تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

وقصّته في كتب السيرة والأدب. وكما فعلوا مع عامر بن الطّفيل الدّوسي فإنه قدم مكّة فمشى إليه رجال من قريش فقالوا : يا طفيل إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا وقد فرّق جماعتنا وشتّت أمرنا وإنما قوله كالسحر ، وإنّا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا فلا تكلمنّه ولا تسمعنّ منه. وقد ذكر في قصة إسلام أبي ذرّ كيف تعرّضوا له بالأذى في المسجد الحرام حين علموا إسلامه.

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩))

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ).

تكرير لجملة (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) [سورة النحل : ٨٤] ليبنى عليه عطف جملة (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) على جملة (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ).

ولما كان تكريرا أعيد نظير الجملة على صورة الجملة المؤكّدة مقترنة بالواو ، ولأن في هذه الجملة زيادة وصف (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فحصلت مغايرة مع الجملة السابقة والمغايرة مقتضية للعطف أيضا.

ومن دواعي تكرير مضمون الجملة السابقة أنه لبعد ما بين الجملتين بما اعترض بينهما من قوله تعالى : (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) إلى قوله : (بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) [سورة النحل : ٨٤ ـ ٨٨] ، فهو كالإعادة في قول لبيد :

فتنازعا سبطا يطير ظلاله

كدخان مشعلة يشبّ ضرامها

مشمولة غلثت بنابت عرفج

كدخان نار ساطع أسنامها

مع أن الإعادة هنا أجدر لأن الفصل أطول.

وقد حصل من هذه الإعادة تأكيد التهديد والتسجيل.

وعدّي فعل (نَبْعَثُ) هنا بحرف (فِي) ، وعدّي نظيره في الجملة السابقة بحرف (من) ليحصل التفنّن بين المكرّرين تجديدا لنشاط السامعين.

وزيد في هذه الجملة أن الشهيد يكون من أنفسهم زيادة في التذكير بأن شهادة الرسل على الأمم شهادة لا مطعن لهم فيها لأنها شهود من قومهم لا يجد المشهود عليهم فيها

٢٠١

مساغا للطعن.

ولم تخل أيضا بعد التعريض بالتحذير من صدّ الكافرين عن سبيل الله من حسن موقع تذكير المسلمين بنعمة الله عليهم إذ بعث فيهم شهيدا يشهد لهم بما ينفعهم وبما يضرّ أعداءهم.

والقول في بقيّة هذه الجملة مثل ما سبق في نظيرتها.

ولما كان بعث الشهداء للأمم الماضية مرادا به بعثهم يوم القيامة عبّر عنه بالمضارع.

وجملة (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً) يجوز أن تكون معطوفة على جملة (وَيَوْمَ نَبْعَثُ) كلّها. فالمعنى : وجئنا بك لما أرسلناك إلى أمّتك شهيدا عليهم ، أي مقدّرا أن تكون شهيدا عليهم يوم القيامة ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كان حيّا في آن نزول هذه الآية كان شهيدا في الحال والاستقبال ، فاختير لفظ الماضي في (جِئْنا) للإشارة إلى أنه مجيء حصل من يوم بعثته.

ويعلم من ذلك أنه يحصل يوم القيامة بطريق المساواة لبقيّة إخوانه الشهداء على الأمم ، إذ المقصود من ذلك كلّه تهديد قومه وتحذيرهم. وهذا الوجه شديد المناسبة بأن يعطف عليه قوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) [سورة النحل : ٨٩] الآية.

وقد علمت من هذا أن جملة (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً) ليست معطوفة على (نَبْعَثُ) بحيث تدخل في حيّز الظرف وهو (يَوْمَ) ، بل معطوفة على مجموع جملة (يَوْمَ نَبْعَثُ) ، لأن المقصود وجئنا بك شهيدا من وقت إرسالك. وعلى هذا يكون الكلام تمّ عند قوله: (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ، فيحسن الوقف عليه لذلك.

ويجوز أن تعطف على جملة (نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) فتدخل في حيّز الظرف ويكون الماضي مستعملا في معنى الاستقبال مجازا لتحقّق وقوعه ، فشابه به ما حصل ومضى ، فيكون الوقف على قوله : (شَهِيداً). ويتحصّل من تغيير صيغة الفعل عن المضارع إلى الماضي تهيئة عطف (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ).

ولم يوصف الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأنه من أنفسهم لأنه مبعوث إلى جميع الأمم ، وشهيد عليهم جميعا ، وأما وصفه بذلك في قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) في سورة التوبة [١٢٨] فذلك وصف كاشف اقتضاه مقام التّذكير للمخاطبين من المنافقين الذين ضمّوا إلى الكفر بالله كفران نعمة بعث رسول إليهم من قومهم.

٢٠٢

وليس في قوله : (عَلى هؤُلاءِ) ما يقتضي تخصيص شهادته بكونها شهادة على المتحدّث عنهم من أهل الشرك ، ولكن اقتصر عليهم لأن الكلام جار في تهديدهم وتحذيرهم.

و (هؤُلاءِ) إشارة إلى حاضر في الذّهن وهم المشركون الذين أكثر الحديث عليهم.

وقد تتبّعت مواقع أمثال اسم الإشارة هذا في القرآن فرأيته يعنى به المشركون من أهل مكّة. وتقدّم بيانه عند قوله تعالى : (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) في سورة النساء [٤١] ، وقوله تعالى : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) في سورة الأنعام [٨٩].

(وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ).

عطف على جملة (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً) أي أرسلناك شهيدا على المشركين وأنزلنا عليك القرآن لينتفع به المسلمون ، فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهيد على المكذّبين ومرشد للمؤمنين.

وهذا تخلّص للشروع في تعداد النّعم على المؤمنين من نعم الإرشاد ونعم الجزاء على الامتثال وبيان بركات هذا الكتاب المنزّل لهم.

وتعريف الكتاب للعهد ، وهو القرآن.

و (تِبْياناً) مفعول لأجله. والتّبيان مصدر دالّ على المبالغة في المصدرية ، ثم أريد به اسم الفاعل فحصلت مبالغتان ، وهو ـ بكسر التاء ـ ، ولا يوجد مصدر بوزن تفعال ـ بكسر التاء ـ إلا تبيان بمعنى البيان كما هنا. وتلقاء بمعنى اللّقاء لا بمعنى المكان ، وما سوى ذلك من المصادر الواردة على هذه الزّنة فهي ـ بفتح التاء ـ.

وأما أسماء الذوات والصفات الواردة على هذه الزنة فهي ـ بكسر التاء ـ وهي قليلة ، عدّ منها : تمثال ، وتنبال ، للقصير. وأنهاها ابن مالك في نظم الفوائد (١) إلى أربع عشرة كلمة (٢).

و «كلّ شيء» يفيد العموم ؛ إلا أنه عموم عرفي في دائرة ما لمثله تجيء الأديان والشّرائع : من إصلاح النفوس ، وإكمال الأخلاق ، وتقويم المجتمع المدنيّ ، وتبيّن الحقوق ، وما تتوقّف عليه الدعوة من الاستدلال على الوحدانية ، وصدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما

__________________

(١) منظومة ليست على روي واحد كذا في «كشف الظنون».

(٢) انظرها في تفسير الألوسي.

٢٠٣

يأتي في خلال ذلك من الحقائق العلمية والدقائق الكونية ، ووصف أحوال الأمم ، وأسباب فلاحها وخسارها ، والموعظة بآثارها بشواهد التاريخ ، وما يتخلّل ذلك من قوانينهم وحضاراتهم وصنائعهم.

وفي خلال ذلك كلّه أسرار ونكت من أصول العلوم والمعارف صالحة لأن تكون بيانا لكل شيء على وجه العموم الحقيقي إن سلك في بيانها طريق التفصيل واستنير فيها بما شرح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما قفّاه به أصحابه وعلماء أمّته ، ثم ما يعود إلى الترغيب والترهيب من وصف ما أعدّ للطائعين وما أعدّ للمعرضين ، ووصف عالم الغيب والحياة الآخرة. ففي كل ذلك بيان لكل شيء يقصد بيانه للتبصّر في هذا الغرض الجليل ، فيؤول ذلك العموم العرفي بصريحه إلى عموم حقيقي بضمنه ولوازمه. وهذا من أبدع الإعجاز.

وخصّ بالذّكر الهدى والرحمة والبشرى لأهميتها ؛ فالهدى ما يرجع من التّبيان إلى تقويم العقائد والأفهام والإنقاذ من الضلال. والرحمة ما يرجع منه إلى سعادة الحياتين الدنيا والأخرى ، والبشرى ما فيه من الوعد بالحسنيين الدنيوية والأخروية.

وكل ذلك للمسلمين دون غيرهم لأن غيرهم لما أعرضوا عنه حرموا أنفسهم الانتفاع بخواصّه كلها.

فاللام في (لِكُلِّ شَيْءٍ) متعلق بالتبيان ، وهي لام التقوية ، لأن «كل شيء» في معنى المفعول به ل (تِبْياناً). واللام في (لِلْمُسْلِمِينَ) لام العلّة يتنازع تعلّقها «تبيان وهدى ورحمة وبشرى» وهذا هو الوجه.

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠))

لما جاء أن هذا القرآن تبيان لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين حسن التخلّص إلى تبيان أصول الهدى في التشريع للدين الإسلامي العائدة إلى الأمر والنهي ، إذ الشريعة كلها أمر ونهي ، والتّقوى منحصرة في الامتثال والاجتناب ، فهذه الآية استئناف لبيان كون الكتاب تبيانا لكل شيء ، فهي جامعة أصول التّشريع.

وافتتاح الجملة بحرف التوكيد للاهتمام بشأن ما حوته. وتصديرهما باسم الجلالة للتّشريف ، وذكر (يَأْمُرُ وَيَنْهى) دون أن يقال : اعدلوا واجتنبوا الفحشاء ، للتّشويق.

٢٠٤

ونظيره ما في الحديث «إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا» الحديث.

والعدل : إعطاء الحقّ إلى صاحبه. وهو الأصل الجامع للحقوق الراجعة إلى الضروري والحاجي من الحقوق الذاتية وحقوق المعاملات ، إذ المسلم مأمور بالعدل في ذاته ، قال تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [سورة البقرة : ١٩١] ، ومأمور بالعدل في المعاملة ، وهي معاملة مع خالقه بالاعتراف له بصفاته وبأداء حقوقه ؛ ومعاملة مع المخلوقات من أصول المعاشرة العائلية والمخالطة الاجتماعية وذلك في الأقوال والأفعال ، قال تعالى : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) [سورة الأنعام : ١٥٢] ، وقال تعالى : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) وقد تقدم في سورة النساء [٥٨].

ومن هذا تفرّعت شعب نظام المعاملات الاجتماعية من آداب ، وحقوق وأقضية ، وشهادات ، ومعاملة مع الأمم ، قال تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [سورة المائدة : ٨].

ومرجع تفاصيل العدل إلى أدلّة الشريعة. فالعدل هنا كلمة مجملة جامعة فهي بإجمالها مناسبة إلى أحوال المسلمين حين كانوا بمكّة ، فيصار فيها إلى ما هو مقرّر بين الناس في أصول الشرائع وإلى ما رسمته الشريعة من البيان في مواضع الخفاء ، فحقوق المسلمين بعضهم على بعض من الأخوّة والتناصح قد أصبحت من العدل بوضع الشريعة الإسلامية.

وأما الإحسان فهو معاملة بالحسنى ممن لا يلزمه إلى من هو أهلها. والحسن : ما كان محبوبا عند المعامل به ولم يكن لازما لفاعله ، وأعلاه ما كان في جانب الله تعالى مما فسّره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». ودون ذلك التقرّب إلى الله بالنوافل. ثم الإحسان في المعاملة فيما زاد على العدل الواجب ، وهو يدخل في جميع الأقوال والأفعال ومع سائر الأصناف إلا ما حرم الإحسان بحكم الشرع».

ومن أدنى مراتب الإحسان ما في حديث «الموطأ» : «أن امرأة بغيّا رأت كلبا يلهث من العطش يأكل الثّرى فنزعت خفّها وأدلته في بئر ونزعت فسقته فغفر الله لها».

وفي الحديث «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا

٢٠٥

ذبحتم فأحسنوا الذبحة».

ومن الإحسان أن يجازي المحسن إليه المحسن على إحسانه إذ ليس الجزاء بواجب.

فإلى حقيقة الإحسان ترجع أصول وفروع آداب المعاشرة كلها في العائلة والصحبة. والعفو عن الحقوق الواجبة من الإحسان لقوله تعالى : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [سورة آل عمران : ١٣٤]. وتقدم عند قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) في سورة الأنعام [١٥١].

وخصّ الله بالذّكر من جنس أنواع العدل والإحسان نوعا مهمّا يكثر أن يغفل الناس عنه ويتهاونوا بحقّه أو بفضله ، وهو إيتاء ذي القربى فقد تقرّر في نفوس الناس الاعتناء باجتلاب الأبعد واتّقاء شرّه ، كما تقرّر في نفوسهم الغفلة عن القريب والاطمئنان من جانبه وتعوّد التساهل في حقوقه. ولأجل ذلك كثر أن يأخذوا أموال الأيتام من مواليهم ، قال تعالى: (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) [سورة النساء : ٢] ، وقال : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) [سورة الإسراء : ٢٦] ، وقال : (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ) [سورة النساء: ١٢٧] الآية. ولأجل ذلك صرفوا معظم إحسانهم إلى الأبعدين لاجتلاب المحمدة وحسن الذّكر بين الناس. ولم يزل هذا الخلق متفشّيا في الناس حتى في الإسلام إلى الآن ولا يكترثون بالأقربين.

وقد كانوا في الجاهلية يقصدون بوصايا أموالهم أصحابهم من وجوه القوم ، ولذلك قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [سورة البقرة : ١٨٠]. فخصّ الله بالذكر من بين جنس العدل وجنس الإحسان إيتاء المال إلى ذي القربى تنبيها للمؤمنين يومئذ بأن القريب أحقّ بالإنصاف من غيره. وأحقّ بالإحسان من غيره لأنه محل الغفلة ولأن مصلحته أجدى من مصلحة أنواع كثيرة.

وهذا راجع إلى تقويم نظام العائلة والقبيلة تهيئة بنفوس الناس إلى أحكام المواريث التي شرعت فيما بعد.

وعطف الخاص على العام اهتماما به كثير في الكلام ، فإيتاء ذي القربى ذو حكمين: وجوب لبعضه ، وفضيلة لبعضه ، وذلك قبل فرض الوصية ، ثم فرض المواريث.

وذو القربى : هو صاحب القرابة ، أي من المؤتي. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) في سورة الأنعام [١٥٢].

٢٠٦

والإيتاء الإعطاء. والمراد إعطاء المال ، قال تعالى : (قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) [سورة النمل : ٧٦] ، وقال : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) [سورة البقرة: ١٧٧].

ونهى الله عن الفحشاء والمنكر والبغي وهي أصول المفاسد.

فأما الفحشاء : فاسم جامع لكل عمل أو قول تستفظعه النفوس لفساده من الآثام التي تفسد نفس المرء : من اعتقاد باطل أو عمل مفسد للخلق ، والتي تضرّ بأفراد الناس بحيث تلقي فيهم الفساد من قتل أو سرقة أو قذف أو غصب مال ، أو تضرّ بحال المجتمع وتدخل عليه الاضطراب من حرابة أو زنا أو تقامر أو شرب خمر. فدخل في الفحشاء كل ما يوجب اختلال المناسب الضروري ، وقد سمّاها الله الفواحش. وتقدم ذكر الفحشاء عند قوله تعالى : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ) في سورة البقرة [١٦٩] ، وقوله : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) في سورة الأعراف [٣٣] وهي مكية.

وأما المنكر فهو ما تستنكره النفوس المعتدلة وتكرهه الشريعة من فعل أو قول ، قال تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) [سورة المجادلة : ٢] ، وقال : (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) [سورة العنكبوت : ٢٩]. والاستنكار مراتب ، منها مرتبة الحرام ، ومنها مرتبة المكروه فإنه منهيّ عنه. وشمل المنكر كل ما يفضي إلى الإخلال بالمناسب الحاجي ، وكذلك ما يعطّل المناسب التحسيني بدون ما يفضي منه إلى ضرّ.

وخصّ الله بالذّكر نوعا من الفحشاء والمنكر ، وهو البغي اهتماما بالنّهي عنه وسدّا لذريعة وقوعه ، لأن النفوس تنساق إليه بدافع الغضب وتغفل عما يشمله من النهي من عموم الفحشاء بسبب فشوّه بين الناس ؛ وذلك أن العرب كانوا أهل بأس وشجاعة وإباء ، فكانوا يكثر فيهم البغي على الغير إذا لقي المعجب بنفسه من أحد شيئا يكرهه أو معاملة يعدّها هضيمة وتقصيرا في تعظيمه. وبذلك كان يختلط على مريد البغي حسن الذبّ عما يسمّيه الشرف وقبح مجاوزة حدّ الجزاء.

فالبغي هو الاعتداء في المعاملة ، إما بدون مقابلة ذنب كالغارة التي كانت وسيلة كسب في الجاهلية ، وإما بمجاوزة الحدّ في مقابلة الذنب كالإفراط في المؤاخذة ، ولذا قال تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ) [سورة البقرة : ١٩٤]. وقال : (ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) [سورة الحج : ٦٠]. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) في سورة

٢٠٧

الأعراف [٣٣].

فهذه الآية جمعت أصول الشريعة في الأمر بثلاثة ، والنهي عن ثلاثة ، بل في الأمر بشيئين وتكملة ، والنّهي عن شيئين وتكملة.

روى أحمد بن حنبل : أن هذه كانت السبب في تمكّن الإيمان من عثمان بن مظعون ، فإنها لما نزلت كان عثمان بن مظعون بجانب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان حديث الإسلام ، وكان إسلامه حياء من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرأها النبي عليه. قال عثمان : فذلك حين استقرّ الإيمان في قلبي. وعن عثمان بن أبي العاص : كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا إذ شخص بصره ، فقال : أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) الآية اه. وهذا يقتضي أن هذه الآية لم تنزل متّصلة بالآيات التي قبلها فكان وضعها في هذا الموضع صالحا لأن يكون بيانا لآية (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [سورة النحل : ٨٩] إلخ ، ولأن تكون مقدّمة لما بعدها (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) [سورة النحل : ٩١]الآية.

وعن ابن مسعود : أن هذه الآية أجمع آية في القرآن.

وعن قتادة : ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به في هذه الآية ، وليس من خلق كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدح فيه ، وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامّها.

وروى ابن ماجه عن عليّ قال : أمر الله نبيئه أن يعرض نفسه على قبائل العرب ، فخرج ، فوقف على مجلس قوم من شيبان بن ثعلبة في الموسم. فدعاهم إلى الإسلام وأن ينصروه ، فقال مفروق بن عمرو منهم : إلام تدعونا أخا قريش ، فتلا عليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) الآية. فقال : دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد أفك قوم كذّبوك وظاهروا عليك.

وقد روي أن الفقرات الشهيرة التي شهد بها الوليد بن المغيرة للقرآن من قوله : «إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وما هو بكلام بشر» قالها عند سماع هذه الآية.

وقد اهتدى الخليفة عمر بن عبد العزيز ـ رحمة الله ـ إلى ما جمعته هذه الآية من معاني الخير فلما استخلف سنة ٩٩ كتب يأمر الخطباء بتلاوة هذه الآية في الخطبة يوم

٢٠٨

الجمعة وتجعل تلاوتها عوضا عما كانوا يأتونه في خطبة الجمعة من كلمات سبّ عليّ بن أبي طالب ـ رضي‌الله‌عنه ـ. وفي تلاوة هذه الآية عوضا عن ذلك السبّ دقيقة أنها تقتضي النّهي عن ذلك السبّ إذ هو من الفحشاء والمنكر والبغي.

ولم أقف على تعيين الوقت التي ابتدع فيه هذا السبّ ولكنه لم يكن في خلافة معاوية ـ رضي‌الله‌عنه ـ.

وفي «السيرة الحلبية» أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام ألّف كتابا سماه «الشجرة» بيّن فيه أن هذه الآية اشتملت على جميع الأحكام الشرعية في سائر الأبواب الفقهية وسمّاه السبكي في الطبقات «شجرة المعارف».

وجملة (يَعِظُكُمْ) في موضع الحال من اسم الجلالة.

والوعظ : كلام يقصد منه إبعاد المخاطب به عن الفساد وتحريضه على الصلاح. وتقدم عند قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ) في سورة النساء [٦٣].

والخطاب للمسلمين لأن الموعظة من شأن من هو محتاج للكمال النفساني ، ولذلك قارنها بالرجاء ب (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

والتذكر : مراجعة المنسيّ المغفول عنه ، أي رجاء أن تتذكروا ، أي تتذكروا بهذه الموعظة ما اشتملت عليه فإنها جامعة باقية في نفوسكم.

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١))

لما أمر الله المؤمنين بملاك المصالح ونهاهم عن ملاك المفاسد بما أومأ إليه قوله : (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [سورة النحل : ٩٠]. فكان ذلك مناسبة حسنة لهذا الانتقال الذي هو من أغراض تفنّن القرآن ، وأوضح لهم أنهم قد صاروا إلى كمال وخير بذلك الكتاب المبيّن لكل شيء. لا جرم ذكرهم الوفاء بالعهد الذي عاهدوا الله عليه عند ما أسلموا ، وهو ما بايعوا عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما فيه : أن لا يعصوه في معروف. وقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يأخذ البيعة على كل من أسلم من وقت ابتداء الإسلام في مكّة.

وتكررت البيعة قبيل الهجرة وبعدها على أمور أخرى ، مثل النّصرة التي بايع عليها الأنصار ليلة العقبة ، ومثل بيعة الحديبية.

٢٠٩

والخطاب للمسلمين في الحفاظ على عهدهم بحفظ الشريعة ، وإضافة العهد إلى الله لأنهم عاهدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإسلام الذي دعاهم الله إليه ، فهم قد عاهدوا الله كما قال : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [سورة الفتح : ١٠] ، وقال : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) [سورة الأحزاب : ٢٣]. والمقصود : تحذير الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام من أن ينقضوا عهد الله.

و (إِذا) لمجرّد الظرفية ، لأنّ المخاطبين قد عاهدوا الله على الإيمان والطاعة ، فالإتيان باسم الزمان لتأكيد الوفاء. فالمعنى : أن من عاهد وجب عليه الوفاء بالعهد. والقرينة على ذلك قوله : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً). [سورة النحل : ٩١] والعهد : الحلف. وتقدّم في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ). وكذلك النقض تقدم في تلك الآية ، ونقض الأيمان : إبطال ما كانت لأجله. فالنقض إبطال المحلوف عليه لا إبطال القسم ، فجعل إبطال المحلوف عليه نقضا لليمين في قوله : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ) تهويلا وتغليظا للنّقض لأنه نقض لحرمة اليمين.

و (بَعْدَ تَوْكِيدِها) زيادة في التحذير ، وليس قيدا للنّهي بالبعدية ، إذ المقصود أيمان معلومة وهي أيمان العهد والبيعة ، وليست فيها بعدية.

و (بَعْدِ) هنا بمعنى (مع) ، إذ البعدية والمعيّة أثرهما واحد هنا ، وهو حصول توثيق الأيمان وتوكيدها ، كقول الشميذر الحارثي :

بني عمّنا لا تذكروا الشعر بعد ما

دفنتم بصحراء الغمير القوافيا

أي لا تذكروا أنّكم شعراء وأن لكم شعرا ، أو لا تنطقوا بشعر مع وجود أسباب الإمساك عنه في وقعة صحراء الغمير (١) ، وقوله تعالى : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) [سورة الحجرات : ١١] ، وقوله : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ).

والتّوكيد : التوثيق وتكرير الفتل ، وليس هو توكيد اللفظ كما توهّمه بعضهم فهو ضدّ النقض. وإضافته إلى ضمير الأيمان ليس من إضافة المصدر إلى فاعله ولا إلى مفعوله إذ لم يقصد بالمصدر التجدّد بل الاسم ، فهي الإضافة الأصلية على معنى اللام ، أي التوكيد الثابت لها المختصّ بها. والمعنى : بعد ما فيها من التوكيد ، وبيّنه قوله : (وَقَدْ

__________________

(١) وهذا كناية عن ترك قول الشعر لأن أهم أغراض قول الشعر قد تعطل فيهم.

٢١٠

جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً).

والمعنى : ولا تنقضوا الأيمان بعد حلفها. وليس في الآية إشعار بأن من اليمين ما لا حرج في نقضه ، وهو ما سمّوه يمين اللّغو ، وذلك انزلاق عن مهيع النظم القرآني.

ويؤيّد ما فسرناه قوله : (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) الواقع موقع الحال من ضمير (لا تَنْقُضُوا) ، أي لا تنقضوا الأيمان في حال جعلكم الله كفيلا على أنفسكم إذا أقسمتم باسمه ، فإن مدلول القسم أنه إشهاد الله بصدق ما يقوله المقسم : فيأتي باسم الله كالإتيان بذات الشاهد. ولذلك سمّي الحلف شهادة في مواضع كثيرة ، كقوله : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) [سورة النور : ٦]. والمعنى أن هذه الحالة أظهر في استحقاق النّهي عنها.

والكفيل : الشاهد والضامن والرقيب على الشيء المراعى لتحقيق الغرض منه.

والمعنى : أن القسم باسم الله إشهاد لله وكفالة به. وقد كانوا عند العهد يحلفون ويشهدون الكفلاء بالتنفيذ ، قال الحارث بن حلّزة :

واذكروا حلف ذي المجاز وما ق

دّم فيه العهود والكفلاء

و (عَلَيْكُمْ) متعلّق ب (جَعَلْتُمُ) لا ب (كَفِيلاً) أي أقمتموه على أنفسكم مقام الكفيل ، أي فهو الكفيل والمكفول له من باب قولهم : أنت الخصم والحكم ، وقوله تعالى : (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) [سورة التوبة : ١١٨].

وجملة (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) معترضة. وهي خبر مراد منه التحذير من التساهل في التمسّك بالإيمان والإسلام لتذكيرهم أن الله يطّلع على ما يفعلونه ، فالتوكيد ب (إِنَ) للاهتمام بالخبر.

وكذلك التأكيد ببناء الجملة بالمسند الفعلي دون أن يقال : إن الله عليم ، ولا : قد يعلم الله.

واختير الفعل المضارع في (يَعْلَمُ) وفي (تَفْعَلُونَ) لدلالته على التجدّد ، أي كلما فعلوا فعلا فالله يعلمه.

والمقصود من هذه الجمل كلها من قوله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) إلى هنا تأكيد الوصاية بحفظ عهد الأيمان. وعدم الارتداد إلى الكفر ، وسدّ مداخل فتنة المشركين إلى نفوس

٢١١

المسلمين ، إذ يصدّونهم عن سبيل الإسلام بفنون الصدّ ، كقولهم : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سورة سبأ : ٣٥] ، كما أشار إليه قوله تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ). وقد تقدم ذلك في سورة الأنعام [٥٣].

ولم يذكر المفسّرون سببا لنزول هذه الآية ، وليست بحاجة إلى سبب. وذكروا في الآية الآتية وهي قوله : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) [سورة النحل : ١٠٦] أن آية (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) إلى آخرها نزلت في الذين رجعوا إلى الكفر بعد الإيمان لما فتنهم المشركون كما سيأتي ، فجعلوا بين الآيتين اتصالا.

قال في «الكشاف» : كأن قوما ممن أسلم بمكة زيّن لهم الشيطان لجزعهم ما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين وإيذائهم لهم ، ولما كانوا يعدونهم إن رجعوا من المواعيد أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فثبّتهم الله اه. يريد أن لهجة التحذير في هذا الكلام إلى قوله : (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) [سورة النحل : ٩٢] تنبئ عن حالة من الوسوسة داخلت قلوب بعض حديثي الإسلام فنبّأهم الله بها وحذّرهم منها فسلموا.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢))

تشنيع لحال الذين ينقضون العهد.

وعطف على جملة (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) [سورة النحل : ٩١]. واعتمد العطف على المغايرة في المعنى بين الجملتين لما في هذه الثانية من التمثيل وإن كانت من جهة الموقع كالتوكيد لجملة (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ). نهوا عن أن يكونوا مضرب مثل معروف في العرب بالاستهزاء ، وهو المرأة التي تنقض غزلها بعد شدّ فتله. فالتي نقضت غزلها امرأة اسمها ريطة بنت سعد التيمية من بني تيم من قريش. وعبّر عنها بطريق الموصولية لاشتهارها بمضمون الصّلة ولأن مضمون الصّلة ، هو الحالة المشبّه بها في هذا التمثيل ، ولأن القرآن لم يذكر فيه بالاسم العلم إلا من اشتهر بأمر عظيم مثل جالوت وقارون.

وقد ذكر من قصّتها أنها كانت امرأة خرقاء مختلّة العقل ، ولها جوار ، وقد اتّخذت

٢١٢

مغزلا قدر ذراع وصنّارة مثل إصبع وفلكة عظيمة (١) على قدر ذلك ، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فتنقض ما غزلته ، وهكذا تفعل كل يوم ، فكان حالها إفساد ما كان نافعا محكما من عملها وإرجاعه إلى عدم الصلاح ، فنهوا عن أن يكون حالهم كحالها في نقضهم عهد الله وهو عهد الإيمان بالرجوع إلى الكفر وأعمال الجاهلية. ووجه الشّبه الرجوع إلى فساد بعد التلبّس بصلاح.

والغزل : هنا مصدر بمعنى المفعول ، أي المغزول ، لأنه الذي يقبل النقض. والغزل : فتل نتف من الصوف أو الشعر لتجعل خيوطا محكمة اتصال الأجزاء بواسطة إدارة آلة الغزل بحيث تلتفّ النتف المفتولة باليد فتصير خيطا غليظا طويلا بقدر الحاجة ليكون سدى أو لحمة للنسج.

والقوة : إحكام الغزل ، أي نقضته مع كونه محكم الفتل لا موجب لنقضه ، فإنه لو كان فتله غير محكم لكان عذر لنقضه.

والأنكاث ـ بفتح الهمزة ـ : جمع نكث ـ بكسر النّون وسكون الكاف ـ أي منكوث ، أي منقوض ، ونظيره نقض وأنقاض. والمراد بصيغة الجمع أن ما كان غزلا واحدا جعلته منقوضا ، أي خيوطا عديدة. وذلك بأن صيّرته إلى الحالة التي كان عليها قبل الغزل وهي كونه خيوطا ذات عدد.

وانتصب (أَنْكاثاً) على الحال من (غَزْلَها) ، أي نقضته فإذا هو أنكاث.

وجملة (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ) حال من ضمير (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ) [سورة النحل: ٩١].

والدخل ـ بفتحتين ـ : الفساد ، أي تجعلون أيمانكم التي حلفتموها .. والدّخل أيضا : الشيء الفاسد. ومن كلام العرب : ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل (سكن الخاء لغة أو للضرورة إن كان نظما ، أو للسجع إن كان نثرا) ، أي ما يدريك ما فيهم من فساد. والمعنى : تجعلون أيمانكم الحقيقة بأن تكون معظّمة وصالحة فيجعلونها فاسدة كاذبة ، فيكون وصف الأيمان بالدّخل حقيقة عقلية ؛ أو تجعلونها سبب فساد بينكم إذ تجعلونها وسيلة للغدر والمكر فيكون وصف الأيمان بالدّخل مجازا عقليا.

__________________

(١) فلكة بفتح الفاء وسكون اللام عود بأعلاه دائرة منه يلفّ عليه الغزل.

٢١٣

ووجه الفساد أنها تقتضي اطمئنان المتحالفين فإذا نقضها أحد الجانبين فقد تسبّب في الخصام والحقد. وهذا تحذير لهم وتخويف من سوء عاقبة نقض اليمين ، وليس بمقتض أن نقضا حدث فيهم.

و (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ) معمول للام جرّ محذوفة كما هو غالب حالها مع (أَنْ). والمعنى التعليل ، وهو علّة لنقض الأيمان المنهيّ عنه ، أي تنقضون الأيمان بسبب أن تكون أمّة أربى من أمّة ، أي أقوى وأكثر.

والأمّة : الطائفة والقبيلة. والمقصود طائفة المشركين وأحلافهم.

و (أَرْبى) : أزيد ، وهو اسم تفضيل من الربوّ بوزن العلوّ ، أي الزيادة ، يحتمل الحقيقة أعني كثرة العدد ، والمجاز أعني رفاهية الحال وحسن العيش. وكلمة (أَرْبى) تعطي هذه المعاني كلها فلا تعدلها كلمة أخرى تصلح لجميع هذه المعاني ، فوقعها هنا من مقتضى الإعجاز. والمعنى : لا يبعثكم على نقض الأيمان كون أمّة أحسن من أمّة.

ومعلوم أن الأمّة التي هي أحسن هي المنقوض لأجلها وأن الأمّة المفضولة هي المنفصل عنها ، أي لا يحملكم على نقض الحلف أن يكون المشركون أكثر عددا وأموالا من المسلمين فيبعثكم ذلك على الانفصال عن جماعة المسلمين وعلى الرجوع إلى الكفّار.

وجملة (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) مستأنفة استئنافا بيانيا للتعليل بما يقتضي الحكمة ، وهو أن ذلك يبتلي الله به صدق الإيمان كقوله تعالى : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) [سورة الأنعام : ١٦٥].

والقصر المستفاد من قوله تعالى : (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) قصر موصوف على صفة.

والتقدير : ما ذلك الربوّ إلا بلوى لكم.

والبلو : الاختبار. ومعنى إسناده إلى الله الكناية عن إظهار حال المسلمين. وله نظائر في القرآن. وضمير (بِهِ) يعود إلى المصدر المنسبك من قوله : (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ).

ثم عطف عليه تأكيد أنه سيبيّن لهم يوم القيامة ما يختلفون فيه من الأحوال فتظهر الحقائق كما هي غير مغشّاة بزخارف الشّهوات ولا بمكاره مخالفة الطباع ، لأن الآخرة دار الحقائق لا لبس فيها ، فيومئذ تعلمون أنّ الإسلام هو الخير المحض وأن الكفر شرّ محض.

٢١٤

وأكّد هذا الوعد بمؤكّدين : القسم الذي دلّت عليه اللام ونون التوكيد. ثم يظهر ذلك أيضا في ترتّب آثاره إذ يكون النعيم إثر الإيمان ويكون العذاب إثر الشرك ، وكل ذلك بيان لما كانوا مختلفين فيه في الدنيا.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣))

لما أحال البيان إلى يوم القيامة زادهم إعلاما بحكمة هذا التأخير فأعلمهم أنه قادر على أن يبيّن لهم الحقّ من هذه الدار فيجعلهم أمّة واحدة. ولكنه أضلّ من شاء ، أي خلق فيه داعية الضلال ، وهدى من شاء ، أي خلق فيه داعية الهدى. وأحال الأمر هنا على المشيئة إجمالا ، لتعذّر نشر مطاوي الحكمة من ذلك.

ومرجعها إلى مشيئة الله تعالى أن يخلق الناس على هذا الاختلاف الناشئ عن اختلاف أحوال التفكير ومراتب المدارك والعقول ، وذلك يتولّد من تطوّرات عظيمة تعرض للإنسان في تناسله وحضارته وغير ذلك مما أجمله قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [سورة الانشقاق : ٢٥]. وهذه المشيئة لا يطّلع على كنهها إلا الله تعالى وتظهر آثارها في فرقة المهتدين وفرقة الضالين.

ولما كان قوله : (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) قد يغترّ به قصّار الأنظار فيحسبون أن الضالين والمهتدين سواء عند الله وأن الضالين معذورون في ضلالهم إذ كان من أثر مشيئة الله فعقّب ذلك بقوله : (وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) مؤكّدا بتأكيدين كما تقدم نظيره آنفا ، أي عما تعملون من عمل ضلال أو عمل هدى.

والسؤال : كنية عن المحاسبة ، لأنه سؤال حكيم تترتّب عليه الإنارة وليس سؤال استطلاع.

(وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤))

لما حذّرهم من النّقض الذي يؤول إلى اتخاذ أيمانهم دخلا فيهم ، وأشار بالإجمال إلى ما في ذلك من الفساد فيهم ، أعاد الكرّة إلى بيان عاقبة ذلك الصنيع إعادة تفيد

٢١٥

التصريح بالنّهي عن ذلك ، وتأكيد التحذير ، وتفصيل الفساد في الدنيا ، وسوء العاقبة في الآخرة ، فكان قوله تعالى : (وَلا تَتَّخِذُوا) تصريحا بالنهي ، وقوله تعالى : (تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) تأكيدا لقوله قبله : (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) [سورة النحل : ٩٢] ، وكان تفريع قوله تعالى : (فَتَزِلَّ قَدَمٌ) إلى قوله : (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) تفصيلا لما أجمل في معنى الدخل.

وقوله تعالى : (وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) المعطوف على التفريع وعيد بعقاب الآخرة. وبهذا التّصدير وهذا التّفريع الناشئ عن جملة (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) فارقت هذه نظيرتها السابقة بالتفصيل والزيادة فحقّ أن تعطف عليها لهذه المغايرة وإن كان شأن الجملة المؤكدة أن لا تعطف.

والزّلل : تزلّق الرّجل وتنقّلها من موضعها دون إرادة صاحبها بسبب ملاسة الأرض من طين رطب أو تخلخل حصى أو حجر من تحت القدم فيسقط الماشي على الأرض. وتقدم عند قوله تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) في سورة البقرة [٣٦].

وزلل القدم تمثيل لاختلال الحال والتعرّض للضرّ ، لأنه يترتّب عليه السقوط أو الكسر ، كما أن ثبوت القدم تمكّن الرّجل من الأرض ، وهو تمثيل لاستقامة الحال ودوام السير.

ولما كان المقصود تمثيل ما يجرّه نقض الأيمان من الدخل شبّهت حالهم بحال الماشي في طريق بينما كانت قدمه ثابتة إذا هي قد زلّت به فصرع. فالمشبه بها حال رجل واحد ، ولذلك نكرت (قَدَمٌ) وأفردت ، إذ ليس المقصود قدما معيّنة ولا عددا من الأقدام ، فإنك تقول لجماعة يترددون في أمر : أراكم تقدّمون رجلا وتؤخّرون أخرى. تمثيلا لحالهم بحال الشخص المتردّد في المشي إلى الشيء.

وزيادة (بَعْدَ ثُبُوتِها) مع أن الزّلل لا يتصوّر إلا بعد الثبوت لتصوير اختلاف الحالين ، وأنه انحطاط من حال سعادة إلى حال شقاء ومن حال سلامة إلى حال محنة.

والثبوت : مصدر ثبت كالثّبات ، وهو الرسوخ وعدم التنقّل ، وخصّ المتأخرون من الكتاب الثبوت الذي بالواو بالمعنى المجازي وهو التحقّق مثل ثبوت عدالة الشاهد لدى القاضي ، وخصّوا الثبات الذي بالألف بالمعنى الحقيقي وهي تفرقة حسنة.

والذّوق : مستعار للإحساس القويّ كقوله تعالى : (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ). وتقدم في

٢١٦

سورة العقود [٩٥].

والسّوء : ما يؤلم. والمراد به : ذوق السوء في الدنيا من معاملتهم معاملة الناكثين عن الدين أو الخائنين عهودهم.

و (صَدَدْتُمْ) هنا قاصر ، أي بكونكم معرضين عن سبيل الله. وتقدّم آنفا. ذلك أن الآيات جاءت في الحفاظ على العهد الذي يعاهدون الله عليه ، أي على التمسّك بالإسلام.

فسبيل الله : هو دين الإسلام.

وقوله تعالى : (وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) هو عذاب الآخرة على الرجوع إلى الكفر أو على معصية غدر العهد.

وقد عصم الله المسلمين من الارتداد مدة مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة. وما ارتدّ أحد إلا بعد الهجرة حين ظهر النفاق ، فكانت فلتة عبد الله بن سعد بن أبي سرح واحدة في المهاجرين وقد تاب وقبل توبته النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[٩٥ ، ٩٦] (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦))

الثمن القليل هو ما يعدهم به المشركون إن رجعوا عن الإسلام من مال وهناء عيش.

وهذا نهي عن نقض عهد الإسلام لأجل ما فاتهم بدخولهم في الإسلام من منافع عند قوم الشّرك ، وبهذا الاعتبار عطفت هذه الجملة على جملة (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) [سورة النحل : ٩١] وعلى جملة (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) [سورة النحل : ٩٤] لأن كل جملة منها تلتفت إلى غرض خاص مما قد يبعث على النّقض.

والثّمن : العوض الذي يأخذه المعاوض. وتقدّم الكلام على نظير هذا عند قوله تعالى: (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) في سورة البقرة [٤١]. وذكرنا هناك أن (قَلِيلاً) صفة كاشفة وليست مقيدة ، أي أن كل عوض يؤخذ عن نقض عهد الله هو عوض قليل ولو كان أعظم المكتسبات.

وجملة (إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) تعليل للنّهي باعتبار وصف عوض الاشتراء

٢١٧

المنهي عنه بالقلّة ، فإن ما عند الله هو خير من كل ثمن وإن عظم قدره.

و «ما عند الله» هو ما ادّخره للمسلمين من خير في الدنيا وفي الآخرة ، كما سننبّه عليه عند قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) [سورة النحل : ٩٧] الآية ؛ فخير الدنيا الموعود به أفضل مما يبذله لهم المشركون ، وخير الآخرة أعظم من الكلّ ، فالعندية هنا بمعنى الادّخار لهم ، كما تقول : لك عندي كذا ، وليست عندية ملك الله تعالى كما في قوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) [سورة الأنعام : ٥٩] وقوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) [سورة الحجر : ٢١] وقوله : (وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ).

و (إِنَّما) هذه مركّبة من (إن) و (ما) الموصولة ، فحقّها أن تكتب مفصولة (ما) عن (إنّ) لأنها ليست (ما) الكافّة ، ولكنها كتبت في المصحف موصولة اعتبارا لحالة النّطق ولم يكن وصل أمثالها مطّردا في جميع المواضع من المصحف.

ومعنى (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إن كنتم تعلمون حقيقة عواقب الأشياء ولا يغرّكم العاجل. وفيه حثّ لهم على التأمّل والعلم.

وجملة (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) تذييل وتعليل لمضمون جملة (إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) بأن ما عند الله لهم خير متجدّد لا نفاد له ، وأن ما يعطيهم المشركون محدود نافد لأن خزائن الناس صائرة إلى النفاد بالإعطاء وخزائن الله باقية.

والنفاد : الانقراض. والبقاء : عدم الفناء.

أي ما عند الله لا يفنى فالأجدر الاعتماد على عطاء الله الموعود على الإسلام دون الاعتماد على عطاء الناس الذين ينفد رزقهم ولو كثر.

وهذا الكلام جرى مجرى التذييل لما قبله ، وأرسل إرسال المثل فيحمل على أعمّ ، ولذلك كان ضمير (عِنْدَكُمْ) عائدا إلى جميع الناس بقرينة التذييل والمثل ، وبقرينة المقابلة بما عند الله ، أي ما عندكم أيها الناس ما عند الموعود وما عند الواعد ، لأن المنهيّين عن نقض العهد ليس بيدهم شيء.

ولما كان في نهيهم عن أخذ ما يعدهم به المشركون حمل لهم على حرمان أنفسهم من ذلك النّفع العاجل وعدوا الجزاء على صبرهم بقوله تعالى : وليجزين (الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ).

٢١٨

قرأه الجمهور وليجزين بياء الغيبة. والضمير عائد إلى اسم الجلالة من قوله تعالى : (بِعَهْدِ اللهِ) وما بعده ، فهو النّاهي والواعد فلا جرم كان هو المجازي على امتثال أمره ونهيه.

وقرأه ابن كثير وعاصم وابن ذكوان عن ابن عمر في إحدى روايتين عنه وأبو جعفر بنون العظمة فهو التفات.

و (أَجْرَهُمْ) منصوب على المفعولية الثانية ل «يجزين» بتضمينه معنى الإعطاء المتعدّي إلى مفعولين.

والباء للسببية. و «أحسن» صيغة تفضيل مستعملة للمبالغة في الحسن. كما في قوله تعالى : (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [سورة يوسف : ٣٣] ، أي بسبب عملهم البالغ في الحسن وهو عمل الدوام على الإسلام مع تجرّع ألم الفتنة من المشركين. وقد أكد الوعد بلام القسم ونون التوكيد.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧))

لما كان الوعد المتقدم بقوله تعالى ؛ وليجزين (الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة النحل : ٩٦] خاصا بأولئك الذين نهوا عن أن يشتروا بعهد الله ثمنا قليلا عقب بتعميمه لكل من ساواهم في الثبات على الإسلام والعمل الصالح مع التبيين للأجر ، فكانت هذه الجملة بمنزلة التذييل للتي قبلها ، والبيان لما تضمّنته من مجمل الأجر. وكلا الاعتبارين يوجب فصلها عمّا قبلها.

وقوله تعالى : (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) تبيين للعموم الذي دلّت عليه (مَنْ) الموصولة.

وفي هذا البيان دلالة على أن أحكام الإسلام يستوي فيها الذكور والنساء عدا ما خصّصه الدين بأحد الصّنفين. وأكّد هذا الوعد كما أكّد المبيّن به.

وذكر «لنحيينّه» ليبنى عليه بيان نوع الحياة بقوله تعالى : (حَياةً طَيِّبَةً). وذلك المصدر هو المقصود ، أي لنجعلنّ له حياة طيّبة. وابتدئ الوعد بإسناد الإحياء إلى ضمير الجلالة تشريفا له كأنه قيل : فله حياة طيبة منّا. ولما كانت حياة الذّات لها مدّة معيّنة كثر إطلاق الحياة على مدّتها ، فوصفها بالطيّب بهذا الاعتبار ، أي طيب ما يحصل فيها ، فهذا

٢١٩

الوصف مجاز عقلي ، أي طيّبا ما فيها. ويقارنها من الأحوال العارضة للمرء في مدّة حياته ، فمن مات من المسلمين الذين عملوا صالحا عوّضه الله عن عمله ما فاته من وعده.

ويفسّر هذا المعنى ما ورد في الصحيح عن خباب بن الأرت قال : «هاجرنا مع رسول الله نبتغي بذلك وجه الله فوجب أجرنا على الله ، فمنّا من مضى لم يأكل من أجره شيئا ، كان منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم يترك إلا نمرة كنّا إذا غطّينا بها رأسه خرجت رجلاه ، وإذا غطي بها رجلاه خرج رأسه ، ومنّا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها».

والطيّب : ما يطيب ويحسن. وضد الطيّب : الخبيث والسيّئ. وهذا وعد بخيرات الدنيا. وأعظمها الرضى بما قسم لهم وحسن أملهم بالعاقبة والصحّة والعافية وعزّة الإسلام في نفوسهم. وهذا مقام دقيق تتفاوت فيه الأحوال على تفاوت سرائر النفوس ، ويعطي الله فيه عباده المؤمنين على مراتب هممهم وآمالهم. ومن راقب نفسه رأى شواهد هذا.

وقد عقب بوعد جزاء الآخرة بقوله تعالى : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، فاختص هذا بأجر الآخرة بالقرينة بخلاف نظيره المتقدّم آنفا فإنه عامّ في الجزاءين.

[٩٨ ـ ١٠٠] (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠))

موقع فاء التّفريع هنا خفيّ ودقيق ، ولذلك تصدّى بعض حذّاق المفسّرين إلى البحث عنه. فقال في «الكشاف» : «لما ذكر العمل الصالح ووعد عليه وصل به قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) إيذانا بأن الاستعاذة من جملة الأعمال التي يجزل عليها الثواب» اه.

وهو إبداء مناسبة ضعيفة لا تقتضي تمكّن ارتباط أجزاء النظم.

وقال فخر الدين : «لما قال : ولنجزيهم (أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة النحل : ٩٧] أرشد إلى العلم الذي تخلص به الأعمال من الوسواس» اه.

وهو أمكن من كلام «الكشاف». وزاد أبو السعود : «لما كان مدار الجزاء هو حسن العمل رتّب عليه الإرشاد إلى ما به يحسن العمل الصالح بأن يخلص من شوب الفساد».

٢٢٠