تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

وبهذا السلوك تقوم الحجة عليهم بتبليغ القرآن إليهم ويعاد إسماعهم إياه المرة بعد المرة لتقوم الحجة.

فضمير (نَسْلُكُهُ) و (بِهِ) عائدان إلى (الذِّكْرَ) في قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) [سورة الحجر : ٩] أي القرآن.

والمجرمون هم كفار قريش.

وجملة (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) بيان للسلك المشبه به أو حال من المجرمين ، أي تعيه عقولهم ولا يؤمنون به. وهذا عام مراد به من ماتوا على الكفر منهم. والمراد أنهم لا يؤمنون وقتا ما.

وجملة (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) معترضة بين جملة (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) وجملة (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ) [الحجر : ١٤] إلخ.

والكلام تعريض بالتهديد بأن يحل بهم ما حل بالأمم الماضية معاملة للنظير بنظيره ، لأن كون سنة الأولين مضت أمر معلوم غير مفيد ذكره ، فكان الخبر مستعملا في لازمه بقرينة تعذر الحمل على أصل الخبرية.

والسنّة : العادة المألوفة. وتقدم في قوله تعالى : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) في سورة آل عمران [١٣٧]. وإضافتها إلى (الْأَوَّلِينَ) باعتبار تعلقها بهم ، وإنما هي سنة الله فيهم لأنها المقصود هنا ، والإضافة لأدنى ملابسة.

[١٤ ، ١٥] (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)).

عطف على جملة (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) [سورة الحجر : ١٣] وهو كلام جامع لإبطال جميع معاذيرهم من قولهم : (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) سورة الحجر [٧] وقولهم ؛ (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [سورة الحجر : ٦] بأنهم لا يطلبون الدلالة على صدقه ، لأن دلائل الصدق بيّنة ، ولكنهم ينتحلون المعاذير المختلفة.

والكلام الجامع لإبطال معاذيرهم : أنهم لو فتح الله بابا من السماء حين سألوا آية على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي بطلب من الرسول فاتصلوا بعالم القدس والنفوس الملكية ورأوا ذلك رأي العين لاعتذروا بأنها تخيّلات وأنهم سحروا فرأوا ما ليس بشيء شيئا.

٢١

ونظيره قوله : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [سورة الأنعام : ٧].

و (ظلّ) تدل على الكون في النهار ، أي وكان ذلك في وضح النهار وتبين الأشباح وعدم التردد في المرئي.

والعروج : الصعود. ويجوز في مضارعه ضمّ الراء وبه القراءة وكسرها ، أي فكانوا يصعدون في ذلك الباب نهارا.

و (سُكِّرَتْ) ـ بضم السين وتشديد الكاف ـ في قراءة الجمهور ، وبتخفيف الكاف في قراءة ابن كثير. وهو مبني للمجهول على القراءتين ، أي سدّت. يقال : سكر الباب بالتشديد وسكره بالتخفيف إذا سدّه.

والمعنى : لجحدوا أن يكونوا رأوا شيئا.

وأتوا بصيغة الحصر للدلالة على أنهم قد بتّوا القول في ذلك. وردّ بعضهم على بعض ظن أن يكونوا رأوا أبواب السماء وعرجوا فيها ، وزعموا أنهم ما كانوا يبصرون ، ثم أضربوا عن ذلك إضراب المتردّد المتحيّر ينتقل من فرض إلى فرض فقالوا : (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) ، أي ما رأيناه هو تخيلات المسحور ، أي فعادوا إلى إلقاء تبعة ذلك على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه سحرهم حين سأل لهم الله أن يفتح بابا من السماء ففتحه لهم.

وقد تقدم الكلام على السحر وأحواله عند قوله تعالى : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) في سورة البقرة [١٠٢].

وإقحام كلمة (قَوْمٌ) هنا دون أن يقولوا : بل نحن مسحورون ، لأن ذكرها يقتضي أن السحر قد تمكن منهم واستوى فيه جميعهم حتى صار من خصائص قوميتهم كما تقدم تبيينه عند قوله تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤]. وتكرر ذلك.

[١٦ ـ ١٨] (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨))

لما جرى الكلام السابق في شأن تكذيب المشركين برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما توركوا به في ذلك ، وكان الأصل الأصيل الذي بنوا عليه صرح التكذيب أصلين هما إبطاله إلهية أصنامهم ، وإثباته البعث ، انبرى القرآن يبيّن لهم دلائل تفرد الله تعالى بالإلهية ، فذكر

٢٢

الدلائل الواضحة من خلق السماوات والأرض ، ثم أعقبها بدلائل إمكان البعث من خلق الحياة والموت وانقراض أمم وخلفها بأخرى في قوله تعالى : (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) [سورة الحجر : ٢٣] الآية. وصادف ذلك مناسبة ذكر فتح أبواب السماء في تصوير غلوائهم بعنادهم ، فكان الانتقال إليه تخلصا بديعا.

وفيه ضرب من الاستدلال على مكابرتهم فإنهم لو أرادوا الحق لكان لهم في دلالة ما هو منهم غنية عن تطلب خوارق العادات.

والخبر مستعمل في التذكير والاستدلال لأن مدلول هذه الأخبار معلوم لديهم.

وافتتح الكلام بلام القسم وحرف التحقيق تنزيلا للمخاطبين الذاهلين عن الاستدلال بذلك منزلة المتردّد فأكّد لهم الكلام بمؤكدين. ومرجع التأكيد إلى تحقيق الاستدلال وإلى الإلجاء إلى الإقرار بذلك.

والبروج : جمع برج ـ بضم الباء ـ. وحقيقته البناء الكبير المتّخذ للسكنى أو للتحصّن. وهو يرادف القصر ، قال تعالى : (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) في سورة النساء [٧٨].

وأطلق البرج على بقعة معينة من سمت طائفة من النجوم غير السيارة (وتسمى النجوم الثوابت) متجمع بعضها بقرب بعض على أبعاد بينها لا تتغير فيما يشاهد من الجو ، فتلك الطائفة تكون بشكل واحد يشابه نقطا لو خططت بينها خطوط لخرج منها شبه صورة حيوان أو آلة سموا باسمها تلك النجوم المشابهة لهيئتها وهي واقعة في خط سير الشمس.

وقد سماها الأقدمون من علماء التوقيت بما يرادف معنى الدار أو المكان. وسماها العرب بروجا ودارات على سبيل الاستعارة المجعولة سببا لوضع الاسم ؛ تخيّلوا أنها منازل للشمس لأنهم وقتوا بجهتها سمت موقع الشمس من قبة الجو نهارا فيما يخيل للناظر أن الشمس تسير في شبه قوس الدائرة. وجعلوها اثني عشر مكانا بعدد شهور السنة الشمسية وما هي في الحقيقة إلا سموت لجهات تقابل كل جهة منها الأرض من جهة وراء الشمس مدة معينة. ثم إذا انتقل موقع الأرض من مدارها كل شهر من السنة تتغير الجهة المقابلة لها. فبما كان لها من النظام تسنّى أن تجعل علامات لمواقيت حلول الفصول الأربعة وحلول الأشهر الاثني عشر ، فهم ضبطوا لتلك العلامات حدودا وهمية عينوا مكانها في اللّيل من جهة موقع الشمس في النهار وأعادوا رصدها يوما فيوما ، وكلما

٢٣

مضت مدة شهر من السنة ضبطوا للشهر الذي يليه علامات في الجهة المقابلة لموقع الشمس في تلك المدة. وهكذا ، حتى رأوا بعد اثني عشر شهرا أنهم قد رجعوا إلى مقابلة الجهة التي ابتدءوا منها فجعلوا ذلك حولا كاملا. وتلك المسافة التي تخال الشمس قد اجتازتها في مدة السّنة سموها دائرة البروج أو منطقة البروج. وللتمييز بين تلك الطوائف من النجوم جعلوا لها أسماء الأشياء التي شبهوها بها وأضافوا البرج إليها.

وهي على هذا الترتيب ابتداء من برج مدخل فصل الربيع : الحمل ، الثور ، الجوزاء ، (مشتقة من الجوز ـ بفتح فسكون الوسط ـ لأنها معترضة في وسط السماء) ، السرطان ، الأسد ، السنبلة ، الميزان ، العقرب ، القوس ، الجدي ، الدلو ، الحوت.

فاعتبروا لبرج الحمل شهر (أبرير) وهكذا ، وذلك بمصادفة أن كانت الشمس يومئذ في سمت شكل نجمي شبهوه بنقط خطوط صورة كبش. وبذلك يعتقد أن الأقدمين ضبطوا السنة الشمسية وقسموها إلى الفصول الأربعة ، وإلى الأشهر الاثني عشر قبل أن يضبطوا البروج. وإنما ضبطوا البروج لقصد توقيت ابتداء الفصول بالضبط ليعرفوا ما مضى من مدتها وما بقي.

وأول من رسم هذه الرسوم الكلدانيون ، ثم انتقل علمهم إلى بقية الأمم ؛ ومنهم العرب فعرفوها وضبطوها وسموها بلغتهم.

ولذلك أقام القرآن الاستدلال بالبروج على عظيم قدرته وانفراده بالخلق لأنهم قد عرفوا دقائقها ونظامها الذي تهيأت به لأن تكون وسيلة ضبط المواقيت بحيث لا تخلف ملاحظة راصدها. وما خلقها الله بتلك الحالة إلا ليجعلها صالحة لضبط المواقيت كما قال تعالى : (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [سورة يونس : ٥]. ثم ارتقى في الاستدلال بكون هذه البروج العظيمة الصنع قد جعلت بأشكال تقع موقع الحسن في الأنظار فكانت زينة للناظرين يتمتعون بمشاهدتها في الليل فكانت الفوائد منها عديدة.

وأما قوله : (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) فهو إدماج للتعليم في أثناء الاستدلال. وفيه التنويه بعصمة الوحي من أن يتطرقه الزيادة والنقص ، بأن العوالم التي يصدر منها الوحي وينتقل فيها محفوظة من العناصر الخبيثة. فهو يرتبط بقوله : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [سورة الحجر : ٩].

وكانوا يقولون : محمد كاهن ؛ ولذلك قال الوليد بن المغيرة لما حاورهم فيما أعدوا

٢٤

من الاعتذار لوفود العرب في موسم الحجّ إذا سألوهم عن هذا الرجل الذي ادّعى النبوءة. وقد عرضوا عليه أن يقولوا هو كاهن ، فكان من كلام الوليد أن قال «.. ولا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه» ، قال تعالى : (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) [سورة الحاقة : ٤٢]. وكان الكهان يزعمون أن لهم شياطين تأتيهم بخبر السماء ، وهم كاذبون ويتفاوتون في الكذب.

والمراد بالحفظ من الشياطين الحفظ من استقرارها وتمكنها من السماوات. والشيطان تقدم في سورة البقرة.

والرجيم : المحقر ؛ لأن العرب كانوا إذا احتقروا أحدا حصبوه بالحصباء ، كقوله تعالى: (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) [سورة الحجر : ٣٤] ، أي ذميم محقر.

والرّجام ـ بضم الراء ـ الحجارة. قيل وهي أصل الاشتقاق. ويحتمل العكس. وقد كان العرب يرجمون قبر أبي رغال الثقفي الذي كان دليل جيش الحبشة إلى مكة. قال جرير:

إذا مات الفرزدق فارجموه

كما ترمون قبر أبي رغال

والرجم عادة قديمة حكاها القرآن عن قوم نوح (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) [سورة الشعراء : ١١٦]. وعن أبي إبراهيم (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ) [سورة مريم : ٤٦]. وقال قوم شعيب : (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) [سورة هود : ٩١].

وليس المراد به الرجم المذكور عقبه في قوله : (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) لأن الاستثناء يمنع من ذلك في قوله : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ).

واستراق السمع : سرقته. صيغ وزن الافتعال للتكلف. ومعنى استراقه الاستماع بخفية من المتحدث كأن المستمع يسرق من المتكلم كلامه الذي يخفيه عنه.

و «أتبعه» بمعنى تبعه. والهمزة زائدة مثل همزة أبان بمعنى بان. وتقدم في قوله تعالى : (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) في سورة الأعراف [١٧٥].

والمبين : الظاهر البين.

وفيه تعليم لهم بأن الشهب التي يشاهدونها متساقطة في السماء هي رجوم للشياطين المسترقة طردا لها عن استراق السمع كاملا ، فقد عرفوا ذلك من عهد الجاهلية ولم يعرفوا سببه.

٢٥

والمقصود من منع الشياطين من ذلك منعهم الاطلاع على ما أراد الله عدم اطلاعهم عليه من أمر التكوين ونحوه ؛ مما لو ألقته الشياطين في علم أوليائهم لكان ذلك فسادا في الأرض. وربما استدرج الله الشياطين وأولياءهم فلم يمنع الشياطين من استراق شيء قليل يلقونه إلى الكهان ، فلما أراد الله عصمة الوحي منعهم من ذلك بتاتا فجعل للشهب قوة خرق التموجات التي تتلقى منها الشياطين المسترقون السمع وتمزيق تلك التدرجات الموصوفة في الحديث الصحيح.

ثم إن ظاهر الآية لا يقتضي أكثر من تحكك مسترق السمع على السماوات لتحصيل انكشافات جبل المسترق على الحرص على تحصيلها. وفي آية الشعراء ما يقتضي أن هذا المسترق يلقي ما تلقاه من الانكشافات إلى غيره لقوله : (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) [سورة الشعراء : ٢٢٣].

ومقتضى تكوين الشهب للرجم أن هذا الاستراق قد منع عن الشياطين.

وفي سورة الجن دلالة على أنه منع بعد البعثة ونزول القرآن إحكاما لحفظ الوحي من أن يلتبس على الناس بالكهانة ، فيكون ما اقتضاه حديث عائشة وأبي هريرة ـ رضي‌الله‌عنهم ـ من استراق الجن السمع وصفا للكهانة السابقة. ويكون قوله : «ليسوا بشيء» وصفا لآخر أمرهم.

وقد ثبت بالكتاب والسنّة وجود مخلوقات تسمى بالجن وبالشياطين مع قوله : (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) [سورة ص : ٣٧] الآية. والأكثر أن يخص باسم الجن نوع لا يخالط خواطر البشر ، ويخص باسم الشياطين نوع دأبه الوسوسة في عقول البشر بإلقاء الخواطر الفاسدة.

وظواهر الأخبار الصحيحة من الكتاب والسنة تدل على أن هذه المخلوقات أصناف ، وأنها سابحة في الأجواء وفي طبقات مما وراء الهواء وتتصل بالأرض ، وأن منها أصنافا لها اتصال بالنفوس البشرية دون الأجسام وهو الوسواس ولا يخلو منه البشر.

وبعض ظواهر الأخبار من السنة تقتضي أن صنفا له اتصال بنفوس ذات استعداد خاص لاستفادة معرفة الواقعات قبل وقوعها أو الواقعات التي يبعد في مجاري العادات بلوغ وقوعها ، فتسبق بعض النفوس بمعرفتها قبل بلوغها المعتاد. وهذه النفوس هي نفوس الكهان وأهل الشعوذة ، وهذا الصنف من المخلوقات من الجن أو الشياطين هو المسمى

٢٦

بمسترق السمع وهو المستثنى بقوله تعالى : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ). فهذا الصنف إذا اتصل بتلك النفوس المستعدة للاختلاط به حجز بعض قواها العقلية عن بعض فأكسب البعض المحجوز عنه ازدياد تأثير في وظائفه بما يرتد عليه من جرّاء تفرغ القوة الذهنية من الاشتغال بمزاحمه إلى التوجه إليه وحده ، فتكسبه قدرة على تجاوز الحد المعتاد لأمثاله ، فيخترق الحدود المتعارفة لأمثاله اختراقا ما ، فربما خلصت إليه تموجات هي أوساط بين تموجات كرة الهواء وتموجات الطبقات العليا المجاورة لها ، مما وراء الكرة الهوائية.

ولنفرض أن هذه الطبقة هي المسماة بالسماء الدنيا وأن هذه التموجات هي تموجات الأثير فإنها تحفظ الأصوات مثلا.

ثم هذه التموجات التي تخلص إلى عقول أهل هذه النفوس المستعدة لها تخلص إليها مقطّعة مجملة فيستعين أصحاب تلك النّفوس على تأليفها وتأليفها بما في طباعهم من ذكاء وزكانة ، ويخبرون بحاصل ما استخلصوه من بين ما تلقفوه وما ألّفوه وما أولوه. وهم في مصادفة بعض الصدق متفاوتون على مقدار تفاوتهم في حدة الذكاء وصفاء الفهم والمقارنة بين الأشياء ، وعلى مقدار دربتهم ورسوخهم في معالجة مهنتهم وتقادم عهدهم فيها. فهؤلاء هم الكهان ، وكانوا كثيرين بين قبائل العرب. وتختلف سمعتهم بين أقوامهم بمقدار مصادفتهم لما في عقول أقوامهم. ولا شك أن لسذاجة عقول القوم أثرا ما ، وكان أقوامهم يعدون المعمّرين منهم أقرب إلى الإصابة فيما ينبئون به ، وهم بفرط فطنتهم واستغفالهم البله من مريديهم لا يصدرون إلّا كلاما مجملا موجها قابلا للتأويل بعدة احتمالات ، بحيث لا يؤخذون بالتكذيب الصريح ، فيكلون تأويل كلماتهم إلى ما يحدث للنّاس في مثل الأغراض الصادرة فيها تلك الكلمات ، وكلامهم خلو من الإرشاد والحقائق الصالحة.

وهم بحيلتهم واطلاعهم على ميادين النفوس ومؤثراتها التزموا أن يصوغوا كلامهم الذي يخبرون به في صيغة خاصة ملتزما فيها فقرات قصيرة مختتمة بأسجاع ، لأن الناس يحسبون مزاوجة الفقرة لأختها دليلا على مصادفتها الحق والواقع ، وأنها أمارة صدق. وكانوا في الغالب يلوذون بالعزلة ، ويكثرون النظر في النجوم ليلا لتتفرغ أذهانهم. فهذا حال الكهان وهو قائم على أسس الدجل والحيلة والشعوذة مع الاستعانة باستعداد خاص في النفس وقوة تخترق الحواجز المألوفة.

وهذا يفسره ما في كتاب الأدب من «صحيح البخاري» عن عائشة : أن ناسا سألوا

٢٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكهان فقال : «ليسوا بشيء (أي لا وجود لما يزعمونه). فقيل : يا رسول الله فإنهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنّي فيقرّها في أذن وليّه قرّ الدجاجة (١) فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة.

وما في تفسير سورة الحجر من «صحيح البخاري» من حديث سفيان عن أبي هريرة قال نبيء الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قضى الله الأمر في السماء (أي أمر أو أوحى) وضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله «فإنهم المأمورون كل في وظيفته» كالسلسلة على صفوان ينفذهم ذلك (أي يحصل العلم لهم. وتقريبها حركات آلة تلقي الرسائل البرقية ـ تلغراف) ... فيسمعها مسترقو السمع ، ومسترقو السمع هكذا واحد فوق آخر (أي هي طبقات متفاوتة في العلو). ووصف سفيان بيده فحرّفها وفرّج بين أصابع يده اليمنى نصبها بعضها فوق بعض (فيسمع المسترق الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتّى يلقيها على لسان الكاهن أو الساحر) ، فربّما أدرك الشّهاب المستمع قبل أن يلقيها ، وربّما ألقاها قبل أن يدركها فيكذب معها مائة كذبة. فيقولون : ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقا للكلمة التي سمعت من السماء».

أما أخبار الكهان وقصصهم فأكثرها موضوعات وتكاذيب. وأصحها حديث سواد بن قارب في قصة إسلام عمر ـ رضي‌الله‌عنه ـ من «صحيح البخاري».

وهذه الظواهر كلها لا تقتضي إلا إدراك المسموعات من كلام الملائكة. ولا محالة أنها مقرّبة بالمسموعات ، لأنها دلالة على عزائم النّفوس الملكية وتوجهاتها نحو مسخراتها.

وعبر عنه بالسمع لأنه يؤول إلى الخبر ، فالذي يحصل لمسترق السمع شعور ما تتوجه الملائكة لتسخيره ، والذي يحصل للكاهن كذلك. والمآل أن الكاهن يخبر به فيؤول إلى مسموع.

[١٩ ، ٢٠] (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠))

__________________

(١) قرّت الدجاجة تقرّ قرّا : أخفت صوتها.

٢٨

انتقال من الاستدلال بالآيات السماوية إلى الاستدلال بالآيات الأرضية لمناسبة المضادة.

وتقدم الكلام على معنى (مَدَدْناها) وعلى (الرواسي) في سورة الرعد.

والموزون : مستعار للمقدّر المضبوط.

و (مَعايِشَ) : جمع معيشة. وبعد الألف ياء تحتية لا همزة كما تقدم في صدر سورة الأعراف.

(وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) عطف على الضمير المجرور في (لَكُمْ) ، إذ لا يلزم للعطف على الضمير المجرور المنفصل الفصل بضمير منفصل على التحقيق ، أي جعلنا لكم أيها المخاطبين في الأرض معايش ، وجعلنا في الأرض معايش لمن لستم له برازقين ، أي لمن لستم له بمطعمين.

وما صدق (مَنْ) الذي يأكل طعامه مما في الأرض ، وهي الموجودات التي تقتات من نبات الأرض ولا يعقلها النّاس.

والإتيان ب (مَنْ) التي الغالب استعمالها للعاقل للتغليب.

ومعنى (لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) نفي أن يكونوا رازقيه لأن الرزق الإطعام. ومصدر رزقه الرّزق ـ بفتح الراء ـ. وأما الرّزق ـ بكسر الراء ـ فهو الاسم وهو القوت.

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١))

هذا اعتراض ناشئ عن قوله (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) [سورة الحجر : ١٩] الآية. وفي الكلام حذف الصفة كقوله تعالى (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) [سورة الكهف : ٧٩] أي سفينة صالحة.

والخزائن تمثيل لصلوحية القدرة الإلهية لتكوين الأشياء النافعة. شبهت هيئة إيجاد الأشياء النافعة بهيئة إخراج المخزونات من الخزائن على طريقة التمثيلية المكنية ، ورمز إلى الهيئة المشبّه بها بما هو من لوازمها وهو الخزائن. وتقدم عند قوله تعالى : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) في سورة الأنعام [٥٠].

وشمل ذلك الأشياء المتفرقة في العالم التي تصل إلى الناس بدوافع وأسباب تستتب

٢٩

في أحوال مخصوصة ، أو بتركيب شيء مع شيء مثل نزول البرد من السحاب وانفجار العيون من الأرض بقصد أو على وجه المصادفة.

وقوله (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) أطلق الإنزال على تمكين الناس من الأمور التي خلقها الله لنفعهم ، قال تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) في سورة البقرة [٢٩] ، إطلاقا مجازيا لأن ما خلقه الله لمّا كان من أثر أمر التكوين الإلهي شبّه تمكين الناس منه بإنزال شيء من علو باعتبار أنه من العالم اللدني ، وهو علو معنوي ، أو باعتبار أن تصاريف الأمور كائن في العوالم العلوية ، وهذا كقوله تعالى (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) في سورة الزمر [٦] ، وقوله تعالى (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) في سورة الطلاق [١٢].

والقدر ـ بفتح الدال ـ : التقدير. وتقدم عند قوله تعالى (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) في سورة الرعد [١٧].

والمراد ب (مَعْلُومٍ) أنه معلوم تقديره عند الله تعالى.

(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢))

انتقال من الاستدلال بظواهر السماء وظواهر الأرض إلى الاستدلال بظواهر كرة الهواء الواقعة بين السماء والأرض ، وذلك للاستدلال بفعل الرياح والمنة بما فيها من الفوائد.

والإرسال : مجاز في نقل الشيء من مكان إلى مكان. وهذا يدل على أن الرياح مستمرة الهبوب في الكرة الهوائية. وهي تظهر في مكان آتية إليه من مكان آخر وهكذا ...

و (لَواقِحَ) حال من (الرِّياحَ). وقع هذا الحال إدماجا لإفادة معنيين كما سيأتي عن مالك ـ رحمه‌الله ـ.

و (لَواقِحَ) صالح لأن يكون جمع لاقح وهي الناقة الحبلى. واستعمل هنا استعارة للريح المشتملة على الرطوبة التي تكون سببا في نزول المطر ، كما استعمل في ضدها العقيم ضد اللاقح في قوله تعالى (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) [سورة الذاريات : ٤١].

٣٠

وصالح لأن يكون جمع ملقح وهو الذي يجعل غيره لاقحا ، أي الفحل إذا ألقح الناقة ، فإن فواعل يجيء جمع مفعل مذكر نادرا كقول الحارث أو ضرار النهشلي :

لبيك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط مما تطيح الطوائح

روعي فيه جواز تأنيث المشبه به. وهي جمع الفحول لأن جمع ما لا يعقل يجوز تأنيثه.

ومعنى الإلقاح أن الرياح تلقح السحاب بالماء بتوجيه عمل الحرارة والبرودة متعاقبين فينشأ عن ذلك البخار الذي يصير ماء في الجو ثم ينزل مطرا على الأرض ؛ وأنها تلقح الشجر ذي الثمرة بأن تنقل إلى نوره غبرة دقيقة من نور الشجر الذكر فتصلح ثمرته أو تثبت ، وبدون ذلك لا تثبت أو لا تصلح. وهذا هو الإبّار. وبعضه لا يحصل إلا بتعليق الطلع الذكر على الشجرة المثمرة. وبعضه يكتفي منه بغرس شجرة ذكر في خلال شجر الثمر.

ومن بلاغة الآية إيراد هذا الوصف لإفادة كلا العملين اللّذين تعملهما الرياح ، وقد فسرت الآية بهما. واقتصر جمهور المفسرين على أنها لواقح السحاب بالمطر.

وروى أبو بكر بن العربي عن مالك أنه قال : قال الله تعالى (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) فلقاح القمح عندي أن يحبب ويسنبل ولا أريد ما ييبس في أكمامه ولكن يحبب حتى يكون لو يبس حينئذ لم يكن فسادا لا خير فيه. ولقاح الشجر كلها أن تثمر ثم يسقط منها ما يسقط ويثبت ما يثبت.

وفرع قوله (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) على قوله (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ).

وقرأ حمزة وأرسلنا الريح لواقح بإفراد «الريح» وجمع «لواقح» على إرادة الجنس والجنس له عدة أفراد.

و (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) بمعنى جعلناه لكم سقيا ، فالهمزة فيه للجعل. وكثر إطلاق أسقى بمعنى سقى.

واستعمل الخزن هنا في معنى الخزن في قوله آنفا (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) [سورة الحجر : ٢١] أي وما أنتم له بحافظين ومنشئين عند ما تريدون.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣))

٣١

لما جرى ذكر إنزال المطر وكان مما يسبق إلى الأذهان عند ذكر المطر إحياء الأرض به ناسب أن يذكر بعده جنس الإحياء كله لما فيه من غرض الاستدلال على الغافلين عن الوحدانية ، ولأن فيه دليلا على إمكان البعث. والمقصود ذكر الإحياء ولذلك قدم. وذكر الإماتة للتكميل.

والجملة عطف على جملة (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) [سورة الحجر : ١٦] للدلالة على القدرة وعموم التصرف.

وضمير «نحن» ضمير فصل دخلت عليه لام الابتداء. وأكد الخبر ب (إنّ) واللّام وضمير الفصل لتحقيقه وتنزيلا للمخاطبين في إشراكهم منزلة المنكرين للإحياء والإماتة.

والمراد بالإحياء تكوين الموجودات التي فيها الحياة وإحياؤها أيضا بعد فناء الأجسام. وقد أدمج في الاستدلال على تفرد الله تعالى بالتصرف إثبات البعث ودفع استبعاد وقوعه واستحالته.

ولما كان المشركون منكرين نوعا من الإحياء كان توكيد الخبر مستعملا في معنييه الحقيقي والتنزيلي.

وجملة (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) عطف على جملة (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ).

ومعنى الإرث هنا البقاء بعد الموجودات تشبيها للبقاء بالإرث وهو أخذ ما يتركه الميت من أرض وغيرها.

[٢٤ ، ٢٥] (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥))

لما ذكر الإحياء والإماتة وكان الإحياء ـ بكسر الهمزة ـ يذكر بالأحياء ـ بفتحها ـ ، وكانت الإماتة تذكّر بالأموات الماضين تخلص من الاستدلال بالأحياء والإماتة على عظم القدرة إلى الاستدلال بلازم ذلك على عظم علم الله وهو علمه بالأمم البائدة وعلم الأمم الحاضرة ؛ فأريد بالمستقدمين الذين تقدموا الأحياء إلى الموت أو إلى الآخرة ، فالتقدم فيه بمعنى المضي ؛ وبالمستأخرين الذين تأخروا وهم الباقون بعد انقراض غيرهم إلى أجل يأتي.

والسين والتاء في الوصفين للتأكيد مثل استجاب ؛ ولكن قولهم استقدم بمعنى تقدم

٣٢

على خلاف القياس لأن فعله رباعي. وقد تقدم عند قوله تعالى (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) في سورة الأعراف [٣٤].

وقد تقدم في طالع تفسير هذه السورة الخبر الذي أخرجه الترمذي في جامعه من طريق نوح بن قيس ومن طريق جعفر بن سليمان في سبب نزول هذه الآية. وهو خبر واه لا يلاقي انتظام هذه الآيات ولا يكون إلا من التفاسير الضعيفة.

وجملة (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) نتيجة هذه الأدلة من قوله : (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) [سورة الحجر : ٢٣] فإن الّذي يحيي الحياة الأولى قادر على الحياة الثانية بالأولى ، والّذي قدّر الموت ما قدره عبثا بعد أن أوجد الموجودات إلّا لتستقبلوا حياة أبدية ؛ ولو لا ذلك لقدر الدّوام على الحياة الأولى ، قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [سورة الملك : ٢].

وللإشارة إلى هذا المعنى من حكمة الإحياء والإماتة أتبعه بقوله : (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) تعليلا لجملة (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) لأن شأن (إِنَ) إذا جاءت في غير معنى الرد على المنكر أن تفيد معنى التعليل والربط بما قبلها.

والحكيم الموصوف بالحكمة. وتقدم عند قوله تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) [سورة البقرة : ٢٦٩] وعند قوله تعالى : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) في سورة البقرة [٢٠٩].

و «العليم» الموصوف بالعلم العام ، أي المحيط. وتقدم عند قوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) في سورة آل عمران [١٤٠].

وقد أكدت جملة (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) بحرف التوكيد وبضمير الفصل لرد إنكارهم الشديد للحشر. وقد أسند الحشر إلى الله بعنوان كونه رب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنويها بشأن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأنهم كذبوه في الخبر عن البعث (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ* أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) [سورة سبأ : ٧ ـ ٨] أي فكيف ظنك بجزائه مكذبيك إذا حشرهم.

[٢٦ ، ٢٧] (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧))

٣٣

تكملة لإقامة الدليل على انفراده تعالى بخلق أجناس العوالم وما فيها. ومنه يتخلص إلى التذكير بعداوة الشيطان للبشر ليأخذوا حذرهم منه ويحاسبوا أنفسهم على ما يخامرها من وسواسه بما يرديهم. جاء بمناسبة ذكر الإحياء والإماتة فإن أهم الإحياء هو إيجاد النوع الإنساني. ففي هذا الخبر استدلال على عظيم القدرة والحكمة وعلى إمكان البعث ، وموعظة وذكرى. والمراد بالإنسان آدم ـ عليه‌السلام ـ.

والصلصال : الطين الذي يترك حتى ييبس فإذا يبس فهو صلصال وهو شبه الفخّار ؛ إلا أن الفخّار هو ما يبس بالطبخ بالنّار. قال تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) [سورة الرحمن : ١٤].

والحمأ : الطين إذا اسودّ وكرهت رائحته. وقوله : (مِنْ حَمَإٍ) صفة ل (صَلْصالٍ) و (مَسْنُونٍ) صفة ل (حَمَإٍ) أو ل (صَلْصالٍ). وإذا كان الصلصال من الحمأ فصفة أحدهما صفة للآخر.

والمسنون : الذي طالت مدة مكثه ، وهو اسم مفعول من فعل سنّه إذا تركه مدة طويلة تشبه السّنة. وأحسب أن فعل (سن) بمعنى ترك شيئا مدة طويلة غير مسموع.

ولعل (تسنّه) بمعنى تغيّر من طول المدّة أصله مطاوع سنه ثم تنوسي منه معنى المطاوعة. وقد تقدم قوله تعالى (لَمْ يَتَسَنَّهْ) في سورة البقرة [٢٥٩].

والمقصود من ذكر هذه الأشياء التنبيه على عجيب صنع الله تعالى إذ أخرج من هذه الحالة المهينة نوعا هو سيد أنواع عالم المادة ذات الحياة.

وفيه إشارة إلى أن ماهية الحياة تتقوم من الترابية والرطوبة والتعفن ، وهو يعطي حرارة ضعيفة. ولذلك تنشأ في الأجرام المتعفّنة حيوانات مثل الدود ، ولذلك أيضا تنشأ في الأمزجة المتعفّنة الحمى.

وفيه إشارة إلى الأطوار التي مرّت على مادة خلق الإنسان.

وتوكيد الجملة بلام القسم وبحرف (قد) لزيادة التحقيق تنبيها على أهميّة هذا الخلق وأنه بهذه الصفة.

وعطف جملة (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ) إدماج وتمهيد إلى بيان نشأة العداوة بين بني آدم وجند إبليس.

٣٤

وأكدت جملة (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ) بصيغة الاشتغال التي هي تقوية للفعل بتقدير نظيره المحذوف ، ولما فيها من الاهتمام بالإجمال ثم التفصيل لمثل الغرض الّذي أكدت به جملة (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) إلخ.

وفائدة قوله : (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل خلق الإنسان تعليم أن خلق الجانّ أسبق لأنّه مخلوق من عنصر الحرارة والحرارة أسبق من الرطوبة.

و (السَّمُومِ) ـ بفتح السين ـ : الريح الحارة. فالجنّ مخلوق من النارية والهوائية ليحصل الاعتدال في الحرارة فيقبل الحياة الخاصة اللائقة بخلقة الجنّ ، فكما كوّن الله الحمأة الصلصال المسنون لخلق الإنسان ، كون ريحا حارة وجعل منها الجنّ. فهو مكون من حرارة زائدة على مقدار حرارة الإنسان ومن تهوية قويّة. والحكمة كلّها في إتقان المزج والتركيب.

[٢٨ ـ ٣٥] (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) الَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥))

عطف قصة على قصة.

و (إِذْ) مفعول لفعل (اذكر) محذوف. وقد تقدم الكلام في نظائره في سورة البقرة وفي سورة الأعراف.

والبشر مرادف الإنسان ، أي أنّي خالق إنسانا. وقد فهم الملائكة الحقيقة بما ألقى الله فيهم من العلم ، أو أن الله وصف لهم حقيقة الإنسان بالمعنى الذي عبّر عنه في القرآن بالعبارة الجامعة لذلك المعنى.

وإنما ذكر للملائكة المادة التي منها خلق البشر ليعلموا أن شرف الموجودات بمزاياها لا بمادة تركيبها كما أومأ إلى ذلك قوله : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ).

والتسوية : تعديل ذات الشيء. وقد أطلقت هنا على اعتدال العناصر فيه واكتمالها

٣٥

بحيث صارت قابلة لنفخ الروح.

والنفخ : حقيقته إخراج الهواء مضغوطا بين الشفتين مضمومتين كالصفير ، واستعير هنا لوضع قوة لطيفة السريان قوية التأثير دفعة واحدة ، وليس ثمة نفخ ولا منفوخ.

وتقريب نفخ الروح في الحي أنه تكون القوّة البخارية أو الكهربائية المنبعثة من القلب عند انتهاء استواء المزاج وتركيب أجزاء المزاج تكونا سريعا دفعيا وجريان آثار تلك القوة في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن في تجاويف جميع أعضائه الرئيسة وغيرها.

وإسناد النفخ وإضافة الروح إلى ضمير اسم الجلالة تنويه بهذا المخلوق. وفيه إيماء إلى أن حقائق العناصر عند الله تعالى لا تتفاضل إلا بتفاضل آثارها وأعمالها ، وأن كراهة الذات أو الرائحة إلى حالة يكرهها بعض الناس أو كلهم إنما هو تابع لما يلائم الإدراك الحسي أو ينافره تبعا لطباع الأمزجة أو لإلف العادة ولا يؤبه في علم الله تعالى. وهذا هو ضابط وصف القذارة والنّزاهة عند البشر.

ألا ترى أن المني يستقذر في الحس البشري على أن منه تكوين نوعه ، ومنه تخلقت أفاضل البشر. وكذلك المسك طيّب في الحس البشري لملاءمة رائحته للشّم وما هو إلا غدة من خارجات بعض أنواع الغزال ، قال تعالى : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) [سورة السجدة : ٧ ـ ٩].

وهذا تأصيل لكون عالم الحقائق غير خاضع لعالم الأوهام. وفي الحديث «لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك». وفيه «لا يكلم أحد في سبيل الله ؛ والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة ودمه يشخب اللّون لون الدم والريح ريح المسك».

ومعنى (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) أسقطوا له ساجدين ، وهذه الحال لإفادة نوع الوقوع ، وهو الوقوع لقصد التعظيم ، كقوله تعالى : (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) [سورة يوسف : ١٠٠]. وهذا تمثيل لتعظيم يناسب أحوال الملائكة وأشكالهم تقديرا لبديع الصنع والصلاحية لمختلف الأحوال الدال على تمام علم الله وعظيم قدرته.

وأمر الملائكة السجود لا ينافي تحريم السجود في الإسلام لغير الله من وجوه :

أحدها : أن ذلك المنع لسدّ ذريعة الإشراك والملائكة معصومون من تطرّق ذلك إليهم.

٣٦

وثانيها : أن شريعة الإسلام امتازت بنهاية مبالغ الحق والصلاح ، فجاءت بما لم تجىء به الشرائع السالفة لأن الله أراد بلوغ أتباعها أوج الكمال في المدارك ، ولم يكن السجود من قبل محظورا فقد سجد يعقوب وأبناؤه ليوسف ـ عليهم‌السلام ـ وكانوا أهل إيمان.

وثالثها : أن هذا إخبار عن أحوال العالم العلوي ، ولا تقاس أحكامه على تكاليف عالم الدنيا.

وقوله : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) عنوان على طاعة الملائكة.

و (كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) تأكيد على تأكيد ، أي لم يتخلّف عن السجود أحد منهم.

وقوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) تقدم القول على نظيره في سورة البقرة وسورة الأعراف.

وقوله هنا (أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) بيان لقوله في سورة البقرة [٣٤] (وَاسْتَكْبَرَ) ، لأنه أبى أن يسجد وأن يساوي الملائكة في الرضى بالسجود. فدلّ هذا على أنه عصى وأنه ترفّع عن متابعة غيره.

وجملة (ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) استفهام توبيخ. ومعناه أي شيء ثبت لك ، أي متمكنا منك ، لأن اللام تفيد الملك. و (أَلَّا تَكُونَ) معمول لحرف جر محذوف تقديره (في). وحذف حرف الجر مطرد مع (أن). وحرف (أن) يفيد المصدرية. فالتقدير في انتفاء كونك من الساجدين.

وقوله : (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ) جحود. وقد تقدم أنه أشد في النفي من (لا أسجد) في قوله تعالى : (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ) في آخر العقود [المائدة : ١١٦].

وقوله : (لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) تأييد لإباءته من السجود بأن المخلوق من ذلك الطين حقير ذميم لا يستأهل السجود. وهذا ضلال نشأ عن تحكيم الأوهام بإعطاء الشيء حكم وقعه في الحاسة الوهمية دون وقعه في الحاسة العقلية ، وإعطاء حكم ما منه التكوين للشيء الكائن. فشتّان بين ذكر ذلك في قوله تعالى للملائكة : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) وبين مقصد الشيطان من حكاية ذلك في تعليل امتناعه من السجود للمخلوق منه بإعادة الله الألفاظ التي وصف بها الملائكة. وزاد فقال ما حكي عنه في سورة ص [٧٦] إذ قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ

٣٧

طِينٍ) ولم يحك عنه هنا.

وبمجموع ما حكي عنه هنا وهناك كان إبليس مصرحا بتخطئة الخالق ، كافرا بصفاته ، فاستحق الطرد من عالم القدس. وقد بيناه في سورة ص.

وعطفت جملة أمره بالخروج بالفاء لأن ذلك الأمر تفرع على جوابه المنبئ عن كفره وعدم تأهله للبقاء في السماوات.

والفاء في (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) دالّة على سبب إخراجه من السماوات. و (إنّ) مؤذنة بالتعليل. وذلك إيماء إلى سبب إخراجه من عوالم القدس ، وهو ما يقتضيه وصفه بالرجيم متلوث الطوية وخبث النفس ، أي حيث ظهر هذا فيك فقد خبثت نفسك خبثا لا يرجى بعده صلاح فلا تبقى في عالم القدس والنزاهة.

والرجيم : المطرود. وهو كناية عن الحقارة. وتقدم في أول هذه السورة (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) [سورة الحجر : ١٧].

وضمير (مِنْها) عائد إلى السماوات وإن لم تذكر لدلالة ذكر الملائكة عليها. وقيل: إلى الجنة. وقد اختلف علماؤنا في أنها موجودة.

و (اللَّعْنَةَ) : السّبّ بالطرد. و (على) مستعملة في الاستعلاء المجازي ؛ وهو تمكن اللعنة والشتم منه حتى كأنه يقع فوقه.

وجعل (يَوْمِ الدِّينِ) وهو يوم الجزاء غاية للّعن استعمالا في معنى الدوام ، كأنه قيل أبدا. وليس ذلك بمقتضي أن اللعنة تنتهي يوم القيامة ويخلفها ضدها ، ولكن المراد أن اللعنة عليه في الدنيا إلى أن يلاقي جزاء عمله فذلك يومئذ أشد من اللعنة.

[٣٦ ـ ٣٨] (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨))

سؤاله النظرة بعد إعلامه بأنه ملعون إلى يوم الدين فاض به خبث جبلته البالغ نهاية الخباثة التي لا يشفيها إلا دوام الإفساد في هذا العالم ، فكانت هذه الرغبة مجلبة لدوام شقوته.

ولما كانت اللعنة تستمر بعد انعدام الملعون إذا اشتهر بين الناس بسوء لم يكن توقيتها بالأبد مقيدا حياة الملعون ، فلذلك لم يكن لإبليس غنى بقوله تعالى (إِلى يَوْمِ

٣٨

الدِّينِ) عن أن يسأل الإبقاء إلى يوم الدين ليكون مصدر الشرور للنفوس قضاء لما جبل عليه من بثّ الخبث ؛ فكان بذلك حريصا على دوامها بما يوجه إليه من اللّعنة ، فسأل النظرة حبا للبقاء لما في البقاء من استمرار عمله.

وخاطب الله بصفة الربوبية تخضّعا وحثّا على الإجابة ، والفاء في (فَأَنْظِرْنِي) فاء التفريع. فرع السؤال عن الإخراج.

ووسّط النداء بين ذلك.

وذكرت هذه الحالة من أوصاف نفسيته بعثا لكراهيته في نفوس البشر الذين يرون أن حق النفس الأبية أن تأنف من الحياة الذميمة المحقرة ، وذلك شأن العرب ، فإذا علموا هذا الحوص من حال إبليس أبغضوه واحتقروه فلم يرضوا بكل عمل ينسب إليه.

والإنظار : الإمهال والتأخير. وتقدم في قوله : (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) في سورة البقرة [٢٨٠]. والمراد تأخير إماتته لأن الإنظار لا يكون للذات ، فتعين أنه لبعض أحوالها وهو الموت بقرينة السياق.

وعبر عن يوم الدين ب (يَوْمِ يُبْعَثُونَ) تمهيدا لما عقد عليه العزم من إغواء البشر ، فأراد الإنظار إلى آخر مدة وجود نوع الإنسان في الدنيا. وخلق الله فيه حب النظرة التي قدرها الله له وخلقه لأجلها وأجل آثارها ليحمل أوزار تبعة ذلك بسبب كسبه واختياره تلك الحالة ، فإن ذلك الكسب والاختيار هو الذي يجعله ملائما لما خلق له ، كما أومأ إلى ذلك البيان النبوي بقوله : «كل ميسر لما خلق له».

وضمير (يُبْعَثُونَ) للبشر المعلومين من تركيب خلق آدم ـ عليه‌السلام ـ ، وأنه يكون له نسل ولا سيما حيث خلقت زوجه حينئذ فإن ذلك يقتضي أن يكون منهما نسل.

وعبر عن يوم البعث ب (يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) تفنّنا تفاديا من إعادة اللفظ قضاء لحق حسن النظم ، ولما فيه من التعليم بأن الله يعلم ذلك الأجل. فالمراد : المعلوم لدينا. ويجوز أن يراد المعلوم للناس أيضا علما إجماليا.

وفيه تعريض بأن من لم يؤمنوا بذلك اليوم من الناس لا يعبأ بهم فهم كالعدم.

وهذا الإنظار رمز إلهي على أن ناموس الشر لا ينقضي من عالم الحياة الدنيا وأن نظامها قائم على التصارع بين الخير والشر والأخيار والأشرار ، قال تعالى : (بَلْ نَقْذِفُ

٣٩

بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ) [سورة الأنبياء : ١٨] وقال : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) [سورة الرعد : ١٧]. فلذلك لم يستغن نظام العالم عن إقامة قوانين العدل والصلاح وإيداعها إلى الكفاة لتنفيذها والذّود عنها.

وعطفت مقولات هذه الأقوال بالفاء لأن كل قول منها أثاره الكلام الذي قبله فتفرّع عنه.

[٣٩ ، ٤٠] (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠))

الباء في (بِما أَغْوَيْتَنِي) للسببية ، و (ما) موصولة ، أي بسبب إغوائك إياي ، أي بسبب أن خلقتني غاويا فسأغوي الناس.

واللام في (لَأُزَيِّنَنَ) لام قسم محذوف مراد بها التأكيد ، وهو القسم المصرح به في قوله : (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [سورة ص : ٨٢].

والتزيين : التحسين ، أي جعل الشيء زينا ، أي حسنا. وحذف مفعول (لَأُزَيِّنَنَ) لظهوره من المقام ، أي لأزينن لهم الشر والسيئات فيرونها حسنة ، وأزيّن لهم الإقبال على الملاذ التي تشغلهم عن الواجبات. وتقدم عند قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) في سورة البقرة [٢١٢].

والإغواء : جعلهم غاوين. والغواية ـ بفتح الغين ـ : الضلال. والمعنى : ولأضلنّهم. وإغواء الناس كلهم هو أشد أحوال غاية المغوي إذ كانت غوايته متعدية إلى إيجاد غواية غيره.

وبهذا يعلم أن قوله : (بِما أَغْوَيْتَنِي) إشارة إلى غواية يعلمها الله وهي التي جبله عليها ، فلذلك اختير لحكايتها طريقة الموصولية ، ويعلم أن كلام الشيطان هذا طفح بما في جبلّته ، وليس هو تشفّيا أو إغاظة لأن العظمة الإلهية تصده عن ذلك.

وزيادة (فِي الْأَرْضِ) لأنها أول ما يخطر بباله عند خطور الغواية لاقتران الغواية بالنزول إلى الأرض الذي دلّ عليه قوله تعالى : (فَاخْرُجْ مِنْها) [سورة الحجر : ٣٤] ، أي اخرج من الجنة إلى الأرض كما جاء في الآية الأخرى قال : (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) [سورة البقرة : ٢] ، ولأن جعل التزيين في الأرض يفيد

٤٠