تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

والمقصود من هذه الجملة التصريح بما استفيد ضمنا مما قبلها وهو نفي الخالقية ونفي العلم عن الأصنام.

فالخبر الأول وهو جملة (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) استفيد من جملة (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ). [سورة النحل : ١٧] وعطف (وَهُمْ يُخْلَقُو نَ) ارتقاء في الاستدلال على انتفاء إلهيتها.

والخبر الثاني وهو جملة (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) تصريح بما استفيد من جملة (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) [سورة النحل : ١٩] بطريقة نفي الشيء بنفي ملزومه. وهي طريقة الكناية التي هي كذكر الشيء بدليله. فنفي الحياة عن الأصنام في قوله : (غَيْرُ أَحْياءٍ) يستلزم نفي العلم عنها لأن الحياة شرط في قبول العلم ، ولأن نفي أن يكونوا يعلمون ما هو من أحوالهم يستلزم انتفاء أن يعلموا أحوال غيرهم بدلالة فحوى الخطاب ، ومن كان هكذا فهو غير إله.

وأسند (يَخْلُقُونَ) إلى النائب لظهور الفاعل من المقام ، أي وهم مخلوقون لله تعالى ، فإنهم من الحجارة التي هي من خلق الله ، ولا يخرجها نحت البشر إيّاها على صور وأشكال عن كون الأصل مخلوقا لله تعالى. كما قال تعالى حكاية عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ قوله : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [سورة الصافات : ٩٦].

وجملة (غَيْرُ أَحْياءٍ) تأكيد لمضمون جملة (أَمْواتٌ) ، للدلالة على عراقة وصف الموت فيهم بأنه ليس فيه شائبة حياة لأنهم حجارة.

ووصفت الحجارة بالموت باعتبار كون الموت عدم الحياة. ولا يشترط في الوصف بأسماء الأعدام قبول الموصوفات بها لملكاتها ، كما اصطلح عليه الحكماء ، لأن ذلك اصطلاح منطقي دعا إليه تنظيم أصول المحاجة.

وقرأ عاصم ويعقوب (يَدْعُونَ) بالتحتية. وفيها زيادة تبيين لصرف الخطاب إلى المشركين في قراءة الجمهور.

وجملة (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) إدماج لإثبات البعث عقب الكلام على إثبات الوحدانية لله تعالى ، لأن هذين هما أصل إبطال عقيدة المشركين ، وتمهيد لوجه التلازم بين إنكار البعث وبين إنكار التوحيد في قوله تعالى (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) [سورة النحل : ٢٢]. ولذلك فالظاهر أن ضميري (يَشْعُرُونَ)

١٠١

و (يُبْعَثُونَ) عائدان إلى الكفّار على طريق الالتفات في قراءة الجمهور ، وعلى تناسق الضمائر في قراءة عاصم ويعقوب.

والمقصود من نفي شعورهم بالبعث تهديدهم بأن البعث الذي أنكروه واقع وأنهم لا يدرون متى يبغتهم ، كما قال تعالى : (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) [سورة الأعراف : ١٨٧].

والبعث : حقيقته الإرسال من مكان إلى آخر. ويطلق على إثارة الجاثم. ومنه قولهم : بعثت البعير ، إذا أثرته من مبركه. ولعلّه من إطلاق اسم الشيء على سببه. وقد غلب البعث في اصطلاح القرآن على إحضار الناس إلى الحساب بعد الموت. فمن كان منهم ميتا فبعثه من جدثه ، ومن كان منهم حيا فصادفته ساعة انتهاء الدنيا فمات ساعتئذ فبعثه هو إحياؤه عقب الموت ، وبذلك لا يعكر إسناد نفي الشعور بوقت البعث عن الكفّار الأحياء المهدّدين. ولا يستقيم أن يكون ضمير (يَشْعُرُونَ) عائدا إلى الذين تدعون ، أي الأصنام.

و (أَيَّانَ) اسم استفهام عن الزمان. مركبة من (أي) و (آن) بمعنى أي زمن ، وهي معلقة لفعل (يَشْعُرُونَ) عن العمل بالاستفهام ، والمعنى : وما يشعرون بزمن بعثهم. وتقدم (أَيَّانَ) في قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) في سورة الأعراف [١٨٧].

[٢٢ ، ٢٣] (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣))

استئناف نتيجة لحاصل المحاجّة الماضية ، أي قد ثبت بما تقدّم إبطال إلهية غير الله ، فثبت أن لكم إلها واحدا لا شريك له ، ولكون ما مضى كافيا في إبطال إنكارهم الوحدانية عرّيت الجملة عن المؤكّد تنزيلا لحال المشركين بعد ما سمعوا من الأدلّة منزلة من لا يظن به أنه يتردّد في ذلك بخلاف قوله تعالى : إن (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) في سورة البقرة [١٦٣] خطاب لأهل الكتاب.

وتفرّع عليه الإخبار بجملة (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) ، وهو تفريع الأخبار عن الأخبار ، أي يتفرّع على هذه القضية القاطعة بما تقدّم من الدّلائل أنكم قلوبكم منكرة وأنتم مستكبرون وأن ذلك ناشئ عن عدم إيمانكم بالآخرة.

والتعبير عن المشركين بالموصول وصلته «الذين لا يؤمنون بالآخرة» لأنهم قد عرفوا

١٠٢

بمضمون الصّلة واشتهروا بها اشتهار لمز وتنقيص عند المؤمنين ، كقوله : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) [سورة الفرقان : ٢١] ، وللإيماء إلى أن لهذه الصّلة ارتباطا باستمرارهم على العناد ، لأن انتفاء إيمانهم بالبعث والحساب قد جرّأهم على نبذ دعوة الإسلام ظهريا فلم يتوقعوا مؤاخذة على نبذها ، على تقدير أنها حقّ فينظروا في دلائل أحقّيتها مع أنهم يؤمنون بالله ولكنّهم لا يؤمنون بأنه أعدّ للناس يوم جزاء على أعمالهم.

ومعنى (قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) جاحدة بما هو واقع. استعمل الإنكار في جحد الأمر الواقع لأنه ضدّ الإقرار. فحذف متعلق (مُنْكِرَةٌ) لدلالة المقام عليه ، أي منكرة للوحدانية.

وعبر بالجملة الاسمية (قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) للدلالة على أن الإنكار ثابت لهم دائم لاستمرارهم على الإنكار بعد ما تبين من الأدلّة. وذلك يفيد أن الإنكار صار لهم سجيّة وتمكّن من نفوسهم لأنهم ضروا به من حيث إنهم لا يؤمنون بالآخرة فاعتادوا عدم التبصّر في العواقب.

وكذلك جملة (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) بنيت على الاسمية للدّلالة على تمكّن الاستكبار منهم. وقد خولف ذلك في آية سورة الفرقان [٢١] (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) لأن تلك الآية لم تتقدّمها دلائل على الوحدانية مثل الدلائل المذكورة في هذه الآية.

وجملة (لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ) معترضة بين الجملتين المتعاطفتين.

والجرم ـ بالتحريك ـ : أصله البدّ. وكثر في الاستعمال حتى صار بمعنى حقّا. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) في سورة هود [٢٢].

وقوله : (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ) في موضع جرّ بحرف جرّ محذوف متعلق ب (جَرَمَ). وخبر (لا) النافية محذوف لظهوره ، إذ التقدير : لا جرم موجود. وحذف الخبر في مثله كثير. والتقدير : لا جرم في أن الله يعلم أو لا جرم من أنه يعلم ، أي لا بدّ من أنه يعلم ، أي لا بدّ من علمه ، أي لا شكّ في ذلك.

وجملة (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ) خبر مستعمل كناية عن الوعيد بالمؤاخذة بما يخفون وما يظهرون من الإنكار والاستكبار وغيرهما بالمؤاخذة بما يخفون وما يظهرون من الإنكار والاستكبار وغيرهما مؤاخذة عقاب وانتقام ، فلذلك عقب بجملة (إِنَّهُ لا يُحِبُ

١٠٣

الْمُسْتَكْبِرِينَ) الواقعة موقع التعليل والتذييل لها ، لأن الذي لا يحب فعلا وهو قادر يجازي فاعله بالسّوء.

والتعريف في (الْمُسْتَكْبِرِينَ) للاستغراق ، لأن شأن التذييل العموم. ويشمل هؤلاء المتحدّث عنهم فيكون إثبات العقاب لهم كإثبات الشيء بدليله.

[٢٤ ، ٢٥] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥))

و (إِذا قِيلَ لَهُمْ) عطف على جملة (قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) [سورة النحل : ٢٢] ، لأن مضمون هذه من أحوالهم المتقدم بعضها ، فإنه ذكر استكبارهم وإنكارهم الوحدانية ، وأتبع بمعاذيرهم الباطلة لإنكار نبوءة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبصدّهم الناس عن اتّباع الإسلام. والتقدير: قلوبهم منكرة ومستكبرة فلا يعترفون بالنبوءة ولا يخلّون بينك وبين من يتطلب الهدى ، مضلّون للناس صادّوهم عن الإسلام.

وذكر فعل القول يقتضي صدوره عن قائل يسألهم عن أمر حدث بينهم وليس على سبيل الفرض ، وأنهم يجيبون بما ذكر مكرا بالدين وتظاهرا بمظهر الناصحين للمسترشدين المستنصحين بقرينة قوله تعالى : (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [سورة النحل : ٢٥].

و (إِذا) ظرف مضمّن معنى الشّرط. وهذا الشّرط يؤذن بتكرّر هذين القولين. وقد ذكر المفسرون أن قريشا لما أهمّهم أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورأوا تأثير القرآن في نفوس الناس ، وأخذ أتباع الإسلام يكثرون ، وصار الواردون إلى مكّة في موسم الحجّ وغيره يسألون الناس عن هذا القرآن ، وما ذا يدعو إليه ، دبّر لهم الوليد بن المغيرة معاذير واختلاقا يختلقونه ليقنعوا السّائلين به ، فندب منهم ستة عشر رجلا بعثهم أيام الموسم يقعدون في عقبات مكّة وطرقها التي يرد منها الناس ، يقولون لمن سألهم : لا تغترّوا بهذا الذي يدّعي أنه نبيّ فإنه مجنون أو ساحر أو شاعر أو كاهن ، وأن الكلام الذي يقوله أساطير من أساطير الأولين اكتتبها. وقد تقدم ذلك في آخر سورة الحجر. وكان النضر بن الحارث يقول : أنا أقرأ عليكم ما هو أجمل من حديث محمد أحاديث رستم وإسفنديار. وقد تقدّم ذكره عند قوله تعالى : (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) في سورة الأنعام [٩٣].

١٠٤

ومساءلة العرب عن بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيرة واقعة. وأصرحها ما رواه البخاري عن أبي ذرّ أنه قال : «كنت رجلا من غفار فبلغنا أن رجلا قد خرج بمكّة يزعم أنه نبيء ، فقلت لأخي أنيس : انطلق إلى هذا الرجل كلّمه وائتني بخبره ، فانطلق فلقيه ثم رجع ، فقلت : ما عندك؟ فقال : والله لقد رأيت رجلا يأمر بالخير وينهى عن الشرّ. فقلت : لم تشفني من الخير ، فأخذت جرابا وعصا ثم أقبلت إلى مكّة فجعلت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه ، وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد ...» إلى آخر الحديث.

وسؤال السّائلين لطلب الخبر عن المنزل من الله يدلّ على أن سؤالهم سؤال مسترشد عن دعوى بلغتهم وشاع خبرها في بلاد العرب ، وأنهم سألوا عن حسن طويّة ، ويصوغون السؤال عن الخبر كما بلغتهم دعوته.

وأما الجواب فهو جواب بليغ تضمّن بيان نوع هذا الكلام ، وإبطال أن يكون منزلا من عند الله لأن أساطير الأولين معروفة والمنزّل من عند الله شأنه أن يكون غير معروف من قبل.

و (ما ذا) كلمة مركبة من (ما) الاستفهامية واسم الإشارة ، ويقع بعدها فعل هو صلة لموصول محذوف ناب عنه اسم الإشارة. والمعنى : ما هذا الذي أنزل.

و (ما) يستفهم بها عن بيان الجنس ونحوه. وموضعها أنها خبر مقدّم. وموضع اسم الإشارة الابتداء. والتقدير : هذا الذي أنزل ربكم ما هو. وقد تسامح النحويون فقالوا : إن (ذا) من قولهم (ما ذا) صارت اسم موصول. وتقدم عند قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) في سورة البقرة [٢١٥].

و (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) خبر مبتدأ محذوف دلّ عليه ما في السؤال. والتقدير : هو أساطير الأوّلين ، أي المسئول عنه أساطير الأوّلين.

ويعلم من ذلك أنه ليس منزّلا من ربهم لأن أساطير الأوّلين لا تكون منزّلة من الله كما قلناه آنفا. ولذلك لم يقع (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) منصوبا لأنه لو نصب لاقتضى التقدير : أنزل أساطير الأولين ، وهو كلام متناقض. لأن أساطير الأولين السابقة لا تكون الذي أنزل الله الآن.

والأساطير : جمع أسطار الذي هو جمع سطر. فأساطير جمع الجمع. وقال المبرّد : جمع أسطورة ـ بضم الهمزة ـ كأرجوحة. وهي مؤنثة باعتبار أنها قصة مكتوبة. وهذا الذي

١٠٥

ذكره المبرّد أولى لأنها أساطير في الأكثر يعني بها القصص لا كل كتاب مسطور. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) في سورة الأنعام [٢٥].

واللّام في (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ) تعليل لفعل (قالُوا) ، وهي غاية وليست بعلّة لأنّهم لما قالوا (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) لم يريدوا أن يكون قولهم سببا لأن يحملوا أوزار الّذين يضلّونهم ، فاللام مستعملة مجازا في العاقبة مثل (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [سورة القصص : ٨].

والتقدير : قالوا ذلك القول كحال من يغرى على ما يجر إليه زيادة الضرّ إذ حملوا بذلك أوزار الذين يضلونهم زيادة على أوزارهم.

والأوزار : حقيقتها الأثقال ، جمع وزر ـ بكسر الواو وسكون الزاي ـ وهو الثّقل. واستعمل في الجرم والذنب ، لأنّه يثقل فاعله عن الخلاص من الألم والعناء ، فأصل ذلك استعارة بتشبيه الجرم والذّنب بالوزر. وشاعت هذه الاستعارة ، قال تعالى : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) في سورة الأنعام [٣١]. كما يعبّر عن الذنوب بالأثقال ، قال تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [سورة العنكبوت : ١٣].

وحمل الأوزار تمثيل لحالة وقوعهم في تبعات جرائمهم بحالة حامل الثقل لا يستطيع تفصّيا منه ، فلما شبّه الإثم بالثقل فأطلق عليه الوزر شبه التّورط في تبعاته بحمل الثّقل على طريقة التخييلية ، وحصل من الاستعارتين المفرقتين استعارة تمثيلية للهيئة كلها. وهذا من أبدع التمثيل أن تكون الاستعارة التمثيلية صالحة للتفريق إلى عدّة تشابيه أو استعارات.

وإضافة الأوزار إلى ضمير «هم» لأنّهم مصدرها.

ووصفت الأوزار ب (كامِلَةً) تحقيقا لوفائها وشدّة ثقلها ليسري ذلك إلى شدّة ارتباكهم في تبعاتها إذ هو المقصود من إضافة الحمل إلى الأوزار.

و (مِنْ) في قوله تعالى : (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) للسببية متعلقة بفعل محذوف دلّ عليه حرف العطف وحرف الجر بعده إذ لا بدّ لحرف الجر من متعلّق. وتقديره : ويحملوا. ومفعول الفعل محذوف دلّ عليه مفعول نظيره. والتّقدير : ويحملوا أوزارا ناشئة عن أوزار الّذين يضلونهم ، أي ناشئة لهم عن تسبّبهم في ضلال المضلّلين ـ بفتح اللّام ـ ،

١٠٦

فإنّ تسببهم في الضلال يقتضي مساواة المضلّل للضّال في جريمة الضّلال ، إذ لو لا إضلاله إياه لاهتدى بنظره أو بسؤال الناصحين. وفي الحديث الصّحيح «ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا».

و (بِغَيْرِ عِلْمٍ) في موضع الحال من ضمير النصب في (يُضِلُّونَهُمْ) ، أي يضلّون ناسا غير عالمين يحسبون إضلالهم نصحا. والمقصود من هذا الحال تفظيع التضليل لا تقييده فإن التضليل لا يكون إلا عن عدم علم كلا أو بعضا.

وجملة (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) تذييل. افتتح بحرف التّنبيه اهتماما بما تتضمّنه للتحذير من الوقوع فيه أو للإقلاع عنه.

(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦))

لمّا ذكر عاقبة إضلالهم وصدّهم السائلين عن القرآن والإسلام في الآخرة أتبع بالتهديد بأن يقع لهم ما وقع فيه أمثالهم في الدّنيا من الخزي والعذاب مع التأييس من أن يبلغوا بصنعهم ذلك مبلغ مرادهم ، وأنهم خائبون في صنعهم كما خاب من قبلهم الذين مكروا برسلهم.

ولما كان جوابهم السائلين عن القرآن بقولهم هو (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [سورة النحل : ٢٤] مظهرينه بمظهر النصيحة والإرشاد وهم يريدون الاستبقاء على كفرهم ، سمّي ذلك مكرا بالمؤمنين ، إذ المكر إلحاق الضرّ بالغير في صورة تمويهه بالنّصح والنّفع ، فنظّر فعلهم بمكر من قبلهم ، أي من الأمم السابقة الذين مكروا بغيرهم مثل قوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط ، وقوم فرعون ، قال تعالى في قوم صالح : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً) [سورة النحل : ٥٠] الآية ، وقال : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) [سورة الأنعام : ١٢٣].

فالتعريف بالموصول في قوله تعالى : (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) مساو للتعريف بلام الجنس.

ومعنى «أتى الله بنيانهم» استعارة بتشبيه القاصد للانتقام بالجائي نحو المنتقم منه ، ومنه قوله تعالى : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) [سورة الحشر : ٢].

١٠٧

وقوله تعالى : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) تمثيل لحالات استئصال الأمم ، فالبنيان مصدر بمعنى المفعول. أي المبنى ، وهو هنا مستعار للقوّة والعزّة والمنعة وعلوّ القدر.

وإطلاق البناء على مثل هذا وارد في فصيح الكلام. قال عبدة بن الطبيب :

فما كان قيس هلكه هلك واحد

ولكنّه بنيان قوم تهدّما

وقالت سعدة أمّ الكميت بن معروف :

بنى لك معروف بناء هدمته

وللشرف العاديّ بان وهادم

و (مِنَ الْقَواعِدِ) متعلق ب «أتى». (وَمِنْ) ابتدائيّة ، ومجرورها هو مبدأ الإتيان الذي هو بمعنى الاستئصال ، فهو في معنى هدمه.

و (الْقَواعِدِ) : الأسس والأساطين التي تجعل عمدا للبناء يقام عليها السقف. وهو تخييل أو ترشيح ، إذ ليس في الكلام شيء يشبّه بالقواعد.

والخرور : السقوط والهويّ ، ففعل خرّ مستعار لزوال ما به المنعة نظير قوله تعالى : (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) [سورة الحشر : ٢].

و (السَّقْفُ) : حقيقته غطاء الفراغ الذي بين جدران البيت ، يجعل على الجدران ويكون من حجر ومن أعواد ، وهو هنا مستعار لما استعير له البناء.

و (مِنْ فَوْقِهِمْ) تأكيد لجملة فسخر عليهم السقف.

ومن مجموع هذه الاستعارات تتركّب الاستعارة التمثيليّة. وهي تشبيه هيئة القوم الّذين مكروا في المنعة فأخذهم الله بسرعة وأزال تلك العزّة بهيئة قوم أقاموا بنيانا عظيما ذا دعائم وآووا إليه فاستأصله الله من قواعده فخرّ سقف البناء دفعة على أصحابه فهلكوا جميعا. فهذا من أبدع التمثيليّة لأنها تنحلّ إلى عدّة استعارات.

وجملة (وَأَتاهُمُ الْعَذابُ) عطف على جملة (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ). وأل في (الْعَذابُ) للعهد فهي مفيدة مضمون قوله (مِنْ فَوْقِهِمْ) مع زيادة قوله تعالى: (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ). فباعتبار هذه الزيادة وردت معطوفة لحصول المغايرة وإلا فإن شأن الموكدة أن لا تعطف. والمعنى أن العذاب المذكور حلّ بهم بغتة وهم لا يشعرون فإن الأخذ فجأ أشدّ نكاية لما يصحبه من الرّعب الشديد بخلاف الشيء الوارد تدريجا فإنّ

١٠٨

النّفس تتلقّاه بصبر.

(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧))

(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ).

عطف على (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) [سورة النحل : ٢٥] ، لأن ذلك وعيد لهم وهذا تكملة له.

وضمير الجمع في قوله تعالى : (يُخْزِيهِمْ) عائد إلى ما عاد إليه الضمير المجرور باللام في قوله تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) [سورة النحل : ٢٤]. وذلك عائد إلى (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) [سورة النحل : ٢٢].

و (ثُمَ) للتّرتيب الرّتبي ، فإنّ خزي الآخرة أعظم من استئصال نعيم الدّنيا.

والخزي : الإهانة. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) في سورة البقرة [٨٥].

وتقديم الظرف للاهتمام بيوم القيامة لأنّه يوم الأحوال الأبديّة فما فيه من العذاب مهول للسّامعين.

و (أَيْنَ) للاستفهام عن المكان ، وهو يقتضي العلم بوجود من يحلّ في المكان. ولما كان المقام هنا مقام تهكّم كان الاستفهام عن المكان مستعملا في التهكّم ليظهر لهم كالطماعية للبحث عن آلهتهم ، وهم علموا أن لا وجود لهم ولا مكان لحلولهم.

وإضافة الشركاء إلى ضمير الجلالة زيادة في التوبيخ ، لأنّ مظهر عظمة الله تعالى يومئذ للعيان ينافي أن يكون له شريك ، فالمخاطبون عالمون حينئذ بتعذّر المشاركة.

والموصول من قوله تعالى : (الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) للتّنبيه على ضلالهم وخطئهم في ادعاء المشاركة مثل الذي في قول عبدة :

إنّ الّذين ترونهم إخوانكم

يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا

والمشاقّة : المشادة في الخصومة ، كأنّها خصومة لا سبيل معها إلى الوفاق ، إذ قد صار كلّ خصم في شقّ غير شقّ الآخر.

١٠٩

وقرأ نافع تشقون ـ بكسر النون ـ على حذف ياء المتكلّم ، أي تعاندونني ، وذلك بإنكارهم ما أمرهم الله على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ البقيّة (تُشَاقُّونَ) ـ بفتح النون ـ وحذف المفعول للعلم ، أي تعاندون من يدعوكم إلى التّوحيد.

و (في) للظرفيّة المجازيّة مع حذف مضاف ، إذ المشاقّة لا تكون في الذوات بل في المعاني. والتّقدير : في إلهيتهم أو في شأنهم.

(قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ)

جملة ابتدائية حكت قول أفاضل الخلائق حين يسمعون قول الله تعالى على لسان ملائكة العذاب : (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ).

وجيء بجملة (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) غير معطوفة لأنها واقعة موقع الجواب لقوله: (أَيْنَ شُرَكائِيَ) للتّنبيه على أنّ الّذين أوتوا العلم ابتدروا الجواب لما وجم المشركون فلم يحيروا جوابا ، فأجاب الّذين أوتوا العلم جوابا جامعا لنفي أن يكون الشركاء المزعومون مغنين عن الّذين أشركوا شيئا ، وأنّ الخزي والسوء أحاطا بالكافرين.

والتعبير بالماضي لتحقيق وقوع القول.

والّذين أوتوا العلم هم الذين آتاهم الله علم الحقائق من الرّسل والأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ والمؤمنون ، كقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) [سورة الروم : ٥٦] ، أي يقولون في ذلك الموقف من جرّاء ما يشاهدوا من مهيّأ العذاب للكافرين كلاما يدلّ على حصر الخزي والضرّ يوم القيامة في الكون على الكافرين. وهو قصر ادعائي لبلوغ المعرف بلام الجنس حدّ النّهاية في جنسه حتّى كأنّ غيره من جنسه ليس من ذلك الجنس.

وتأكيد الجملة بحرف التوكيد وبصيغة القصر والإتيان بحرف الاستعلاء الدّال على تمكّن الخزي والسوء منهم يفيد معنى التّعجّب من هول ما أعدّ لهم.

[٢٨ ، ٢٩] (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩))

١١٠

القرينة ظاهرة على أنّ قوله تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) ليست من مقول الذين أوتوا العلم يوم القيامة ، إذ لا مناسبة لأن يعرّف الكافرون يوم القيامة بأنهم الّذين تتوفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ؛ فإن صيغة المضارع في قوله تعالى : (تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) قريبة من الصريح في أن هذا التوفّي محكيّ في حال حصوله وهم يوم القيامة مضت وفاتهم ولا فائدة أخرى في ذكر ذلك يومئذ ، فالوجه أن يكون هذا كلاما مستأنفا.

وعن عكرمة : نزلت هذه الآية بالمدينة في قوم أسلموا بمكّة ولم يهاجروا فأخرجهم قريش إلى بدر كرها فقتلوا ببدر.

فالوجه أن (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) بدل من (الَّذِينَ) في قوله تعالى : (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) [سورة النحل : ٢٢] أو صفة لهم ، كما يومئ إليه وصفهم في آخر الآية بالمتكبّرين في قوله تعالى : (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) ، فهم الّذين وصفوا فيما قبل بقوله تعالى : (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) [سورة النحل : ٢٢] ، وما بينهما اعتراض. وإن أبيت ذلك لبعد ما بين المتبوع والتّابع فاجعل (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) خبرا لمبتدإ محذوف. والتقدير : هم الذين تتوفاهم الملائكة.

وحذف المسند إليه جار على الاستعمال في أمثاله من كلّ مسند إليه جرى فيما سلف من الكلام. أخبر عنه وحدث عن شأنه ، وهو ما يعرف عند السكاكي بالحذف المتّبع فيه الاستعمال. ويقابل هذا قوله تعالى فيما يأتي : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) [سورة النحل : ٣٢] فإنه صفة (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) [سورة النحل : ٣٠] فهذا نظيره.

والمقصود من هذه الصلة وصف حالة الذين يموتون على الشّرك ؛ فبعد أن ذكر حال حلول العذاب بمن حلّ بهم الاستئصال وما يحلّ بهم يوم القيامة ذكرت حالة وفاتهم التي هي بين حالي الدّنيا والآخرة ، وهي حال تعرض لجميعهم سواء منهم من أدركه الاستئصال ومن هلك قبل ذلك.

وأطبق من تصدّى لربطه بما قبله من المفسّرين ، على جعل (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) الآية بدلا من (الْكافِرِينَ) في قوله تعالى : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) [سورة النحل : ٢٧] ، أو صفة له. وسكت عنه صاحب «الكشاف» (وهو سكوت من ذهب). وقال الخفاجي : «وهو يصحّ فيه أن يكون مقولا للقول وغير مندرج تحته». وقال ابن عطيّة : «ويحتمل أن يكون (الَّذِينَ) مرتفعا بالابتداء منقطعا مما قبله وخبره في قوله : (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) [سورة النحل : ٢٨] اه.

١١١

واقتران الفعل بتاء المضارعة التي للمؤنث في قراءة الجمهور باعتبار إسناده إلى الجماعة. وقرأ حمزة وخلف يتوفاهم بالتحتية على الأصل.

وظلم النّفس : الشّرك.

والإلقاء : مستعار إلى الإظهار المقترن بمذلّة. شبّه بإلقاء السّلاح على الأرض ، ذلك أنّهم تركوا استكبارهم وإنكارهم وأسرعوا إلى الاعتراف ولخضوع لما ذاقوا عذاب انتزاع أرواحهم.

والسلم ـ بفتح السين وفتح اللّام ـ الاستسلام. وتقدّم الإلقاء والسلم عند قوله تعالى: (وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) في سورة النساء [٩٠]. وتقدم الإلقاء الحقيقي عند قوله تعالى: (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) في أول هذه السورة [١٥].

ووصفهم ب (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) يرمي إلى أن توفّي الملائكة إيّاهم ملابس لغلظة وتعذيب ، قال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) [سورة الأنفال : ٥٠].

وجملة (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) مقول قول محذوف دلّ عليه (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) ، لأن إلقاء السلم أوّل مظاهره القول الدّال على الخضوع. يقولون ذلك للملائكة الّذين ينتزعون أرواحهم ليكفّوا عنهم تعذيب الانتزاع ، وهم من اضطراب عقولهم يحسبون الملائكة إنما يجرّبونهم بالعذاب ليطّلعوا على دخيلة أمرهم ، فيحسبون أنهم إن كذبوهم راج كذبهم على الملائكة فكفّوا عنهم العذاب ، لذلك جحدوا أن يكونوا يعملون سوءا من قبل.

ولذلك فجملة (بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) جواب الملائكة لهم ، ولذلك افتتحت بالحرف الّذي يبطل به النّفي وهو (بَلى). وقد جعلوا علم الله بما كانوا يعملون كناية عن تكذيبهم في قولهم : (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) ، وكناية على أنّهم ما عاملوهم بالعذاب إلّا بأمر من الله تعالى العالم بهم.

وأسندوا العلم إلى الله دون أن يقولوا : إنّا نعلم ما كنتم تعملون ، أدبا مع الله وإشعارا بأنهم ما علموا ذلك إلّا بتعليم من الله تعالى.

وتفريع (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) على إبطال نفيهم عمل السّوء ظاهر ، لأنّ إثبات كونهم كانوا يعملون السّوء يقتضي استحقاقهم العذاب ، وذلك عند ما كشف لهم عن مقرّهم الأخير ، كما جاء في الحديث «القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النّار».

١١٢

ونظيره قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) [سورة الأنفال : ٥٠].

وجملة (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) تذييل. يحتمل أن يكون حكاية كلام الملائكة ، والأظهر أنّه من كلام الله الحكاية لا من المحكيّ ، ووصفهم بالمتكبّرين يرجّح ذلك ، فإنّه لربط هذه الصفة بالموصوف في قوله تعالى (قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) [سورة النحل : ٢٢]. واللّام الدّاخلة على «بئس» لام القسم.

والمثوى. المرجع. من ثوى إذا رجع ، أو المقام من ثوى إذا أقام. وتقدّم في قوله تعالى : (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ) في سورة الأنعام [١٢٨].

ولم يعبّر عن جهنّم بالدار كما عبّر عن الجنّة فيما يأتي بقوله تعالى : (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) [سورة النحل : ٣٠] تحقيرا لهم وأنّهم ليسوا في جهنّم بمنزلة أهل الدّار بل هم متراصّون في النار وهم في مثوى ، أي محل ثواء.

[٣٠ ، ٣١] (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١))

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً).

لمّا افتتحت صفة سيّئات الكافرين وعواقبها بأنّهم إذا قيل لهم (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) [سورة النحل : ٢٤] قالوا : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [سورة النحل : ٢٤] ، جاءت هنا مقابلة حالهم بحال حسنات المؤمنين وحسن عواقبها ، فافتتح ذلك بمقابل ما افتتحت به قصّة الكافرين ، فجاء التنظير بين القصّتين في أبدع نظم.

وهذه الجملة معطوفة على الجمل التي قبلها ، وهي معترضة في خلال أحوال المشركين استطرادا. ولم تقترن هذه الجملة بأداة الشرط كما قرنت مقابلتها بها (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) ، لأن قولهم : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) لما كان كذبا اختلقوه كان مظنة أن يقلع عنه قائله وأن يرعوي إلى الحقّ وأن لا يجمع عليه القائلون ، قرن بأداة الشرط المقتضية تكرّر ذلك للدّلالة على إصرارهم على الكفر ، بخلاف ما هنا فإن الصّدق مظنّة استمرار قائله عليه فليس بحاجة إلى التّنبيه على تكرّره منه.

والذين اتّقوا : هم المؤمنون لأن الإيمان تقوى الله وخشية غضبه. والمراد بهم

١١٣

المؤمنون المعهودون في مكّة ، فالموصول للعهد.

والمعنى أنّ المؤمنين سئلوا عن القرآن ، ومن جاء به ، فأرشدوا السائلين ولم يتردّدوا في الكشف عن حقيقة القرآن بأوجز بيان وأجمعه ، وهو كلمة (خَيْراً) المنصوبة ، فإن لفظها شامل لكلّ خير في الدّنيا وكلّ خير في الآخرة ، ونصبها دال على أنّهم جعلوها معمولة ل (أَنْزَلَ) الواقع في سؤال السائلين ، فدل النّصب على أنّهم مصدّقون بأنّ القرآن منزل من عند الله ، وهذا وجه المخالفة بين الرفع في جواب المشركين حين قيل لهم : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [سورة النحل : ٢٤] بالرّفع وبين النصب في كلام المؤمنين حين قيل لهم (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) بالنّصب. وقد تقدم ذلك آنفا عند قوله تعالى : (قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاءُونَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١))

مستأنفة ابتدائية ، وهي كلام من الله تعالى مثل نظيرها في آية (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) في سورة الزمر [١٠] ، وليست من حكاية قول الذين اتّقوا.

والّذين أحسنوا : هم المتقون فهو من الإظهار في مقام الإضمار توصّلا بالإتيان بالموصول إلى الإيماء إلى وجه بناء الخبر ، أي جزاؤهم حسنة لأنهم أحسنوا.

وقوله تعالى : (فِي هذِهِ الدُّنْيا) يجوز أن يتعلق بفعل (أَحْسَنُوا). ويجوز أن يكون ظرفا مستقرّا حالا من (حَسَنَةٌ). وانظر ما يأتي في نظر هذه الآية من سورة الزمر من نكتة هذا التوسيط.

ومعنى (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) أنّها خير لهم من الدّنيا فإذا كانت لهم في الدنيا حسنة فلهم في الآخرة أحسن ، فكما كان للّذين كفروا عذاب الدّنيا وعذاب جهنّم كان للّذين اتّقوا خير الدّنيا وخير الآخرة. فهذا مقابل قوله تعالى في حقّ المشركين (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً) [سورة النحل : ٢٥] وقوله تعالى : (وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) [سورة النحل : ٢٦].

وحسنة الدّنيا هي الحياة الطّيبة وما فتح الله لهم من زهرة الدنيا مع نعمة الإيمان.

١١٤

وخير الآخرة هو النّعيم الدّائم ، قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة النحل : ٩٧].

وقوله تعالى : (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) مقابل قوله تعالى في ضدّهم (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [سورة النحل : ٢٩]. وقد تقدّم آنفا وجه تسمية جهنّم مثوى والجنّة دارا.

و (نعم) فعل مدح غير متصرّف ، ومرفوعه فاعل دالّ على جنس الممدوح ، ويذكر بعده مرفوع آخر يسمّى المخصوص بالمدح ، وهو مبتدأ محذوف الخبر ، أو خبر محذوف المبتدإ. فإذا تقدّم ما يدلّ على المخصوص بالمدح لم يذكر بعد ذلك كما هنا ، فإنّ تقدم (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) دلّ على أنّ المخصوص بالمدح هو دار الآخرة. والمعنى : ولنعم دار المتّقين دار الآخرة.

وارتفع (جَنَّاتُ عَدْنٍ) على أنّه خبر لمبتدإ محذوف مما حذف فيه المسند إليه جريا على الاستعمال في مسند إليه جرى كلام عليه من قبل ، كما تقدم في قوله تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) [سورة النحل : ٢٨]. والتقدير : هي جنات عدن ، أي دار المتّقين جنات عدن.

وجملة (يَدْخُلُونَها) حال من (الْمُتَّقِينَ). والمقصود من ذكره استحضار تلك الحالة البديعة حالة دخولهم لدار الخير والحسنى والجنّات.

وجملة (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) حال من ضمير الرفع في (يَدْخُلُونَها). ومضمونها مكمل لما في جملة (يَدْخُلُونَها) من استحضار الحالة البديعة.

وجملة (كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ) مستأنفة ، والإتيان باسم الإشارة لتمييز الجزاء والتّنويه به. وجعل الجزاء لتمييزه وكماله بحيث يشبّه به جزاء المتّقين. والتّقدير : يجزي الله المتّقين جزاء كذلك الجزاء الذي علمتموه. وهو تذييل لأنّ التعريف في (الْمُتَّقِينَ) للعموم.

(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢))

مقابل قوله في أضدادهم (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) ، فما قيل في

١١٥

مقابله يقال فيه.

وقرأ الجمهور (تَتَوَفَّاهُمُ) بفوقيّتين ، مثل نظيره. وقرأه حمزة وخلف بتحتية أولى كذلك.

والطّيب : بزنة فيعل ، مثل قيم وميّت ، وهو مبالغة في الاتّصاف بالطيب وهو حسن الرائحة. ويطلق على محاسن الأخلاق وكمال النّفس على وجه المجاز المشهور فتوصف به المحسوسات كقوله تعالى : (حَلالاً طَيِّباً) [سورة البقرة : ١٦٨] والمعاني والنفسيات كقوله تعالى : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ) [سورة الزمر : ٧٣]. وقولهم : طبت نفسا. ومنه قوله تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) [سورة الأعراف : ٥٨]. وفي الحديث «إنّ الله طيّب لا يقبل إلّا طيّبا» أي مالا طيبا حلالا. فقوله تعالى هنا (طَيِّبِينَ) يجمع كل هذه المعاني ، أي تتوفّاهم الملائكة منزّهين من الشرك مطمئنّي النفوس. وهذا مقابل قوله في أضدادهم (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) [سورة النحل : ٢٨].

وجملة (يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) حال من (الْمَلائِكَةُ) وهي حال مقارنة ل (تَتَوَفَّاهُمُ) ، أي يتوفّونهم مسلّمين عليهم ، وهو سلام تأنيس وإكرام حين مجيئهم ليتوفّوهم ، لأن فعل (تَتَوَفَّاهُمُ) يبتدئ من وقت حلول الملائكة إلى أن تنتزع الأرواح وهي حصّة قصيرة.

وقولهم : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) هو مقابل قولهم لأضدادهم (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) [سورة النحل : ٢٨ ، ٢٩]. والقول في الأمر بالدخول للجنّة حين التوفّي كالقول في ضدّه المتقدم آنفا. وهو هنا نعيم المكاشفة.

[٣٣ ، ٣٤] (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤))

استئناف بياني ناشئ عن جملة (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [سورة الرعد : ٤٢] لأنّها تثير سؤال من يسأل عن إبّان حلول العذاب على هؤلاء كما حلّ بالّذين من قبلهم ، فقيل : ما ينظرون إلا أحد أمرين هما مجيء الملائكة لقبض أرواحهم فيحقّ عليهم الوعيد المتقدم ، أو أن يأتي أمر الله. والمراد به الاستئصال المعرّض بالتهديد في قوله : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) [سورة النحل : ٢٦].

١١٦

والاستفهام إنكاري في معنى النّفي ، ولذلك جاء بعده الاستثناء.

و (يَنْظُرُونَ) هنا بمعنى الانتظار وهو النظرة. والكلام موجه إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم تذكيرا بتحقيق الوعيد وعدم استبطائه وتعريضا بالمشركين بالتحذير من اغترارهم بتأخّر الوعيد وحثّا لهم على المبادرة بالإيمان.

وإسناد الانتظار المذكور إليهم جار على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيلهم منزلة من ينتظر أحد الأمرين ، لأنّ حالهم من الإعراض عن الوعيد وعدم التفكّر في دلائل صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع ظهور تلك الدلائل وإفادتها التحقّق كحال من أيقن حلول أحد الأمرين به فهو يترقّب أحدهما ، كما تقول لمن لا يأخذ حذره من العدوّ : ما تترقّب إلّا أن تقع أسيرا. ومنه قوله تعالى : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) [سورة يونس : ١٠٢] وقوله تعالى : (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) [سورة القصص : ١٩]. وهذا قريب من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه وما هو بذلك.

وجملة (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) تنظير بأحوال الأمم الماضية تحقيقا للغرضين.

والإشارة إلى الانتظار المأخوذ من (يَنْظُرُونَ) المراد منه الإعراض والإبطاء ، أي كإبطائهم فعل الذين من قبلهم ، فيوشك أن يأخذهم العذاب بغتة كما أخذ الذين من قبلهم. وهذا تحذير لهم وقد رفع الله عذاب الاستئصال عن أمّة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ببركته ولإرادته انتشار دينه.

و (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) هم المذكورون في قوله تعالى : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [سورة الرعد : ٤٢].

وجملة (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) معترضة بين جملة (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [سورة النحل : ٣٣] وجملة (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا).

ووجه هذا الاعتراض أن التعرّض إلى ما فعله الذين من قبلهم يشير إلى ما كان من عاقبتهم وهو استئصالهم ، فعقب بقوله تعالى : (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) ، أي فيما أصابهم.

ولمّا كان هذا الاعتراض مشتملا على أنهم ظلموا أنفسهم صار تفريع (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) عليه أو على ما قبله. وهو أسلوب من نظم الكلام عزيز. وتقدير

١١٧

أصله : كذلك فعل الذين من قبلهم وظلموا أنفسهم فأصابهم سيئات ما عملوا وما ظلمهم الله. ففي تغيير الأسلوب المتعارف تشويق إلى الخبر ، وتهويل له بأنه ظلم أنفسهم ، وأن الله لم يظلمهم ، فيترقّب السامع خبرا مفظعا وهو (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا).

وإصابة السيئات إما بتقدير مضاف ، أي أصابهم جزاؤها ، أو جعلت أعمالهم السيئة كأنها هي التي أصابتهم لأنها سبب ما أصابهم ، فهو مجاز عقلي.

و (حاقَ) : أحاط. والحيق : الإحاطة. ثم خصّ الاستعمال الحيق بإحاطة الشرّ. وقد تقدّم الكلام على ذلك عند قوله تعالى : (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) في أوائل سورة الأنعام [١٠].

و (ما) موصولة ، ما صدقها العذاب المتوعدون به. والباء في (بِهِ) للسببية. وهو ظرف مستقرّ هو صفة لمفعول مطلق. والتقدير : الذي يستهزءون استهزاء بسببه ، أي بسبب تكذيبهم وقوعه. وهذا استعمال في مثله. وقد تكرّر في القرآن ، من ذلك ما في سورة الأحقاف ، وليست الباء لتعدية فعل (يَسْتَهْزِؤُنَ) وقدّم المجرور على عامل موصوفه للرّعاية على الفاصلة.

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥))

عطف قصّة على قصّة لحكاية حال من أحوال شبهاتهم ومكابرتهم وباب من أبواب تكذيبهم.

وذلك أنّهم كانوا يحاولون إفحام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه يقول : إن الله يعلم ما يسرّون وما يعلنون ، وإنه القادر عليهم وعلى آلهتهم ، وإنه لا يرضى بأن يعبد ما سواه ، وإنه ينهاهم عن البحيرة والسائبة ونحوهما ، فحسبوا أنهم خصموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحاجّوه فقالوا له : لو شاء الله أن لا نعبد أصناما لما أقدرنا على عبادتها ، ولو شاء أن لا نحرّم ما حرّمنا من نحو البحيرة والسائبة لما أقرّنا على تحريم ذلك. وذلك قصد إفحام وتكذيب.

وهذا ردّه الله عليهم بتنظير أعمالهم بأعمال الأمم الذين أهلكهم الله فلو كان الله يرضى بما عملوه لما عاقبهم بالاستئصال ، فكانت عاقبتهم نزول العذاب بقوله تعالى :

١١٨

(كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، ثم بقطع المحاجّة بقوله تعالى : (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ، أي وليس من شأن الرسل ـ عليهم‌السلام ـ المناظرة مع الأمّة.

وقال في سورة الأنعام [١٤٨] (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) ، فسمّى قولهم هذا تكذيبا كتكذيب الذين من قبلهم لأن المقصود منه التكذيب وتعضيد تكذيبهم بحجّة أساءوا الفهم فيها ، فهم يحسبون أن الله يتولّى تحريك الناس لأعمالهم كما يحرّك صاحب خيال الظلّ ومحرّك اللعب أشباحه وتماثيله ، وذلك جهل منهم بالفرق بين تكوين المخلوقات وبين ما يكسبونه بأنفسهم ، وبالفرق بين أمر التكذيب وأمر التكليف ، وتخليط بين الرضى والإرادة ، ولو لا هذا التخليط لكان قولهم إيمانا.

والإشارة ب (كَذلِكَ) إلى الإشراك وتحريم أشياء من تلقاء أنفسهم ، أي كفعل هؤلاء فعل الذين من قبلهم وهم المذكورون فيما تقدم بقوله تعالى : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [سورة النحل : ٢٦] وبقوله : (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) [سورة النحل : ٣٣]. والمقصود : أنهم فعلوا كفعلهم فكانت عاقبتهم ما علمتم ، فلو كان فعلهم مرضيا لله لما أهلكهم ، فهلا استدلّوا بهلاكهم على أن الله غير راض بفعلهم ، فإن دلالة الانتقام أظهر من دلالة الإملاء ، لأن دلالة الانتقام وجودية ودلالة الإمهال عدمية.

وضمير (نَحْنُ) تأكيد للضمير المتّصل في (عَبَدْنا). وحصل به تصحيح العطف على ضمير الرفع المتّصل. وإعادة حرف النفي في قوله تعالى : (وَلا آباؤُنا) لتأكيد (ما) النافية.

وقد فرع على ذلك قطع المحاجّة معهم وإعلامهم أن الرسل ـ عليهم‌السلام ـ ما عليهم إلا البلاغ ومنهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاحذروا أن تكون عاقبتكم عاقبة أقوام الرّسل السالفين. وليس الرسل بمكلّفين بإكراه الناس على الإيمان حتى تسلكوا معهم التحكّك بهم والإغاظة لهم.

والبلاغ اسم مصدر الإبلاغ. والمبين : الموضّح الصريح.

والاستفهام ب (هل) إنكاري بمعنى النفي ، ولذلك جاء الاستثناء عقبه.

والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر إضافي لقلب اعتقاد المشركين من معاملتهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ للرسول غرضا شخصيا فيما يدعو إليه.

١١٩

وأثبت الحكم لعموم الرسل ـ عليهم‌السلام ـ وإن كان المردود عليهم لم يخطر ببالهم أمر الرسل الأولين لتكون الجملة تذييلا للمحاجّة ، فتفيد ما هو أعمّ من المردود.

والكلام موجّه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعليما وتسلية ، ويتضمّن تعريضا بإبلاغ المشركين.

(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦))

عطف على جملة (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [سورة النحل : ٣٥]. وهو تكملة لإبطال شبهة المشركين إبطالا بطريقة التفصيل بعد الإجمال لزيادة تقرير الحجّة ، فقوله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ) بيان لمضمون جملة (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [النحل : ٣٥].

وجملة (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ) إلى آخرها بيان لمضمون جملة (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

والمعنى : أن الله بيّن للأمم على ألسنة الرسل ـ عليهم‌السلام ـ أنّه يأمرهم بعبادته واجتناب عبادة الأصنام ؛ فمن كل أمّة أقوام هداهم الله فصدّقوا وآمنوا ، ومنهم أقوام تمكّنت منهم الضلالة فهلكوا. ومن سار في الأرض رأى دلائل استئصالهم.

و (أَنِ) تفسيرية لجملة (بَعَثْنا) لأنّ البعث يتضمّن معنى القول ، إذ هو بعث للتبليغ.

و (الطَّاغُوتَ) : جنس ما يعبد من دون الله من الأصنام. وقد يذكرونه بصيغة الجمع ، فيقال : الطواغيت ، وهي الأصنام. وتقدّم عند قوله تعالى : (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) في سورة النساء [٥١].

وأسندت هداية بعضهم إلى الله مع أنه أمر جميعهم بالهدى تنبيها للمشركين على إزالة شبهتهم في قولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) [سورة النحل : ٣٥] بأن الله بيّن لهم الهدى ، فاهتداء المهتدين بسبب بيانه ، فهو الهادي لهم.

والتّعبير في جانب الضلالة بلفظ «حقّت عليهم» دون إسناد الإضلال إلى الله إشارة إلى أن الله لما نهاهم عن الضلالة فقد كان تصميمهم عليها إبقاء لضلالتهم السابقة «فحقّت عليهم الضلالة» ، أي ثبتت ولم ترتفع.

١٢٠