تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٤

وجملة (إِنَّا نَراكَ) تعليل لانتفاء المستفاد من (نَبِّئْنا).

[٣٧ ، ٣٨] (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨))

جملة (قالَ لا يَأْتِيكُما) جواب عن كلامهما ففصلت على أسلوب حكاية جمل التحاور.

أراد بهذا الجواب أن يفترص إقبالهما عليه وملازمة الحديث معه إذ هما يترقبان تعبيره الرؤيا فيدمج في ذلك دعوتهما إلى الإيمان الصحيح مع الوعد بأنّه يعبّر لهما رؤياهما غير بعيد ، وجعل لذلك وقتا معلوما لهم ، وهو وقت إحضار طعام المساجين إذ ليس لهم في السجن حوادث يوقتون بها ، ولأن انطباق الأبواب وإحاطة الجدران يحول بينهم وبين رؤية الشمس ، فليس لهم إلا حوادث أحوالهم من طعام أو نوم أو هبوب منه.

ويظهر أن أمد إتيان الطعام حينئذ لم يكن بعيدا كما دل عليه قوله : (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) من تعجيله لهما تأويل رؤياهما وأنه لا يتريث في ذلك.

ووصف الطعام بجملة (تُرْزَقانِهِ) تصريح بالضبط بأنه طعام معلوم الوقت لا ترقب طعام يهدى لهما بحيث لا ينضبط حصوله.

وحقيقة الرزق : ما به النفع ، ويطلق على الطعام كقوله : (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) [سورة آل عمران : ٣٧] أي طعاما ، وقوله في سورة الأعراف [٥٠](أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) ، وقوله : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [سورة مريم : ٦٢]. ويطلق على الإنفاق المتعارف كقوله : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) [سورة النساء : ٥]. ومن هنا يطلق على العطاء الموقت ، يقال : كان بنو فلان من مرتزقة الجند ، ورزق الجند كذا كل يوم.

وضمير (بِتَأْوِيلِهِ) عائد إلى ما عاد إليه ضمير (بِتَأْوِيلِهِ)[سورة يوسف : ٣٦] الأول ، وهو المرئي أو المنام. ولا ينبغي أن يعود إلى طعام إذ لا يحسن إطلاق التأويل عن الأنباء بأسماء أصناف الطعام خلافا لما سلكه جمهور المفسرين.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) استثناء من أحوال متعددة تناسب

٦١

الغرض ، وهي حال الإنباء بتأويل الرؤيا وحال عدمه ، أي لا يأتي الطعام المعتاد إلا في حال أني قد نبأتكما بتأويل رؤياكما ، أي لا في حال عدمه. فالقصر المستفاد من الاستثناء إضافي.

وجردت جملة الحال من الواو (وقد) مع أنها ماضية اكتفاء بربط الاستثناء كقوله تعالى : (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) [سورة التوبة : ١٢١].

وجملة (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) استئناف بياني ، لأنّ وعده بتأويل الرؤيا في وقت قريب يثير عجب السائلين عن قوة علمه وعن الطريقة التي حصل بها هذا العلم ، فيجيب بأن ذلك مما علمه الله تخلصا إلى دعوتهما للإيمان بإله واحد. وكان القبط مشركين يدينون بتعدد الآلهة.

وقوله : (مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) إيذان بأنّه علّمه علوما أخرى ، وهي علوم الشريعة والحكمة والاقتصاد والأمانة كما قال : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [سورة يوسف : ٥٥].

وزاد في الاستيناف البياني جملة (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) لأن الإخبار بأن الله علّمه التّأويل وعلوما أخرى مما يثير السؤال عن وسيلة حصول هذا العلم ، فأخبر بأن سبب عناية الله به أنّه انفرد في ذلك المكان بتوحيد الله وترك ملة أهل المدينة ، فأراد الله اختياره لديهم ، ويجوز كون الجملة تعليلا.

والملة : الدين ، تقدم في قوله : (دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) في سورة الأنعام [١٦١].

وأراد بالقوم الذين لا يؤمنون بالله ما يشمل الكنعانيين الذين نشأ فيهم والقبط الذين شبّ بينهم ، كما يدلّ عليه قوله : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها) [سورة يوسف : ٣٩] ، أو أراد الكنعانيين خاصة ، وهم الذين نشأ فيهم تعريضا بالقبط الذين ماثلوهم في الإشراك. وأراد بهذا أن لا يواجههم بالتشنيع استنزالا لطائر نفورهم من موعظته.

وزيادة ضمير الفصل في قوله : (هُمْ كافِرُونَ) أراد به تخصيص قوم منهم بذلك وهم الكنعانيون ، لأنهم كانوا ينكرون البعث مثل كفار العرب. وأراد بذلك إخراج القبط لأن القبط وإن كانوا مشركين فقد كانوا يثبتون بعث الأرواح والجزاء.

٦٢

والترك : عدم الأخذ للشيء مع إمكانه. أشار به إلى أنه لم يتبع ملة القبط مع حلوله بينهم ، وكون مولاه متدينا بها.

وذكر آباءه تعليما بفضلهم ، وإظهارا لسابقية الصلاح فيه ، وأنه متسلسل من آبائه ، وقد عقله من أول نشأته ثم تأيد بما علّمه ربّه فحصل له بذلك الشرف العظامي والشرف العصامي. ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سئل عن أكرم الناس : «يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم نبيء ابن نبيء ابن نبيء ابن نبيء». ومثل هذه السلسلة في النبوءة لم يجتمع لأحد غير يوسف ـ عليه‌السلام ـ إذا كان المراد بالنبوءة أكملها وهو الرسالة ، أو إذا كان إخوة يوسف ـ عليه‌السلام ـ غير أنبياء على رأي فريق من العلماء.

وأراد باتّباع ملّة آبائه اتباعها في أصولها قبل أن يعطى النبوءة إذا كان فيما أوحي إليه زيادة على ما أوحي به إلى آبائه من تعبير الرؤيا والاقتصاد ؛ أو أن نبوءته كانت بوحي مثل ما أوحي به إلى آبائه ، كقوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) ـ إلى قوله ـ (أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [سورة الشورى : ١٣].

وذكر السلف الصالح في الحقّ يزيد دليل الحقّ تمكّنا ، وذكر ضدهم في الباطل لقصد عدم الحجة بهم بمجردهم. كما في قوله الآتي : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) [سورة يوسف : ٤٠].

وجملة (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) في قوة البيان لما اقتضته جملة (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي) من كون التوحيد صار كالسجية لهم عرف بها أسلافه بين الأمم ، وعرّفهم بها لنفسه في هذه الفرصة. ولا يخفى ما تقتضيه صيغة الجحود من مبالغة انتفاء الوصف على الموصوف ، كما تقدم في قوله تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ) في سورة آل عمران [٧٩] ، وعند قوله تعالى : (قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) في آخر سورة العقود [١١٦].

و (مِنْ) في قوله : (مِنْ شَيْءٍ) مزيدة لتأكيد النفي. وأدخلت على المقصود بالنفي.

وجملة (ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا) زيادة في الاستئناف والبيان لقصد الترغيب في اتباع دين التوحيد بأنه فضل.

وقوله : (وَعَلَى النَّاسِ) أي الذين يتبعونهم ، وهو المقصود من الترغيب بالجملة.

وأتى بالاستدراك بقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) للتصريح بأن حال

٦٣

المخاطبين في إشراكهم حال من يكفر نعمة الله ، لأن إرسال الهداة نعمة ينبغي أن ينظر الناس فيها فيعلموا أن ما يدعونهم إليه خير وإنقاذ لهم من الانحطاط في الدنيا والعذاب في الآخرة ، ولأن الإعراض عن النظر في أدلة صدق الرسل كفر بنعمة العقل والنظر.

[٣٩ ، ٤٠] (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠))

استيناف ابتدائي مصدر بتوجيه الخطاب إلى الفتيين بطريق النداء المسترعي سمعهما إلى ما يقوله للاهتمام به.

وعبّر عنهما بوصف الصحبة في السجن دون اسميهما إمّا لجهل اسميهما عنده إذ كانا قد دخلا السجن معه في تلك الساعة قبل أن تطول المعاشرة بينهما وبينه ، وإما للإيذان بما حدث من الصلة بينهما وهي صلة المماثلة في الضراء الإلف في الوحشة ، فإن الموافقة في الأحوال صلة تقوم مقام صلة القرابة أو تفوقها.

واتفق القراء على ـ كسر سين ـ (السِّجْنِ) هنا بمعنى البيت الذي يسجن فيه المعاقبون ، لأن الصاحب لا يضاف إلى السجن إلا بمعنى المكان.

والإضافة هنا على تقدير حرف الظرفية ، مثل : مكر الليل ، أي يا صاحبين في السجن.

وأراد بالكلام الذي كلّمهما به تقريرهما بإبطال دينهما ، فالاستفهام تقريري. وقد رتّب لهما الاستدلال بوجه خطابي قريب من أفهام العامة ، إذ فرض لهما إلها واحدا متفردا بالإلهية كما هو حال ملته التي أخبرهم بها. وفرض لهما آلهة متفرقين كل إله منهم إنما يتصرف في أشياء معينة من أنواع الموجودات تحت سلطانه لا يعدوها إلى ما هو من نطاق سلطان غيره منهم ، وذلك حال ملة القبط.

ثم فرض لهما مفاضلة بين مجموع الحالين حال الإله المنفرد بالإلهية والأحوال المتفرقة للآلهة المتعددين ليصل بذلك إلى إقناعهما بأن حال المنفرد بالإلهية أعظم وأغنى ، فيرجعان عن اعتقاد تعدد الآلهة. وليس المراد من هذا الاستدلال وجود الحالين في الإلهية والمفاضلة بين أصحاب هذين الحالين لأن المخاطبين لا يؤمنون بوجود الإله الواحد.

٦٤

هذا إذا حمل لفظ (خَيْرٌ) على ظاهر المتعارف منه وهو التفضيل بين مشتركات في صفة. ويجوز أن يكون (خَيْرٌ) مستعملا في معنى الخير عند العقل ، أي الرجحان والقبول. والمعنى : اعتقاد وجود أرباب متفرقين أرجح أم اعتقاد أنه لا يوجد إلا إله واحد ، ليستنزل بذلك طائر نظرهما واستدلالهما حتى ينجلي لهما فساد اعتقاد تعدد الآلهة ، إذ يتبين لهما أن أربابا متفرقين لا يخلو حالهم من تطرق الفساد والخلل في تصرفهم ، كما يومئ إليه وصف التفرق بالنسبة للتعدد ووصف القهار بالنسبة للوحدانية.

وكانت ديانة القبط في سائر العصور التي حفظها التاريخ وشهدت بها الآثار ديانة شرك ، أي تعدد الآلهة. وبالرغم على ما يحاوله بعض المؤرخين المصريين والإفرنج من إثبات اعتراف القبط بإله واحد وتأويلهم لهم تعدد الآلهة بأنها رموز للعناصر فإنهم لم يستطيعوا أن يثبتوا إلا أن هذا الإله هو معطي التصرف للآلهة الأخرى. وذلك هو شأن سائر أديان الشرك ، فإن الشرك ينشأ عن مثل ذلك الخيال فيصبح تعدد آلهة. والأمم الجاهلة تتخيل هذه الاعتقادات من تخيلات نظام ملوكها وسلاطينها وهو النظام الإقطاعي القديم.

نعم إن القبط بنوا تعدد الآلهة على تعدد القوى والعناصر وبعض الكواكب ذات القوى. ومثلهم الإغريق فهم في ذلك أحسن حالا من مشركي العرب الذين ألّهوا الحجارة. وقصارى ما قسموه في عبادتها أن جعلوا بعضها آلهة لبعض القبائل كما قال الشاعر :

وفرّت ثقيف إلى لاتها

وأحسن حالا من الصابئة الكلدانيين والأشوريين الذين جعلوا الآلهة رموزا للنجوم والكواكب.

وكانت آلهة القبط نحوا من ثلاثين ربا أكبرها عندهم آمون رع. ومن أعظم آلهتهم ثلاثة أخر وهي : أوزوريس ، وأزيس ، وهوروس. فلله بلاغة القرآن إذ عبر عن تعددها بالتفرق فقال : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ) [سورة يوسف : ٣٩].

وبعد أن أثار لهما الشك في صحة إلهيّة آلهتهم المتعددين انتقل إلى إبطال وجود تلك الآلهة على الحقيقة بقوله : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) ، يعني أن تلك الآلهة لا تحقق لحقائقها في الوجود الخارجي بل

٦٥

هي توهّمات تخيّلوها.

ومعنى قصرها على أنها أسماء قصرا إضافيا ، أنها أسماء لا مسميات لها فليس لها في الوجود إلا أسماؤها.

وقوله : (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) جملة مفسرة للضمير المرفوع في (سَمَّيْتُمُوها). والمقصود من ذلك الردّ على آبائهم سدّا لمنافذ الاحتجاج لأحقيتها بأن تلك الآلهة معبودات آبائهم ، وإدماجا لتلقين المعذرة لهما ليسهل لهما الإقلاع عن عبادة آلهة متعددة.

وإنزال السلطان : كناية عن إيجاد دليل إلهيتها في شواهد العالم. والسلطان : الحجة.

وجملة (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) إبطال لجميع التصرفات المزعومة لآلهتهم بأنها لا حكم لها فيما زعموا أنه من حكمها وتصرفها.

وجملة (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) انتقال من أدلة إثبات انفراد الله تعالى بالإلهية إلى التعليم بامتثال أمره ونهيه ، لأن ذلك نتيجة إثبات الإلهية والوحدانية له ، فهي بيان لجملة (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) من حيث ما فيها من معنى الحكم.

وجملة (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) خلاصة لما تقدم من الاستدلال ، أي ذلك الدين لا غيره مما أنتم عليه وغيركم. وهو بمنزلة رد العجز على الصدر لقوله : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) ـ إلى ـ (لا يَشْكُرُونَ) [سورة يوسف : ٣٨].

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١))

افتتح خطابهما بالنداء اهتماما بما يلقيه إليهما من التعبير ، وخاطبهما بوصف (صاحِبَيِ السِّجْنِ) أيضا.

ثم إذا كان الكلام المحكي عن يوسف ـ عليه‌السلام ـ في الآية صدر منه على نحو النظم الذي نظم به في الآية وهو الظاهر كان جمع التأويل في عبارة واحدة مجملة ، لأن في تأويل إحدى الرؤيين ما يسوء صاحبها قصدا لتلقيه ما يسوء بعد تأمل قليل كيلا يفجأه من أول الكلام ، فإنه بعد التأمل يعلم أن الذي يسقي ربه خمرا هو رائي عصر الخمر ، وأن

٦٦

الذي تأكل الطير من رأسه هو رائي أكل الطير من خبز على رأسه.

وإذا كان نظم الآية على غير ما صدر من يوسف ـ عليه‌السلام ـ كان في الآية إيجاز لحكاية كلام يوسف ـ عليه‌السلام ـ ، وكان كلاما معيّنا فيه كل من الفتيين بأن قال : أما أنت فكيت وكيت ، وأما أنت فكيت وكيت ، فحكي في الآية بالمعنى.

وجملة (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) تحقيق لما دلت عليه الرؤيا ، وأن تعبيرها هو ما أخبرهما به فإنهما يستفتيان في دلالة الرؤيا على ما سيكون في شأن سجنهما لأن ذلك أكبر همهما ، فالمراد بالأمر تعبير رؤياهما.

والاستفتاء : مصدر استفتى إذا طلب الإفتاء. وهو : الإخبار بإزالة مشكل ، أو إرشاد إلى إزالة حيرة. وفعله أفتى ملازم للهمز ولم يسمع له فعل مجرد ، فدلا ذلك على أن همزه في الأصل مجتلب لمعنى ، قالوا : أصل اشتقاق أفتى من الفتى وهو الشاب ، فكأنّ الذي يفتيه يقوي نهجه ببيانه فيصير بقوة بيانه فتيّا أي قويا. واسم الخبر الصادر من المفتي : فتوى ـ بفتح الفاء وبضمها مع الواو مقصورا ، وبضم الفاء مع الياء مقصورا ـ.

(وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢))

قال يوسف ـ عليه‌السلام ـ للذي ظن نجاته من الفتيين وهو الساقي. والظن هنا مستعمل في القريب من القطع لأنه لا يشك في صحة تعبيره الرؤيا. وأراد بذكره ذكر قضيته ومظلمته ، أي اذكرني لربك ، أي سيدك. وأراد بربه ملك مصر.

وضميرا (فَأَنْساهُ) و (رَبِّهِ) يحتملان العود إلى (لِلَّذِي) ، أي أنسى الشيطان الذي نجا أن يذكره لربه ، فالذكر الثاني هو الذكر الأول. ويحتمل أن يعود الضميران إلى ما عاد إليه ضمير (وَقالَ) أي يوسف ـ عليه‌السلام ـ أنساه الشيطان ذكر الله ، فالذكر الثاني غير الذكر الأول. ولعل كلا الاحتمالين مراد ، وهو من بديع الإيجاز. وذلك أن نسيان يوسف ـ عليه‌السلام ـ أن يسأل الله إلهام الملك تذكر شأنه كان من إلقاء الشيطان في أمنيته ، وكان ذلك سببا إلهيا في نسيان الساقي تذكير الملك ، وكان ذلك عتابا إلهيا ليوسف ـ عليه‌السلام ـ على اشتغاله بعون العباد دون استعانة ربه على خلاصه.

ولعل في إيراد هذا الكلام على هذا التوجيه تلطفا في الخبر عن يوسف ـ عليه

٦٧

السّلام ـ ، لأن الكلام الموجه في المعاني الموجهة ألطف من الصريح.

والبضع : من الثلاث إلى التسع.

وفيما حكاه القرآن عن حال سجنهم ما ينبئ على أن السجن لم يكن مضبوطا بسجل يذكر فيه أسماء المساجين ، وأسباب سجنهم ، والمدة المسجون إليها ، ولا كان من وزعة السجون ولا ممن فوقهم من يتعهّد أسباب السجن ويفتقد أمر المساجين ويرفع إلى الملك في يوم من الأسبوع أو من العام. وهذا من الإهمال والتهاون بحقوق الناس وقد أبطله الإسلام ، فإن من الشريعة أن ينظر القاضي أول ما ينظر فيه كلّ يوم أمر المساجين.

[٤٣ ـ ٤٥] (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥))

هذا عطف جزء من قصة على جزء منها تكملة لوصف خلاص يوسف ـ عليه‌السلام ـ من السجن.

والتعريف في (الْمَلِكُ) للعهد ، أي ملك مصر. وسماه القرآن هنا ملكا ولم يسمه فرعون لأن هذا الملك لم يكن من الفراعنة ملوك مصر القبط ، وإنما كان ملكا لمصر أيام حكمها (الهكسوس) ، وهم العمالقة ، وهم من الكنعانيين ، أو من العرب ، ويعبر عنهم مؤرخو الإغريق بملوك الرعاة ، أي البدو. وقد ملكوا بمصر من عام ١٩٠٠ إلى عام ١٥٢٥ قبل ميلاد المسيح ـ عليه‌السلام ـ. وكان عصرهم فيما بين مدة العائلة الثالثة عشرة والعائلة الثامنة عشرة من ملوك القبط ، إذ كانت عائلات ملوك القبط قد بقي لها حكم في مصر العليا في مدينة (طيبة) كما تقدم عند قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ) [سورة يوسف : ٢١]. وكان ملكهم في تلك المدة ضعيفا لأن السيادة كانت لملوك مصر السفلى. ويقدّر المؤرخون أن ملك مصر السفلى في زمن يوسف ـ عليه‌السلام ـ كان في مدة العائلة السابعة عشرة.

فالتعبير عنه بالملك في القرآن دون التعبير بفرعون مع أنه عبّر عن ملك مصر في زمن موسى ـ عليه‌السلام ـ بلقب فرعون هو من دقائق إعجاز القرآن العلمي. وقد وقع في التوراة إذ عبر فيها عن ملك مصر في زمن يوسف ـ عليه‌السلام ـ فرعون وما هو بفرعون

٦٨

لأن أمته ما كانت تتكلم بالقبطية وإنما كانت لغتهم كنعانية قريبة من الآرامية والعربية ، فيكون زمن يوسف ـ عليه‌السلام ـ في آخر أزمان حكم ملوك الرعاة على اختلاف شديد في ذلك.

وقوله : (سِمانٍ) جمع سمينة وسمين ، مثل كرام ، وهو وصف ل (بَقَراتٍ).

و (عِجافٌ) جمع عجفاء. والقياس في جمع عجفاء عجف لكنه صيغ هنا بوزن فعال لأجل المزاوجة لمقارنه وهو (سِمانٍ). كما قال الشاعر :

هتّاك أخبية ولّاج أبوية

والقياس أبواب لكنه حمله على أخبية.

والعجفاء : ذات العجف بفتحتين وهو الهزال الشديد.

و (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ) معطوف على (سَبْعَ بَقَراتٍ). والسنبلة تقدمت في قوله تعالى : (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) في سورة البقرة [٢٦١].

والملأ : أعيان الناس. وتقدم عند قوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) في سورة الأعراف [٦٠].

والإفتاء : الإخبار بالفتوى. وتقدمت آنفا عند قوله : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) [سورة يوسف : ٤١].

و (فِي) للظرفية المجازية التي هي بمعنى الملابسة ، أي أفتوني إفتاء ملابسا لرؤياي ملابسة البيان للمجمل.

وتقديم (لِلرُّءْيا) على عامله وهو (تَعْبُرُونَ) للرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بالرؤيا في التعبير. والتعريف في (لِلرُّءْيا) تعريف الجنس.

واللام في (لِلرُّءْيا) لام التقوية لضعف العامل عن العمل بالتأخير عن معموله. يقال : عبر الرؤيا من باب نصر. قال في «الكشاف» : وعبرت الرؤيا بالتخفيف هو الذي اعتمده الأثبات. ورأيتهم ينكرون عبّرت بالتشديد والتعبير ، وقد عثرت على بيت أنشده المبرد في كتاب «الكامل» لبعض الأعراب :

رأيت رؤياي ثم عبّرتها

وكنت للأحلام عبّارا

٦٩

والمعنى : فسر ما تدل عليه وأوّل إشاراتها ورموزها.

وكان تعبير الرؤيا مما يشتغلون به. وكان الكهنة منهم يعدونه من علومهم ولهم قواعد في حل رموز ما يراه النائم. وقد وجدت في آثار القبط أوراق من البردي فيها ضوابط وقواعد لتعبير الرّؤى ، فإن استفتاء صاحبي السجن يوسف ـ عليه‌السلام ـ في رؤييهما ينبئ بأن ذلك شائع فيهم ، وسؤال الملك أهل ملأه تعبير رؤياه ينبئ عن احتواء ذلك الملأ على من يظنّ بهم علم تعبير الرؤيا ، ولا يخلو ملأ الملك من حضور كهان من شأنهم تعبير الرؤيا.

وفي التوراة «فأرسل ودعا جميع سحرة مصر وجميع حكمائها وقص عليهم حلمه فلم يكن من يعبره له» (١). وإنما كان مما يقصد فيه إلى الكهنة لأنه من المغيبات. وقد ورد في أخبار السيرة النبوية أن كسرى أرسل إلى سطيح الكاهن ليعبر له رؤيا أيام ولادة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي معدودة من الإرهاصات النبوية. وحصل لكسرى فزع فأوفد إليه عبد المسيح.

فالتعريف في قوله (لِلرُّءْيا) تعريف العهد ، والمعهود الرؤيا التي كان يقصها عليهم على طريقة إعادة النكرة معرفة باللام أن تكون الثانية عين الأولى. والمعنى : إن كنتم تعبرون هذه الرؤيا.

والأضغاث : جمع ضغث ـ بكسر الضاد المعجمة ـ وهو : ما جمع في حزمة واحدة من أخلاط النبات وأعواد الشجر ، وإضافته إلى الأحلام على تقدير اللام ، أي أضغاث للأحلام.

والأحلام : جمع حلم ـ بضمتين ـ وهو ما يراه النائم في نومه. والتقدير : هذه الرؤيا أضغاث أحلام. شبهت تلك الرؤيا بالأضغاث في اختلاطها وعدم تميز ما تحتويه لمّا أشكل عليهم تأويلها.

والتعريف فيه أيضا تعريف العهد ، أي ما نحن بتأويل أحلامك هذه بعالمين. وجمعت (أَحْلامٍ) باعتبار تعدد الأشياء المرئية في ذلك الحلم ، فهي عدة رؤى.

والباء في (بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ) لتأكيد اتصال العامل بالمفعول ، وهي من قبيل باء الإلصاق مثل باء (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [سورة المائدة : ٦] ، لأنهم نفوا التمكن من تأويل

__________________

(١) الإصحاح الحادي والأربعون من سفر التكوين.

٧٠

هذا الحلم. وتقديم هذا المعمول على الوصف العامل فيه كتقديم المجرور في قوله : (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ).

فلما ظهر عوص تعبير هذا الحلم تذكر ساقي الملك ما جرى له مع يوسف ـ عليه‌السلام ـ فقال : (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ).

وابتداء كلامه بضميره وجعله مسندا إليه وخبره فعلي لقصد استجلاب تعجب الملك من أن يكون الساقي ينبئ بتأويل رؤيا عوصت على علماء بلاط الملك ، مع إفادة تقوّي الحكم ، وهو إنباؤه إياهم بتأويلها ، لأن تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في سياق الإثبات يفيد التقوّي ، وإسناد الإنباء إليه مجاز عقلي لأنه سبب الإنباء ، ولذلك قال : (فَأَرْسِلُونِ). وفي ذلك ما يستفز الملك إلى أن يأذن له بالذهاب إلى حيث يريد ليأتي بنبإ التأويل إذ لا يجوز لمثله أن يغادر مجلس الملك دون إذن. وقد كان موقنا بأنه يجد يوسف ـ عليه‌السلام ـ في السجن لأنه قال : (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) دون تردد. ولعل سبب يقينه ببقاء يوسف ـ عليه‌السلام ـ في السجن أنه كان سجن الخاصة فكان ما يحدث فيه من إطلاق أو موت يبلغ مسامع الملك وشيعته.

و (ادَّكَرَ) بالدال المهملة أصله : اذتكر ، وهو افتعال من الذكر ، قلبت تاء الافتعال دالّا لثقلها ولتقارب مخرجيهما ثم قلبت الذال ليتأتّى ادغامها في الدال لأن الدال أخف من الذال. وهذا أفصح الإبدال في ادّكر. وهو قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [سورة القمر : ١٥] كما في الصحيح.

ومعنى (بَعْدَ أُمَّةٍ) بعد زمن مضى على نسيانه وصاية يوسف ـ عليه‌السلام ـ. والأمة : أطلقت هنا على المدة الطويلة ، وأصل إطلاق الأمة على المدة الطويلة هو أنها زمن ينقرض في مثله جيل ، والجيل يسمى أمة ، كما في قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [سورة آل عمران : ١١٠] على قول من حمله على الصحابة.

وإطلاقه في هذه الآية مبالغة في زمن نسيان الساقي. وفي التوراة كانت مدة نسيانه سنتين.

وضمائر جمع المخاطب في (أُنَبِّئُكُمْ) ـ (فَأَرْسِلُونِ) مخاطب بها الملك على وجه التعظيم كقوله تعالى : (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) [سورة المؤمنون : ٩٩].

ولم يسمّ لهم المرسل إليه لأنه أراد أن يفاجئهم بخبر يوسف ـ عليه‌السلام ـ بعد

٧١

حصول تعبيره ليكون أوقع ، إذ ليس مثله مظنة أن يكون بين المساجين.

(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦))

الخطاب بالنداء مؤذن بقول محذوف في الكلام ، وأنه من قول الذي نجا وادكر بعد أمة. وحذف من الكلام ذكر إرساله ومشيه ووصوله ، إذ لا غرض فيه من القصة. وهذا من بديع الإيجاز.

و (الصِّدِّيقُ) أصله صفة مبالغة مشتقة من الصّدق ، كما تقدم عند قوله تعالى : (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) في سورة العقود [٧٥] ، وغلب استعمال وصف الصدّيق استعمال اللقب الجامع لمعاني الكمال واستقامة السلوك في طاعة الله تعالى ، لأن تلك المعاني لا تجتمع إلا لمن قوي صدقه في الوفاء بعهد الدين.

وأحسن ما رأيت في هذا المعنى كلمة الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن قال : «الصديقون هم دوين الأنبياء». وهذا ما يشهد به استعمال القرآن في آيات كثيرة مثل قوله : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ) [سورة النساء : ٦٩] الآية ، وقوله : (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) [سورة المائدة : ٧٥]. ومنه ما لقّب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر بالصدّيق في قوله في حديث رجف جبل أحد «أسكن أحد فإنما عليك نبيء وصدّيق وشهيدان». من أجل ذلك أجمع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنهم علي بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ على أن أبا بكر ـ رضي‌الله‌عنه ـ أفضل الأمة بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد جمع الله هذا الوصف مع صفة النبوءة في قوله : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) في سورة مريم [٥٦].

وقد يطلق الصدّيق على أصل وصفه ، كما في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) [سورة الحديد : ١٩] على أحد تأويلين فيها.

فهذا الذي استفتى يوسف ـ عليه‌السلام ـ في رؤيا الملك وصف في كلامه ـ يوسف ـ عليه‌السلام ـ بمعنى يدل عليه وصف الصدّيق في اللسان العربي ، وإنما وصفه به عن خبرة وتجربة اكتسبها من مخالطة يوسف ـ عليه‌السلام ـ في السجن.

فضمّ ما ذكرناه هنا إلى ما تقدم عند قوله تعالى : (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) في سورة العقود

٧٢

[٧٥] ، وإلى قوله : (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ) في سورة النساء [٦٩].

وإعادة العبارات المحكية عن الملك بعينها إشارة إلى أنه بلّغ السؤال كما تلقاه ، وذلك تمام أمانة الناقل.

و (النَّاسِ) تقدم في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) في سورة البقرة [٨].

والمراد ب (النَّاسِ) بعضهم ، كقوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [سورة آل عمران : ١٧٣]. والناس هنا هم الملك وأهل مجلسه ، لأن تأويل تلك الرؤيا يهمهم جميعا ليعلم الملك تأويل رؤياه ويعلم أهل مجلسه أن ما عجزوا عن تأويله قد علمه من هو أعلم منهم. وهذا وجه قوله : (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) مع حذف معمول (يَعْلَمُونَ) لأن كل أحد يعلم ما يفيده علمه.

[٩٧ ـ ٤٩] (قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩))

عبر الرؤيا بجميع ما دلّت عليه ، فالبقرات لسنين الزراعة ، لأن البقرة تتخذ للإثمار. والسمن رمز للخصب. والعجف رمز للقحط. والسنبلات رمز للأقوات ؛ فالسنبلات الخضر رمز لطعام ينتفع به ، وكونها سبعا رمز للانتفاع به في السبع السنين ، فكل سنبلة رمز لطعام سنة ، فذلك يقتاتونه في تلك السنين جديدا.

والسنبلات اليابسات رمز لما يدخر ، وكونها سبعا رمز لادخارها في سبع سنين لأن البقرات العجاف أكلت البقرات السمان ، وتأويل ذلك : أن سني الجدب أتت على ما أثمرته سنو الخصب.

وقوله : (تَزْرَعُونَ) خبر عما يكون من عملهم ، وذلك أن الزرع عادتهم ، فذكره إياه تمهيد للكلام الآتي ولذلك قيده ب (دَأَباً).

والدأب : العادة والاستمرار عليها. وتقدم في قوله : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) في سورة آل عمران [١١]. وهو منصوب على الحال من ضمير يزرعون ، أي كدأبكم. وقد مزج تعبيره بإرشاد جليل لأحوال التموين والادخار لمصلحة الأمة. وهو منام حكمته كانت رؤيا

٧٣

الملك لطفا من الله بالأمة التي آوت يوسف ـ عليه‌السلام ـ ، ووحيا أوحاه الله إلى يوسف ـ عليه‌السلام ـ بواسطة رؤيا الملك ، كما أوحى إلى سليمان ـ عليه‌السلام ـ بواسطة الطير. ولعل الملك قد استعد للصلاح والإيمان.

وكان ما أشار به يوسف ـ عليه‌السلام ـ على الملك من الادخار تمهيدا لشرع ادخار الأقوات للتموين ، كما كان الوفاء في الكيل والميزان ابتداء دعوة شعيب ـ عليه‌السلام ـ ، وأشار إلى إبقاء ما فضل عن أقواتهم في سنبله ليكون أسلم له من إصابة السوس الذي يصيب الحب إذا تراكم بعضه على بعض فإذا كان في سنبله دفع عنه السوس ، وأشار عليهم بتقليل ما يأكلون في سنوات الخصب لادخار ما فضل عن ذلك لزمن الشدة ، فقال : (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ).

والشداد : وصف لسني الجدب ، لأن الجدب حاصل فيها ، فوصفها بالشدة على طريقة المجاز العقلي.

وأطلق الأكل في قوله : (يَأْكُلْنَ) على الإفناء ، كالذي في قوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [سورة النساء : ٢]. وإسناده بهذا الإطلاق إلى السنين إسناد مجاز عقلي ، لأنهن زمن وقوع الفناء.

والإحصان : الإحراز والادخار ، أي الوضع في الحصن وهو المطمور. والمعنى : أن تلك السنين المجدبة يفنى فيها ما ادخر لها إلا قليلا منه يبقى في الإهراء. وهذا تحريض على استكثار الادخار.

وأما قوله : (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) فهو بشارة وإدخال المسرة والأمل بعد الكلام المؤيس ، وهو من لازم انتهاء مدة الشدة ، ومن سنن الله تعالى في حصول اليسر بعد العسر.

و (يُغاثُ) معناه يعطون الغيث ، وهو المطر. والعصر : عصر الأعناب خمورا. وتقدم آنفا في قوله : (أَعْصِرُ خَمْراً) [سورة يوسف : ٣٦].

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠))

قال الملك : ائتوني به لما أبلغه الساقي صورة التعبير. والخطاب للملإ ليرسلوا من

٧٤

يعينونه لجلبه. ولذلك فرع عليه (فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ). فالتقدير : فأرسلوا رسولا منهم. وضميرا الغائب في قوله : (بِهِ) وقوله : (جاءَهُ) عائدان إلى يوسف ـ عليه‌السلام ـ. وضمير (قالَ) المستتر كذلك.

وقد أبى يوسف ـ عليه‌السلام ـ الخروج من السجن قبل أن تثبت براءته مما رمي به في بيت العزيز ، لأن ذلك قد بلغ الملك لا محالة لئلا يكون تبريزه في التعبير الموجب لإطلاقه من السجن كالشفيع فيه فيبقى حديث قرفه بما قرف به فاشيا في الناس فيتسلق به الحاسدون إلى انتقاص شأنه عند الملك يوما ما ، فإن تبرئة العرض من التهم الباطلة مقصد شرعي ، وليكون حضوره لدى الملك مرموقا بعين لا تنظر إليه بشائبة نقص.

وجعل طريق تقرير براءته مفتتحة بالسؤال عن الخبر لإعادة ذكره من أوله ، فمعنى (فَسْئَلْهُ) بلغ إليه سؤالا من قبلي. وهذه حكمة عظيمة تحق بأن يؤتسى بها. وهي تطلب المسجون باطلا أن يبقى في السجن حتى تتبين براءته من السبب الذي سجن لأجله ، وهي راجعة إلى التحلي بالصبر حتى يظهر النصر.

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لبثت ما لبث يوسف في السجن لأجبت الداعي» ، أي داعي الملك وهو الرسول الذي في قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ) ، أي لما راجعت الملك. فهذه إحدى الآيات والعبر التي أشار إليها قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) [سورة يوسف : ٧].

والسؤال : مستعمل في التنبيه دون طلب الفهم ، لأن السائل عالم بالأمر المسئول عنه وإنما يريد السائل حث المسئول عن علم الخبر. وقريب منه قوله تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) [سورة النبإ : ١].

وجعل السؤال عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن دون امرأة العزيز تسهيلا للكشف عن أمرها ، لأن ذكرها مع مكانة زوجها من الملك ربما يصرف الملك عن الكشف رعيا للعزيز ، ولأن حديث المتّكأ شاع بين الناس ، وأصبحت قضية يوسف ـ عليه‌السلام ـ مشهورة بذلك اليوم ، كما تقدم عند قوله تعالى : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) [سورة يوسف : ٣٥] ، ولأن النسوة كن شواهد على إقرار امرأة العزيز بأنها راودت يوسف ـ عليه‌السلام ـ عن نفسه. فلا جرم كان طلب الكشف عن أولئك النسوة منتهى الحكمة في البحث وغاية الإيجاز في الخطاب.

٧٥

وجملة (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) من كلام يوسف ـ عليه‌السلام ـ. وهي تذييل وتعريض بأن الكشف المطلوب سينجلي عن براءته وظهور كيد الكائدات له ثقة بالله ربه أنه ناصره.

وإضافة كيد إلى ضمير النسوة لأدنى ملابسة لأن الكيد واقع من بعضهن ، وهي امرأة العزيز في غرضها من جمع النسوة فأضيف إلى ضمير جماعتهن قصدا للإبهام المعين على التبيان.

(قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١))

جملة (قالَ ما خَطْبُكُنَ) مستأنفة استئنافا بيانيا لأن الجمل التي سبقتها تثير سؤالا في نفس السامع عما حصل من الملك لمّا أبلغ إليه اقتراح يوسف ـ عليه‌السلام ـ مع شدة تشوقه إلى حضوره بين يديه ، أي قال الملك للنسوة.

ووقوع هذا بعد جملة (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) [سورة يوسف : ٥٠] إلى آخرها مؤذن بكلام محذوف ، تقديره : فرجع فأخبر الملك فأحضر الملك النسوة اللائي كانت جمعتهن امرأة العزيز لمّا أعتدت لهنّ متّكأ فقال لهن : (ما خَطْبُكُنَ) إلى آخره.

وأسندت المراودة إلى ضمير النسوة لوقوعها من بعضهن غير معين ، أو لأن القالة التي شاعت في المدينة كانت مخلوطة ظنا أن المراودة وقعت في مجلس المتّكأ.

والخطب : الشأن المهم من حالة أو حادثة. قيل : سمي خطبا لأنه يقتضي أن يخاطب المرء صاحبه بالتساؤل عنه. وقيل : هو مأخوذ من الخطبة ، أي يخطب فيه ، وإنما تكون الخطبة في أمر عظيم ، فأصله مصدر بمعنى المفعول ، أي مخطوب فيه.

وجملة (قُلْنَ) مفصولة لأجل كونها حكاية جواب عن كلام الملك أي قالت النسوة عدا امرأة العزيز ، بقرينة قوله بعد : (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ).

و (حاشَ لِلَّهِ) مبالغة في النفي والتنزيه. والمقصود : التبرؤ مما نسب إليهن من المراودة. وقد تقدم تفسيرها آنفا واختلاف القراء فيها.

وجملة (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) مبينة لإجمال النفي الذي في (حاشَ لِلَّهِ). وهي جامعة لنفي مراودتهن إياه ومراودته إياهن لأن الحالتين من أحوال السوء.

٧٦

ونفي علمهن ذلك كناية عن نفي دعوتهن إياه إلى السوء ونفي دعوته إياهن إليه لأن ذلك لو وقع لكان معلوما عندهن ، ثم إنهن لم يزدن في الشهادة على ما يتعلق بسؤال الملك فلم يتعرضن لإقرار امرأة العزيز في مجلسهن بأنها راودته عن نفسه فاستعصم ، خشية منها ، أو مودّة لها ، فاقتصرن على جواب ما سئلن عنه.

وهذا يدل على كلام محذوف وهو أن امرأة العزيز كانت من جملة النسوة اللاتي أحضرهن الملك. ولم يشملها قول يوسف ـ عليه‌السلام ـ : (ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) [سورة يوسف : ٥] لأنها لم تقطّع يدها معهن ، ولكن شملها كلام الملك إذ قال : (إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) فإن المراودة إنما وقعت من امرأة العزيز دون النسوة اللاتي أعدّت لهن متكئا ، ففي الكلام إيجاز حذف.

وجملة (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) مفصولة لأنها حكاية جواب عن سؤال الملك.

والآن : ظرف للزمان الحاضر ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) في سورة الأنفال [٦٦].

و (حَصْحَصَ) : ثبت واستقر.

و (الْحَقُ) : هو براءة يوسف ـ عليه‌السلام ـ مما رمته به امرأة العزيز ، وإنما ثبت حينئذ لأنه كان محل قيل وقال وشك ، فزال ذلك باعترافها بما وقع.

والتعبير بالماضي مع أنه لم يثبت إلا من إقرارها الذي لم يسبق لأنه قريب الوقوع فهو لتقريب زمن الحال من المضي.

ويجوز أن يكون المراد ثبوت الحق بقول النسوة (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) فيكون الماضي على حقيقته. وتقديم اسم الزمان للدلالة على الاختصاص ، أي الآن لا قبله للدلالة على أن ما قبل ذلك الزمان كان زمن باطل وهو زمن تهمة يوسف ـ عليه‌السلام ـ بالمراودة ، فالقصر قصر تعيين إذ كان الملك لا يدري أي الوقتين وقت الصدق أهو وقت اعتراف النسوة بنزاهة يوسف ـ عليه‌السلام ـ أم هو وقت رمي امرأة العزيز إياه بالمراودة.

وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في جملة (أَنَا راوَدْتُهُ) للقصر ، لإبطال أن يكون النسوة راودنه. فهذا إقرار منها على نفسها ، وشهادة لغيرها بالبراءة ، وزادت فأكدت صدقه ب (إن) واللام.

٧٧

وصيغة (لَمِنَ الصَّادِقِينَ) كما تقدم في نظائرها ، منها قوله تعالى : (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) في سورة الأنعام [٥٦].

(ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢))

ظاهر نظم الكلام أن الجملة من قول امرأة العزيز ، وعلى ذلك حمله الأقل من المفسرين ، وعزاه ابن عطية إلى فرقة من أهل التأويل ، ونسب إلى الجبائي ، واختاره الماوردي ، وهو في موقع العلة لما تضمنته جملة (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) [سورة يوسف : ٥١] وما عطف عليها من إقرار ببراءة يوسف ـ عليه‌السلام ـ بما كانت رمته به. فالإشارة بذلك إلى الإقرار المستفاد من جملة (أَنَا راوَدْتُهُ) أي ذلك الإقرار ليعلم يوسف ـ عليه‌السلام ـ أني لم أخنه.

واللام في (لِيَعْلَمَ) لام كي ، والفعل بعدها منصوب ب (أن) مضمرة ، فهو في تأويل المصدر ، وهو خبر عن اسم الإشارة.

والباء في (بِالْغَيْبِ) للملابسة أو الظرفية ، أي في غيبته ، أي لم أرمه بما يقدح فيه في مغيبه. ومحل المجرور في محل الحال من الضمير المنصوب.

والخيانة : هي تهمته بمحاولة السوء معها كذبا ، لأن الكذب ضد أمانة القول بالحق.

والتعريف في الغيب تعريف الجنس. تمدحت بعدم الخيانة على أبلغ وجه إذ نفت الخيانة في المغيب وهو حائل بينه وبين دفاعه عن نفسه ، وحالة المغيب أمكن لمريد الخيانة أن يخون فيها من حالة الحضرة ، لأن الحاضر قد يتفطن لقصد الخائن فيدفع خيانته بالحجة.

و (أَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) عطف على (لِيَعْلَمَ) وهو علة ثانية لإصداعها بالحق ، أي ولأن الله لا يهدي كيد الخائنين. والخبر مستعمل في لازم الفائدة وهو كون المتكلم عالما بمضمون الكلام ، لأن علة إقرارها هو علمها بأن الله لا يهدي كيد الخائنين.

ومعنى (لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) لا ينفذه ولا يسدده. فأطلقت الهداية التي هي الإرشاد إلى الطريق الموصلة على تيسير الوصول ، وأطلق نفيها على نفي ذلك التيسير ، أي أن سنة الله في الكون جرت على أن فنون الباطل وإن راجت أوائلها لا تلبث أن تنقشع

٧٨

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) [سورة الأنبياء : ١٨].

والكيد : تقدم.

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣))

ظاهر ترتيب الكلام أن هذا من كلام امرأة العزيز ، مضت في بقية إقرارها فقالت : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي). وذلك كالاحتراس مما يقتضيه قولها : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) [سورة يوسف : ٥٢] من أن تبرئة نفسها من هذا الذنب العظيم ادعاء بأن نفسها بريئة براءة عامة فقالت : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) ، أي ما أبرئ نفسي من محاولة هذا الإثم لأن النفس أمّارة بالسوء وقد أمرتني بالسوء ولكنه لم يقع.

فالواو التي في الجملة استئنافية ، والجملة ابتدائية.

وجملة (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) تعليل لجملة (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) ، أي لا أدعي براءة نفسي من ارتكاب الذنب ، لأن النفوس كثيرة الأمر بالسوء.

والاستثناء في (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) استثناء من عموم الأزمان ، أي أزمان وقوع السوء ، بناء على أن أمر النفس به يبعث على ارتكابه في كلّ الأوقات إلّا وقت رحمة الله عبده ، أي رحمته بأن يقيّض له ما يصرفه عن فعل السوء ، أو يقيض حائلا بينه وبين فعل السوء ، كما جعل إباية يوسف ـ عليه‌السلام ـ من إجابتها إلى ما دعته إليه حائلا بينها وبين التورط في هذا الإثم ، وذلك لطف من الله بهما.

ولذلك ذيلته بجملة (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) ثناء على الله بأنه شديد المغفرة لمن أذنب ، وشديد الرحمة لعبده إذا أراد صرفه عن الذنب.

وهذا يقتضي أن قومها يؤمنون بالله ويحرمون الحرام ، وذلك لا ينافي أنهم كانوا مشركين فإن المشركين من العرب كانوا يؤمنون بالله أيضا ، قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [سورة العنكبوت : ٦١] وكانوا يعرفون البر والذنب.

وفي اعتراف امرأة العزيز بحضرة الملك عبرة بفضيلة الاعتراف بالحق ، وتبرئة البريء مما ألصق به ، ومن خشية عقاب الله الخائنين.

وقيل : هذا الكلام كلام يوسف ـ عليه‌السلام ـ متصل بقوله : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ

٧٩

فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) الآية [سورة يوسف : ٥٠].

وقوله : (قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ) ـ إلى قوله ـ (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) [سورة يوسف : ٥١ ـ ٥٢] اعتراض في خلال كلام يوسف ـ عليه‌السلام ـ. وبذلك فسّرها مجاهد وقتادة وأبو صالح وابن جريج والحسن والضحّاك والسدّي وابن جبير ، واقتصر عليه الطبري. قال في «الكشاف» : (وكفى بالمعنى دليلا قائدا إلى أن يجعل من كلام يوسف ـ عليه‌السلام ـ ، ونحوه قوله : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) ـ ثم قال ـ (فَما ذا تَأْمُرُونَ) [سورة الأعراف : ١٠٩ ـ ١١٠] وهو من كلام فرعون يخاطبهم ويستشيرهم) اه. يريد أن معنى هذه الجملة أليق بأن يكون من كلام يوسف ـ عليه‌السلام ـ لأن من شأنه أن يصدر عن قلب مليء بالمعرفة.

وعلى هذا الوجه يكون ضمير الغيبة في قوله : (لَمْ أَخُنْهُ) [سورة يوسف : ٥٢] عائدا إلى معلوم من مقام القضية وهو العزيز ، أي لم أخن سيدي في حرمته حال مغيبه.

ويكون معنى (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) إلخ .. مثل ما تقدم قصد به التواضع ، أي لست أقول هذا ادعاء بأن نفسي بريئة من ارتكاب الذنوب إلا مدة رحمة الله النفس بتوفيقها لأكف عن السوء ، أي أني لم أفعل ما اتهمت به وأنا لست بمعصوم.

[٥٤ ، ٥٥] (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥))

السين والتاء في (أَسْتَخْلِصْهُ) للمبالغة ، مثلها في استجاب واستأجر. والمعنى أجعله خالصا لنفسي ، أي خاصّا بي لا يشاركني فيه أحد. وهذا كناية عن شدة اتصاله به والعمل معه. وقد دلّ الملك على استحقاق يوسف ـ عليه‌السلام ـ تقريبه منه ما ظهر من حكمته وعلمه ، وصبره على تحمّل المشاق ، وحسن خلقه ، ونزاهته ، فكل ذلك أوجب اصطفاءه.

وجملة (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) مفرّعة على جملة محذوفة دل عليها (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ). والتقدير : فأتوه به ، أي بيوسف ـ عليه‌السلام ـ فحضر لديه وكلّمه (فَلَمَّا كَلَّمَهُ).

والضمير المنصوب في (كَلَّمَهُ) عائد إلى الملك ، فالمكلّم هو يوسف ـ عليه‌السلام ـ. والمقصود من جملة (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) إفادة أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ كلم

٨٠