تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٤

الملك كلاما أعجب الملك بما فيه من حكمة وأدب. ولذلك فجملة (قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) جواب (لمّا). والقائل هو الملك لا محالة.

والمكين : صفة مشبهة من مكن ـ بضم الكاف ـ إذا صار ذا مكانة ، وهي المرتبة العظيمة ، وهي مشتقة من المكان.

والأمين : فعيل بمعنى مفعول ، أي مأمون على شيء ، أي موثوق به في حفظه.

وترتّب هذا القول على تكليمه إياه دالّ على أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ كلّم الملك كلام حكيم أديب فلما رأى حسن منطقه وبلاغة قوله وأصالة رأيه رآه أهلا لثقته وتقريبه منه.

وهذه صيغة تولية جامعة لكل ما يحتاج إليه ولي الأمر من الخصال ، لأن المكانة تقتضي العلم والقدرة ؛ إذ بالعلم يتمكن من معرفة الخير والقصد إليه ، وبالقدرة يستطيع فعل ما يبدو له من الخير ؛ والأمانة تستدعي الحكمة والعدالة ، إذ بالحكمة يؤثر الأفعال الصالحة ويترك الشهوات الباطلة ، وبالعدالة يوصل الحقوق إلى أهلها. وهذا التنويه بشأنه والثناء عليه تعريض بأنه يريد الاستعانة به في أمور مملكته وبأن يقترح عليه ما يرجو من خير ، فلذلك أجابه بقوله : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ).

وجملة (قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) حكاية جوابه لكلام الملك ولذلك فصلت على طريقة المحاورات.

و (عَلى) هنا للاستعلاء المجازي ، وهو التصرف والتمكن ، أي اجعلني متصرّفا في خزائن الأرض.

و (خَزائِنِ) جمع خزانة ـ بكسر الخاء ـ ، أي البيت الذي يختزن فيه الحبوب والأموال.

والتعريف في (الْأَرْضِ) تعريف العهد ، وهي الأرض المعهودة لهم ، أي أرض مصر.

والمراد من (خَزائِنِ الْأَرْضِ) خزائن كانت موجودة ، وهي خزائن الأموال ؛ إذ لا يخلو سلطان من خزائن معدودة لنوائب بلاده لا الخزائن التي زيدت من بعد لخزن الأقوات استعدادا للسنوات المعبر عنها بقوله : (مِمَّا تُحْصِنُونَ) [سورة يوسف : ٤٨].

٨١

واقتراح يوسف ـ عليه‌السلام ـ ذلك إعداد لنفسه للقيام بمصالح الأمة على سنة أهل الفضل والكمال من ارتياح نفوسهم للعلم في المصالح ، ولذلك لم يسأل مالا لنفسه ولا عرضا من متاع الدنيا ، ولكنه سأل أن يوليه خزائن المملكة ليحفظ الأموال ويعدل في توزيعها ويرفق بالأمة في جمعها وإبلاغها لمحالّها.

وعلّل طلبه ذلك بقوله : (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) المفيد تعليل ما قبلها لوقوع (إنّ) في صدر الجملة فإنه علم أنه اتصف بصفتين يعسر حصول إحداهما في الناس بله كلتيهما ، وهما : الحفظ لما يليه ، والعلم بتدبير ما يتولاه ، ليعلم الملك أن مكانته لديه وائتمانه إياه قد صادفا محلهما وأهلهما ، وأنه حقيق بهما لأنه متصف بما يفي بواجبهما ، وذلك صفة الحفظ المحقّق للائتمان ، وصفة العلم المحقق للمكانة. وفي هذا تعريف بفضله ليهتدي الناس إلى اتباعه وهذا من قبيل الحسبة.

وشبه ابن عطية بمقام يوسف ـ عليه‌السلام ـ هذا مقام أبي بكر ـ رضي‌الله‌عنه ـ في دخوله في الخلافة مع نهيه المستشير له من الأنصار من أن يتأمر على اثنين. قلت : وهو تشبيه رشيق ، إذ كلاهما صدّيق.

وهذه الآية أصل لوجوب عرض المرء نفسه لولاية عمل من أمور الأمة إذا علم أنه لا يصلح له غيره لأن ذلك من النصح للأمة ، وخاصة إذا لم يكن ممّن يتهم على إيثار منفعة نفسه على مصلحة الأمة. وقد علم يوسف ـ عليه‌السلام ـ أنه أفضل الناس هنالك لأنه كان المؤمن الوحيد في ذلك القطر ، فهو لإيمانه بالله يبث أصول الفضائل التي تقتضيها شريعة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ـ عليهم‌السلام ـ. فلا يعارض هذا ما جاء في «صحيح مسلم» عن عبد الرحمن بن سمرة قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها» ، لأن عبد الرحمن بن سمرة لم يكن منفردا بالفضل من بين أمثاله ولا راجحا على جميعهم.

ومن هذه الآية أخذ فقهاء المذهب جواز طلب القضاء لمن يعلم أنه أهل وأنه إن لم يولّ ضاعت الحقوق. قال المازري : «يجب على من هو أهل الاجتهاد والعدالة السعي في طلب القضاء إن علم أنه إن لم يله ضاعت الحقوق أو وليه من لا يحلّ أن يولى. وكذلك إن كان وليّه من لا تحلّ توليته ولا سبيل لعزله إلا بطلب أهله».

وقال ابن مرزوق : لم أقف على هذا لأحد من قدماء أهل المذهب غير المازري.

٨٢

وقال عياض في كتاب الإمارة ، أي من «شرح صحيح مسلم» ، ما ظاهره الاتفاق على جواز الطلب في هذه الحالة ، وظاهر كلام ابن رشد في «المقدمات» حرمة الطلب مطلقا. قال ابن مرزوق : وإنما رأيت مثل ما نقل المازري أو قريبا منه للغزالي في «الوجيز».

[٥٦ ، ٥٧] (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧))

تقدم تفسير آية (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) آنفا.

والتبوؤ : اتخاذ مكان للبوء ، أي الرجوع ، فمعنى التبوؤ النزول والإقامة. وتقدم في قوله تعالى : (أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) في [سورة يونس : ٨٧].

وقوله : (يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) كناية عن تصرفه في جميع مملكة مصر فهو عند حلوله بمكان من المملكة لو شاء أن يحل بغيره لفعل ، فجملة (يَتَبَوَّأُ) يجوز أن تكون حالا من (لِيُوسُفَ) ، ويجوز أن تكون بيانا لجملة (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ).

وقرأ الجمهور (حَيْثُ يَشاءُ) ـ بياء الغيبة ـ وقرأ ابن كثير (حَيْثُ نَشاءُ) ـ بنون العظمة ـ ، أي حيث يشاء الله ، أي حيث نأمره أو نلهمه. والمعنى متحد لأنه لا يشاء إلا ما شاءه الله.

وجملة (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) إلى آخرها تذييل لمناسبة عمومه لخصوص ما أصاب يوسف ـ عليه‌السلام ـ من الرحمة في أحواله في الدنيا وما كان له من مواقف الإحسان التي كان ما أعطيه من النعم وشرف المنزلة جزاء لها في الدنيا ، لأن الله لا يضيع أجر المحسنين. ولأجره في الآخرة خير من ذلك له ولكل من آمن واتقى.

والتعبير في جانب الإيمان بصيغة الماضي وفي جانب التقوى بصيغة المضارع ، لأن الإيمان عقد القلب الجازم فهو حاصل دفعة واحدة وأما التقوى فهي متجددة بتجدّد أسباب الأمر والنهي واختلاف الأعمال والأزمان.

[٥٨ ـ ٦٠] (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠))

٨٣

طوى القرآن أخرة أمر امرأة العزيز وحلول سني الخصب والادّخار ثم اعتراء سني القحط لقلة جدوى ذلك كله في الغرض الذي نزلت السورة لأجله ، وهو إظهار ما يلقاه الأنبياء من ذويهم وكيف تكون لهم عاقبة النصر والحسنى ، ولأنه معلوم حصوله ، ولذلك انتقلت القصة إلى ما فيها من مصير إخوة يوسف ـ عليه‌السلام ـ في حاجة إلى نعمته ، ومن جمع الله بينه وبين أخيه الذي يحبه ، ثم بينه وبين أبويه ، ثم مظاهر عفوه عن إخوته وصلته رحمه ، لأن لذلك كله أثرا في معرفة فضائله.

وكان مجيء إخوة يوسف ـ عليه‌السلام ـ إلى مصر للميرة عند حلول القحط بأرض مصر وما جاورها من بلاد فلسطين منازل آل يوسف ـ عليه‌السلام ـ ، وكان مجيئهم في السنة الثانية من سني القحط. وإنما جاء إخوته عدا بنيامين لصغره ، وإنما رحلوا للميرة كلهم لعل ذلك لأن التزويد من الطعام كان بتقدير يراعى فيه عدد الممتارين ، وأيضا ليكونوا جماعة لا يطمع فيهم قطاع الطريق ، وكان الذين جاءوا عشرة. وقد عرف أنهم جاءوا ممتارين من تقدم قوله : (قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) [يوسف : ٥٥] وقوله الآتي : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) [سورة يوسف : ٥٩].

ودخولهم عليه يدلّ على أنه كان يراقب أمر بيع الطعام بحضوره ويأذن به في مجلسه خشية إضاعة الأقوات لأن بها حياة الأمة.

وعرف يوسف ـ عليه‌السلام ـ إخوته بعد مضي سنين على فراقهم لقوة فراسته وزكانة عقله دونهم.

وجملة (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) عطف على جملة (فَعَرَفَهُمْ). ووقع الإخبار عنهم بالجملة الاسمية للدلالة على أن عدم معرفتهم به أمر ثابت متمكن منهم ، وكان الإخبار عن معرفته إياهم بالجملة الفعلية المفيدة للتجدد للدلالة على أن معرفته إياهم حصلت بحدثان رؤيته إياهم دون توسم وتأمل. وقرن مفعول (مُنْكِرُونَ) الذي هو ضمير يوسف ـ عليه‌السلام ـ بلام التقوية ولم يقل وهم منكرونه لزيادة تقوية جهلهم بمعرفته.

وتقديم المجرور بلام التقوية في (لَهُ مُنْكِرُونَ) للرعاية على الفاصلة ، وللاهتمام بتعلق نكرتهم إياه للتنبيه على أن ذلك من صنع الله تعالى وإلا فإن شمائل يوسف ـ عليه‌السلام ـ ليست مما شأنه أن يجهل وينسى.

والجهاز ـ بفتح الجيم وكسرها ـ ما يحتاج إليه المسافر ، وأوله ما سافر لأجله من

٨٤

الأحمال. والتجهيز : إعطاء الجهاز.

وقوله : (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ) يقتضي وقوع حديث منهم عن أن لهم أخا من أبيهم لم يحضر معهم وإلا لكان إنباء يوسف ـ عليه‌السلام ـ لهم بهذا يشعرهم أنه يكلمهم عارفا بهم وهو لا يريد أن يكشف ذلك لهم. وفي التوراة (١) أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ احتال لذلك بأن أوهمهم أنه اتهمهم أن يكونوا جواسيس للعدو وأنهم تبرءوا من ذلك فعرفوه بمكانهم من قومهم وبأبيهم وعدد عائلتهم ، فما ذكروا ذلك له أظهر أنه يأخذ أحدهم رهينة عنده إلى أن يرجعوا ويأتوا بأخيهم الأصغر ليصدّقوا قولهم فيما أخبروه ، ولذلك قال : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي).

و (مِنْ أَبِيكُمْ) حال من (أخ لكم) أي أخوّته من جهة أبيكم ، وهذا من مفهوم الاقتصار الدال على عدم إرادة غيره ، أي من أبيكم وليس من أمكم ، أي ليس بشقيق.

والعدول عن أن يقال : ايتوني بأخيكم من أبيكم ، لأن المراد حكاية ما اشتمل عليه كلام يوسف ـ عليه‌السلام ـ من إظهار عدم معرفته بأخيهم إلا من ذكرهم إياه عنده ، فعدل عن الإضافة المقتضية المعرفة إلى التنكير تنابها في التظاهر بجهله به.

(وَلا تَقْرَبُونِ) أي لا تعودوا إلى مصر ، وقد علم أنهم لا يتركون أخاهم رهينة.

وقوله : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) ترغيب لهم في العود إليه ؛ وقد علم أنهم مضطرون إلى العود إليه لعدم كفاية الميرة التي امتاروها لعائلة ذات عدد من النّاس مثلهم ، كما دل عليه قولهم بعد (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) [سورة يوسف : ٦٥].

ودل قوله : (خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) على أنه كان ينزل الممتارين في ضيافته لكثرة الوافدين على مصر للميرة. والمنزل : المضيف. وهذه الجملة كناية عن الوعد بأن يوفي لهم الكيل ويكرم ضيافتهم إن أتوا بأخيهم. والكيل في الموضعين مراد منه المصدر. فمعنى (فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) أي لا يكال لكم ، كناية عن منعهم من ابتياع الطعام.

(قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١))

وعد بأن يبذلوا قصارى جهدهم في الإتيان بأخيهم وإشعار بصعوبة ذلك. فمعنى (سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) سنحاول أن لا يشح به ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ

__________________

(١) الإصحاح (٤٢) من سفر التكوين.

٨٥

فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) [سورة يوسف : ٢٤].

وجملة (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) عطف على الوعد بتحقيق الموعود به ، فهو فعل ما أمرهم به ، وأكدوا ذلك بالجملة الاسمية وحرف التأكيد.

(وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢))

قرأ الجمهور لفتيته بوزن فعلة جمع تكسير فتى مثل أخ وإخوة.

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وخلف (لِفِتْيانِهِ) بوزن إخوان. والأول صيغة قلة والثاني صيغة كثرة وكلاهما يستعمل في الآخر. وعدد الفتيان لا يختلف.

والفتى : من كان في مبدإ الشباب ، ومؤنثه فتاة ، ويطلق على الخادم تلطفا ، لأنهم كانوا يستخفون بالشباب في الخدمة ، وكانوا أكثر ما يستخدمون العبيد.

والبضاعة : المال أو المتاع المعدّ للتجارة. والمراد بها هنا الدراهم التي ابتاعوا بها الطعام كما في التوراة.

وقوله : (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها) رجاء أن يعرفوا أنها عين بضاعتهم إما بكونها مسكوك سكة بلادهم وإما بمعرفة الصّرر التي كانت مصرورة فيها كما في التوراة ، أي يعرفون أنها وضعت هنالك قصدا عطية من عزيز مصر.

والرحال : جمع رحل ، وهو ما يوضع على البعير من متاع الراكب ، ولذا سمي البعير راحلة.

والانقلاب : الرجوع ، وتقدم عند قوله تعالى : (انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) في [سورة آل عمران : ١٤٤].

وجملة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) جواب للأمر في قوله : (اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) لأنه لمّا أمرهم بالرجوع استشعر بنفاذ رأيه أنهم قد يكونون غير واجدين بضاعة ليبتاعوا بها الميرة لأنه رأى مخايل الضيق عليهم.

[٦٣ ، ٦٤] (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ

٨٦

فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤))

معنى (مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) حيل بيننا وبين الكيل في المستقبل ، لأن رجوعهم بالطعام المعبر عنه بالجهاز قرينة أن المنع من الكيل يقع في المستقبل ، ولأن تركيب (مُنِعَ مِنَّا) يؤذن بذلك ، إذ جعلوا الكيل ممنوع الابتداء منهم لأن من حرف ابتداء.

والكيل مصدر صالح لمعنى الفاعلية والمفعولية ، وهو هنا بمعنى الإسناد إلى الفاعل ، أي لن نكيل ، فالممنوع هو ابتداء الكيل منهم. ولمّا لم يكن بيدهم ما يكال تعيّن تأويل الكيل بطلبه ، أي منع منّا ذلك لعدم الفائدة لأننا لا نمنحه إلّا إذا وفينا بما وعدنا من إحضار أخينا. ولذلك صح تفريع (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا) عليه ، فصار تقدير الكلام : منعنا من أن نطلب الكيل إلا إذا حضر معنا أخونا. فتعين أنه حكوا القصة لأبيهم مفصلة واختصرها القرآن لظهور المرد. والمعنى : إن أرسلته معنا نرحل للاكتيال ونطلبه. وإطلاق المنع على هذا المعنى مجاز ، لأنهم أنذروا بالحرمان فصار طلبهم ممنوعا منهم لأن طلبه عبث.

وقرأ الجمهور (نَكْتَلْ) بنون المتكلم المشارك. وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف ـ بتحتية عوض النون ـ على أنه عائد إلى (أَخانا) أي يكتل معنا.

وجملة (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) عطف على جملة (فَأَرْسِلْ). وأكدوا حفظه بالجملة الاسمية الدالة على الثبات وبحرف التوكيد.

وجواب أبيهم كلام موجه يحتمل أن يكون معناه : إني آمنكم عليه كما أمنتكم على أخيه ، وأن يكون معناه ما ذا أفاد ائتمانكم على أخيه من قبل حتى آمنكم عليه.

والاستفهام إنكاري فيه معنى النفي ، فهو يستفهم عن وجه التأكيد في قولهم : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ). والمقصود من الجملة على احتماليها هو التفريع الذي في قوله : (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) [سورة يوسف : ٦٤] ، أي خير حفظا منكم ، فإن حفظه الله سلّم وإن لم يحفظه لم يسلم كما لم يسلم أخوه من قبل حين أمنتكم عليه.

وهم قد اقتنعوا بجوابه وعلموا منه أنه مرسل معهم أخاهم ، ولذلك لم يراجعوه في شأنه.

و (حافِظاً) مصدر منصوب على التمييز في قراءة الجمهور. وقرأه حمزة والكسائي ، وحفص (حافِظاً) على أنه حال من اسم الجلالة وهي حال لازمة.

٨٧

(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥))

أصل المتاع ما يتمتع به من العروض والثياب. وتقدم عند قوله تعالى : (لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ) في سورة النساء [١٠٢]. وأطلق هنا على إعدال المتاع وإحماله من تسمية الشيء باسم الحالّ فيه.

وجملة (قالُوا يا أَبانا) مستأنفة استئنافا بيانيا لترقب السامع أن يعلم ما ذا صدر منهم حين فجأهم وجدان بضاعتهم في ضمن متاعهم لأنه مفاجأة غريبة ، ولهذه النكتة لم يعطف بالفاء.

و (ما) في قوله : (ما نَبْغِي) يجوز أن يكون للاستفهام الإنكاري بتنزيل المخاطب منزلة من يتطلب منهم تحصيل بغية فينكرون أن تكون لهم بغية أخرى ، أي ما ذا نطلب بعد هذا. ويجوز كون (ما) نافية ، والمعنى واحد لأن الاستفهام الإنكاري في معنى النفي.

وجملة (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) مبينة لجملة (ما نَبْغِي) على الاحتمالين. وإنما علموا أنها ردّت إليهم بقرينة وضعها في العدل بعد وضع الطعام وهم قد كانوا دفعوها إلى الكيالين ، أو بقرينة ما شاهدوا في يوسف ـ عليه‌السلام ـ من العطف عليهم ، والوعد بالخير إن هم أتوا بأخيهم إذ قال لهم (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) [سورة يوسف : ٥٩].

وجملة (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) معطوفة على جملة (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) ، لأنها في قوة هذا ثمن ما نحتاجه من الميرة صار إلينا ونمير به أهلنا ، أي نأتيهم بالميرة.

والميرة ـ بكسر الميم بعدها ياء ساكنة ـ : هي الطعام المجلوب.

وجملة (وَنَحْفَظُ أَخانا) معطوفة على جملة (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) ، لأن المير يقتضي ارتحالا للجلب ، وكانوا سألوا أباهم أن يكون أخوهم رفيقا لهم في الارتحال المذكور ، فكانت المناسب بين جملة (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) وجملة (وَنَحْفَظُ أَخانا) بهذا الاعتبار ، فذكروا ذلك تطمينا لخاطر فيهم.

وجملة (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) زيادة في إظهار حرصهم على سلامة أخيهم لأن في

٨٨

سلامته فائدة لهم بازدياد كيل بعير ، لأن يوسف ـ عليه‌السلام ـ لا يعطي الممتار أكثر من حمل بعير من الطعام ، فإذا كان أخوهم معهم أعطاه حمل بعير في عداد الإخوة. وبه تظهر المناسبة بين هذه الجملة والتي قبلها.

وهذه الجمل مرتبة ترتيبا بديعا لأن بعضها متولد عن بعض.

والإشارة في (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) إلى الطعام الذي في متاعهم. وإطلاق الكيل عليه من إطلاق المصدر على المفعول بقرينة الإشارة.

قيل : إن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ قال لهم : لعلهم نسوا البضاعة فإذا قدمتم عليهم فأخبروهم بأنكم وجدتموها في رحالكم.

(قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦))

اشتهر الإيتاء والإعطاء وما يراد بهما في إنشاء الحلف ليطمئن بصدق الحالف غيره وهو المحلوف له.

وفي حديث الحشر «فيعطي الله من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره» ، كما أطلق فعل الأخذ على تلقي المحلوف له للحلف ، قال تعالى : وأخذنا (مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) [سورة النساء : ٢١] و (قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) [سورة يوسف : ٨٠].

ولعل سبب إطلاق فعل الإعطاء أن الحالف كان في العصور القديمة يعطي المحلوف له شيئا تذكرة لليمين مثل سوطه أو خاتمه ، أو أنهم كانوا يضعون عند صاحب الحق ضمانا يكون رهينة عنده. وكانت الحمالة طريقة للتوثق فشبه اليمين بالحمالة. وأثبت له الإعطاء والأخذ على طريقة المكنيّة ، وقد اشتهر ضد ذلك في إبطال التوثق يقال : ردّ عليه حلفه.

والموثق : أصله مصدر ميمي للتوثّق ، أطلق هنا على المفعول وهو ما به التوثق ، يعني اليمين.

و (مِنَ اللهِ) صفة ل (مَوْثِقاً) ، و (مِنَ) للابتداء ، أي موثقا صادرا من الله تعالى.

ومعنى ذلك أن يجعلوا الله شاهدا عليهم فيما وعدوا به بأن يحلفوا بالله فتصير شهادة الله عليهم كتوثق صادر من الله تعالى بهذا الاعتبار. وذلك أن يقولوا : لك ميثاق الله أو عهد

٨٩

الله أو نحو ذلك ، وبهذا يضاف الميثاق والعهد إلى اسم الجلالة كأنّ الحالف استودع الله ما به التوثق للمحلوف له.

وجملة (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) جواب لقسم محذوف دلّ عليه (مَوْثِقاً). وهو حكاية لقول يقوله أبناؤه المطلوب منهم إيقاعه حكاية بالمعنى على طريقة حكاية الأقوال لأنهم لو نطقوا بالقسم لقالوا : لنأتينك به ، فلما حكاه هو ركب الحكاية بالجملة التي هي كلامهم وبالضمائر المناسبة لكلامه بخطابه إياهم.

ومن هذا النوع قوله تعالى حكاية عن عيسى ـ عليه‌السلام ـ (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) [سورة المائدة : ١١٧] ، وإن ما أمره الله : قل لهم أن يعبدوا ربك وربهم.

ومعنى (يُحاطَ بِكُمْ) يحيط بكم محيط والإحاطة : الأخذ بأسر أو هلاك مما هو خارج عن قدرتهم ، وأصله إحاطة الجيش في الحرب ، فاستعمل مجازا في الحالة التي لا يستطاع التغلب عليها ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) [سورة يونس : ٢٢].

والاستثناء في (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) استثناء من عموم أحوال ، فالمصدر المنسبك من (أَنْ) مع الفعل في موضع الحال ، وهو كالإخبار بالمصدر فتأويله : إلّا محاطا بكم.

وقوله : (اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) تذكير لهم بأن الله رقيب على ما وقع بينهم. وهذا توكيد للحلف.

والوكيل : فعيل بمعنى مفعول ، أي موكول إليه ، وتقدم في (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) في سورة آل عمران [١٧٣].

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧))

(وَقالَ يا بَنِيَ)عطف على جملة (قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ)[يوسف : ٦٦].

وإعادة فعل (قالَ) للإشارة إلى اختلاف زمن القولين وإن كانا معا مسبّبين على إيتاء موثقهم ، لأنه اطمأن لرعايتهم ابنه وظهرت له المصلحة في سفرهم للامتار ، فقوله : (يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ) صادر في وقت إزماعهم الرحيل. والمقصود من حكاية

٩٠

قوله هذا العبرة بقوله : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) إلخ.

والأبواب : أبواب المدينة. وتقدم ذكر الباب آنفا. وكانت مدينة (منفيس) من أعظم مدن العالم فهي ذات أبواب. وإنما نهاهم أن يدخلوها من باب واحد خشية أن يسترعي عددهم أبصار أهل المدينة وحراسها وأزياؤهم أزياء الغرباء عن أهل المدينة أن يوجسوا منهم خيفة من تجسس أو سرقة فربما سجنوهم أو رصدوا الأعين إليهم ، فيكون ذلك ضرّا لهم وحائلا دون سرعة وصولهم إلى يوسف ـ عليه‌السلام ـ ودون قضاء حاجتهم. وقد قيل في الحكمة : «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان».

ولما كان شأن إقامة الحراس والأرصاد أن تكون على أبواب المدينة اقتصر على تحذيرهم من الدخول من باب واحد دون أن يحذرهم من المشي في سكة واحدة من سكك المدينة ، ووثق بأنهم عارفون بسكك المدينة فلم يخش ضلالهم فيها ، وعلم أن (بنيامين) يكون في صحبة أحد إخوته لئلا يضل في المدينة.

والمتفرقة أراد بها المتعددة لأنه جعلها في مقابلة الواحد. ووجه العدول عن المتعددة إلى المتفرقة الإيماء إلى علة الأمر وهي إخفاء كونهم جماعة واحدة.

وجملة (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) معترضة في آخر الكلام ، أي وما أغني عنكم بوصيتي هذه شيئا. و (مِنَ اللهِ) متعلق ب (أُغْنِي) ، أي لا يكون ما أمرتكم به مغنيا غناء مبتدئا من عند الله بل هو الأدب والوقوف عند ما أمر الله ، فإن صادف ما قدره فقد حصل فائدتان ، وإن خالف ما قدّره حصلت فائدة امتثال أوامره واقتناع النفس بعدم التفريط.

وتقدم وجه تركيب (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) عند قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) في سورة العقود [٤١].

وأراد بهذا تعليمهم الاعتماد على توفيق الله ولطفه مع الأخذ بالأسباب المعتادة الظاهرة تأدبا مع واضع الأسباب ومقدّر الألطاف في رعاية الحالين ، لأنا لا نستطيع أن نطلع على مراد الله في الأعمال فعلينا أن نتعرفها بعلاماتها ولا يكون ذلك إلا بالسعي لها.

وهذا سرّ مسألة القدر كما أشار إليه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اعملوا فكل ميسّر لما خلق له» ، وفي الأثر «إذا أراد الله أمرا يسّر أسبابه» قال الله تعالى : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى

٩١

لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [سورة الإسراء : ١٩]. ذلك أن شأن الأسباب أن تحصل عندها مسبباتها. وقد يتخلف ذلك بمعارضة أسباب أخرى مضادة لتلك الأسباب حاصلة في وقت واحد ، أو لكون السبب الواحد قد يكون سببا لأشياء متضادة باعتبارات فيخطئ تعاطي السبب في مصادفة المسبّب المقصود ، ولو لا نظام الأسباب ومراعاتها لصار المجتمع البشري هملا وهمجا.

والإغناء : هنا مشتق من الغناء ـ بفتح الغين وبالمدّ ـ ، وهو الإجزاء والاضطلاع وكفاية المهم ، وأصله مرادف الغنى ـ بكسر الغين والقصر ـ وهما معا ضد الفقر ، وكثر استعمال الغناء المفتوح الممدود في الإجزاء والكفاية على سبيل المجاز المرسل لأن من أجزأ وكفى فقد أذهب عن نفسه الحاجة إلى المغنين وأذهب عمن أجزأ عنه الاحتياج أيضا ، وشاع هذا الاستعمال المجازي حتى غلب على هذا الفعل ، فلذلك كثر في الكلام تخصيص الغناء بالفتح والمد بهذا المعنى ، وتخصيص الغنى ـ بالكسر والقصر ـ في معنى ضد الفقر ونحوه حتى صار الغناء الممدود لا يكاد يسمع في معنى ضد الفقر. وهي تفرقة حسنة من دقائق استعمالهم في تصاريف المترادفات. فما يوجد في كلام ابن بري من قوله : إن الغناء مصدر ناشئ عن فعل أغنى المهموز بحذف الزائد الموهم أنه لا فعل له مجرّد فإنما عنى به أن استعمال فعل غني في هذا المعنى المجازي متروك ممات لا أنه ليس له فعل مجرد.

ولذلك فمعنى فعل (أغنى) بهذا الاستعمال معنى الأفعال القاصرة ، ولم يفده الهمز تعدية ، فلعل همزته دالة على الصيرورة ذا غنى ، فلذلك كان حقه أن لا ينصب المفعول به بل يكون في الغالب مرادفا لمفعول مطلق كقول عمرو بن معديكرب :

أغني غناء الذاهب

ين أعدّ للحدثان عدّا

ويقولون : أغنى فلان عن فلان ، أي في أجزاه عوضه وقام مقامه ، ويأتون بمنصوب فهو تركيب غريب ، فإن حرف (عن) فيه للبدلية وهي المجاوزة المجازية. جعل الشيء البدل عن الشيء مجاوزا له لأنه حلّ محلّه في حال غيبته فكأنه جاوزه فسموا هذه المجاوزة بدلية وقالوا : إنّ (عن) تجيء للبدلية كما تجيء لها الباء. فمعنى (ما أُغْنِي عَنْكُمْ) لا أجزي عنكم ، أي لا أكفي بدلا عن إجزائكم لأنفسكم.

و (مِنْ شَيْءٍ) نائب مناب شيئا ، وزيدت (مِنْ) لتوكيد عموم شيء في سياق النفي ، فهو كقوله تعالى : (لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) [سورة يس : ٢٣] أي من الضرّ. وجوز

٩٢

صاحب «الكشاف» في مثله أن يكون (شَيْئاً) مفعولا مطلقا ، أي شيئا من الغناء وهو الظاهر ، فقال في قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) [سورة البقرة : ٤٨] ، قال : أي قليلا من الجزاء ، كقوله تعالى : (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) ؛ لكنه جوز أن يكون (شَيْئاً) مفعولا به وهو لا يستقيم إلا على معنى التوسع بالحذف والإيصال ، أي بنزع الخافض.

وجملة (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) في موضع التعليل لمضمون (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ). والحكم : هنا بمعنى التصرف والتقدير ، ومعنى الحصر أنه لا يتم إلا ما أراده الله ، كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) [سورة الطلاق : ٣]. وليس للعبد أن ينازع مراد الله في نفس الأمر ولكن واجبه أن يتطلب الأمور من أسبابها لأن الله أمر بذلك ، وقد جمع هذين المعنيين قوله : (وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ).

وجملة (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) في موضع البيان لجملة (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) ليبين لهم أن وصيته بأخذ الأسباب مع التنبيه على الاعتماد على الله هو معنى التوكّل الذي يضل في فهمه كثير من الناس اقتصارا وإنكارا ، ولذلك أتى بجملة (وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) أمرا لهم ولغيرهم على معنى أنه واجب الحاضرين والغائبين ، وأن مقامه لا يختص بالصدّيقين بل هو واجب كل مؤمن كامل الإيمان لا يخلط إيمانه بأخطاء الجاهليات.

(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨))

جملة معترضة ، والواو اعتراضية.

ودلت (حَيْثُ) على الجهة ، أي لمّا دخلوا من الجهات التي أمرهم أبوهم بالدخول منها. فالجملة التي تضاف إليها (حَيْثُ) هي التي تبين المراد من الجهة.

وقد أغنت جملة (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) عن جمل كثيرة ، وهي أنهم ارتحلوا ودخلوا من حيث أمرهم أبوهم ، ولما دخلوا من حيث أمرهم سلموا مما كان يخافه عليهم. وما كان دخولهم من حيث أمرهم يغني عنهم من الله من شيء لو قدّر الله أن

٩٣

يحاط بهم ، فالكلام إيجاز. ومعنى (ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أنه ما كان يرد عنهم قضاء الله لو لا أن الله قدر سلامتهم.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا حاجَةً) منقطع لأن الحاجة التي في نفس يعقوب ـ عليه‌السلام ـ ليست بعضا من الشيء المنفي إغناؤه عنهم من الله ، فالتقدير : لكن حاجة في نفس يعقوب ـ عليه‌السلام ـ قضاها.

والقضاء : الإنفاذ ، ومعنى قضاها أنفذها. يقال : قضى حاجة لنفسه ، إذا أنفذ ما أضمره في نفسه ، أي نصيحة لأبنائه أداها لهم ولم يدخرها عنهم ليطمئن قلبه بأنه لم يترك شيئا يظنه نافعا لهم إلّا أبلغه إليهم.

والحاجة : الأمر المرغوب فيه. سمي حاجة لأنه محتاج إليه ، فهي من التسمية باسم المصدر. والحاجة التي في نفس يعقوب ـ عليه‌السلام ـ هي حرصه على تنبيههم للأخطار التي تعرض لأمثالهم في مثل هذه الرحلة إذا دخلوا من باب واحد ، وتعليمهم الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله.

وجملة (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) معترضة بين جملة (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) إلخ وبين جملة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

وهو ثناء على يعقوب ـ عليه‌السلام ـ بالعلم والتدبير ، وأنّ ما أسداه من النصح لهم هو من العلم الذي آتاه الله وهو من علم النبوءة.

وقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) استدراك نشأ عن جملة (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) إلخ. والمعنى أن الله أمر يعقوب ـ عليه‌السلام ـ بأخذ أسباب الاحتياط والنصيحة مع علمه بأن ذلك لا يغني عنهم من الله من شيء قدره لهم ، فإن مراد الله تعالى خفيّ عن الناس ، وقد أمر بسلوك الأسباب المعتادة ، وعلم يعقوب ـ عليه‌السلام ـ ذلك ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون تطلب الأمرين فيهملون أحدهما ، فمنهم من يهمل معرفة أن الأسباب الظاهرية لا تدفع أمرا قدّره الله وعلم أنه واقع ، ومنهم من يهمل الأسباب وهو لا يعلم أن الله أراد في بعض الأحوال عدم تأثيرها.

وقد دلّ (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) بصريحه على أن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ عمل بما علّمه الله ، ودلّ قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) بتعريضه على أن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ من القليل من الناس الذين علموا مراعاة الأمرين ليتقرر الثناء على يعقوب ـ

٩٤

عليه‌السلام ـ باستفادته من الكلام مرتين : مرة بالصراحة ومرة بالاستدراك.

والمعنى : أن أكثر الناس في جهالة عن وضع هاته الحقائق موضعها ولا يخلون عن مضيع لإحداهما ، ويفسر هذا المعنى قول عمر بن الخطاب ـ رضي‌الله‌عنه ـ لمّا أمر المسلمين بالقفول عن عمواس لمّا بلغه ظهور الطاعون بها وقال له أبو عبيدة : أفرارا من قدر الله فقال عمر ـ رضي‌الله‌عنه ـ : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ألسنا نفرّ من قدر الله إلى قدر الله ... إلى آخر الخبر.

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩))

موقع جملة (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ) كموقع جملة (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) [سورة يوسف : ٦٨] في إيجاز الحذف.

والإيواء : الإرجاع. وتقدم في قوله تعالى : (أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ) في سورة يونس [٨].

وأطلق الإيواء هنا مجازا على الإدناء والتقريب كأنه إرجاع إلى مأوى ، وإنما أدناه ليتمكن من الإسرار إليه بقوله : (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ).

وجملة (قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) بدل اشتمال من جملة (آوى إِلَيْهِ أَخاهُ). وكلمه بكلمة مختصرة بليغة إذ أفاده أنه هو أخوه الذي ظنه أكله الذئب. فأكد الخبر ب (إنّ) وبالجملة الاسمية وبالقصر الذي أفاده ضمير الفصل ، أي أنا مقصور على الكون أخاك لا أجنبي عنك ، فهو قصر قلب لاعتقاده أن الذي كلّمه لا قرابة بينه وبينه.

وفرّع على هذا الخبر (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ). والابتئاس : مطاوعة الإبئاس ، أي جعل أحد بائسا ، أي صاحب بؤس.

والبؤس : هو الحزن والكدر. وتقدم نظير هذا التركيب في قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ من سورة هود. والضميران في (كانُوا) و (يَعْمَلُونَ) راجعان إلى إخوتهما بقرينة المقام ، وأراد بذلك ما كان يجده أخوه (بنيامين) من الحزن لهلاك أخيه الشقيق وفظاظة إخوته وغيرتهم منه.

والنهي عن الابتئاس مقتض الكفّ عنه ، أي أزل عنك الحزن واعتض عنه بالسرور.

٩٥

وأفاد فعل الكون في المضي أن المراد ما عملوه فيما مضى. وأفاد صوغ (يَعْمَلُونَ) بصيغة المضارع أنه أعمال متكررة من الأذى. وفي هذا تهيئة لنفس أخيه لتلقي حادث الصّواع باطمئنان حتى لا يخشى أن يكون بمحل الريبة من يوسف ـ عليه‌السلام ـ.

[٧٠ ـ ٧٥] (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥))

تقدم الكلام على نظير قوله : (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) في الآيات قبل هذه. وإسناد جعل السقاية إلى ضمير يوسف مجاز عقليّ ، وإنما هو أمر بالجعل والذين جعلوا السقاية هم العبيد الموكّلون بالكيل.

والسقاية : إناء كبير يسقى به الماء والخمر. والصّواع : لغة في الصاع ، وهو وعاء للكيل يقدّر بوزن رطل وربع أو وثلث. وكانوا يشربون الخمر بالمقدار ، يقدّر كل شارب لنفسه ما اعتاد أنه لا يصرعه ، ويجعلون آنية الخمر مقدّرة بمقادير مختلفة ، فيقول الشارب للساقي : رطلا أو صاعا أو نحو ذلك. فتسمية هذا الإناء سقاية وتسميته صواعا جارية على ذلك. وفي التوراة سمي طاسا ، ووصف بأنه من فضة.

وتعريف (السِّقايَةَ) تعريف العهد الذهني ، أي سقاية معروفة لا يخلو عن مثلها مجلس العظيم.

وإضافة الصّواع إلى الملك لتشريفه ، وتهويل سرقته على وجه الحقيقة ، لأن شئون الدولة كلها للملك. ويجوز أن يكون أطلق الملك على يوسف ـ عليه‌السلام ـ تعظيما له.

والتأذين : النداء المكرر. وتقدم عند قوله تعالى : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ) في سورة الأعراف [٤٤].

والعير : اسم للحمولة من إبل وحمير وما عليها من أحمال وما معها من ركابها ، فهو اسم لمجموع هذه الثلاثة. وأسندت السرقة إلى جميعهم جريا على المعتاد من مؤاخذة الجماعة بجرم الواحد منهم.

٩٦

وتأنيث اسم الإشارة وهو (أَيَّتُهَا) لتأويل العير بمعنى الجماعة لأن الركاب هم الأهم.

وجملة (قالُوا) جواب لنداء المنادي إياهم (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) ، ففصلت الجملة لأنها في طريقة المحاورة كما تكرر غير مرة.

وضمير (قالُوا) عائد إلى العير.

وجملة (وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ) حال من ضمير (قالُوا). ومرجع ضمير (أَقْبَلُوا) عائد إلى فتيان يوسف ـ عليه‌السلام ـ. وضمير (عَلَيْهِمْ) راجع إلى ما رجع إليه ضمير (قالُوا) ، أي وقد أقبل عليهم فتيان يوسف ـ عليه‌السلام ـ.

وجعلوا جعلا لمن يأتي بالصواع. والذي قال : (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) واحد من المقبلين وهو كبيرهم. والزعيم : الكفيل.

وهذه الآية قد جعلها الفقهاء أصلا لمشروعية الجعل والكفالة. وفيه نظر ، لأن يوسف ـ عليه‌السلام ـ لم يكن يومئذ ذا شرع حتى يستأنس للأخذ ب (أنّ شرع من قبلنا شرع لنا) : إذا حكاه كلام الله أو رسوله. ولو قدّر أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ كان يومئذ نبيئا فلا يثبت أنه رسول بشرع ، إذ لم يثبت أنه بعث إلى قوم فرعون ، ولم يكن ليوسف ـ عليه‌السلام ـ أتباع في مصر قبل ورود أبيه وإخوته وأهليهم. فهذا مأخذ ضعيف.

والتاء في (تَاللهِ) حرف قسم على المختار ، ويختص بالدخول على اسم الله تعالى وعلى لفظ رب ، ويختص أيضا بالمقسم عليه العجيب. وسيجيء عند قوله تعالى : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) في [سورة الأنبياء : ٥٧].

وقولهم : (لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ). أكدوا ذلك بالقسم لأنهم كانوا وفدوا على مصر مرة سابقة واتهموا بالجوسة فتبينت براءتهم بما صدقوا يوسف ـ عليه‌السلام ـ فيما وصفوه من حال أبيهم وأخيهم. فالمراد ب (الْأَرْضِ) المعهودة ، وهي مصر.

وأما براءتهم من السرقة فبما أخبروا به عند قدومهم من وجدان بضاعتهم في رحالهم ، ولعلّها وقعت في رحالهم غلطا.

على أنهم نفوا عن أنفسهم الاتّصاف بالسرقة بأبلغ مما نفوا به الإفساد عنهم ، وذلك

٩٧

بنفي الكون سارقين دون أن يقولوا : وما جئنا لنسرق ، لأن السرقة وصف يتعيّر به ، وأما الإفساد الذي نفوه ، أي التجسس فهو مما يقصده العدوّ على عدوّه فلا يكون عارا ، ولكنه اعتداء في نظر العدوّ.

وقول الفتيان (فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) تحكيم ، لأنهم لا يسعهم إلا أن يعيّنوا جزاء يؤخذون به ، فهذا تحكيم المرء في ذنبه.

ومعنى (فَما جَزاؤُهُ) : ما عقابه. وضمير (جَزاؤُهُ) عائد إلى الصّواع بتقدير مضاف دل عليه المقام ، أي ما جزاء سارقه أو سرقته.

ومعنى (إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) إن تبين كذبكم بوجود الصّواع في رحالكم.

وقوله : (جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ). (جَزاؤُهُ) الأول مبتدأ ، و (مَنْ) يجوز أن تكون شرطية وهي مبتدأ ثان وأن جملة (وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) جملة الشرط وجملة (فَهُوَ جَزاؤُهُ) جواب الشرط ، والفاء رابطة للجواب ، والجملة المركبة من الشرط وجوابه خبر عن المبتدإ الأول. ويجوز أن تكون (مَنْ) موصولة مبتدأ ثانيا ، وجملة (وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) صلة الموصول. والمعنى أن من وجد في رحله الصواع هو جزاء السرقة ، أي ذاته هي جزاء السرقة ، فالمعنى أن ذاته تكون عوضا عن هذه الجريمة ، أي أن يصير رفيقا لصاحب الصواع ليتمّ معنى الجزاء بذات أخرى. وهذا معلوم من السياق إذ ليس المراد إتلاف ذات السارق لأن السرقة لا تبلغ عقوبتها حدّ القتل.

فتكون جملة (فَهُوَ جَزاؤُهُ) توكيدا لفظيا لجملة (جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) ، لتقرير الحكم وعدم الانفلات منه ، وتكون الفاء للتفريع تفريع التأكيد على الموكّد. وقد حكم إخوة يوسف ـ عليه‌السلام ـ على أنفسهم بذلك وتراضوا عليه فلزمهم ما التزموه.

ويظهر أن ذلك كان حكما مشهورا بين الأمم أن يسترقّ السارق. وهو قريب من استرقاق المغلوب في القتال. ولعله كان حكما معروفا في مصر لما سيأتي قريبا عند قوله تعالى : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) [سورة يوسف : ٧٦].

وجملة (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) بقية كلام إخوة يوسف ـ عليه‌السلام ـ ، أي كذلك حكم قومنا في جزاء السارق الظالم بسرقته ؛ أو أرادوا أنه حكم الإخوة على من يقدّر منهم أن يظهر الصواع في رحله ، أي فهو حقيق لأن نجزيه بذلك.

والإشارة ب (كَذلِكَ) إلى الجزاء المأخوذ من (نَجْزِي) ، أي نجزي الظالمين جزاء

٩٨

كذلك الجزاء ، وهو من وجد في رحله.

(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦))

(فَبَدَأَ) أي أمر يوسف ـ عليه‌السلام ـ بالبداءة بأوعية بقية إخوته قبل وعاء أخيه الشقيق.

وأوعية : جمع وعاء ، وهو الظرف ،. مشتق من الوعي وهو الحفظ. والابتداء بأوعية غير أخيه لإبعاد أن يكون الذي يوجد في وعائه هو المقصود من أول الأمر. وتأنيث ضمير (اسْتَخْرَجَها) للسقاية. وهذا التأنيث في تمام الرشاقة إذ كانت الحقيقة أنها سقاية جعلت صواعا. فهو كردّ العجز على الصدر.

والقول في (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) كالقول في (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [سورة يوسف : ٧٥].

والكيد : فعل يتوصل بظاهره إلى مقصد خفي. والكيد : هنا هو إلهام يوسف ـ عليه‌السلام ـ لهذه الحيلة المحكمة في وضع الصواع وتفتيشه وإلهام إخوته إلى ذلك الحكم المصمت.

وأسند الكيد إلى الله لأنه ملهمه فهو مسبّبه. وجعل الكيد لأجل يوسف ـ عليه‌السلام ـ لأنه لفائدته.

وجملة (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) بيان للكيد باعتبار جميع ما فيه من وضع السقاية ومن حكم إخوته على أنفسهم بما يلائم مرغوب يوسف ـ عليه‌السلام ـ من إبقاء أخيه عنده ، ولو لا ذلك لما كانت شريعة القبط تخوله ذلك ، فقد قيل : إن شرعهم في جزاء السارق أن يؤخذ منه الشيء ويضرب ويغرم ضعفي المسروق أو ضعفي قيمته. وعن مجاهد (فِي دِينِ الْمَلِكِ) أي حكمه وهو استرقاق السراق. وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية لقوله : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) أي لو لا حيلة وضع الصّواع في متاع أخيه. ولعل ذلك كان حكما شائعا في كثير من الأمم ، ألا ترى إلى قولهم : (مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) [سورة يوسف : ٧٥] كما تقدم ، أي أن ملك

٩٩

مصر كان عادلا فلا يؤخذ أحد في بلاده بغير حق. ومثله ما كان في شرع الرومان من استرقاق المدين ، فتعين أن المراد بالدّين الشريعة لا مطلق السلطان.

ومعنى لام الجحود هنا نفي أن يكون في نفس الأمر سبب يخول يوسف ـ عليه‌السلام ـ أخذ أخيه عنده.

والاستثناء من عموم أسباب أخذ أخيه المنفية. وفي الكلام حرف جر محذوف قبل (أَنْ) المصدرية ، وهو باء السببية التي يدل عليها نفي الأخذ ، أي أسبابه. فالتقدير : إلا بأن يشاء الله ، أي يلهم تصوير حالته ويأذن ليوسف ـ عليه‌السلام ـ في عمله باعتبار ما فيه من المصالح الجمة ليوسف وإخوته في الحال والاستقبال لهم ولذريتهم.

وجملة (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) تذييل لقصة أخذ يوسف ـ عليه‌السلام ـ أخاه لأن فيها رفع درجة يوسف ـ عليه‌السلام ـ في الحال بالتدبير الحكيم من وقت مناجاته أخاه إلى وقت استخراج السقاية من رحله. ورفع درجة أخيه في الحال بإلحاقه ليوسف ـ عليه‌السلام ـ في العيش الرفيه والكمال بتلقي الحكمة من فيه. ورفع درجات إخوته وأبيه في الاستقبال بسبب رفع درجة يوسف ـ عليه‌السلام ـ وحنوه عليهم. فالدرجات مستعارة لقوة الشرف من استعارة المحسوس للمعقول. وتقدم في قوله تعالى : (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) في سورة البقرة [٢٢٨] ، وقوله : (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) في سورة الأنفال [٤].

وجملة (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) تذييل ثان لجملة (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) الآية.

وفيها شاهد لتفاوت الناس في العلم المؤذن بأن علم الذي خلق لهم العلم لا ينحصر مداه ، وأنه فوق كل نهاية من علم الناس.

والفوقية مجاز في شرف الحال ، لأن الشرف يشبّه بالارتفاع.

وعبر عن جنس المتفوق في العلم بوصف (عَلِيمٌ) باعتبار نسبته إلى من هو فوقه إلى أن يبلغ إلى العليم المطلق سبحانه.

وظاهر تنكير (عَلِيمٌ) أن يراد به الجنس فيعم كلّ موصوف بقوة العلم إلى أن ينتهي إلى علم الله تعالى. فعموم هذا الحكم بالنسبة إلى المخلوقات لا إشكال فيه. ويتعين تخصيص هذا العموم بالنسبة إلى الله تعالى بدليل العقل إذ ليس فوق الله عليم.

وقد يحمل التنكير على الوحدة ويكون المراد عليم واحد فيكون التنكير للوحدة

١٠٠