تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

مناسبة موقع جملة (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بعد جملة (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) [سورة النحل : ٥١] أن الذين جعلوا إلهين جعلوهما النور والظلمة. وإذ كان النور والظلمة مظهرين من مظاهر السماء والأرض كان المعنى : أن ما تزعمونه إلها للخير وإلها للشرّ هما من مخلوقاته.

وتقديم المجرور يفيد الحصر فدخل جميع ما في السماء والأرض في مفاد لام الملك ، فأفاد أن ليس لغيره شيء من المخلوقات خيرها وشرّها. فانتفى أن يكون معه إله آخر لأنه لو كان معه إله آخر لكان له بعض المخلوقات إذ لا يعقل إله بدون مخلوقات.

وضمير (لَهُ) عائد إلى اسم الجلالة من قوله : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ).

فعطفه على جملة (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) [سورة النحل : ٥١] لأن عظمة الإلهية اقتضت الرّهبة منه وقصرها عليه ، فناسب أن يشار إلى أن صفة المالكية تقتضي إفراده بالعبادة.

وأما قوله : (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) فالدين يحتمل أن يكون المراد به الطاعة ، من قولهم : دانت القبيلة للملك ، أي أطاعته ، فهو من متمّمات جملة (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، لأنه لما قصر الموجودات على الكون في ملكه كان حقيقا بقصر الطاعة عليه ، ولذلك قدّم المجرور في هذه الجملة على فعله كما وقع في التي قبلها.

ويجوز أن يكون (الدِّينُ) بمعنى الديانة ، فيكون تذييلا لجملة (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) ، لأن إبطال دين الشرك يناسبه أن لا يدين الناس إلا بما يشرّعه الله لهم ، أي هو الذي يشرّع لكم الدين لا غيره من أئمّة الضلال مثل عمرو بن لحيي ، وزرادشت ، ومزدك ، وماني ، قال تعالى : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) [سورة الشورى : ٢١].

ويجوز أن يكون الدين بمعنى الجزاء كما في قوله تعالى : ملك يوم الدين [سورة الفاتحة: ٤] ، فيكون إدماجا لإثبات البعث الذي ينكره أولئك أيضا. والمعنى : له ما في السماوات والأرض وإليه يرجع من في السماوات والأرض لا يرجعون إلى غيره ولا ينفعهم يومئذ أحد.

والواصب : الثابت الدائم ، وهو صالح للاحتمالات الثلاثة ، ويزيد على الاحتمال الثالث لأنه تأكيد لردّ إنكارهم البعث.

١٤١

وتفرّع على هاتين الجملتين التّوبيخ على تقواهم غيره ، وذلك أنهم كانوا يتقون إله الشرّ ويتقرّبون إليه ليأمنوا شرّه.

[٥٣ ، ٥٤] (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤))

عطف خبر على خبر. وهو انتقال من الاستدلال بمصنوعات الله الكائنة في ذات الإنسان وفيما يحيط به من الموجودات إلى الاستدلال بما ساق الله من النعم ، فمن الناس معرضون عن التّدبر فيها وعن شكرها وهم الكافرون ، فكان في الأدلّة الماضية القصد إلى الاستدلال ابتداء متبوعا بالامتنان.

وتغيّر الأسلوب هنا فصار المقصود الأول هو الامتنان بالنّعم مدمجا فيه الاعتبار بالخلق. فالخطاب موجّه إلى الأمّة كلّها ، ولذلك جاء عقبه قوله تعالى : (إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ).

وابتدئ بالنّعم على وجه العموم إجمالا ثم ذكرت مهمات منها.

والخطاب موجّه إلى المشركين تذكيرا لهم بأن الله هو ربّهم لا غيره لأنه هو المنعم.

وموقع قوله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) هنا أنه لما أبطل في الآية السابقة وجود إلهين اثنين (أحدهما فعله الخير والآخر فعله الشرّ) أعقبه هنا بأن الخير والضر من تصرفات الله تعالى ، وهو يعطي النّعمة وهو كاشف الضرّ.

والباء للملابسة ، أي ما لابسكم واستقرّ عندكم ، و (مِنْ نِعْمَةٍ) لبيان إبهام (ما) الموصولة.

و (من) في قوله تعالى : (فَمِنَ اللهِ) ابتدائية ، أي واصلة إليكم من الله ، أي من عطاء الله ، لأن النّعمة لا تصدر عن ذات الله ولكن عن صفة قدرته أو عن صفة فعله عند مثبتي صفات الأفعال. ولما كان (ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ) مفيدا للعموم كان الإخبار عنه بأنه من عند الله مغنيا عن الإتيان بصيغة قصر.

و (ثُمَ) في قوله تعالى : (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) للتّراخي الرتبي كما هو شأنها الغالب في عطفها الجمل ، لأن اللجأ إلى الله عند حصول الضرّ أعجب إخبارا من الإخبار

١٤٢

بأن النّعم كلّها من الله ، ومضمون الجملة المعطوفة أبعد في النظر من مضمون المعطوف عليها.

والمقصود : تقرير أن الله تعالى هو مدبّر أسباب ما بهم من خير وشرّ ، وأنه لا إله يخلق إلا هو ، وأنهم لا يلتجئون إلا إليه إذا أصابهم ضرّ ، وهو ضد النّعمة.

ومسّ الضرّ : حلوله. استعير المسّ للحصول الخفيف للإشارة إلى ضيق صبر الإنسان بحيث إنه يجأر إلى الله بحصول أدنى شيء من الضرّ له. وتقدم استعمال المسّ في الإصابة الخفيفة في قوله تعالى (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) في سورة الأنعام [١٧].

و (تَجْئَرُونَ) تصرخون بالتضرّع. والمصدر : الجؤار ، بصيغة أسماء الأصوات.

وأتبع هذه بنعمة أخرى وهي نعمة كاشف الضرّ عن الناس بقوله تعالى : (ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ) الآية.

و (ثُمَ) للترتيب الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل. وجيء بحرف (ثُمَ) لأنّ مضمون الجملة المعطوفة أبعد في النّظر من مضمون المعطوف عليها فإن الإعراض عن المنعم بكشف الضرّ وإشراك غيره به في العبادة أعجب حالا وأبعد حصولا من اللجأ إليه عند الشدّة.

والمقصود تسجيل كفران المشركين ، وإظهار رأفة الله بالخلق بكشف الضرّ عنهم عند التجائهم إليه مع علمه بأن من أولئك من يشرك به ويستمرّ على شركه بعد كشف الضرّ عنه.

و (إِذا) الأولى مضمنة معنى الشرط ، وهي ظرف. و (إِذا) الثانية فجائية. والإتيان بحرف المفاجأة للدّلالة على إسراع هذا الفريق بالرجوع إلى الشرك وأنه لا يتريث إلى أن يبعد العهد بنعمة كشف الضرّ عنه بحيث يفجئون بالكفر دفعة دون أن يترقّبه منهم مترقّب ، فكان الفريق المعني في قوله تعالى : (إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ) فريق المشركين.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥))

لام التعليل متعلّقة بفعل (يُشْرِكُونَ) [سورة النحل : ٥٤] الذي هو من جواب قوله تعالى : (إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ) [سورة النحل : ٥٤]. والكفر هنا كفر النّعمة ، ولذلك

١٤٣

علّق به قوله تعالى : (بِما آتَيْناهُمْ) أي من النّعم. وكفر النّعمة ليس هو الباعث على الإشراك فإن إشراكهم سابق على ذلك وقد استصحبوه عقب كشف الضرّ عنهم ، ولكن شبهت مقارنة عودهم إلى الشرك بعد كشف الضرّ عنهم بمقارنة العلّة الباعثة على عمل لذلك العمل. ووجه الشبه مبادرتهم لكفر النّعمة دون تريّث.

فاستعير لهذه المقارنة لام التعليل ، وهي استعارة تبعيّة تلميحيّة تهكميّة ومثلها كثير الوقوع في القرآن. وقد سمى كثير من النحاة هذه اللام لام العاقبة ، ومثالها عندهم قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [سورة القصص : ٨] ، وقد بيّناها في مواضع آخرها عند قوله تعالى (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) في هذه السورة [النحل : ٢٥].

وضمير (لِيَكْفُرُوا) عائد إلى (فَرِيقٌ) [سورة النحل : ٥٤] باعتبار دلالته على جمع من الناس.

والإيتاء : الإعطاء. وهو مستعار للإنعام بالحالة النافعة ، لأن شأن الإعطاء أن يكون تمكينا بالمأخوذ المحبوب.

وعبّر بالموصول (بِما آتَيْناهُمْ) لما تؤذن به الصّلة من كونه نعمة تفظيعا لكفرانهم بها ، لأن كفران النّعمة قبيح عند تجميع العقلاء.

وفرع عليه مخاطبتهم بأمرهم بالتمتّع أمر إمهال وقلّة اكتراث بهم وهو في معنى التخلية.

والتمتّع : الانتفاع بالمتاع. والمتاع الشيء الذي ينتفع به انتفاعا محبوبا ويسرّ به. ويقال : تمتّع بكذا واستمتع. وتقدّم المتاع في آخر سورة براءة.

والخطاب للفريق الذين يشركون بربّهم على طريقة الالتفات. والأظهر أنه مقول لقول محذوف. لأنه جاء مفرعا على كلام خوطب به الناس كلّهم كما تقدم ، فيكون المفرع من تمام ما تفرّع عليه. وذلك ينافي الالتفات الذي يقتضي أن يكون مرجع الضمير إلى مرجع ما قبله.

والمعنى : فنقول تمتّعوا بالنّعم التي أنتم فيها إلى أمد.

وفرع عليه التهديد بأنهم سيعلمون عاقبة كفران النّعمة بعد زوال التمتّع. وحذف

١٤٤

مفعول (تَعْلَمُونَ) لظهوره من قوله تعالى : (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) أي تعلمون جزاء كفركم.

(وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦))

عطف حالة من أحوال كفرهم لها مساس بما أنعم الله عليهم من النّعمة ، فهي معطوفة على جملة (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [سورة النحل : ٥٣]. ويجوز أن تكون حالا من الضمير المجرور في قوله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ) على طريق الالتفات.

ويجوز أن تكون معطوفة على (يُشْرِكُونَ) من قوله تعالى : (إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) [سورة النحل : ٥٤].

وما حكي هنا هو من تفاريع دينهم الناشئة عن إشراكهم والتي هي من تفاريع كفران نعمة ربّهم ، إذ جعلوا في أموالهم حقا للأصنام التي لم ترزقهم شيئا. وقد مرّ ذلك في سورة الأنعام عند قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) [سورة النحل : ١٣٦].

إلا أنه اقتصر هنا على ذكر ما جعلوه لشركائهم دون ما جعلوه لله لأن المقام هنا لتفصيل كفرانهم النّعمة ، بخلاف ما في سورة الأنعام فهو مقام تعداد أحوال جاهليتهم وإن كان كل ذلك منكرا عليهم ، إلا أن بعض الكفر أشدّ من بعض.

والجعل : التصيير والوضع. تقول : جعلت لك في مالي كذا. وجيء هنا بصيغة المضارع للدّلالة على تجدّد ذلك منهم واستمراره ، بخلاف قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) [سورة النحل : ٣٨] بأنه حكاية قضية مضت من عنادهم وجدالهم في أمر البعث.

ومفعول (يَعْلَمُونَ) محذوف لظهوره ، وهو ضمير (ما) ، أي لا يعلمونه. ومثل حذف هذا الضمير كثير في الكلام.

وما صدق صلة (لِما لا يَعْلَمُونَ) هو الأصنام ، وإنما عبّر عنها بهذه الصّلة زيادة في تفظيع سخافة آرائهم ، إذ يفرضون في أموالهم عطاء يعطونه لأشياء لا يعلمون حقائقها بله مبلغ ما ينالهم منها ، وتخيّلات يتخيّلونها ليست من الوجود ولا من الإدراك ولا من الصلاحية للانتفاع في شيء ، كما قال تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ

١٤٥

ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ). وضمير (تَعْلَمُونَ) [سورة الحجر : ٥٥] عائد إلى معاد ضمير (يَجْعَلُونَ).

ووصف النصيب بأنه (مِمَّا رَزَقْناهُمْ) لتشنيع ظلمهم إذ تركوا المنعم فلم يتقرّبوا إليه بما يرضيه في أموالهم مما أمرهم بالإنفاق فيه كإعطاء المحتاج ، وأنفقوا ذلك في التقرّب إلى أشياء موهومة لم ترزقهم شيئا.

ثم وجه الخطاب إليهم على طريقة الالتفات لقصد التهديد. ولا مانع من الالتفات هنا لعدم وجود فاء التفريع كما في قوله تعالى : (فَتَمَتَّعُوا) [سورة النحل : ٥٥].

وتصدير جملة التهديد والوعيد بالقسم لتحقيقه ، إذ السؤال الموعود به يكون يوم البعث وهم ينكرونه فناسب أن يؤكّد.

والقسم بالتاء يختصّ بما يكون المقسم عليه أمرا عجيبا ومستغربا ، كما تقدم في قوله تعالى : (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) في سورة يوسف [٧٣]. وسيأتي في قوله تعالى : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) في سورة الأنبياء [٥٧]. فالإتيان في القسم هنا بحرف التاء مؤذن بأنهم يسألون سؤالا عجيبا بمقدار غرابة الجرم المسئول عنه.

والسؤال كناية عما يترتّب عليه من العقاب ، لأن عقاب العادل يكون في العرف عقب سؤال المجرم عمّا اقترفه إذ لعلّ له ما يدفع به عن نفسه ، فأجرى الله أمر الحساب يوم البعث على ذلك السنن الشريف. والتعبير عنه ب (كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) كناية عن استحقاقهم العقاب لأن الكذب على الله جريمة.

والإتيان بفعل الكون وبالمضارع للدّلالة على أن الافتراء كان من شأنهم ، وكان متجددا ومستمرا منهم ، فهو أبلغ من أن يقال : عمّا تفترون ، وعمّا افتريتم.

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧))

عطف على جملة (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) [سورة النحل : ٥٦].

هذا استدلال بنعمة الله عليهم بالبنين والبنات ، وهي نعمة النّسل ، كما أشار إليه قوله تعالى : (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) ، أي ما يشتهون مما رزقناهم من الذّرية.

وأدمج في هذا الاستدلال وهذا الامتنان ذكر ضرب شنيع من ضروب كفرهم. وهو

١٤٦

افتراؤهم : أن زعموا أن الملائكة بنات الله من سروات الجنّ ، كما دل عليه قوله تعالى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) [سورة الصافات : ١٥٨]. وهو اعتقاد قبائل كنانة وخزاعة.

والجعل : هنا النسبة بالقول.

و (سُبْحانَهُ) مصدر نائب عن الفعل ، وهو منصوب على المفعولية المطلقة ، وهو في محل جملة معترضة وقعت جوابا عن مقالتهم السيّئة التي تضمّنتها حكاية (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) إذ الجعل فيه جعل بالقول ، فقوله : (سُبْحانَهُ) مثل قولهم : حاش لله ومعاذ الله ، أي تنزيها له عن أن يكون له ذلك.

وإنا قدم (سُبْحانَهُ) على قوله : (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) ليكون نصّا في أن التّنزيه عن هذا الجعل لذاته وهو نسبة البنوّة لله ، لا عن جعلهم له خصوص البنات دون الذكور الذي هو أشدّ فظاعة ، كما دلّ عليه قوله تعالى : (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) ، لأن ذلك زيادة في التّفظيع ، فقوله : (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) جملة في موضع الحال. وتقديم الخبر في الجملة للاهتمام بهم في ذلك على طريقة التهكّم.

وما صدق (ما يَشْتَهُونَ) الأبناء الذكور بقرينة مقابلته بالبنات ، وقوله تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) [سورة النحل : ٥٨] ، أي والحال أن لهم ذكورا من أبنائهم فهلّا جعلوا لله بنين وبنات. وهذا ارتقاء في إفساد معتقدهم بحسب عرفهم وإلا فإنه بالنسبة إلى الله سواء للاستواء في التولّد الذي هو من مقتضى الحدوث المنزّه عنه واجب الوجود.

وسيخصّ هذا بالإبطال في قوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) [سورة النحل: ٦٢]. ولهذا اقتصر هنا على لفظ البنات الدالّ على الذّوات ، واقتصر على أنهم يشتهون الأبناء ، ولم يتعرّض إلى كراهتهم البنات وإن كان ذلك مأخوذا بالمفهوم لأن ذلك درجة أخرى من كفرهم ستخصّ بالذّكر.

[٥٨ ، ٥٩] (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩))

الواو في قوله تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) يجوز أن تكون واو الحال.

ويجوز أن تكون الجملة معترضة والواو اعتراضية اقتضى الإطالة بها أنها من تفاريع

١٤٧

شركهم ، فهي لذلك جديرة بأن تكون مقصودة بالذكر كأخواتها. وهذا أولى من أن تجعل معطوفة على جملة (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) [سورة النحل : ٥٧] التي هي في موضع الحال ، لأن ذلك يفيت قصدها بالعدّ. وهذا القصد من مقتضيات المقام وإن كان مآل الاعتبارين واحدا في حاصل المعنى.

والتّعبير عن الإعلام بازدياد الأنثى بفعل (بُشِّرَ) في موضعين لأنه كذلك في نفس الأمر إذ ازدياد المولود نعمة على الوالد لما يترقّبه من التأنّس به ومزاحه والانتفاع بخدمته وإعانته عند الاحتياج إليه ، ولما فيه من تكثير نسل القبيلة الموجب عزّتها ، وآصرة الصهر. ثم إن هذا مع كونه بشارة في نفس الأمر فالتّعبير به يفيد تعريضا بالتهكّم بهم إذ يعدون البشارة مصيبة وذلك من تحريفهم الحقائق. والتّعريض من أقسام الكناية والكناية تجامع الحقيقة.

والباء في (بِالْأُنْثى) لتعدية فعل البشارة وعلّقت بذات الأنثى. والمراد ؛ بولادتها ، فهو على حذف مضاف معلوم.

وفعل (ظَلَ) من أفعال الكون أخوات كان التي تدلّ على اتّصاف فاعلها بحالة لازمة فلذلك تقتضي فاعلا مرفوعا يدعى اسما وحالا لازما له منصوبا يدعى خبرا لأنه شبيه بخبر المبتدأ. وسمّاها النّحاة لذلك نواسخ لأنها تعمل فيما لولاها لكان مبتدأ وخبرا فلما تغيّر معها حكم الخبر سمّيت ناسخة لرفعه ، كما سميت (إنّ) وأخواتها و (ظنّ) وأخواتها كذلك. وهو اصطلاح تقريبي وليس برشيق.

ويستعمل (ظَلَ) بمعنى صار. وهو المراد هنا.

واسوداد الوجه : مستعمل في لون وجه الكئيب إذ ترهقه غبرة ، فشبّهت بالسّواد مبالغة.

والكظيم : الغضبان المملوء حنقا. وتقدم في قوله تعالى : (فَهُوَ كَظِيمٌ) في سورة يوسف [٨٤] ، أي أصبح حنقا على امرأته. وهذا من جاهليتهم الجهلاء وظلمهم ، إذ يعاملون المرأة معاملة من لو كانت ولادة الذكور باختيارها ، ولما ذا لا يحنق على نفسه إذ يلقح امرأته بأنثى ، قالت إحدى نسائهم أنشده الأصمعي تذكر بعلها وقد هجرها لأنها تلد البنات :

يغضب إن لم نلد البنينا

وإنما نعطي الذي أعطينا

١٤٨

والتّواري : الاختفاء ، مضارع وأراه ، مشتقّ من الوراء وهو جهة الخلف.

و (مِنَ) في قوله تعالى : (مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) للابتداء المجازي المفيد معنى التعليل ، لأنه يقال : فعلت كذا من أجل كذا ، قال تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) [سورة الأنعام : ١٥١] ، أي يتوارى من أجل تلك البشارة.

وجملة (أَيُمْسِكُهُ) بدل اشتمال من جملة (يَتَوارى) ، لأنه يتوارى حياء من الناس ؛ فيبقى متواريا من قومه أياما حتى تنسى قضيّته. وهو معنى قوله تعالى : (أَيُمْسِكُهُ) إلخ ، أي يتوارى ويتردّد بين أحد هذين الأمرين بحيث يقول في نفسه : أأمسكه على هون أم أدسّه في التراب. والمراد : التردّد في جواب هذا الاستفهام.

والهون : الذلّ. وتقدم عند قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) في سورة الأنعام [٩٣].

والدسّ : إخفاء الشيء بين أجزاء شيء آخر كالدفن. والمراد : الدّفن في الأرض وهو الوأد. وكانوا يئدون بناتهم ، بعضهم يئد بحدثان الولادة ، وبعضهم يئد إذا يفعت الأنثى ومشت وتكلّمت ، أي حين تظهر للناس لا يمكن إخفاؤها. وذلك من أفظع أعمال الجاهلية ، وكانوا متمالئين عليه ويحسبونه حقّا للأب فلا ينكرها الجماعة على الفاعل.

ولذلك سمّاه الله حكما بقوله تعالى : (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ). وأعلن ذمّه بحرف (أَلا) لأنه جور عظيم قد تمالئوا عليه وخوّلوه للناس ظلما للمخلوقات ، فأسند الحكم إلى ضمير الجماعة مع أن الكلام كان جاريا على فعل واحد غير معيّن قضاء لحقّ هذه النكتة.

(لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠))

هذه الجملة معترضة جوابا عن مقالتهم التي تضمّنها قوله تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) [سورة النحل : ٥٨] فإن لها ارتباطا بجملة (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ) [سورة النحل : ٥٧] كما تقدّم ، فهي بمنزلة ، جملة (سُبْحانَهُ) ، غير أن جملة (سُبْحانَهُ) جواب بتنزيه الله عمّا نسبوه إليه ، وهذه جواب بتحقيرهم على ما يعاملون به البنات مع نسبتهم إلى الله هذا الصّنف المحقّر عندهم.

١٤٩

وقد جرى الجواب على استعمال العرب عند ما يسمعون كلاما مكروها أو منكرا أن يقولوا للنّاطق به : بفيك الحجر ، وبفيك الكثكث ، ويقولون : تربت يداك ، وتربت يمينك ، واخسأ.

وكذلك جاء قوله تعالى (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) شتما لهم.

والمثل : الحال العجيبة في الحسن والقبح ، وإضافته إلى السوء للبيان.

وعرّفوا ب «الذين لا يؤمنون بالآخرة» لأنهم اشتهروا بهذه الصّلة بين المسلمين ، كقوله تعالى : (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) [سورة النحل: ٢٢] ، وقوله : (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) [سورة سبأ : ٨].

وجملة (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) عطفت على جملة (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) لأن بها تكملة إفساد قولهم وذمّ رأيهم ، إذ نسبوا إلى الله الولد وهو من لوازم الاحتياج والعجز. ولمّا نسبوا إليه ذلك خصّوه بأخسّ الصنفين عندهم ، كما قال تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) [سورة النحل : ٦٢] ، وإن لم يكن كذلك في الواقع ولكن هذا جرى على اعتقادهم ومؤاخذة لهم برأيهم.

و (الْأَعْلى) تفضيل ، وحذف المفضّل عليه لقصد العموم ، أي أعلى من كل مثل في العلوّ بقرينة المقام.

والسّوء : ـ بفتح السين ـ مصدر ساءه ، إذا عمل معه ما يكره. والسّوء ـ بضم السّين ـ الاسم ، تقدم في قوله تعالى : (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) في سورة البقرة [٤٩].

والمثل تقدم تفصيل معانيه عند قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) في سورة البقرة [١٧].

و (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تقدم عند قوله تعالى : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) في سورة البقرة [٢٠٩].

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١))

هذا اعتراض في أثناء التوبيخ على كفرهم الذي من شرائعه وأد البنات. فأما وصف

١٥٠

جعلهم لله البنات اللاتي يأنفون منها لأنفسهم ، ووصف ذلك بأنه حكم سوء ، ووصف حالهم بأنها مثل سوء ، وعرفهم بأخصّ عقائدهم أنهم لا يؤمنون بالآخرة ، أتبع ذلك بالوعيد على أقوالهم وأفعالهم.

والظّلم : الاعتداء على الحقّ. وأعظمه الاعتداء على حقّ الخالق على مخلوقاته ، وهو حقّ إفراده بالعبادة ، ولذلك كان الظلم في القرآن إذا لم يعدّ إلى مفعول نحو (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [سورة آل عمران : ١١٧] مرادا منه أعظم الظلم وهو الشرك حتى صار ذلك حقيقة عرفية في مصطلح القرآن ، وهو المراد هنا من هذا الإنذار. وأما الظلم الذي هو دون الإشراك بالله فغير مراد هنا لأنه مراتب متفاوتة كما يأتي قريبا فلا يقتضي عقاب الاستئصال على عمومه.

والتعريف في (النَّاسَ) يحمل على تعريف الجنس ليشمل جميع الناس ، لأن ذلك أنسب بمقام الزجر ، فليس قوله تعالى : (النَّاسَ) مرادا به خصوص المشركين من أهل مكة الذين عادت عليهم الضمائر المتقدمة في قوله : (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) [سورة النحل:٥٥] وما بعده من الضمائر ، وبذلك لا يكون لفظ (النَّاسَ) إظهارا في مقام الإضمار.

وضمير (عَلَيْها) صادق على الأرض وإن لم يجر لها ذكر في الكلام فإن المقام دالّ عليها. وذلك استعمال معروف في كلامهم كقوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [سورة ص : ٣٢] يعني الشمس ، ويقولون : أصبحت باردة ، يريدون الغداة ، ويقول أهل المدينة: ما بين لابتيها أحد يفعل كذا ، يريدون لابتي المدينة.

والدّابة : اسم لما يدبّ على الأرض ، أي يمشي ، وتأنيثه بتأويل ذات. وخصّ اسم (دَابَّةٍ) في الاستعمال بالإطلاق على ما عدا الإنسان مما يمشي على الأرض.

وحرف (لَوْ) حرف امتناع لامتناع ، أي حرف شرط يدلّ على امتناع وقوع جوابه لأجل امتناع وقوع شرطه. وشرط (لَوْ) ملازم للزمن الماضي فإذا وقع بعد (لَوْ) مضارع انصرف إلى الماضي غالبا.

فالمعنى : لو كان الله مؤاخذا الخلق على شركهم لأفناهم من الأرض وأفنى الدوابّ معهم ، أي ولكنه لم يؤاخذهم.

ودليل انتفاء شرط (لَوْ) هو انتفاء جوابها ، ودليل انتفاء جوابها هو المشاهدة ، فإن الناس والدوابّ ما زالوا موجودين على الأرض.

١٥١

ووجه الملازمة بين مؤاخذة الظالمين بذنوبهم وبين إفناء الناس غير الظالمين وإفناء الدوابّ أن الله خلق الناس ليعبدوه ، أي ليعترفوا له بالإلهية والوحدانية فيها ، لقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [سورة الذاريات : ٥٦] ، وأن ذلك مودع في الفطرة لقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) ذرياتهم (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) [سورة الأعراف : ١٧٢].

فنعمة الإيجاد تقضي على العاقل أن يشكر موجده ، فإذا جحد وجوده أو جحد انفراده بالإلهية فقد نقض العهد الذي وجد على شرطه ، فاستحقّ المحو من الوجود بالاستئصال والإفناء.

وبذلك تعيّن أن المراد من الظلم في قوله تعالى : (بِظُلْمِهِمْ) الإشراك أو التعطيل. وأما ما دون ذلك من الاهتداء على حقّ الله بمعصية أمره ، أو على حقوق المخلوقات باغتصابها فهو مراتب كثيرة ، منها اعتداء أحد على وجود إنسان آخر محترم الحياة فيعدمه عمدا ، لذلك جزاؤه الإفناء لأنه أفنى مماثله ، ولا يتعدّاه إلى إفناء من معه ، وما دون ذلك من الظلم له عقاب دون ذلك ، فلا يستحقّ شيء غير الشرك الإهلاك ، ولكنّ شأن العقاب أن يقصر على الجاني.

فوجه اقتضاء العقاب على الشرك إفناء جميع المشركين ودوابّهم أن إهلاك الظالمين لا يحصل إلا بحوادث عظيمة لا تتحدّد بمساحة ديارهم ، لأن أسباب الإهلاك لا تتحدّد في عادة نظام هذا العالم ، فلذلك يتناول الإهلاك الناس غير الظالمين ويتناول دوابّهم.

وإذ قد كان الظلم ، أي الإشراك لم تخل منه الأرض لزم من إهلاك أهل الظلم سريان الإهلاك إلى جميع بقاع الأرض فاضمحلّ الناس والدوابّ فيأتي الفناء في قرون متوالية من زمن نوح مثلا ، فلا يوجد على الأرض دابّة في وقت نزول الآية.

فأما من عسى أن يكون بين الأمّة المشركة من صالحين فإن الله يقدّر للصالحين أسباب النّجاة بأحوال خارقة للعادة كما قال تعالى : (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [سورة الزمر : ٦١]. وقد أخبر الله تعالى بأنه نجّى هودا والذين آمنوا معه ، وأخبر بأنه نجّى أنبياء آخرين. وكفاك نجاة نوح ـ عليه‌السلام ـ والذين آمنوا معه من الطوفان في السفينة.

وقد دلّ قوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أن تأخيرهم متفاوت

١٥٢

الآجال ، ففي مدد تلك الآجال تبقى أقوام كثيرة تعمر بهم الأرض ، فذلك سبب بقاء أمم كثيرة من المشركين ومن حولهم.

واقتضى قوله تعالى : (مِنْ دَابَّةٍ) إهلاك دوابّ الناس معهم لو شاء الله ذلك ، لأن استئصال أمّة يشتمل على استئصال دوابّها ، لأنّ الدوابّ خلقت لنفع الناس فلا بدع أن يستأصلها الله إذا استأصل ذويها.

والاقتصار على ذكر دابّة في هذه الآية إيجاز ، لأنه إذا كان ظلم الناس مفضيا إلى استئصال الدوابّ كان العلم بأنه مفض إلى استئصال الظالمين حاصلا بدلالة الاقتضاء.

وهذا في عذاب الاستئصال ، وأما ما يصيب الناس من المصائب والفتن الوارد فيه قوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [سورة الأنفال : ٢٥] فذلك منوط بأسباب عادية ، فاستثناء الصالحين يقتضي تعطيل دواليب كثيرة من دواليب النظام الفطري العام ، وذلك لا يريد الله تعطيله لما يستتبع تعطيله من تعطيل مصالح عظيمة والله أعلم بذلك.

فقد جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم يبعثون على نيّاتهم» ، أي يكون للمحسن الذي أصابه العذاب تبعا جزاء على ما أصابه من مصيبة غيره. وإنما الذي لا ينال البريء هو العقاب الأخروي الذي جعله الله جزاء على التكليف ، وهو معنى قوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [سورة الأنعام : ١٦٤].

وفي هذه الآية إشارة إلى أن الدوابّ التي على الأرض مخلوقة لأجل انتفاع الإنسان ، فلذلك لم يكن استعمال الإنسان إيّاها فيما تصلح له ظلما لها ، ولا قتلها لأكلها ظلما لها.

والمؤاخذة : الأخذ المقصود منه الجزاء ، فهو أخذ شديد ، ولذلك صيغت له صيغة المفاعلة الدالة على الكثرة ، فدلّ على أن المؤاخذة المنتفية ب (لَوْ) هي الأخذ العاجل المناسب للمجازاة ، لأن شأن الجزاء في العرف أن لا يتأخر عن وقت حصول الذنب.

ولهذا جاء الاستدراك بقوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى). فموقع الاستدراك هنا أنه تعقيب لقوله تعالى : (ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ).

والأجل : المدّة المعيّنة لفعل ما. والمسمّى : المعيّن ، لأن التسمية تعيين الشيء

١٥٣

وتمييزه ، وتسمية الآجال تحديدها.

وتقدم نظير هذه عند قوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) في سورة الأعراف [٣٤].

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢))

هذا ضغث على إبّالة من أحوالهم في إشراكهم تخالف قصّة قوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) [سورة النحل : ٥٧] باعتبار ما يختصّ بهذه القصّة من إضافتهم الأشياء المكروهة عندهم إلى الله مما اقتضته كراهتهم البنات بقوله تعالى : (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) [سورة النحل : ٥٧] ، فكان ذلك الجعل ينطوي على خصلتين من دين الشّرك ، وهما : نسبة البنوّة إلى الله ، ونسبة أخسّ أصناف الأبناء في نظرهم إليه ، فخصّت الأولى بالذكر بقوله (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) مع الإيماء إلى كراهتهم البنات كما تقدّم. وخصّت هذه بذكر الكراهية تصريحا ، ولذلك كان الإتيان بالموصول والصلة (ما يَكْرَهُونَ) هو مقتضى المقام الذي هو تفظيع قولهم وتشنيع استئثارهم. وقد يكون الموصول للعموم فيشير إلى أنهم جعلوا لله أشياء يكرهونها لأنفسهم مثل الشريك في التصرّف ؛ وأشياء لا يرضونها لآلهتهم ونسبوها لله كما أشار إليه قوله تعالى : (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [سورة الأنعام : ١٣٦].

وفي «الكشاف» : «يجعلون لله أرذل أموالهم ولأصنامهم أكرمها». فهو مراد من عموم الموصول ، فتكون هذه القصة أعمّ من قصّة قوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) ، ويكون تخصيصها بالذكر من جهتين : جهة اختلاف الاعتبار ، وجهة زيادة أنواع هذا الجعل.

وجملة (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) عطف قصة على قصة أخرى من أحوال كفرهم.

ومعنى (تَصِفُ) تذكر بشرح وبيان وتفصيل ، حتى كأنها تذكر أوصاف الشيء. وحقيقة الوصف : ذكر الصفات والحلي. ثم أطلق على القول المبيّن المفصل. قال في «الكشاف» في الآية الآتية في أواخر هذه السورة : «هذا من فصيح الكلام وبليغه. جعل القول كأنه عين الكذب فإذا نطقت به ألسنتهم فقد صورت الكذب بصورته ، كقولهم : وجهها يصف الجمال ، وعينها تصف السحر» اه.

١٥٤

وقد تقدم في قوله تعالى : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) في سورة الأنعام[١٠٠].

وسيأتي في آخر هذه السورة (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) [سورة النحل : ١١٦]. ومنه قول المعرّي :

سرى برق المعرّة بعد وهن

فبات برامة يصف الكلالا

أي يشكو الإعياء من قطع مسافة طويلة في زمن قليل ، وهو من بديع استعاراته.

والمراد من هذا الكذب كل ما يقولونه من أقوال خاصتهم ودهمائهم باعتقاد أو تهكّم. فمن الأول قول العاصي بن وائل المحكي في قوله تعالى : (وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) [سورة مريم : ٧٧] وفي قوله تعالى : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [سورة فصلت : ٥٠]. ومن الثاني قولهم في البليّة : أن صاحبها يركبها يوم القيامة لكيلا يعيى.

وانتصب (الْكَذِبَ) على أنه مفعول (تَصِفُ).

و (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) بدل من (الْكَذِبَ) أو (الْحُسْنى) صفة لمحذوف ، أي الحالة الحسنى.

وجملة (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) جواب عن قولهم المحكي. ومعنى لا جرم لا شكّ ، أي حقا. وتقدم في سورة هود.

و (مُفْرَطُونَ) ـ بكسر الراء المخففة ـ في قراءة نافع : اسم فاعل من أفرط ، إذا بلغ غاية شيء ما ، أي مفرطون في الأخذ من عذاب النار.

وقرأه أبو جعفر ـ بكسر الراء مشددة ـ من فرّط المضاعف. وقرأه البقية ـ بفتح الراء مخففة ـ على زنة اسم المفعول ، أي مجعولون فرطا ـ بفتحتين ـ وهو المقدم إلى الماء ليسقي.

والمراد : أنهم سابقون إلى النار معجّلون إليها لأنهم أشدّ أهل النار استحقاقا لها ، وعلى هذا الوجه يكون إطلاق الإفراط على هذا المعنى استعارة تهكّمية كقول عمرو بن كلثوم:

فعجّلنا القرى أن تشتمونا

أراد فبادرنا بقتالكم حين نزلتم بنا مغيرين علينا.

١٥٥

وفيها مع ذكر النار في مقابلتها محسن الطباق. على أن قراءة نافع تحتمل التفسير بهذا أيضا لجواز أن يقال : أفرط إلى الماء إذا تقدّم له.

(تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣))

استئناف ابتدائي داخل في الكلام الاعتراضي قصد منه تنظير حال المشركين المتحدث عنهم وكفرهم في سوء أعمالهم وأحكامهم بحال الأمم الضالّة من قبلهم الذين استهواهم الشيطان من الأمم البائدة مثل عاد وثمود ، والحاضرة كاليهود والنصارى.

ووجّه الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقصد إبلاغه إلى أسماع الناس فإن القرآن منزل لهدي الناس ، فتأكيد الخبر بالقسم منظور فيه إلى المقصودين بالخبر لا إلى الموجّه إليه الخبر ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يشكّ في ذلك.

ومصبّ القسم هو التفريع في قوله تعالى : (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ).

وأما الإرسال إلى أمم من قبلهم فلا يشكّ فيه المشركون. وشأن التاء المثناة أن تقع في قسم على مستغرب مصبّ القسم هنا هو المفرد بقوله تعالى (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) لأن تأثير تزيين الشيطان لهم أعمالهم بعد ما جاءهم من إرشاد رسلهم أمر عجيب. وتقدم الكلام على حرف تاء القسم آنفا عند قوله تعالى : (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) [سورة النحل : ٥٦].

وجملة (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) معطوفة على جملة جواب القسم. والتقدير : أرسلنا فزيّن لهم الشيطان أعمالهم.

وتزيين الشيطان أعمالهم كناية عن المعاصي. فمن ذلك عدم الإيمان بالرسل وهو كمال التنظير. ومنها الابتداعات المنافية لما جاءت به الرسل ـ عليهم‌السلام ـ مثل ابتداع المشركين البحيرة والسائبة. والمقصود : أن المشركين سلكوا مسلك من قبلهم من الأمم التي زيّن لهم الشيطان أعمالهم.

وجملة (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) يجوز أن تكون مفرّعة على جملة القسم بتمامها ، على أن يكون التّفريع هو المقصود من جملة الاستئناف للتنظير ، فيكون ضمير (وَلِيُّهُمُ) عائدا إلى المنظّرين بقرينة السياق. ولا مانع من اختلاف معادي ضميرين متقاربين مع القرينة ، كقوله

١٥٦

تعالى : (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) [سورة الروم : ٩].

والمعنى : فالشيطان وليّ المشركين اليوم ، أي متولّي أمرهم كما كان وليّ الأمم من قبلهم إذ زيّن لهم أعمالهم ، أي لا وليّ لهم اليوم غيره ردّا على زعمهم أن لهم الحسنى. ويكون في الكلام شبه الاحتباك. والتقدير : لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزيّن لهم الشيطان أعمالهم فكان وليّهم حينئذ ، وهو وليّ المشركين اليوم يزيّن لهم أعمالهم كما كان وليّ من قبلهم.

وقوله : (الْيَوْمَ) مستعمل في زمان معهود بعهد الحضور ، أي فهو وليّهم الآن. وهو كناية عن استمرار ولايته لهم إلى زمن المتكلّم مطلقا بدون قصد ، لما يدلّ عليه لفظه من الوقت الذي من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وهو منصوب على الظرفية للزمان الحاضر. وأصله : اليوم الحاضر ، وهو اليوم الذي أنت فيه. وتقدم عند قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) في سورة العقود [٣].

ولا يستعمل في يوم مضى معرّفا باللام إلا بعد اسم الإشارة ، نحو : ذلك اليوم ، أو مثل : يومئذ.

(وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤))

عطف على جملة القسم. والمناسبة أن القرآن أنزل لإتمام الهداية وكشف الشبهات التي عرضت للأمم الماضية والحاضرة فتركت أمثالها في العرب وغيرهم.

فلما ذكرت ضلالاتهم وشبهاتهم عقّب ذلك ببيان الحكمة في إرسال محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنزال القرآن إليه ، فالقرآن جاء مبيّنا للمشركين ضلالهم بيانا لا يترك للباطل مسلكا إلى النفوس ، ومفصحا عن الهدى إفصاحا لا يترك للحيرة مجالا في العقول ، ورحمة للمؤمنين بما جازاهم عن إيمانهم من خير الدنيا والآخرة.

وعبّر عن الضلال بطريقة الموصولية (الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) للإيماء إلى أن سبب الضلال هو اختلافهم على أنبيائهم ، فالعرب اختلفت ضلالتهم في عبادة الأصنام ، عبدت كل قبيلة منهم صنما ، وعبد بعضهم الشمس والكواكب ، واتّخذت كل قبيلة لنفسها أعمالا يزعمونها دينا صحيحا. واختلفوا مع المسلمين في جميع ذلك الدّين.

١٥٧

والإتيان بصيغة القصر في قوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ) لقصد الإحاطة بالأهمّ من غاية القرآن وفائدته التي أنزل لأجلها. فهو قصر ادعائي ليرغب السامعون في تلقّيه وتدبّره من مؤمن وكافر كلّ بما يليق بحاله حتى يستووا في الاهتداء.

ثم إن هذا القصر يعرّض بتفنيد أقوال من حسبوا من المشركين أن القرآن أنزل لذكر القصص لتعليل الأنفس في الأسمار ونحوها حتى قال مضلّهم : أنا آتيكم بأحسن مما جاء به محمد ، آتيكم بقصة (رستم) و (إسفنديار). فالقرآن أهم مقاصده هذه الفوائد الجامعة لأصول الخير ، وهي كشف الجهالات والهدى إلى المعارف الحقّ وحصول أثر ذينك الأمرين ، وهو الرحمة الناشئة عن مجانبة الضلال واتباع الهدى.

وأدخلت لام التعليل على فعل «تبين» الواقع موقع المفعول لأجله لأنه من فعل المخاطب لا من فعل فاعل (أَنْزَلْنا) ، فالنبي هو المباشر للبيان بالقرآن تبليغا وتفسيرا. فلا يصحّ في العربية الإتيان بالتبيين مصدرا منصوبا على المفعولية لأجله إذ ليس متّحدا مع العامل في الفاعل ، ولذلك خولف في المعطوف فنصب (هُدىً وَرَحْمَةً) لأنهما من أفعال منزل القرآن ، فالله هو الهادي والراحم بالقرآن ، وكل من البيان والهدى والرحمة حاصل بالقرآن فآلت الصفات الثلاث إلى أنها صفات للقرآن أيضا.

والتعبير ب (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) دون للمؤمنين ، أو للذين آمنوا ، للإيماء إلى أنهم الذين الإيمان كالسّجية لهم والعادة الراسخة التي تتقوّم بها قوميّتهم ، كما تقدم في قوله تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤].

وهاته الآية بمنزلة التذييل للعبر والحجج الناشئة عن وصف أحوال المخلوقات ونعم الخالق على الناس المبتدئة من قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [سورة النحل : ١٧].

(وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥))

انتهى الكلام المعترض به وعاد الكلام إلى دلائل الانفراد بالخلق مع ما أدمج فيه ذلك من التذكير بالنّعم. فهذه منّة من المنن وعبرة من العبر وحجّة من الحجج المتفرّعة عن التذكير بنعم الله والاعتبار بعجيب صنعه.

١٥٨

عاد الكلام إلى تعداد نعم جمّة ومعها ما فيها من العبر أيضا جمعا عجيبا بين الاستدلال ووصلا للكلام المفارق عند قوله تعالى : (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) [سورة النحل: ١٦] ، كما علمته فيما تقدم. فكان ذكر إنزال الماء في الآية السابقة مسوقا مساق الاستدلال ، وهو هنا مسوق مساق الامتنان بنعمة إحياء الأرض بعد موتها بالماء النازل من السماء.

وبهذا الاعتبار خالفت هذه النّعمة النّعمة المذكورة في قوله سابقا (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ) [سورة النحل : ١٠] باختلاف الغرض الأوّلي ، فهو هنا لك الاستدلال بتكوين الماء وهنا الامتنان.

وبناء الجملة على المسند الفعلي لإفادة التخصيص ، أي الله لا غيره أنزل من السماء ماء. وذلك في معنى قوله تعالى : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) [سورة الروم : ٤٠]. وإظهار اسم الجلالة دون الإضمار الذي هو مقتضى الظاهر لقصد التّنويه بالخبر إذ افتتح بهذا الاسم ، ولأن دلالة الاسم العلم أوضح وأصرح. فهو مقتضى مقام تحقيق الانفراد بالخلق والإنعام دون غيره من شركائهم ، لأن المشركين يقرّون بأن الله هو فاعل هذه الأشياء.

وإحياء الأرض : إخراج ما فيه الحياة ، وهو الكلأ والشجر. وموتها ضد ذلك ، فتعدية فعل (أحيا) إلى الأرض تعدية مجازية. وقد تقدم عند قوله تعالى : (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) في سورة البقرة [١٦٤] ، وتقدّم وجه العبرة في آية نزول المطر هنا لك.

وجملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) مستأنفة. والتأكيد ب (إِنَ) ولام الابتداء لأن من لم يهتد بذلك إلى الوحدانية ينكرون أن القوم الذين يسمعون ذلك قد علموا دلالته على الوحدانية ، أي ينكرون صلاحية ذلك للاستدلال.

والإتيان باسم الإشارة دون الضمير ليكون محل الآية جميع المذكورات من إنزال المطر وإحياء الأرض به وموتها من قبل الإحياء.

والكلام في «قوم يسمعون» كالكلام في قوله آنفا : (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [سورة النحل : ٦٤].

والسمع : هنا مستعمل في لازم معناه على سبيل الكناية ، وهو سماع التدبّر

١٥٩

والإنصاف لما تدبّروا به. وهو تعريض بالمشركين الذين لم يفهموا دلالة ذلك على الوحدانية. ولذلك اختير وصف السمع هنا المراد منه الإنصاف والامتثال لأن دلالة المطر وحياة الأرض به معروفة مشهورة ودلالة ذلك على وحدانية الله تعالى ظاهرة لا يصدّ عنها إلا المكابرة.

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦))

هذه حجّة أخرى ومنّة من المنن الناشئة عن منافع خلق الأنعام ، أدمج في منّتها العبرة بما في دلالتها على بديع صنع الله تبعا لقوله تعالى : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) إلى قوله : (لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [سورة النحل : ٥ ـ ٧].

ومناسبة ذكر هذه النّعمة هنا أن بألبان الأنعام حياة الإنسان كما تحيا الأرض بماء السماء ، وأن لآثار ماء السماء أثرا في تكوين ألبان الحيوان بالمرعى.

واختصّت هذه العبرة بما تنبّه إليه من بديع الصّنع والحكمة في خلق الألبان بقوله : (مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً) ، ثم بالتّذكير بما في ذلك من النّعمة على الناس إدماجا للعبرة بالمنّة.

فجملة (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) معطوفة على جملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) [سورة النحل : ٦٥] ، أي كما كان القوم يسمعون عبرة في إنزال الماء من السماء لكم في الأنعام عبرة أيضا ، إذ قد كان المخاطبون وهم المؤمنون القوم الذين يسمعون.

وضمير الخطاب التفات من الغيبة. وتوكيدها ب (إِنَ) ولام الابتداء كتأكيد الجملة قبلها.

و (الْأَنْعامِ) : اسم جمع لكل جماعة من أحد أصناف الإبل والبقر والضأن والمعز.

والعبرة : ما يتّعظ به ويعتبر. وقد تقدم في نهاية سورة يوسف.

وجملة (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) واقعة موقع البيان لجملة (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً).

والبطون : جمع بطن ، وهو اسم للجوف الحاوية للجهاز الهضمي كله من معدة وكبد

١٦٠