المفعول ، كالوعد بمعنى الموعود ، أي ما أمر الله به. والمراد من الأمر به تقديره وإرادة حصوله في الأجل المسمّى الذي تقتضيه الحكمة.

وفي التعبير عنه بأمر الله إبهام يفيد تهويله وعظمته لإضافته لمن لا يعظم عليه شيء. وقد عبّر عنه تارات بوعد الله ومرّات بأجل الله ونحو ذلك.

والخطاب للمشركين ابتداء لأن استعجال العذاب من خصالهم ، قال تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) [سورة الحج : ٤٧].

ويجوز أن يكون شاملا للمؤمنين لأن عذاب الله وإن كان الكافرون يستعجلون به تهكّما لظنّهم أنه غير آت ، فإن المؤمنين يضمرون في نفوسهم استبطاءه ويحبّون تعجيله للكافرين.

فجملة (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) تفريع على (أَتى أَمْرُ اللهِ) وهي من المقصود بالإنذار.

والاستعجال : طلب تعجيل حصول شيء ، فمفعوله هو الذي يقع التعجيل به. ويتعدّى الفعل إلى أكثر من واحد بالباء فقالوا : استعجل بكذا. وقد مضى في سورة الأنعام [٥٧] قوله تعالى : (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ).

فضمير (تَسْتَعْجِلُوهُ) إما عائد إلى الله تعالى ، أي فلا تستعجلوا الله. وحذف المتعلق ب (تَسْتَعْجِلُوهُ) لدلالة قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) عليه. والتقدير فلا تستعجلوا الله بأمره ، على نحو قوله تعالى : (سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) [سورة الأنبياء : ٣٧].

٧٧

وقيل الضمير عائد إلى (أَمْرُ اللهِ) ، وعليه تكون تعدية فعل الاستعجال إليه على نزع الخافض.

والمراد من النهي هنا دقيق لم يذكروه في موارد صيغ النهي. ويجدر أن يكون للتسوية كما ترد صيغة الأمر للتسوية ، أي لا جدوى في استعجاله لأنه لا يعجّل قبل وقته المؤجّل له.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)

مستأنفة استئنافا ابتدائيا لأنها المقصود من الوعيد ، إذ الوعيد والزّجر إنما كانا لأجل إبطال الإشراك ، فكانت جملة (أَتى أَمْرُ اللهِ) كالمقدمة ، وجملة (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) كالمقصد.

و (ما) في قوله : (عَمَّا يُشْرِكُونَ) مصدرية ، أي عن إشراكهم غيره معه.

وقرأ الجمهور (يُشْرِكُونَ) بالتحتية على طريقة الالتفات ، فعدل عن الخطاب ليختص التبرؤ من شأنهم أن ينزلوا عن شرف الخطاب إلى الغيبة.

وقرأه حمزة والكسائي بالمثناة الفوقية تبعا لقوله : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ).

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢))

كان استعجالهم بالعذاب استهزاء بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتكذيبه ، وكان ناشئا عن عقيدة الإشراك التي من أصولها استحالة إرسال الرسل من البشر.

وأتبع تحقيق مجيء العذاب بتنزيه الله عن الشريك فقفّي ذلك بتبرئة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ من الكذب فيما يبلغه عن ربّه ووصف لهم الإرسال وصفا موجزا. وهذا اعتراض في أثناء الاستدلال على التوحيد.

والمراد بالملائكة الواحد منهم وهو جبرئيل ـ عليه‌السلام ـ.

والروح : الوحي. أطلق عليه اسم الروح على وجه الاستعارة لأن الوحي به هدي العقول إلى الحقّ ، فشبّه الوحي بالروح كما يشبّه العلم الحقّ بالحياة ، وكما يشبّه الجهل بالموت قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [سورة الأنعام : ١٢٢].

٧٨

ووجه تشبيه الوحي بالروح أن الوحي إذا وعته العقول حلّت بها الحياة المعنوية وهو العلم ، كما أن الروح إذا حلّ في الجسم حلّت به الحياة الحسّية ، قال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [سورة الشورى : ٥٢].

ومعنى (مِنْ أَمْرِهِ) الجنس ، أي من أموره ، وهي شئونه ومقدراته التي استأثر بها. وذلك وجه إضافته إلى الله كما هنا وكما في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) ، وقوله تعالى : (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [سورة الرعد : ١١] ، وقوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [سورة الإسراء : ٨٥] لما تفيده الإضافة من التخصيص.

وقرأ الجمهور (يُنَزِّلُ) ـ بياء تحتية مضمومة وفتح النون وتشديد الزاي مكسورة ـ. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب ـ بسكون النون وتخفيف الزاي مكسورة ، و (الْمَلائِكَةَ) منصوبا.

وقرأه روح عن يعقوب ـ بتاء فوقية مفتوحة وفتح النون وتشديد الزاي مفتوحة ورفع (الْمَلائِكَةَ) على أن أصله تتنزل.

وقوله تعالى : (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) رد على فنون من تكذيبهم ؛ فقد قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [سورة الزخرف : ٣١] وقالوا : (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) [سورة الزخرف : ٥٣] أي كان ملكا ، وقالوا : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) [سورة الفرقان : ٧]. ومشيئة الله جارية على وفق حكمته ، قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [سورة الأنعام : ١٢٤].

و (أَنْ أَنْذِرُوا) تفسير لفعل (يُنَزِّلُ) لأنه في تقدير ينزل الملائكة بالوحي.

وقوله : (بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) اعتراض واستطراد بين فعل (يُنَزِّلُ) ومفسره.

و (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) متعلق ب (أَنْذِرُوا) على حذف حرف الجر حذفا مطردا مع (أنّ). والتقدير : أنذروا بأنه لا إله إلا أنا. والضمير المنصوب ب (أنّ) ضمير الشأن. ولما كان هذا الخبر مسوقا للذين اتّخذوا مع الله آلهة أخرى وكان ذلك ضلالا يستحقون عليه العقاب جعل إخبارهم بضدّ اعتقادهم وتحذيرهم مما هم فيه إنذارا.

وفرع عليه (فَاتَّقُونِ) وهو أمر بالتقوى الشاملة لجميع الشريعة.

٧٩

وقد أحاطت جملة (أَنْ أَنْذِرُوا) إلى قوله تعالى : (فَاتَّقُونِ) بالشريعة كلها ، لأن جملة (أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) تنبيه على ما يرجع من الشريعة إلى إصلاح الاعتقاد وهو الأمر بكمال القوة العقلية.

وجملة (فَاتَّقُونِ) تنبيه على الاجتناب والامتثال اللذين هما منتهى كمال القوة العملية.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣))

استئناف بياني ناشئ عن قوله : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [سورة النحل : ١] لأنهم إذا سمعوا ذلك ترقّبوا دليل تنزيه الله عن أن يكون له شركاء. فابتدئ بالدلالة على اختصاصه بالخلق والتقدير ؛ وذلك دليل على أن ما يخلق لا يوصف بالإلهية كما أنبأ عنه التّفريع عقب هذه الأدلّة بقوله الآتي : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [سورة النحل : ١٧].

وأعقب قوله : (سُبْحانَهُ) بقوله : (وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) تحقيقا لنتيجة الدليل ، كما يذكر المطلوب قبل ذكر القياس في صناعة المنطق ثم يذكر ذلك المطلوب عقب القياس في صورة النتيجة تحقيقا للوحدانية ، لأن الضلال فيها هو أصل انتقاض عقائد أهل الشرك ، ولأن إشراكهم هو الذي حداهم إلى إنكار نبوءة من جاء ينهاهم عن الشرك فلا جرم كان الاعتناء بإثبات الوحدانية وإبطال الشرك مقدما على إثبات صدق الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ المبدأ به في أول السورة بقوله تعالى : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) سورة النحل : ٢].

وعددت دلائل من الخلق كلها متضمنة نعما جمّة على الناس إدماجا للامتنان بنعم الله عليهم وتعريضا بأن المنعم عليهم الذين عبدوا غيره قد كفروا نعمته عليهم ؛ إذ شكروا ما لم ينعم عليهم ونسوا من انفرد بالإنعام ، وذلك أعظم الكفران ، كما دلّ على ذلك عطف (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [سورة إبراهيم : ٣٤] على جملة (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [سورة النحل : ١٧].

والاستدلال بخلق السماوات والأرض أكبر من سائر الأدلّة وأجمع لأنها محوية لهما ، ولأنهما من أعظم الموجودات ، فلذلك ابتدئ بهما ، لكن ما فيه من إجمال المحويات اقتضى أن يعقّب بالاستدلال بأصناف الخلق والمخلوقات فثنّي بخلق الإنسان

٨٠