تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

والرزق : هنا اسم للشيء المرزوق به.

والحسن : الذي لا يشوبه قبح في نوعه مثل قلّة وجدان وقت الحاجة ، أو إسراع فساد إليه كسوس البرّ ، أو رداءة كالحشف. ووجه الشبه هو المعنى الحاصل في حال المشبّه به من الحقارة وعدم أهليّة التصرّف والعجز عن كل عمل ، ومن حال الحرية والغنى والتصرّف كيف يشاء.

وجعلت جملة (فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ) مفرّعة على التي قبلها دون أن تجعل صفة للرزق للدّلالة على أن مضمون كلتا الجملتين مقصود لذاته كمال في موصوفه ، فكونه صاحب رزق حسن كمال ، وكونه يتصرّف في رزقه بالإعطاء كمال آخر ، وكلاهما بضدّ نقائص المملوك الذي لا يقدر على شيء من الإنفاق ولا ما ينفق منه.

وجعل المسند فعلا للدّلالة على التّقوي ، أي ينفق إنفاقا ثابتا. وجعل الفعل مضارعا للدّلالة على التجدّد والتكرر. أي ينفق ويزيد.

و (سِرًّا وَجَهْراً) حالان من ضمير (يُنْفِقُ) ، وهما مصدران مؤوّلان بالصّفة ، أي مسرّا وجاهرا بإنفاقه. والمقصود من ذكرهما تعميم الإنفاق ، كناية عن استقلال التصرّف وعدم الوقاية من مانع إيّاه عن الإنفاق.

وهذا مثل لغنى الله تعالى وجوده على الناس.

وجملة (هَلْ يَسْتَوُونَ) بيان لجملة (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) ، فبيّن غرض التشبيه بأنّ المثل مراد منه عدم تساوي الحالتين ليستدلّ به على عدم مساواة أصحاب الحالة الأولى لصاحب الصّفة المشبّهة بالحالة الثانية.

والاستفهام مستعمل في الإنكار.

وأما جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) فمعترضة بين الاستفهام المفيد للنفي وبين الإضراب ب (بَلْ) الانتقالية. والمقصود من هذه الجملة أنه تبيّن من المثل اختصاص الله بالإنعام فوجب أن يختصّ بالشكر وأن أصنامهم لا تستحقّ أن تشكر.

ولما كان الحمد مظهرا من مظاهر الشكر في مظهر النّطق جعل كناية عن الشكر هنا ، إذ كان الكلام على إخلال المشركين بواجب الشكر إذ أثنوا على الأصنام وتركوا الثناء

١٨١

على الله ، وفي الحديث «الحمد رأس الشّكر» (١).

جيء بهذه الجملة البليغة الدّلالة المفيدة انحصار الحمد في ملك الله تعالى ، وهو إما حصر ادّعائي لأن الحمد إنما يكون على نعمة ، وغير الله إذا أنعم فإنما إنعامه مظهر لنعمة الله تعالى التي جرت على يديه ، كما تقدم في صدر سورة الفاتحة ، وإما قصر إضافي قصر إفراد للردّ على المشركين إذ قسموا حمدهم بين الله وبين آلهتهم.

ومناسبة هذا الاعتراض هنا تقدّم قوله تعالى : (وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) [سورة النحل : ٧٢] (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً) [سورة النحل : ٧٣]. فلما ضرب لهم المثل المبيّن لخطئهم وأعقب بجملة (هَلْ يَسْتَوُونَ) ثني عنان الكلام إلى الحمد لله لا للأصنام.

وجملة (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) إضراب للانتقال من الاستدلال عليهم إلى تجهيلهم في عقيدتهم.

وأسند نفي العلم إلى أكثرهم لأن منهم من يعلم الحقّ ويكابر استبقاء للسيادة واستجلابا لطاعة دهمائهم ، فهذا ذمّ لأكثرهم بالصراحة وهو ذمّ لأقلّهم بوصمة المكابرة والعناد بطريق التعريض.

وهذا نظير قوله تعالى في سورة الزمر [٢٩] (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

وإنما جاءت صيغة الجمع في قوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوُونَ) لمراعاة أصحاب الهيئة المشبّهة ، لأنها أصنام كثيرة كل واحد منها مشبّه بعبد مملوك لا يقدر على شيء ، فصيغة الجمع هنا تجريد للتمثيلية ، أي هل يستوي أولئك مع الإله الحقّ القادر المتصرّف. وإنما أجري ضمير جمعهم على صيغة جمع العالم تغليبا لجانب أحد التمثيلين وهو جانب الإله القادر.

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ

__________________

(١) رواه عبد الرزاق عن عبد الله بن عمر مرفوعا وفي سنده انقطاع ، وروى الديلمي ما يؤيّد معنى هذا الحديث من حديث أنس بن مالك مرفوعا.

١٨٢

مُسْتَقِيمٍ (٧٦)).

هذا تمثيل ثان للحالتين بحالتين باختلاف وجه الشّبه. فاعتبر هنا المعنى الحاصل من حال الأبكم ، وهو العجز عن الإدراك ، وعن العمل ، وتعذّر الفائدة منه في سائر أحواله ؛ والمعنى الحاصل من حال الرجل الكامل العقل والنّطق في إدراكه الخير وهديه إليه وإتقان عمله وعمل من يهديه ، ضربه الله مثلا لكماله وإرشاده الناس إلى الحقّ ، ومثلا للأصنام الجامدة التي لا تنفع ولا تضرّ.

وقد قرن في التمثيل هنا حال الرجلين ابتداء ، ثم فصل في آخر الكلام مع ذكر عدم التّسوية بينهما بأسلوب من نظم الكلام بديع الإيجاز ، إذ حذف من صدر التمثيل ذكر الرجل الثاني للاقتصار على ذكره في استنتاج عدم التسوية تفنّنا في المخالفة بين أسلوب هذا التمثيل وأسلوب سابقة الذي في قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً) [سورة النحل : ٧٥]. ومثل هذا التفنّن من مقاصد البلغاء كراهية للتكرير لأن تكرير الأسلوب بمنزلة تكرير الألفاظ.

والأبكم : الموصوف بالبكم ـ بفتح الباء والكاف ـ وهو الخرس في أصل الخلقة من وقت الولادة بحيث لا يفهم ولا يفهم. وزيد في وصفه أنه زمن لا يقدر على شيء. وتقدّم عند قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) في أول سورة البقرة [١٨].

والكلّ ـ بفتح الكاف ـ العالة على الناس. وفي الحديث «من ترك كلّا فعلينا» ، أي من ترك عيالا فنحن نكفلهم. وأصل الكلّ : الثّقل. ونشأت عنه معان مجازية اشتهرت فساوت الحقيقة.

والمولى : الذي يلي أمر غيره. والمعنى : هو عالة على كافله لا يدبّر أمر نفسه. وتقدّم عند قوله تعالى : (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) في سورة آل عمران [١٥] ، وقوله تعالى : (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) في سورة يونس [٣٠].

ثم زاد وصفه بقلّة الجدوى بقوله تعالى : (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ) ، أي مولاه في عمل ليعمله أو يأتي به لا يأت بخير ، أي لا يهتدي إلى ما وجّه إليه ، لأن الخير هو ما فيه تحصيل الغرض من الفعل ونفعه.

ودلّت صلة (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) على أنه حكيم عالم بالحقائق ناصح للناس يأمرهم بالعدل لأنه لا يأمر بذلك إلا وقد علمه وتبصّر فيه.

١٨٣

والعدل : الحقّ والصواب الموافق للواقع.

والصراط المستقيم : المحجّة التي لا التواء فيها. وأطلق هنا على العمل الصالح ، لأن العمل يشبّه بالسيرة والسلوك فإذا كان صالحا كان كالسلوك في طريق موصلة للمقصود واضحة فهو لا يستوي مع من لا يعرف هدى ولا يستطيع إرشادا ، بل هو محتاج إلى من يكفله.

فالأول مثل الأصنام الجامدة التي لا تفقه وهي محتاجة إلى من يحرسها وينفض عنها الغبار والوسخ ، والثاني مثل لكماله تعالى في ذاته وإفاضته الخير على عباده.

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧))

كان ممّا حكي من مقالات كفرهم أنهم أقسموا بالله لا يبعث الله من يموت ، لأنهم توهّموا أن إفناء هذا العالم العظيم وإحياء العظام وهي رميم أمر مستحيل ، وأبطل الله ذلك على الفور بأن الله قادر على كل ما يريده.

ثم انتقل الكلام عقب ذلك إلى بسط الدلائل على الوحدانية والقدرة وتسلسل البيان ، وتفنّنت الأغراض بالمناسبات ، فكان من ذلك تهديدهم بأن الله لو يؤاخذ الناس بظلمهم ما ترك على الأرض من دابّة ، ولكنه يمهلهم ويؤخّرهم إلى أجل عيّنه في علمه لحكمته وحذّرهم من مفاجأته ، فثنى عنان الكلام إلى الاعتراض بالتذكير بأن الله لا يخرج عن قدرته أعظم فعل مما غاب عن إدراكهم وأن أمر الساعة التي أنكروا إمكانها وغرّهم تأخير حلولها هي مما لا يخرج عن تصرّف الله ومشيئته متى شاءه. فذلك قوله تعالى : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بحيث لم يغادر شيئا مما حكي عنهم من كفرهم وجدالهم إلا وقد بيّنه لهم استقصاء للإعذار لهم.

ومن مقتضيات تأخير هذا أنه يشتمل بصريحه على تعليم ، وبإيمائه إلى تهديد وتحذير.

فاللام في قوله : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لام الملك. والغيب : مصدر بمعنى اسم الفاعل ، أي الأشياء الغائبة. وتقدم في قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [سورة البقرة : ٣]. وهو الغائب عن أعين الناس من الأشياء الخفيّة والعوالم التي لا تصل

١٨٤

إلى مشاهدتها حواسّ المخلوقات الأرضية.

والإخبار بأنها ملك لله يقتضي بطريق الكناية أيضا أنه عالم بها.

وتقديم المجرور أفاد الحصر ، أي له لا لغيره. ولام الملك أفادت الحصر ، فيكون التقديم مفيدا تأكيد الحصر أو هو للاهتمام.

و (أَمْرُ السَّاعَةِ) : شأنها العظيم. فالأمر : الشأن المهمّ ، كما في قوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [سورة النحل : ١] ، وقول أبي بكر ـ رضي‌الله‌عنه ـ : «ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر» ، أي شأن وخطب.

و (السَّاعَةِ) : علم بالغلبة على وقت فناء هذا العالم ، وهي من جملة غيب الأرض.

ولمح البصر : توجّهه إلى المرئيّ لأن اللّمح هو النظر. ووجه الشّبه هو كونه مقدورا بدون كلفة ، لأن لمح البصر هو أمكن وأسرع حركات الجوارح فهو أيسر وأسرع من نقل الأرجل في المشي ومن الإشارة باليد.

وهذا التشبيه أفصح من الذي في قول زهير :

فهنّ ووادي الرّسّ كاليد للفم

ووجه الشّبه يجوز أن يكون تحقّق الوقوع بدون مشقّة ولا إنظار عند إرادة الله تعالى وقوعه ، وبذلك يكون الكلام إثباتا لإمكان الوقوع وتحذيرا من الاغترار بتأخيره.

ويجوز أن يكون وجه الشّبه السرعة ، أي سرعة الحصول عند إرادة الله ، أي ذلك يحصل فجأة بدون أمارات كقوله تعالى : (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) [سورة الأعراف : ١٨٧].

والمقصود : إنذارهم وتحذيرهم من أن تبغتهم الساعة ليقلعوا عمّا هم فيه من وقت الإنذار. ولا يتوهّم أن يكون البصر تشبيها في سرعة الحصول إذ احتمال معطّل لأن الواقع حارس منه.

و (أَوْ) في (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) للإضراب الانتقالي ، إضرابا عن التشبيه الأول بأن المشبّه أقوى في وجه الشّبه من المشبّه به ، فالمتكلّم يخيّل للسامع أنه يريد تقريب المعنى إليه بطريق التّشبيه ، ثم يعرض عن التّشبيه بأن المشبّه أقوى في وجه الشّبه وأنه لا يجد له شبيها فيصرّح بذلك فيحصل التقريب ابتداء ثم الإعراب عن الحقيقة ثانيا.

ثم المراد بالقرب في قوله تعالى : (أَقْرَبُ) على الوجه الأول في تفسير لمح البصر

١٨٥

هو القرب المكاني كناية عن كونه في المقدوريّة بمنزلة الشيء القريب التّناول كقوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [سورة ق : ١٦].

وعلى الوجه الثاني في تفسيره يكون القرب قرب الزمان ، أي أقرب من لمح البصر حصّة ، أي أسرع حصولا.

والتذييل بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) صالح لكلا التفسيرين.

(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨))

عود إلى إكثار الدلائل على انفراد الله بالتصرّف وإلى تعداد النّعم على البشر عطفا على جملة (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [النحل : ٧٢] بعد ما فصل بين تعداد النّعم بما اقتضاه الحال من التذكير والإنذار.

وقد اعتبر في هذه النّعم ما فيها من لطف الله تعالى بالناس ليكون من ذلك التخلّص إلى الدعوة إلى الإسلام وبيان أصول دعوة الإسلام في قوله تعالى : (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) [سورة النحل : ٨١] إلى آخره.

والمعنى : أنه كما أخرجكم من عدم وجعل فيكم الإدراك وما يتوقّف عليه الإدراك من الحياة فكذلك ينشئكم يوم البعث بعد العدم.

وإذ كان هذا الصّنع دليلا على إمكان البعث فهو أيضا باعث على شكر الله بتوحيده ونبذ الإشراك فإن الإنعام يبعث العاقل على الشكر.

وافتتاح الكلام باسم الجلالة وجعل الخبر عنه فعلا تقدم بيانه عند قوله تعالى : (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) [سورة النحل : ٦٥] والآيات بعده.

والإخراج الإبراز من مكان إلى آخر.

والأمّهات : جمع أمّ. وقد تقدم عند قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) في سورة النساء [٢٣].

والبطن : ما بين ضلوع الصدر إلى العانة ، وفيه الأمعاء والمعدة والكبد والرحم.

وجملة (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) حال من الضمير المنصوب في (أَخْرَجَكُمْ). وذلك أن

١٨٦

الطفل حين يولد لم يكن له علم بشيء ثم تأخذ حواسّه تنقل الأشياء تدريجا فجعل الله في الطفل آلات الإدراك وأصول التفكّر.

فقوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) تفسيره أنه أوجد فيكم إدراك السمع والبصر والعقل ، أي كوّنها في الناس حتى بلغت مبلغ كمالها الذي ينتهي بها إلى علم أشياء كثيرة ، كما دلّت عليه مقابلته بقوله تعالى : (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) ، أي فعلمتم أشياء.

ووجه إفراد السّمع وجمع الأبصار تقدم عند قوله تعالى : (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) في سورة يونس [٣١] ، وقوله تعالى ؛ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ) في سورة الأنعام [٤٦].

و (الْأَفْئِدَةَ) : جمع الفؤاد ، وأصله القلب. ويطلق كثيرا على العقل وهو المراد هنا.

فالسمع والبصر أعظم آلات الإدراك إذ بهما إدراك أهم الجزئيّات ، وهما أقوى الوسائل لإدراك العلوم الضرورية.

فالمراد بالسمع : الإحساس الذي به إدراك الأصوات الذي آلته الصماخ ، وبالإبصار: الإحساس المدرك للذّوات الذي آلته الحدقة. واقتصر عليهما من بين الحواس لأنهما أهمّ ، ولأن بهما إدراك دلائل الاعتقاد الحقّ.

ثم ذكر بعدهما الأفئدة ، أي العقل مقرّ الإدراك كلّه ، فهو الذي تنقل إليه الحواس مدركاتها ، وهي العلم بالتصوّرات المفردة.

وللعقل إدراك آخر وهو إدراك اقتران أحد المعلومين بالآخر ، وهو التصديقات المنقسمة إلى البديهيّات : ككون نفي الشيء وإثباته من سائر الوجوه لا يجتمعان ، وككون الكلّ أعظم من الجزء.

وإلى النظريات وتسمّى الكسبيّات ، وهي العلم بانتساب أحد المعلومين إلى الآخر بعد حركة العقل في الجمع بينهما أو التّفريق ، مثل أن يحضر في العقل : أن الجسم ما هو ، وأن المحدث ـ بفتح الدال ـ ما هو. فإن مجرد هذين التصوّرين في الذهن لا يكفي في جزم العقل بأن الجسم محدث بل لا بد فيه من علوم أخرى سابقة وهي ما يدلّ على المقارنة بين ماهية الجسمية وصفة الحدوث.

فالعلوم الكسبية لا يمكن اكتسابها إلا بواسطة العلوم البديهية. وحصول هذه العلوم

١٨٧

البديهية إنما يحصل عند حدوث تصوّر موضوعاتها وتصوّر محمولاتها. وحدوث هذه التصوّرات إنما هو بسبب إعانة الحواس على جزئياتها ، فكانت الحواس الخمس هي السبب الأصلي لحدوث هذه العلوم ، وكان السمع والبصر أول الحواس تحصيلا للتصوّرات وأهمّها.

وهذه العلوم نعمة من الله تعالى ولطف ، لأن بها إدراك الإنسان لما ينفعه وعمل عقله فيما يدلّه على الحقائق ، ليسلم من الخطأ المفضي إلى الهلاك والأرزاء العظيمة ، فهي نعمة كبرى. ولذلك قال تعالى عقب ذكرها (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ، أي هي سبب لرجاء شكرهم واهبها سبحانه.

والكلام على معنى (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) مضى غير مرة في نظيره ومماثله.

(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩))

موقع هذه الجملة موقع التّعليل والتّدليل على عظيم قدرة الله وبديع صنعه وعلى لطفه بالمخلوقات ، فإنه لما ذكر موهبة العقل والحواس التي بها تحصيل المنافع ودفع الأضرار نبّه الناس إلى لطف يشاهدونه أجلى مشاهدة لأضعف الحيوان ، بأن تسخير الجوّ للطير وخلقها صالحة لأن ترفرف فيه بدون تعليم هو لطف بها اقتضاه ضعف بنيّاتها ، إذ كانت عادمة وسائل الدفاع عن حياتها ، فجعل الله لها سرعة الانتقال مع الابتعاد عن تناول ما يعدو عليها من البشر والدوابّ.

فلأجل هذا الموقع لم تعطف الجملة على التي قبلها لأنها ليس في مضمونها نعمة على البشر ، ولكنها آية على قدرة الله تعالى وعلمه ، بخلاف نظيرتها في سورة الملك [١٩] (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) فإنها عطفت على آيات دالّة على قدرة الله تعالى من قوله : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) [الملك : ٥] ، ثم قال : (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الملك : ٦] ثم قال : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) [سورة الملك : ١٦] ثم قال : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ) الآية. ولذلك المعنى عقبت هذه وحدها بجملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

والتّسخير : التّذليل للعمل. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) في سورة الأعراف [٥٤].

١٨٨

والجوّ : الفضاء الذي بين الأرض والسماء ، وإضافته إلى السماء لأنه يبدو متّصلا بالقبّة الزرقاء في ما يخال النّاظر.

والإمساك : الشدّ عن التفلّت. وتقدم في قوله تعالى : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) في سورة البقرة [٢٢٩].

والمراد هنا : ما يمسكهنّ عن السقوط إلى الأرض من دون إرادتها ، وإمساك الله إيّاها خلقه الأجنحة لها والأذناب ، وجعله الأجنحة والأذناب قابلة للبسط ، وخلق عظامها أخفّ من عظام الدوابّ بحيث إذا بسطت أجنحتها وأذنابها ونهضت بأعصابها خفّت خفّة شديدة فسبحت في الهواء فلا يصلح ثقلها لأن يخرق ما تحتها من الهواء إلا إذا قبضت من أجنحتها وأذنابها وقوّست أعصاب أصلابها عند إرادتها النّزول إلى الأرض أو الانخفاض في الهواء. فهي تحوم في الهواء كيف شاءت ثم تقع متى شاءت أو عييت. فلو لا أن الله خلقها على تلك الحالة لما استمسكت ، فسمّي ذلك إمساكا على وجه الاستعارة ، وهو لطف بها.

والرؤية : بصرية. وفعلها يتعدّى بنفسه ، فتعديته بحرف (إِلَى) لتضمين الفعل معنى (ينظروا).

و (مُسَخَّراتٍ) حال. وجملة (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) حال ثانية.

وقرأ الجمهور (أَلَمْ يَرَوْا) بياء الغائب على طريقة الالتفات عن خطاب المشركين في قوله تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) [سورة النحل : ٧٨].

وقرأ ابن عامر وحمزة ويعقوب وخلف ا لم تروا بتاء الخطاب تبعا للخطاب المذكور.

والاستفهام إنكاري. معناه : إنكار انتفاء رؤيتهم الطير مسخّرات في الجوّ بتنزيل رؤيتهم إيّاها منزلة عدم الرؤية ، لانعدام فائدة الرؤية من إدراك ما يدلّ عليه المرئيّ من انفراد الله تعالى بالإلهية.

وجملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) مستأنفة استئنافا بيانيا ، لأن الإنكار على المشركين عدم الانتفاع بما يرونه من الدلائل يثير سؤالا في نفس السامع : أكان عدم الانتفاع بدلالة رؤية الطير عاما في البشر ، فيجاب بأن المؤمنين يستدلّون من ذلك بدلالات كثيرة.

١٨٩

والتأكيد ب (إِنَ) مناسب لاستفهام الإنكار على الذين لم يروا تلك الآيات ، فأكّدت الجملة الدّالة على انتفاع المؤمنين بتلك الدّلالة ، لأن الكلام موجّه للذين لم يهتدوا بتلك الدّلالة ، فهم بمنزلة من ينكر أن في ذلك دلالة للمؤمنين لأن المشركين ينظرون بمرآة أنفسهم.

وبين الإنكار عليهم عدم رؤيتهم تسخير الطير وبين إثبات رؤية المؤمنين لذلك محسّن الطباق. وبين نفي عدم رؤية المشركين وتأكيد إثبات رؤية المؤمنين لذلك محسّن الطباق أيضا. وبين ضمير (يَرَوْا) وقوله : «قوم يؤمنون» التضادّ أيضا ، فحصل الطباق ثلاث مرّات. وهذا أبلغ طباق جاء محويا للبيان.

وجمع الآيات لأن في الطير دلائل مختلفة : من خلقة الهواء ، وخلقة أجساد الطير مناسبة للطيران في الهواء ، وخلق الإلهام للطير بأن يسبح في الجو ، وبأن لا يسقط إلى الأرض إلا بإرادته. وخصّت الآيات بالمؤمنين لأنهم بخلق الإيمان قد ألفوا إعمال تفكيرهم في الاستدلال على حقائق الأشياء ، بخلاف أهل الكفر فإن خلق الكفر مطبوع على النفرة من الاقتداء بالنّاصحين وعلى مكابرة الحقّ.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠))

هذا من تعداد النّعم التي ألهم الله إليها الإنسان ، وهي نعمة الفكر بصنع المنازل الواقية والمرفّهة وما يشبهها من الثياب والأثاث عطفا على جملة (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) [سورة النحل : ٧٨]. وكلّها من الألطاف التي أعدّ الله لها عقل الإنسان وهيّأ له وسائلها.

وهذه نعمة الإلهام إلى اتّخاذ المساكن وذلك أصل حفظ النوع من غوائل حوادث الجوّ من شدّة برد أو حرّ ومن غوائل السباع والهوامّ. وهي أيضا أصل الحضارة والتمدّن لأن البلدان ومنازل القبائل تتقوّم من اجتماع البيوت. وأيضا تتقوّم من مجتمع الحلل والخيام.

والقول في نظم جملة (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ) كالقول في التي قبلها.

١٩٠

وبيوت : يجوز فيه ضمّ الموحدة وكسرها ، وهو جمع بيت. وضمّ الموحّدة هو القياس لأنه على وزن فعول ، وهو مطرد في جمع فعل ـ بفتح الفاء وسكون العين ـ. وأما لغة ـ كسر الباء ـ فلمناسبة وقوع الياء التحتية بعد الموحّدة المضمومة ، لأن الانتقال من حركة الضمّ إلى النّطق بالياء ثقيل. وقال الزجاج : أكثر النحويين لا يعرفون الكسر (أي لا يعرفونه لغة) وبيّن أبو عليّ جوازه. وتقدم في سورة البقرة.

وبالكسر قرأ الجمهور. وقرأها بالضمّ أبو عمرو وورش عن نافع وحفص عن عاصم.

والبيت : مكان يجعل له بناء وفسطاط يحيط به يعين مكانه ليتّخذه جاعله مقرا يأوي إليه ويستكنّ به من الحرّ والقرّ. وقد يكون محيطه من حجر وطين ويسمّى جدارا ، أو من أخشاب أو قصب أو غير ذلك وتسمّى أيضا الأخصاص. ويوضع فوق محيطه غطاء ساتر من أعلاه يسمّى السقف ، يتّخذ من أعواد ويطيّن عليها ، وهذه بيوت أهل المدن والقرى.

وقد يكون المحيط بالبيت متّخذا من أديم مدبوغ ويسمى القبّة ، أو من أثواب تنسج من وبر أو شعر أو صوف ويسمّى الخيمة أو الخباء ، وكلّها يكون بشكل قريب من الهرميّ تلتقي شقّتاه أو شققه من أعلاه معتمدة على عمود وتنحدر منه متّسعة على شكل مخروط.

وهذه بيوت الأعراب في البوادي أهل الإبل والغنم يتّخذونها لأنها أسعد لهم في انتجاعهم ، فينقلونها معهم إذا انتقلوا يتتبّعون مواقع الكلأ لأنعامهم والكمأة لعيشهم. وقد تقدّم ذكر البيت عند قوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) في سورة البقرة [١٢٥].

و (جَعَلَ) هنا بمعنى أوجد ، فتتعدّى إلى مفعول واحد.

والسكن : اسم بمعنى المسكون. والسكنى : مصدر سكن فلان البيت ، إذا جعله مقرّا له ، وهو مشتقّ من السكون ، أي القرار.

وانتصب قوله تعالى : (سَكَناً) على المفعولية ل (جَعَلَ).

وقوله : (مِنْ بُيُوتِكُمْ) بيان للسكن ، فتكون (مِنْ) بيانية ، أو تجعل ابتدائية ويكون الكلام من قبيل التجريد بتنزيل البيوت منزلة شيء آخر غير السكن ، كقولهم : لئن لقيت فلانا لتلقينّ منه بحرا. وأصل التركيب : والله جعل لكم بيوتكم سكنا.

وقيل : إن (سَكَناً) مصدر وهو قول ضعيف ، وعليه فيكون الامتنان بالإلهام الذي

١٩١

دلّ عليه السكون ، وتكون (مِنْ) ابتدائية ، لأن أول السكون يقع في البيوت.

وشمل البيوت هنا جميع أصنافها.

وخصّ بالذّكر القباب والخيام في قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) لأن القباب من أدم ، والخيام من منسوج الأوبار والأصواف والأشعار ، وهي ناشئة من الجلد ، لأن الجلد هو الإهاب بما عليه ، فإذا دبغ وأزيل منه الشّعر فهو الأديم.

وهذا امتنان خاص بالبيوت القابلة للانتقال والارتحال ، والبشر كلّهم لا يعدون أن يكونوا أهل قرى أو قبائل رحلا.

والسين والتاء في (تَسْتَخِفُّونَها) للوجدان ، أي تجدونها خفيفة ، أي خفيفة المحمل حين ترحلون ، إذ يسهل نقضها من مواضعها وطيّها وحملها على الرواحل ، وحين تنيخون إناخة الإقامة في الموضع المنتقل إليه فيسهل ضربها وتوثيقها في الأرض.

والظعن ـ بفتح الظاء والعين وتسكن العين ـ ، وقد قرأه بالأول نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب ، وبالثاني الباقون ، وهو السّفر.

وأطلق اليوم على الحين والزمن ، أي وقت سفركم.

والأثاث ـ بفتح الهمزة ـ اسم جمع للأشياء التي تفرش في البيوت من وسائد وبسط وزرابيّ ، وكلها تنسج أو تحشى بالأصواف والأشعار والأوبار.

والمتاع أعمّ من الأثاث ، فيشمل الأعدال والخطم والرحائل واللّبود والعقل.

فالمتاع : ما يتمتّع به وينتفع ، وهو مشتقّ من المتع ، وهو الذهاب بالشيء ، ولملاحظة اشتقاقه تعلّق به إلى حين. والمقصود من هذا المتعلّق الوعظ بأنها أو أنهم صائرون إلى زوال يحول دون الانتفاع بها ليكون الناس على أهبة واستعداد للآخرة فيتّبعوا ما يرضي الله تعالى. كما قال : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) [سورة الأحقاف : ٢٠].

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١))

١٩٢

عطف على أخواتها.

والقول في نظم (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ) كالقول في نظائره المتقدّمة.

وهذا امتنان بنعمة الإلهام إلى التوقّي من أضرار الحرّ والقرّ في حالة الانتقال ، أعقبت به المنّة بذلك في حال الإقامة والسكنى ، وبنعمة خلق الأشياء التي يكون بها ذلك التوقّي باستعمال الموجود وصنع ما يحتاج إليه الإنسان من اللباس ، إذ خلق الله الظّلال صالحة للتوقّي من حرّ الشمس ، وخلق الكهوف في الجبال ليمكن اللجأ إليها ، وخلق مواد اللباس مع الإلهام إلى صناعة نسجها ، وخلق الحديد لاتّخاذ الدروع للقتال.

و (من) في (مِمَّا خَلَقَ) ابتدائية.

والظلال تقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) [سورة النحل : ٤٨] آنفا ، لأن الظلال آثار حجب الأجسام ضوء الشمس من الوقوع على الأرض.

والأكنان : جمع كنّ ـ بكسر الكاف ـ وهو فعل بمعنى مفعول ، أي مكنون فيه ، وهي الغيران والكهوف.

و (من) في قوله تعالى : (مِمَّا خَلَقَ) ، و (مِنَ الْجِبالِ) ، للتبعيض. كانوا يأوون إلى الكهوف في شدّة حرّ الهجير أو عند اشتداد المطر ، كما ورد في حديث الثلاثة الذين سألوا الله بأفضل أعمالهم في «صحيح البخاري».

والسّرابيل : جمع سربال ، وهو القميص يقي الجسد حرّ الشمس ، كما يقيه البرد.

وخص الحرّ هنا لأنه أكثر أحوال بلاد المخاطبين في وقت نزولها ، على أنه لما ذكر الدفء في قوله تعالى : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) [سورة النحل : ٥] ذكر ضدّه هنا.

والسّرابيل التي تقي البأس : هي دروع الحديد. ولها من أسماء القميص الدرع ، والسّربال ، والبدن.

والبأس : الشدّة في الحرب. وإضافته إلى الضمير على معنى التوزيع ، أي تقي بعضكم بأس بعض ، كما فسر به قوله تعالى : (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) [سورة الأنعام : ٦٥] ، وقال تعالى : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) [سورة الحديد : ٢٥] ، وهو

١٩٣

بأس السيوف ، وقوله تعالى : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) ليحصنكم (مِنْ بَأْسِكُمْ) [سورة الأنبياء : ٨٠].

وجملة (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) تذييل لما ذكر من النّعم ، والمشار إليه هو ما في النّعم المذكورة من الإتمام ، أو إلى الإتمام المأخوذ من (يُتِمُ).

و (لعلّ) للرجاء ، استعملت في معنى الرّغبة ، أي رغبة في أن تسلموا ، أي تتّبعوا دين الإسلام الذي يدعوكم إلى ما مآله شكر نعم الله تعالى.

وتقدم تأويل معنى الرجاء في كلام الله تعالى من سورة البقرة.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢))

تفريع على جملة (لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) [سورة النحل : ٨١] وقع اعتراضا بين جملة (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) [سورة النحل : ٨١] وجملة (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) [سورة النحل : ٨٤].

وقد حوّل الخطاب عنهم إلى خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو نوع من الالتفات فيه التفات من أسلوب إلى أسلوب والتفات عمّن كان الكلام موجّها إليه بتوجيه الكلام إلى شخص آخر.

والمعنى : كذلك يتمّ نعمته عليكم لتسلموا فإن لم يسلموا فإنما عليك البلاغ.

والمقصود : تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عدم استجابتهم.

والتولّي : الإعراض. وفعل (تَوَلَّوْا) هنا بصيغة الماضي ، أي فإن أعرضوا عن الدعوة فلا تقصير منك ولا غضاضة عليك فإنك قد بلّغت البلاغ المبين للمحجّة.

والقصر إضافي ، أي ما عليك إلا البلاغ لا تقليب قلوبهم إلى الإسلام ، أو لا تولى جزاءهم على الإعراض ، بل علينا جزاؤهم كقوله تعالى : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) [سورة الرعد : ٤٠].

وجعل هذا جوابا لجملة (فَإِنْ تَوَلَّوْا) من إقامة السبب والعلّة مقام المسبّب والمعلول: وتقدير الكلام : فإن تولّوا فلا تقصير ولا مؤاخذة عليك لأنك ما عليك إلا البلاغ. ونظير هذه قوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [سورة المائدة : ٩٢].

١٩٤

(يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣))

استئناف بياني لأن تولّيهم عن الإسلام مع وفرة أسباب اتّباعه يثير سؤالا في نفس السامع : كيف خفيت عليهم دلائل الإسلام ، فيجاب بأنهم عرفوا نعمة الله ولكنهم أعرضوا عنها إنكارا ومكابرة. ويجوز أن تجعلها حالا من ضمير (تَوَلَّوْا) [سورة النحل : ٨٢]. ويجوز أن تكون بدل اشتمال لجملة (تَوَلَّوْا).

وهذه الوجوه كلها تقتضي عدم عطفها على ما قبلها. والمعنى : هم يعلمون نعمة الله المعدودة عليهم فإنهم منتفعون بها ، ومع تحقّقهم أنها نعمة من الله ينكرونها ، أي ينكرون شكرها فإن النّعمة تقتضي أن يشكر المنعم عليه بها من أنعم عليه ؛ فلما عبدوا ما لا ينعم عليهم فكأنهم أنكروها ، فقد أطلق فعل «ينكرون» بمعنى إنكار حقّ النّعمة ، فإسناد إنكار النّعمة إليهم مجاز لغوي ، أو هو مجاز عقلي ، أي ينكرون ملابسها وهو الشكر.

و (ثُمَ) للتراخي الرتبي ، كما هو شأنها في عطف الجمل ، فهو عطف على جملة (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ) ، وكأنه قيل : وينكرونها ، لأن (ثُمَ) لما كانت للعطف اقتضت التّشريك في الحكم ، ولما كانت للتراخي الرتبي زال عنها معنى المهلة الزمانية الموضوعة هي له فبقي لها معنى التّشريك وصارت المهلة مهلة رتبية لأن إنكار نعمة الله أمر غريب.

وإنكار النّعمة يستوي فيه جميع المشركين أئمّتهم ودهماؤهم ، ففريق من المشركين وهم أئمّة الكفر شأنهم التعقّل والتأمّل فإنهم عرفوا النّعمة بإقرارهم بالمنعم وبما سمعوا من دلائل القرآن حتى تردّدوا وشكّوا في دين الشّرك ثم ركبوا رءوسهم وصمّموا على الشّرك. ولهذا عبّر عن ذلك بالإنكار المقابل للإقرار.

وأما قوله تعالى : (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) فظاهر كلمة «أكثر» وكلمة (الْكافِرُونَ) أن الذين وصفوا بأنهم الكافرون هم غالب المشركين لا جميعهم ، فيحمل المراد بالغالب على دهماء المشركين. فإن معظمهم بسطاء العقول بعداء عن النّظر فهم لا يشعرون بنعمة الله ، فإن نعمة الله تقتضي إفراده بالعبادة. فكان إشراكهم راسخا ، بخلاف عقلائهم وأهل النظر فإن لهم تردّدا في نفوسهم ولكن يحملهم على الكفر حبّ السيادة في قومهم. وقد تقدم قوله تعالى فيهم : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) في سورة العقود [١٠٣]. وهم الذين قال الله تعالى فيهم في الآية الأخرى (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [سورة الأنعام : ٣٣].

١٩٥

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤))

الواو عاطفة جملة (يَوْمَ نَبْعَثُ) إلخ على جملة (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [سورة النحل : ٨٢] بتقدير : واذكر يوم نبعث من كل أمّة شهيدا. فالتذكير بذلك اليوم من البلاغ المبين. والمعنى : فإن تولّوا فإنما عليك البلاغ المبين ، وسنجازي يوم نبعث من كل أمّة شهيدا عليها. ذلك أن وصف شهيد يقتضي أنه شاهد على المؤمنين به وعلى الكافرين ، أي شهيد لأنه بلّغهم رسالة الله.

وبعث شهيد من كل أمّة يفيد أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهيد على هؤلاء الكافرين كما سيجيء عقبه قوله تعالى : (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) [سورة النساء : ٤١] ، وبذلك انتظم أمر العطف والتخلّص إلى وصف يوم الحساب وإلى التّنويه بشأنه.

وانتصب (يَوْمَ نَبْعَثُ) على المفعول به للفعل المقدّر. ولك أن تجعل (يَوْمَ) منصوبا على الظرفية لعامل محذوف يدلّ عليه الكلام المذكور يقدّر بما يسمح به المعنى ، مثل : نحاسبهم حسابا لا يستعتبون منه ، أو وقعوا فيما وقعوا من الخطب العظيم.

والذي دعا إلى هذا الحذف هو أن ما حقّه أن يكون عاملا في الظرف وهو (لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) قد حوّل إلى جعله معطوفا على جملة الظرف بحرف (ثُمَ) الدال على التراخي الرتبي ، إذ الأصل : ويوم نبعث من كل أمّة شهيدا لا يؤذن للذين كفروا ... إلى آخره ، فبقي الظرف بدون متعلّق فلم يكن للسامع بدّ من تقديره بما تذهب إليه نفسه. وذلك يفيد التهويل والتفظيع وهو من بديع الإيجاز.

والشّهيد : الشّاهد. وقد تقدم نظيره عند قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) في سورة النساء [٤١].

والبعث : إحضاره في الموقف.

و (ثُمَ) للترتيب الرتبي ، لأن إلجامهم عن الكلام مع تعذّر الاستعتاب أشدّ هولا من الإتيان بالشهيد عليهم. وليست (ثُمَ) للتراخي في الزمن ، لأن عدم الإذن لهم مقارن لبعث الشّهيد عليهم. والمعنى : لا يؤذن لهم بالمجادلة عن أنفسهم ، فحذف متعلق (يُؤْذَنُ) لظهوره من قوله تعالى : (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ).

١٩٦

ويجوز أن يكون نفي الإذن كناية عن الطّرد كما كان الإذن كناية عن الإكرام ، كما في حديث جرير بن عبد الله «ما استأذنت رسول الله منذ أسلمت إلا أذن لي». وحينئذ لا يقدّر له متعلّق أو لا يؤذن لهم في الخروج من جهنّم حين يسألونه بقولهم : (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) [سورة غافر : ٤٩] فهو كقوله تعالى : (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) [سورة الجاثية : ٣٥].

والاستعتاب : أصله طلب العتبى ، والعتبى : الرضى بعد الغضب ، يقال : استعتب فلان فلانا فأعتبه ، إذا أرضاه ، قال تعالى : (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) [سورة فصلت : ٢٤].

وإذا بني للمجهول فالأصل أن يكون نائب فاعله هو المطلوب منه الرضى ، تقول : استعتب فلان فلم يعتب. وأما ما وقع في القرآن منه مبنيّا للمجهول فقد وقع نائب فاعله ضمير المستعتبين كما في هذه الآية ، وكما في قوله تعالى في سورة الروم [٥٧] : فيومئذ لا تنفع (الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) ، وفي سورة الجاثية [٣٥] : (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ). ففسّره الراغب فقال : الاستعتاب أن يطلب من الإنسان أن يطلب العتبى اه.

وعليه فيقال : استعتب فلم يستعتب ، ويقال : على الأصل استعتب فلان فلم يعتب. وهذا استعمال نشأ عن الحذف. وأصله : استعتب له ، أي طلب منه أن يستعتب ، فكثر في الاستعمال حتى قلّ استعمال استعتب مبنيّا للمجهول في غير هذا المعنى.

وعطف (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) على (لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) وإن كان أخصّ منه ، فهو عطف خاص على عام ، للاهتمام بخصوصه للدّلالة على أنهم مأيوس من الرضى عنهم عند سائر أهل الموقف بحيث يعلمون أن لا طائل في استعتابهم ، فلذلك لا يشير أحد عليهم بأن يستعتبوا. فإن جعلت (لا يُؤْذَنُ) كناية عن الطّرد فالمعنى : أنهم يطردون ولا يجدون من يشير عليهم بأن يستعتبوا.

(وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥))

عطف على جملة (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) [سورة النحل : ٨٤]. و (إِذا) شرطية ظرفية.

وجملة (فَلا يُخَفَّفُ) جواب (إِذا). وقرن بالفاء لتأكيد معنى الشرطية والجوابية

١٩٧

لدفع احتمال الاستئناف.

وصاحب «الكشاف» جعل (إِذا) ظرفا مجرّدا عن معنى الشرطية منصوبا بفعل محذوف لقصد التهويل يقتضي تقديره عدم وجود متعلّق للظرف ليقدّر له متعلّق بما يناسب ، كما قدّر في قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ) [سورة النحل : ٨٤]. والتقدير : إذا رأى الذين ظلموا العذاب ثقل عليهم وبغتهم ، وعلى هذا فالفاء في قوله : (فَلا يُخَفَّفُ) فصيحة وليست رابطة للجواب.

و (الَّذِينَ ظَلَمُوا) هم الذين كفروا ، فالتعبير به من الإظهار في مقام الإضمار لقصد إجراء الصفات المتلبّسين بها عليهم. والمعنى : فلا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون ، ثم يساقون إلى العذاب فإذا رأوه لا يخفّف عنهم ، أي يسألون تخفيفه أو تأخير الإقحام فيه فلا يستجاب لهم شيء من ذلك.

وأطلق العذاب على آلاته ومكانه.

وجاء المسند إليه مخبرا عنه بالجملة الفعلية ، لأن الإخبار بالجملة الفعلية عن الاسم يفيد تقوّي الحكم ، فأريد تقوّي حكم النفي ، أي أن عدم تخفيف العذاب عنهم محقّق الوقوع لا طماعية في إخلافه ، فحصل تأكيد هذه الجملة كما حصل تأكيد الجملة التي قبلها بالفاء ، أي فهم يلقون بسرعة في العذاب.

[٨٦ ، ٨٧] (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧))

(الَّذِينَ أَشْرَكُوا) هم الذين ظلموا الذين يرون العذاب ، وهم الذين كفروا الذين لا يؤذن لهم. وإجراء هذه الصّلات الثلاث عليهم لزيادة التسجيل عليهم بأنواع إجرامهم الراجعة إلى تكذيب ما دعاهم الله إليه ، وهو نكتة الإظهار في مقام الإضمار هنا ، كما تقدّم في قوله تعالى : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ) [سورة النحل : ٨٥].

فالإشراك المقصود هنا هو إشراكهم الأصنام في صفة الإلهية مع الله تعالى ، فيتعيّن أن يكون المراد بالشركاء الأصنام ، أي الشركاء لله حسب اعتقادهم. وبهذا الاعتبار أضيف لفظ «شركاء» إلى ضمير (الَّذِينَ ظَلَمُوا) في قوله تعالى : (شُرَكاءَهُمْ) ، كقول خالد بن

١٩٨

الصقعب النهدي لعمرو بن معديكرب وقد تحدّث عمرو في مجلس قوم بأنه أغار على بني نهد وقتل خالدا ، وكان خالد حاضرا في ذلك المجلس فناداه : مهلا أبا ثور قتيلك يسمع ، أي قتيلك المزعوم ، فالإضافة للتهكّم. والمعنى : إذا رأى الذين أشركوا الشركاء عندهم ، أي في ظنّهم.

ولك أن تجعل لفظ «شركاء» لقبا زال منه معنى الوصف بالشركة وصار لقبا للأصنام ، فتكون الإضافة على أصلها.

والمعنى : أنهم يرون الأصنام حين تقذف معهم في النار ، قال تعالى : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [سورة البقرة : ٢٤].

وقولهم : (رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا) إما من قبيل الاعتراف عن غير إرادة فضحا لهم ، كقوله تعالى : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ) [سورة النور : ٢٤] ، وإما من قبيل التنصّل وإلقاء التّبعة على المعبودات كأنهم يقولون هؤلاء أغرونا بعبادتهم من قبيل قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) [سورة البقرة : ١٦٧].

والفاء في (فَأَلْقَوْا) للتّعقيب للدّلالة على المبادرة بتكذيب ما تضمّنه مقالهم ، أنطق الله تلك الأصنام فكذّبت ما تضمّنه مقالهم من كون الأصنام شركاء لله ، أو من كون عبادتهم بإغراء منها تفضيحا لهم وحسرة عليهم.

والجمع في اسم الإشارة واسم الموصول جمع العقلاء جريا على اعتقادهم إلهية الأصنام.

ولما كان نطق الأصنام غير جار على المتعارف عبّر عنه بالإلقاء المؤذن بكون القول أجراه الله على أفواه الأصنام من دون أن يكونوا ناطقين فكأنه سقط منها.

وإسناد الإلقاء إلى ضمير الشركاء مجاز عقلي لأنها مظهره.

وأجرى عليهم ضمير جمع العقلاء في فعل «ألقوا» مشاكلة لاسم الإشارة واسم الموصول للعقلاء.

ووصفهم بالكذب متعلّق بما تضمّنه كلامهم أن أولئك آلهة يدعون من دون الله على نحو ما وقع في الحديث : «فيقال للنّصارى : ما كنتم تعبدون ، فيقولون : كنا نعبد المسيح ابن الله ، فيقال لهم : كذبتم ما اتّخذ الله من ولد».

١٩٩

وأما صريح كلامهم وهو قولهم : (هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) فهم صادقون فيه.

وجملة (إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) بدل من (الْقَوْلَ). وأعيد فعل ألقوا في قوله : (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) لاختلاف فاعل الإلقاء ، فضمير القول الثاني عائد إلى (الَّذِينَ أَشْرَكُوا).

ولك أن تجعل فعل ألقوا الثاني مماثلا لفعل (أَلْقَوْا) السابق. ولك أن تجعل الإلقاء تمثيلا لحالهم بحال المحارب إذا غلب إذ يلقي سلاحه بين يدي غالبه ، ففي قوله : (أَلْقَوْا) مكنية تمثيلية مع ما في لفظ (أَلْقَوْا) من المشاكلة.

و (السَّلَمَ) ـ بفتح اللام ـ : الاستسلام ، أي الطاعة وترك العناد.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي غاب عنهم وزايلهم ما كانوا يفترونه في الدنيا من الاختلافات للأصنام من أنها تسمع لهم ونحو ذلك.

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨))

لما ذكر العذاب الذين هم لاقوه على كفرهم استأنف هنا بذكر زيادة العذاب لهم على الزّيادة في كفرهم بأنهم يصدّون الناس عن اتّباع الإسلام ، وهو المراد بالصدّ عن سبيل الله ، أي السبيل الموصلة إلى الله ، أي إلى الكون في أوليائه وحزبه. والمقصود : تنبيه المسلمين إلى كيدهم وإفسادهم ، والتّعريض بالتّحذير من الوقوع في شراكهم.

وزيادة العذاب : مضاعفته.

والتّعريف في قوله تعالى : (فَوْقَ الْعَذابِ) تعريف الجنس المعهود حيث تقدّم ذكره في قوله تعالى : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ) [سورة النحل : ٨٥] ، لأن عذاب كفرهم لما كان معلوما بكثرة الحديث عنه صار كالمعهود ؛ وأما عذاب صدّهم الناس فلا يخطر بالبال فكان مجهولا فناسبه التنكير.

والباء في (بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) للسببية. والمراد : إفسادهم الراغبين في الإسلام بتسويل البقاء على الكفر ، كما فعلوا مع الأعشى حين جاء مكّة راغبا في الإسلام مادحا الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقصيدة :

هل اغتمضت عيناك ليلة أرمدا

٢٠٠