تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٤

و (مَعْدُودَةٍ) كناية عن كونها قليلة لأن الشيء القليل يسهل عدّه فإذا كثر صار تقديره بالوزن أو الكيل. ويقال في الكناية عن الكثرة : لا يعدّ.

وضمائر الجمع كلها للسيّارة على أصح التفاسير.

والزهادة : قلة الرغبة في حصول الشيء الذي من شأنه أن يرغب فيه ، أو قلة الرغبة في عوضه كما هنا ، أي كان السيارة غير راغبين في إغلاء ثمن يوسف ـ عليه‌السلام ـ. ولعل سبب ذلك قلة معرفتهم بالأسعار.

وصوغ الإخبار عن زهادتهم فيه بصيغة (مِنَ الزَّاهِدِينَ) أشد مبالغة مما لو أخبر بكانوا فيه زاهدين ، لأن جعلهم من فريق زاهدين ينبئ بأنهم جروا في زهدهم في أمثاله على سنن أمثالهم البسطاء الذين لا يقدرون قدر نفائس الأمور.

و (فِيهِ) متعلق ب (الزَّاهِدِينَ) و (أل) حرف لتعريف الجنس ، وليست اسم موصول خلافا لأكثر النحاة الذين يجعلون (أل) الداخلة على الأسماء المشتقة اسم موصول ما لم يتحقق عهد وتمسكوا بعلل واهية وخالفهم الأخفش والمازني.

وتقديم المجرور على عامله للتنويه بشأن المزهود فيه ، وللتنبيه على ضعف توسمهم وبصارتهم مع الرعاية على الفاصلة.

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١))

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً).

(الَّذِي اشْتَراهُ) مراد منه الذي دفع الثمن فملكه وإن كان لم يتول الاشتراء بنفسه ، فإن فعل الاشتراء لا يدل إلّا على دفع العوض ، بحيث إن إسناد الاشتراء لمن يتولى إعطاء الثمن وتسلم المبيع إذا لم يكن هو مالك الثمن ومالك المبيع يكون إسنادا مجازيا ، ولذلك يكتب الموثّقون في مثل هذا أن شراءه لفلان.

والذي اشترى يوسف ـ عليه‌السلام ـ رجل اسمه (فوطيفار) رئيس شرط ملك مصر ، وهو والي مدينة مصر ، ولقّب في هذه السورة بالعزيز ، وسيأتي.

ومدينة مصر هي (منفيس) ويقال : (منف) وهي قاعدة مصر السفلى التي يحكمها

٤١

قبائل من الكنعانيين عرفوا عند القبط باسم (الهيكسوس) أي الرعاة. وكانت مصر العليا المعروفة اليوم بالصعيد تحت حكم فراعنة القبط. وكانت مدينتها (ثيبة ـ أو ـ طيبة) ، وهي اليوم خراب وموضعها يسمّى الأقصر ، جمع قصر ، لأن بها أطلال القصور القديمة ، أي الهياكل. وكانت حكومة مصر العليا أيامئذ مستضعفة لغلبة الكنعانيين على معظم القطر وأجوده.

وامرأته تسمّى في كتب العرب (زليخا) ـ بفتح الزاي وكسر اللام وقصر آخره ـ وسماها اليهود (راعيل). و (مِنْ مِصْرَ) صفة ل (الَّذِي اشْتَراهُ).

و (لِامْرَأَتِهِ) متعلق ب (قالَ) أو ب (اشْتَراهُ) أو يتنازعه كلا الفعلين ، فيكون اشتراه ليهبه لها لتتخذه ولدا. وهذا يقتضي أنهما لم يكن لهما ولد.

وامرأته : معناه زوجه ، فإن الزوجة يطلق عليها اسم المرأة ويراد منه معنى الزوجة. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ) [سورة هود : ٧١].

والمثوى : حقيقته المحل الذي يثوي إليه المرء ، أي يرجع إليه. وتقدم عند قوله تعالى : (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ) في سورة الأنعام [١٢٨]. وهو هنا كناية عن حال الإقامة عندهما لأن المرء يثوى إلى منزل إقامته.

فالمعنى : اجعلي إقامته عندك كريمة ، أي كاملة في نوعها. أراد أن يجعل الإحسان إليه سببا في اجتلاب محبته إياهما ونصحه لهما فينفعهما ، أو يتخذانه ولدا فيبرّ بهما وذلك أشد تقريبا. ولعله كان آيسا من ولادة زوجه. وإنما قال ذلك لحسن تفرّسه في ملامح يوسف ـ عليه‌السلام ـ المؤذنة بالكمال ، وكيف لا يكون رجلا ذا فراسة وقد جعله الملك رئيس شرطته ، فقد كان الملوك أهل حذر فلا يولون أمورهم غير الأكفاء.

(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) إن أجرينا اسم الإشارة على قياس كثير من أمثاله في القرآن كقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣] كانت الإشارة إلى التمكين المستفاد من (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) تنويها بأن ذلك التمكين بلغ غاية ما يطلب من نوعه بحيث لو أريد تشبيهه بتمكين أتم منه لما كان إلا أن يشبّه بنفسه على نحو قول النابغة :

والسفاهة كاسمها

٤٢

فيكون الكاف في محل نصب على المفعول المطلق. والتقدير : مكنا ليوسف تمكينا كذلك التمكين.

وإن أجرينا على ما يحتمله اللفظ كانت لحاصل المذكور آنفا ، وهو ما يفيده عثور السيارة عليه من أنه إنجاء له عجيب الحصول بمصادفة عدم الإسراع بانتشاله من الجب ، أي مكنا ليوسف ـ عليه‌السلام ـ تمكينا من صنعنا ، مثل ذلك الإنجاء الذي نجيناه ، فتكون الكاف في موضع الحال من مصدر مأخوذ من (مَكَّنَّا). ونظيره (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) في سورة الأنعام [١٠٨].

والتمكين في الأرض هنا مراد به ابتداؤه وتقدير أول أجزائه ، فيوسف ـ عليه‌السلام ـ بحلوله محل العناية من عزيز مصر قد خطّ له مستقبل تمكينه من الأرض بالوجه الأتمّ الذي أشير له بقوله تعالى بعد : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) [سورة يوسف : ٥٦] ، فما ذكر هنالك هو كردّ العجز على الصدر مما هنا ، وهو تمامه.

وعطف على (وَكَذلِكَ) علة لمعنى مستفاد من الكلام ، وهو الإيتاء ، تلك العلة هي (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) لأن الله لما قدّر في سابق علمه أن يجعل يوسف ـ عليه‌السلام ـ عالما بتأويل الرؤيا وأن يجعله نبيئا أنجاه من الهلاك ، ومكن له في الأرض تهيئة لأسباب مراد الله.

وتقدم معنى تأويل الأحاديث آنفا عند ذكر قول أبيه له : (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) [سورة يوسف : ٦] أي تعبير الرؤيا.

وجملة (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) معترضة في آخر الكلام ، وتذييل ، لأن مفهومها عامّ يشمل غلب الله إخوة يوسف ـ عليه‌السلام ـ بإبطال كيدهم ، وضمير (أَمْرِهِ) عائد لاسم الجلالة.

وحرف (عَلى) بعد مادة الغلب ونحوها يدخل على الشيء الذي يتوقع فيه النزاع ، كقولهم : غلبناهم على الماء.

وأمر الله هو ما قدّره وأراده ، فمن سعى إلى عمل يخالف ما أراده الله فحاله كحال المنازع على أن يحقق الأمر الذي أراده ويمنع حصول مراد الله تعالى ولا يكون إلا ما أراده الله تعالى فشأن الله تعالى كحال الغالب لمنازعه. والمعنى والله متمم ما قدره ، ولذلك عقّبه بالاستدراك بقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) استدراكا على ما يقتضيه

٤٣

هذا الحكم من كونه حقيقة ثابتة شأنها أن لا تجعل لأن عليها شواهد من أحوال الحدثان ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك مع ظهوره.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢))

هذا إخبار عن اصطفاء ـ يوسف ـ عليه‌السلام ـ للنبوءة. ذكر هنا في ذكر مبدأ حلوله بمصر لمناسبة ذكر منّة الله عليه بتمكينه في الأرض وتعليمه تأويل الأحاديث.

والأشدّ : القوة. وفسر ببلوغه ما بين خمس وثلاثين سنة إلى أربعين.

والحكم والحكمة مترادفان ، وهو : علم حقائق الأشياء والعمل بالصالح واجتناب ضده. وأريد به هنا النبوءة كما في قوله تعالى في ذكر داود وسليمان ـ عليهما‌السلام ـ (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) [سورة الأنبياء : ٧٩]. والمراد بالعلم علم زائد على النبوءة.

وتنكير (عِلْماً) للنوعية ، أو للتعظيم. والمراد : علم تعبير الرؤيا ، كما سيأتي في قوله تعالى عنه : (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) [سورة يوسف : ٣٧].

وقال فخر الدين : الحكم : الحكمة العملية لأنها حكم على هدى النفس. والعلم : الحكمة النظرية.

والقول في (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) كالقول في نظيره ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣].

وفي ذكر (الْمُحْسِنِينَ) إيماء إلى أنّ إحسانه هو سبب جزائه بتلك النعمة.

وفي هذا الذي دبّره الله تعالى تصريح بآية من الآيات التي كانت في يوسف ـ عليه‌السلام ـ وإخوته.

[٢٣ ـ ٢٩] (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) َلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ

٤٤

مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩))

عطف قصة على قصة ، فلا يلزم أن تكون هذه القصة حاصلة في الوجود بعد التي قبلها. وقد كان هذا الحادث قبل إيتائه النبوءة لأن إيتاء النبوءة غلب أن يكون في سن الأربعين. والأظهر أنه أوتي النبوءة والرسالة بعد دخول أهله إلى مصر وبعد وفاة أبيه. وقد تعرضت الآيات لتقرير ثبات يوسف ـ عليه‌السلام ـ على العفاف والوفاء وكرم الخلق.

فالمراودة المقتضية تكرير المحاولة بصيغة المفاعلة ، والمفاعلة مستعملة في التكرير. وقيل : المفاعلة تقديرية بأن اعتبر العمل من جانب والممانعة من الجانب الآخر من العمل بمنزلة مقابلة العمل بمثله. والمراودة : مشتقة من راد يرود ، إذا جاء وذهب. شبه حال المحاول أحدا على فعل شيء مكررا ذلك. بحال من يذهب ويجيء في المعاودة إلى الشيء المذهوب عنه ، فأطلق راود بمعنى حاول.

و (عَنْ) للمجاوزة ، أي راودته مباعدة له عن نفسه ، أي بأن يجعل نفسه لها. والظاهر أن هذا التركيب من مبتكرات القرآن ، فالنفس هنا كناية عن غرض المواقعة ، قاله ابن عطية ، أي فالنفس أريد بها عفافه وتمكينها منه لما تريد ، فكأنها تراوده عن أن يسلم إليها إرادته وحكمه في نفسه.

وأما تعديته ب (على) فذلك إلى الشيء المطلوب حصوله. ووقع في قول أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يراود عمه أبا طالب على الإسلام : وفي حديث الإسلاء «فقال له موسى : قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه».

والتعبير عن امرأة العزيز بطريق الموصولية في قوله : (الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها) لقصد ما تؤذن به الصلة من تقرير عصمة يوسف ـ عليه‌السلام ـ لأن كونه في بيتها من شأنه أن يطوّعه لمرادها.

و (بَيْتِها) بيت سكناها الذي تبيت فيه. فمعنى (هُوَ فِي بَيْتِها) أنه كان حينئذ في البيت الذي هي به ، ويجوز أن يكون المراد بالبيت : المنزل كله ، وهو قصر العزيز. ومنه قولهم : ربة البيت ، أي زوجة صاحب الدار ويكون معنى (هُوَ فِي بَيْتِها) أنه من جملة أتباع ذلك المنزل.

٤٥

وغلق الأبواب : جعل كل باب سادّا للفرجة التي هو بها.

وتضعيف (غَلَّقَتِ) لإفادة شدة الفعل وقوته ، أي أغلقت إغلاقا محكما.

والأبواب : جمع باب. وتقدم في قوله تعالى : (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) [سورة المائدة : ٢٣].

و (هَيْتَ) اسم فعل أمر بمعنى بادر. قيل أصلها من اللغة الحورانية ، وهي نبطية. وقيل : هي من اللغة العبرانية.

واللام في (لَكَ) لزيادة بيان المقصود بالخطاب ، كما في قولهم : سقيا لك وشكرا لك. وأصله : هيتك. ويظهر أنها طلبت منه أمرا كان غير بدع في قصورهم بأن تستمتع المرأة

بعبدها كما يستمتع الرجل بأمته ، ولذلك لم تتقدم إليه من قبل بترغيب بل ابتدأته بالتمكين من نفسها. وسيأتي لهذا ما يزيده بيانا عند قوله تعالى : (قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً).

وفي (هَيْتَ) لغات. قرأ نافع ، وابن ذكوان عن ابن عامر ، وأبو جعفر ـ بكسر الهاء وفتح المثناة الفوقية ـ. وقرأه ابن كثير ـ بفتح الهاء وسكون التحتية وضم الفوقية ـ. وقرأه الباقون ـ بفتح الهاء وسكون التحتية وضم التاء الفوقية ، والفتحة والضمة حركتا بناء.

و (مَعاذَ) مصدر أضيف إلى اسم الجلالة إضافة المصدر إلى معموله. وأصله : أعوذ عوذا بالله ، أي أعتصم به مما تحاولين. وسيأتي بيانه عند قوله : (قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ) [سورة يوسف : ٧٩] في هذه السورة.

و (إنّ) مفيدة تعليل ما أفاده (مَعاذَ اللهِ) من الامتناع والاعتصام منه بالله المقتضي أن الله أمر بذلك الاعتصام.

وضمير (إِنَّهُ) يجوز أن يعود إلى اسم الجلالة ، ويكون (رَبِّي) بمعنى خالقي. ويجوز أن يعود إلى معلوم من المقام وهو زوجها الذي لا يرضى بأن يمسها غيره ، فهو معلوم بدلالة العرف ، ويكون (رَبِّي) بمعنى سيدي ومالكي.

وهذا من الكلام الموجّه توجيها بليغا حكي به كلام يوسف ـ عليه‌السلام ـ إمّا لأن يوسف ـ عليه‌السلام ـ أتى بمثل هذا التركيب في لغة القبط ، وإما لأنه أتى بتركيبين عذرين لامتناعه فحكاهما القرآن بطريقة الإيجاز والتوجيه.

٤٦

وأيا ما كان فالكلام تعليل لامتناعه وتعريض بها في خيانة عهدها.

وفي هذا الكلام عبرة عظيمة من العفاف والتقوى وعصمة الأنبياء قبل النبوءة من الكبائر.

وذكر وصف الرب على الاحتمالين لما يؤذن به من وجوب طاعته وشكره على نعمة الإيجاد بالنسبة إلى الله ، ونعمة التربية بالنسبة لمولاه العزيز.

وأكد ذلك بوصفه بجملة (أَحْسَنَ مَثْوايَ) ، أي جعل آخرتي حسنى ، إذ أنقذني من الهلاك ، أو أكرم كفالتي. وتقدم آنفا تفسير المثوى.

وجملة (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) تعليل ثان للامتناع. والضمير المجعول اسما ل (إن) ضمير الشأن يفيد أهمية الجملة المجعولة خبرا عنه لأنها موعظة جامعة. وأشار إلى أن إجابتها لما راودته ظلم ، لأن فيها ظلم كليهما نفسه بارتكاب معصية مما اتفقت الأديان على أنها كبيرة ، وظلم سيده الذي آمنه على بينه وآمنها على نفسها إذ اتخذها زوجا وأحصنها.

والهم : العزم على الفعل. وتقدم عند قوله تعالى : (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) في سورة براءة [٧٤]. وأكد همّها ب (لَقَدْ) ولام القسم ليفيد أنها عزمت عزما محققا.

وجملة (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) مستأنفة استئنافا ابتدائيا. والمقصود : أنها كانت جادة فيما راودته لا مختبرة. والمقصود من ذكر همّها به التمهيد إلى ذكر انتفاء همه بها لبيان الفرق بين حاليهما في الدين فإنه معصوم.

وجملة (وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) معطوفة على جملة (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) كلها. وليست معطوفة على جملة (هَمَّتْ) التي هي جواب القسم المدلول عليه باللام ، لأنه لما أردفت جملة (وَهَمَّ بِها) بجملة شرط (لَوْ لا) المتمحض لكونه من أحوال يوسف ـ عليه‌السلام ـ وحده لا من أحوال امرأة العزيز تعين أنه لا علاقة بين الجملتين ، فتعين أن الثانية مستقلة لاختصاص شرطها بحال المسند إليه فيها. فالتقدير : ولو لا أن رأي برهان ربه لهمّ بها ، فقدم الجواب على شرطه للاهتمام به. ولم يقرن الجواب باللّام التي يكثر اقتران جواب (لَوْ لا) بها لأنه ليس لازما ولأنه لمّا قدم على (لَوْ لا) كره قرنه باللام قبل ذكر حرف الشرط ، فيحسن الوقف على قوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) ليظهر معنى الابتداء بجملة (وَهَمَّ بِها) واضحا. وبذلك يظهر أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ لم يخالطه همّ بامرأة

٤٧

العزيز لأن الله عصمه من الهمّ بالمعصية بما أراه من البرهان.

قال أبو حاتم : كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة فلما أتيت على قوله : (لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) الآية قال أبو عبيدة : هذا على التقديم والتأخير ، أي تقديم الجواب وتأخير الشرط ، كأنه قال : ولقد همّت به ولو لا أن رأى برهان ربه لهمّ بها.

وطعن في هذا التأويل الطبري بأن جواب (لَوْ لا) لا يتقدم عليها. ويدفع هذا الطعن أن أبا عبيدة لما قال ذلك علمنا أنه لا يرى منع تقديم جواب (لَوْ لا) ، على أنه قد يجعل المذكور قبل (لَوْ لا) دليلا للجواب والجواب محذوفا لدلالة ما قبل (لَوْ لا) عليه. ولا مفرّ من ذلك على كل تقدير فإن (لَوْ لا) وشرطها تقييد لقوله : (وَهَمَّ بِها) على جميع التأويلات ، فما يقدّر من الجواب يقدّر على جميع التأويلات.

وقال جماعة : همّ يوسف بأن يجيبها لما دعته إليه ثم ارعوى وانكفّ على ذلك لما رأى برهان ربه. قاله ابن عباس ، وقتادة ، وابن أبي مليكة ، وثعلب. وبيان هذا أنه انصرف عمّا همّ به بحفظ الله أو بعصمته ، والهمّ بالسيئة مع الكف عن إيقاعها ليس بكبيرة فلا ينافي عصمة الأنبياء من الكبائر قبل النبوءة على قول من رأى عصمتهم منها قبل النبوءة ، وهو قول الجمهور ، وفيه خلاف ، ولذلك جوز ابن عباس ذلك على يوسف. وقال جماعة : همّ يوسف وأخذ في التهيّؤ لذلك فرأى برهانا صرفه عن ذلك فأقلع عن ذلك. وهذا قول السديّ ، ورواية عن ابن عباس. وهو يرجع إلى ما بيناه في القول الذي قبله.

وقد خبط صاحب «الكشاف» في إلصاق هذه الروايات بمن يسميهم الحشوية والمجبرة ، وهو يعني الأشاعرة ، وغض بصره عن أسماء من عزيت إليهم هذه التّأويلات (رمتني بدائها وانسلت) ولم يتعجب من إجماع الجميع على محاولة إخوة يوسف ـ عليه‌السلام ـ قتله والقتل أشد.

والرؤية : هنا علمية لأن البرهان من المعاني التي لا ترى بالبصر.

والبرهان : الحجة. وهذا البرهان من جملته صرفه عن الهمّ بها ، ولو لا ذلك لكان حال البشرية لا يسلم من الهمّ بمطاوعتها في تلك الحالة لتوفّر دواعي الهمّ من حسنها ، ورغبتها فيه ، واغتباط أمثاله بطاعتها ، والقرب منها ، ودواعي الشباب المسولة لذلك ، فكان برهان الله هو الحائل بينه وبين الهمّ بها دون شيء آخر.

واختلف المفسرون في ما هو هذا البرهان ، فمنهم من يشير إلى أنه حجة نظرية

٤٨

قبّحت له هذا الفعل ، وقيل : هو وحي إلهي ، وقيل : حفظ إلهي ، وقيل : مشاهدات تمثلت له.

والإشارة في قوله : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) إلى شيء مفهوم مما قبله بتضمنه قوله : (رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) ، وهو رأي البرهان ، أي أريناه كذلك الرأي لنصرف عنه السوء.

والصرف : نقل الشيء من مكان إلى مكان ، وهو هنا مجاز عن الحفظ من حلول الشيء بالمحل الذي من شأنه أن يحل فيه. عبر به عن العصمة من شيء يوشك أن يلابس شيئا. والتعبير عن العصمة بالصرف يشير إلى أن أسباب حصول السوء والفحشاء موجودة ولكن الله صرفهما عنه.

والسوء : القبيح ، وهو خيانة من ائتمنه. والفحشاء : المعصية ، وهي الزنى. وتقدم السوء والفحشاء عند قوله تعالى : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ) في سورة البقرة [١٦٩]. ومعنى صرفهما عنه صرف ملابسته إياهما.

وجملة (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) تعليل لحكمة صرفه عن السوء والفحشاء الصرف الخارق للعادة لئلا ينتقص اصطفاء الله إياه في هذه الشدة على النفس.

قرأ نافع ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف (الْمُخْلَصِينَ) ـ بفتح اللام ـ أي الذين أخلصهم الله واصطفاهم. وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، ويعقوب ـ بكسر اللام ـ على معنى المخلصين دينهم لله. ومعنى التعليل على القراءتين واحد.

والاستباق : افتعال من السبق. وتقدم آنفا ، وهو هنا إشارة إلى تكلفهما السبق ، أي أن كل واحد منهما يحاول أن يكون هو السابق إلى الباب.

وانتصب (الْبابَ) على نزع الخافض. وأصله : واستبقا إلى الباب ، مثل (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) [سورة الأعراف : ١٥٥] ، أي من قومه ، أو على تضمين (اسْتَبَقَا) معنى ابتدرا.

والتعريف في (الباب) تعريف الجنس إذ كانت عدة أبواب مغلقة. وذلك أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ فرّ من مراودتها إلى الباب يريد فتحه والخروج وهي تريد أن تسبقه إلى الباب لتمنعه من فتحه.

٤٩

وجملة (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ) في موضع الحال. و (قَدَّتْ) أي قطعت ، أي قطعت منه قدا ، وذلك قبل الاستباق لا محالة. لأنه لو كان تمزيق القميص في حال الاستباق لم تكن فيه قرينة على صدق يوسف ـ عليه‌السلام ـ أنها راودته ، إذ لا يدل التمزيق في حال الاستباق على أكثر من أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ سبقها مسرعا إلى الباب ، فدل على أنها أمسكته من قميصه حين أعرض عنها تريد إكراهه على ما راودته فجذب نفسه فتخرق القميص من شدة الجذبة. وكان قطع القميص من دبر لأنه كان موليا عنها معرضا فأمسكته منه لرده عن إعراضه.

وقد أبدع إيجاز الآية في جمع هذه المعاني تحت جملة (اسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ).

وصادف أن ألفيا سيدها ، أي زوجها ، وهو العزيز ، عند الباب الخارجي يريد الدخول إلى البيت من الباب الخارجي. وإطلاق السيد على الزوج قيل : إن القرآن حكى به عادة القبط حينئذ ، كانوا يدعون الزوج سيدا. والظاهر أنه لم يكن ذلك مستعملا في عادة العرب ، فالتعبير به هنا من دقائق التاريخ مثل قوله الآتي (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) [سورة يوسف : ٧٦]. ولعل الزواج في مصر في ذلك العهد كان بطريق الملك غالبا. وقد علم من الكلام أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ فتح الأبواب التي غلّقتها زليخا بابا بابا حتى بلغ الخارجي ، كل ذلك في حال استباقهما ، وهو إيجاز.

والإلفاء : وجدان شيء على حالة خاصة من غير سعي لوجدانه ، فالأكثر أن يكون مفاجئا ، أو حاصلا عن جهل بأول حصول ، كقوله تعالى : (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) [سورة البقرة : ١٧٠].

وجملة (قالَتْ ما جَزاءُ) إلخ مستأنفة بيانيا ، لأن السامع يسأل : ما ذا حدث عند مفاجأة سيدها وهما في تلك الحالة.

وابتدرته بالكلام إمعانا في البهتان بحيث لم تتلعثم ، تخيل له أنها على الحق ، وأفرغت الكلام في قالب كلي ليأخذ صيغة القانون ، وليكون قاعدة لا يعرف المقصود منها فلا يسع المخاطب إلا الإقرار لها. ولعلها كانت تخشى أن تكون محبة العزيز ليوسف ـ عليه‌السلام ـ مانعة له من عقابه ، فأفرغت كلامها في قالب كلي. وكانت تريد بذلك أن لا يشعر زوجها بأنها تهوى غير سيدها ، وأن تخيف يوسف ـ عليه‌السلام ـ من كيدها لئلا يمتنع منها مرة أخرى.

٥٠

ورددت يوسف ـ عليه‌السلام ـ بين صنفين من العقاب ، وهما : السجن ، أي الحبس. وكان الحبس عقابا قديما في ذلك العصر ، واستمر إلى زمن موسى ـ عليه‌السلام ـ ، فقد قال فرعون لموسى ـ عليه‌السلام ـ : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) [سورة الشعراء : ٢٩].

وأما العذاب فهو أنواع ، وهو عقاب أقدم في اصطلاح البشر. ومنه الضرب والإيلام بالنار وبقطع الأعضاء. وسيأتي ذكر السجن في هذه السورة مرارا.

وجملة (قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) من قول يوسف ـ عليه‌السلام ـ ، وفصلت لأنها جاءت على طريقة المحاورة مع كلامها. ومخالفة التعبير بين (أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ) دون أن يقول : إلا السجن أو عذاب ، لأن لفظ السجن يطلق على البيت الذي يوضع فيه المسجون ويطلق على مصدر سجن ، فقوله : (أَنْ يُسْجَنَ) أوضح في تسلط معنى الفعل عليه.

وتقديم المبتدأ على خبره الذي هو فعل يفيد القصر ، وهو قصر قلب للرد عليها. وكان مع العزيز رجل من أهل امرأته ، وهو الذي شهد وكان فطنا عارفا بوجوه الدلالة.

وسمي قوله شهادة لأنه يؤول إلى إظهار الحق في إثبات اعتداء يوسف ـ عليه‌السلام ـ على سيدته أو دحضه. وهذا من القضاء بالقرينة البينة لأنها لو كانت أمسكت ثوبه لأجل القبض عليه لعقابه لكان ذلك في حال استقباله له إياها فإذا أراد الانفلات منها تخرق قميصه من قبل ، وبالعكس إن كان إمساكه في حال فرار وإعراض. ولا شك أن الاستدلال بكيفية تمزيق القميص نشأ عن ذكر امرأة العزيز وقوع تمزيق القميص تحاول أن تجعله حجة على أنها أمسكته لتعاقبه ، ولو لا ذلك ما خطر ببال الشاهد أن تمزيقا وقع وإلا فمن أين علم الشاهد تمزيق القميص. والظاهر أن الشاهد كان يظن صدقها فأراد أن يقيم دليلا على صدقها فوقع عكس ذلك كرامة ليوسف ـ عليه‌السلام ـ.

وجملة (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ) مبينة لفعل (شَهِدَ).

وزيادة (وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ) بعد (فَصَدَقَتْ) ، وزيادة (وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) بعد (فَكَذَبَتْ) تأكيد لزيادة تقرير الحق كما هو شأن الأحكام.

وأدوات الشرط لا تدل على أكثر من الربط والتسبب بين مضمون شرطها ومضمون جوابها من دون تقييد باستقبال ولا مضي. فمعنى (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ)

٥١

وما بعدها : أنه إن كان ذلك حصل في الماضي فقد حصل صدقها في الماضي.

والذي رأى قميصه قدّ من دبر وقال : إنه من كيدكن ، هو العزيز لا محالة. وقد استبان لديه براءة يوسف ـ عليه‌السلام ـ من الاعتداء على المرأة فاكتفى بلوم زوجه بأن ادّعاءها عليه من كيد النساء ؛ فضمير جمع الإناث خطاب لها فدخل فيه من هن من صنفها بتنزيلهن منزلة الحواضر.

والكيد : فعل شيء في صورة غير المقصودة للتوصل إلى مقصود. وقد تقدم عند قوله تعالى : (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) في سورة الأعراف [١٨٣].

ثم أمر يوسف ـ عليه‌السلام ـ بالإعراض عما رمته به ، أي عدم مؤاخذتها بذلك ، وبالكف عن إعادة الخوض فيه. وأمر زوجه بالاستغفار من ذنبها ، أي في اتهامها يوسف ـ عليه‌السلام ـ بالجرأة والاعتداء عليها.

قال المفسرون : وكان العزيز قليل الغيرة. وقيل : كان حليما عاقلا. ولعله كان مولعا بها ، أو كانت شبهة الملك تخفف مؤاخذة المرأة بمراودة مملوكها. وهو الذي يؤذن به حال مراودتها يوسف ـ عليه‌السلام ـ حين بادرته بقولها : (هَيْتَ لَكَ) كما تقدم آنفا.

والخاطئ : فاعل الخطيئة ، وهي الجريمة. وجعلها من زمرة الذين خطئوا تخفيفا في مؤاخذتها. وصيغة جمع المذكر تغليب.

وجملة (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) من قول العزيز إذ هو صاحب الحكم.

وجملة (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) عطف على جملة (يُوسُفُ أَعْرِضْ) في كلام العزيز عطف أمر على أمر والمأمور مختلف. وكاف المؤنثة المخاطبة متعين أنه خطاب لامرأة العزيز ، فالعزيز بعد أن خاطبها بأن ما دبّرته هو من كيد النساء وجه الخطاب إلى يوسف ـ عليه‌السلام ـ بالنداء ثم أعاد الخطاب إلى المرأة.

وهذا الأسلوب من الخطاب يسمى بالإقبال ، وقد يسمى بالالتفات بالمعنى اللغوي عند الالتفات البلاغي ، وهو عزيز في الكلام البليغ. ومنه قول الجرمي من طي من شعراء الحماسة :

إخالك موعدي ببني جفيف

وهالة إنني أنهاك هالا

قال المرزوقي في «شرح الحماسة» : والعرب تجمع في الخطاب والإخبار بين عدة

٥٢

ثم تقبل أو تلتفت من بينهم إلى واحد لكونه أكبرهم أو أحسنهم سماعا وأخصّهم بالحال.

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠))

النسوة : اسم جمع امرأة لا مفرد له ، وهو اسم جمع قلة مثله نساء. وتقدم في قوله تعالى : (وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ) في سورة آل عمران [٦١].

وقوله : (فِي الْمَدِينَةِ) صفة لنسوة. والمقصود من ذكر هذه الصفة أنهن كنّ متفرقات في ديار من المدينة. وهذه المدينة هي قاعدة مصر السفلى وهي مدينة (منفيس) حيث كان قصر العزيز ، فنقل الخبر في بيوت المتصلين ببيت العزيز. وقيل : إن امرأة العزيز باحت بالسر لبعض خلائلها فأفشينه كأنّها أرادت التشاور معهن ، أو أرادت الارتياح بالحديث إليهن (ومن أحب شيئا أكثر من ذكره). وهذا الذي يقتضيه قوله : (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) [سورة يوسف : ٣١] وقوله : (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ) [سورة يوسف : ٣٢].

والفتى : الذي في سنّ الشباب ، ويكنى به عن المملوك وعن الخادم كما يكنى بالغلام والجارية وهو المراد هنا. وإضافته إلى ضمير (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ) لأنه غلام زوجها فهو غلام لها بالتبع ما دامت زوجة لمالكه.

وشغف : فعل مشتق من اسم جامد ، وهو الشغاف ـ بكسر الشين المعجمة ـ وهو غلاف القلب. وهذا الفعل مثل كبده ورآه وجبهه ، إذا أصاب كبده ورئته وجبهته.

والضمير المستتر في (شَغَفَها) ل (فَتاها). ولما فيه من الإجمال جيء بالتمييز للنسبة بقوله : (حُبًّا). وأصله شغفها حبه ، أي أصاب حبه شغافها ، أي اخترق الشغاف فبلغ القلب ، كناية عن التمكن.

وتذكير الفعل في (وَقالَ نِسْوَةٌ) لأن الفعل المسند إلى ألفاظ الجموع غير الجمع المذكر السالم يجوز تجريده من التاء باعتبار الجمع ، وقرنه بالتاء باعتبار الجماعة مثل (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) [سورة يوسف : ١٩].

وأما الهاء التي في آخر (نِسْوَةٌ) فليست علامة تأنيث بل هي هاء فعلة جمع تكسير ، مثل صبية وغلمة.

وقد تقدم وجه تسمية الذي اشترى يوسف ـ عليه‌السلام ـ باسم العزيز عند قوله

٥٣

تعالى : (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ) [سورة يوسف : ٢١]. وتقدم ذكر اسمه واسمها في العربية وفي العبرانية.

ومجيء (تُراوِدُ) بصيغة المضارع مع كون المراودة مضت لقصد استحضار الحالة العجيبة لقصد الإنكار عليها في أنفسهن ولومها على صنيعها. ونظيره في استحضار الحالة قوله تعالى : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [سورة هود : ٧٤].

وجملة (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) في موضع التعليل لجملة (تُراوِدُ فَتاها).

وجملة (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) استئناف ابتدائي لإظهار اللوم والإنكار عليها. والتأكيد ب (إنّ) واللام لتحقيق اعتقادهن ذلك ، وإبعادا لتهمتهن بأنهن يحسدنها على ذلك الفتى.

والضلال هنا : مخالفة طريق الصواب ، أي هي مفتونة العقل بحب هذا الفتى ، وليس المراد الضلال الديني. وهذا كقوله تعالى آنفا : (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سورة يوسف: ٨].

[٣١ ، ٣٢] (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢))

حقّ سمع أن يعدّى إلى المسموع بنفسه ، فتعديته بالباء هنا إما لأنه ضمن معنى أخبرت ، كقول المثل : «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» أي تخبر عنه. وإما أن تكون الباء مزيدة للتوكيد مثل قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [سورة المائدة : ٦].

وأطلق على كلامهن اسم المكر ، قيل : لأنهن أردن بذلك أن يبلغ قولهن إليها فيغريها بعرضها يوسف ـ عليه‌السلام ـ عليهن فيرين جماله لأنهن أحببن أن يرينه. وقيل : لأنهن قلنه خفية فأشبه المكر ، ويجوز أن يكون أطلق على قولهن اسم المكر لأنهن قلنه في صورة الإنكار وهن يضمرن حسدها على اقتناء مثله ، إذ يجوز أن يكون الشغف بالعبد في عادتهم غير منكر.

(وَأَعْتَدَتْ) : أصله أعددت ، أبدلت الدال الأولى تاء ، كما تقدم عند قوله تعالى:

٥٤

(وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) في سورة النساء [٣٧].

والمتّكأ : محل الاتكاء. والاتكاء : جلسة قريبة من الاضطجاع على الجنب مع انتصاب قليل في النصب الأعلى. وإنما يكون الاتكاء إذا أريد إطالة المكث والاستراحة ، أي أحضرت لهن نمارق يتّكئن عليها لتناول طعام. وكان أهل الترف يأكلون متكئين كما كانت عادة للرومان ، ولم تزل أسرّة اتكائهم موجودة في ديار الآثار. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمّا أنا فلا آكل متكئا». ومعنى (آتَتْ) أمرت خدمها بالإيتاء كقوله : (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) [سورة غافر : ٣٦].

والسكين : آلة قطع اللحم وغيره. قيل : أحضرت لهن أترجا وموزا فحضرن واتكأن ، وقد حذف هذان الفعلان إيجازا. وأعطت كل واحدة سكينا لقشر الثمار.

وقولها : (اخْرُجْ عَلَيْهِنَ) يقتضي أنه كان في بيت آخر وكان لا يدخل عليها إلا بإذنها. وعدّي فعل الخروج بحرف (على) لأنه ضمن معنى (أدخل) لأن المقصود دخوله عليهن لا مجرد خروجه من البيت الذي هو فيه.

ومعنى (أَكْبَرْنَهُ) أعظمنه ، أي أعظمن جماله وشمائله ، فالهمزة فيه للعدّ ، أي أعددنه كبيرا ، وأطلق الكبر على عظيم الصفات تشبيها لوفرة الصفات بعظم الذات.

وتقطيع أيديهن كان من الذهول ، أي أجرين السكاكين على أيديهن يحسبن أنهن يقطعن الفواكه. وأريد بالقطع الجرح ، أطلق عليه القطع مجازا للمبالغة في شدته حتى كأنه قطع قطعة من لحم اليد.

و (حاشَ لِلَّهِ) تركيب عربي جرى مجرى المثل يراد منه إبطال شيء عن شيء وبراءته منه. وأصل (حاشا) فعل يدل على المباعدة عن شيء ، ثم يعامل معاملة الحرف فيجرّ به في الاستثناء فيقتصر عليه تارة. وقد يوصل به اسم الجلالة فيصير كاليمين على النفي يقال : حاشا الله ، أي أحاشيه عن أن يكذب ، كما يقال : لا أقسم. وقد تزاد فيه لام الجر فيقال: حاشا لله وحاش لله ، بحذف الألف ، أي حاشا لأجله ، أي لخوفه أن أكذب. حكي بهذا التركيب كلام قالته النسوة يدل على هذا المعنى في لغة القبط حكاية بالمعنى.

وقرأ أبو عمرو «حاشا لله» بإثبات ألف حاشا في الوصل ، وقرأ البقية بحذفها فيه. واتفقوا على الحذف في حالة الوقف.

٥٥

وقولهن : (ما هذا بَشَراً) مبالغة في فوته محاسن البشر ، فمعناه التفضيل في محاسن البشر ، وهو ضد معنى التشابه في باب التشبيه.

ثم شبّهنه بواحد من الملائكة بطريقة حصره في جنس الملائكة تشبيها بليغا مؤكّدا. وكان القبط يعتقدون وجود موجودات علوية هي من جنس الأرواح العلوية ، ويعبرون عنها بالآلهة أو قضاة يوم الجزاء ، ويجعلون لها صورا ، ولعلهم كانوا يتوخّون أن تكون ذواتا حسنة. ومنها ما هي مدافعة عن الميت يوم الجزاء. فأطلق في الآية اسم الملك على ما كانت حقيقته مماثلة لحقيقة مسمّى الملك في اللغة العربية تقريبا لأفهام السامعين.

فهذا التشبيه من تشبيه المحسوس بالمتخيل ، كقول امرئ القيس :

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

والفاء في (فَذلِكُنَ) فاء الفصيحة ، أي إن كان هذا كما زعمتنّ ملكا فهو الذي بلغكن خبره فلمتنني فيه.

و (لُمْتُنَّنِي فِيهِ) (في) للتعليل ، مثل «دخلت امرأة النار في هرة». وهنالك مضاف محذوف ، والتقدير : في شأنه أو في محبته.

والإشارة ب (ذلكن) لتمييز يوسف ـ عليه‌السلام ـ ، إذ كنّ لم يرينه قبل. والتعبير عنه بالموصولية لعدم علم النسوة بشيء من معرّفاته غير تلك الصلة ، وقد باحت لهن بأنها راودته لأنها رأت منهن الافتتان به فعلمت أنهن قد عذرنها. والظاهر أنهن كن خلائل لها فلم تكتم عنهن أمرها.

واستعصم : مبالغة في عصم نفسه ، فالسين والتاء للمبالغة ، مثل : استمسك واستجمع الرأي واستجاب. فالمعنى : أنه امتنع امتناع معصوم ، أي جاعلا المراودة خطيئة عصم نفسه منها.

ولم تزل مصممة على مراودته تصريحا بفرط حبها إياه ، واستشماخا بعظمتها ، وأن لا يعصي أمرها ، فأكدت حصول سجنه بنوني التوكيد ، وقد قالت ذلك بمسمع منه إرهابا له.

وحذف عائد صلة (ما آمُرُهُ) وهو ضمير مجرور بالباء على نزع الخافض مثل : أمرتك الخير ...

٥٦

والسجن ـ بفتح السين ـ : قياس مصدر سجنه ، بمعنى الحبس في مكان محيط لا يخرج منه. ولم أره في كلامهم ـ بفتح السين ـ إلا في قراءة يعقوب هذه الآية. والسجن ـ بكسر السين ـ : اسم للبيت الذي يسجن فيه ، كأنهم سموه بصيغة المفعول كالذبح وأرادوا المسجون فيه. وقد تقدم قولها آنفا : (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [سورة يوسف : ٢٥].

والصاغر : الذليل. وتركيب (مِنَ الصَّاغِرِينَ) أقوى في معنى الوصف بالصّغار من أن يقال : وليكونن صاغرا ، كما تقدم عند قوله تعالى : (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) في سورة البقرة [٦٧] ، وقوله : (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) في آخر سورة براءة [١١٩].

وإعداد المتّكأ لهن ، وبوحها بسرّها لهن يدل على أنهن كن من خلائلها.

[٣٣ ، ٣٤] (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤))

استئناف بياني ، لأن ما حكي قبله مقام شدة من شأنه أن يسأل سامعه عن حال تلقي يوسف ـ عليه‌السلام ـ فيه لكلام امرأة العزيز.

وهذا الكلام مناجاة لربه الذي هو شاهدهم ، فالظاهر أنه قال هذا القول في نفسه. ويحتمل أنّه جهر به في ملئهن تأييسا لهن من أن يفعل ما تأمره به.

وقرأ الجمهور «السّجن» ـ بكسر السين ـ. وقرأه يعقوب وحده ـ بفتح السين ـ على معنى المصدر ، أي أن السجن أحب إليّ. وفضّل السجن مع ما فيه من الألم والشدة وضيق النفس على ما يدعونه إليه من الاستمتاع بالمرأة الحسنة النفيسة على ما فيه منا للذة ولكن كرهه لفعل الحرام فضل عنده مقاساة السجن. فلما علم أنه لا محيص من أحد الأمرين صار السجن محبوبا إليه باعتبار أنّه يخلصه من الوقوع في الحرام فهي محبة ناشئة عن ملاءمة الفكر ، كمحبة الشجاع الحرب.

فالإخبار بأن السجن أحبّ إليه من الاستمتاع بالمرأة مستعمل في إنشاء الرضى بالسجن في مرضاة الله تعالى والتباعد عن محارمه ، إذ لا فائدة في إخبار من يعلم ما في

٥٧

نفسه فاسم التفضيل على حقيقته ولا داعي إلى تأويله بمسلوب المفاضلة.

وعبّر عما عرضته المرأة بالموصولية لما في الصلة من الإيماء إلى كون المطلوب حالة هي مظنة الطواعية ، لأن تمالؤ الناس على طلب الشيء من شأنه أن يوطن نفس المطلوب للفعل ، فأظهر أن تمالئهن على طلبهن منه امتثال أمر المرأة لم يفلّ من صارم عزمه على الممانعة ، وجعل ذلك تمهيدا لسؤال العصمة من الوقوع في شرك كيدهن ، فانتقل من ذكر الرضى بوعيدها إلى سؤال العصمة من كيدها.

وأسند فعل (يَدْعُونَنِي) إلى نون النسوة ، فالواو الذي فيه هو حرف أصلي وليست واو الجماعة ، والنون ليست نون رفع لأنه مبني لاتصاله بنون النسوة ، ووزنه يفعلن. وأسند الفعل إلى ضمير جمع النساء مع أنّ التي دعته امرأة واحدة ، إما لأن تلك الدعوة من رغبات صنف النساء فيكون على وزان جمع الضمير في (كَيْدَهُنَ) ، وإما لأنّ النسوة اللّاتي جمعتهن امرأة العزيز لما سمعن كلامها تمالأن على لوم يوسف ـ عليه‌السلام ـ وتحريضه على إجابة الداعية ، وتحذيره من وعيدها بالسجن. وعلى وزان هذا يكون القول في جمع الضمير في (يْدَهُنَ) [سورة يوسف : ٢٨] أي كيد صنف النساء ، مثل قول العزيز (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) ، أي كيد هؤلاء النسوة.

وجملة (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) خبر مستعمل في التخوّف والتوقع التجاء إلى الله وملازمة للأدب نحو ربه بالتبرؤ من الحول والقوة والخشية من تقلب القلب ومن الفتنة بالميل إلى اللذة الحرام. فالخبر مستعمل في الدعاء ، ولذلك فرع عنه جملة (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ).

ومعنى (أَصْبُ) أمل. والصبو : الميل إلى المحبوب.

والجاهلون : سفهاء الأحلام ، فالجهل هنا مقابل الحلم. والقول في أن مبالغة (أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) أكثر من أكن جاهلا كالقول في (وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) [سورة يوسف : ٣٢].

وعطف جملة (فَاسْتَجابَ) بفاء التعقيب إشارة إلى أنّ الله عجّل إجابة دعائه الذي تضمنه قوله : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ). واستجاب : مبالغة في أجاب ، كما تقدم في قوله : (فَاسْتَعْصَمَ) [سورة يوسف : ٣٢].

وصرف كيدهن عنه صرف أثره ، وذلك بأن ثبّته على العصمة فلم ينخدع لكيدها ولا

٥٨

لكيد خلائلها في أضيق الأوقات.

وجملة (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) في موضع العلة ل (فَاسْتَجابَ) المعطوف بفاء التعقيب ، أي أجاب دعاءه بدون مهلة لأنه سريع الإجابة وعليم بالضمائر الخالصة. فالسمع مستعمل في إجابة المطلوب ، يقال : سمع الله لمن حمده. وتأكيده بضمير الفصل لتحقيق ذلك المعنى.

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥))

(ثُمَ) هنا للترتيب الرتبي ، كما هو شأنها في عطف الجمل فإن ما بدا لهم أعجب بعد ما تحققت براءته. وإنما بدا لهم أن يسجنوا يوسف ـ عليه‌السلام ـ حين شاعت القالة عن امرأة العزيز في شأنه فكان ذلك عقب انصراف النسوة لأنها خشيت إن هنّ انصرفن أن تشيع القالة في شأنها وشأن براءة يوسف ـ عليه‌السلام ـ فرامت أن تغطي ذلك بسجن يوسف ـ عليه‌السلام ـ حتى يظهر في صورة المجرمين بإرادته السوء بامرأة العزيز ، وهي ترمي بذلك إلى تطويعه لها. ولعلها أرادت أن توهم الناس بأن مراودته إيّاها وقعت يوم ذلك المجمع ، وأن توهم أنّهن شواهد على يوسف ـ عليه‌السلام ـ.

والضمير في (لَهُمْ) لجماعة العزيز من مشير وآمر.

وجملة (لَيَسْجُنُنَّهُ) جواب قسم محذوف ، وهي معلّقة فعل (بَدا) عن العمل فيما بعده لأجل لام القسم لأن ما بعد لام القسم كلام مستأنف. وفيه دليل للمعمول المحذوف إذ التحقيق أن التعليق لا يختص بأفعال الظن ، وهو مذهب يونس بن حبيب ، لأن سبب التعليق وجود أداة لها صدر الكلام. وفي هذه الآية دليله.

والتقدير : بدا لهم ما يدل عليه هذا القسم ، أي بدا لهم تأكيد أن يسجنوه.

وذكر في «المغني» في آخر الجمل التي لها محل من الإعراب : وقوع الخلاف في الفاعل ونائب الفاعل ، هل يكون جملة؟ فأجازه هشام وثعلب مطلقا ، وأجازه الفراء وجماعة إذا كان الفعل قلبيا ووجد معلّق ، وحملوا الآية عليه ، ونسب إلى سيبويه. وهو يؤول إلى معنى التعليق ، والتعليق أنسب بالمعنى.

والحين : زمن غير محدود ، فإن كان (حَتَّى حِينٍ) من كلامهم كان المعنى : أنهم أمروا بسجنه سجنا غير مؤجل المدة. وإن كان من الحكاية كان القرآن قد أبهم المدة التي

٥٩

أذنوا بسجنه إليها إذ لا يتعلق فيها الغرض من القصة.

والآيات : دلائل صدق يوسف ـ عليه‌السلام ـ وكذب امرأة العزيز.

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦))

اتفق جميع القراء على كسر سين (السِّجْنَ) هنا بمعنى البيت الذي يسجن فيه ، لأنّ الدخول لا يناسب أن يتعلق إلا بالمكان لا بالمصدر.

وهذان الفتيان هما ساقي الملك وخبّازه غضب عليهما الملك فأمر بسجنهما. قيل : اتهما بتسميم الملك في الشراب والطعام.

وجملة (قالَ أَحَدُهُما) ابتداء محاورة ، كما دل عليه فعل القول. وكان تعبير الرؤيا من فنون علمائهم فلذلك أيّد الله به يوسف ـ عليه‌السلام ـ بينهم.

وهذان الفتيان توسّما من يوسف ـ عليه‌السلام ـ كمال العقل والفهم فظنّا أنه يحسن تعبير الرؤيا ولم يكونا علما منه ذلك من قبل ، وقد صادفا الصواب ، ولذلك قالا : (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) ، أي المحسنين التعبير ، أو المحسنين الفهم.

والإحسان : الإتقان ، يقال : هو لا يحسن القراءة ، أي لا يتقنها. ومن عادة المساجين حكاية المرائي التي يرونها ، لفقدانهم الأخبار التي هي وسائل المحادثة والمحاورة ، ولأنهم يتفاءلون بما عسى أن يبشرهم بالخلاص في المستقبل. وكان علم تعبير الرؤيا من العلوم التي يشتغل بها كهنة المصريين ، كما دل عليه قوله تعالى حكاية عن ملك مصر (أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) [سورة يوسف : ٤٣] كما سيأتي.

والعصر : الضغط باليد أو بحجر أو نحوه على شيء فيه رطوبة لإخراج ما فيه من المائع زيت أو ماء. والعصير : ما يستخرج من المعصور سمي باسم محله ، أي معصور من كذا.

والخبز : اسم لقطعة من دقيق البر أو الشعير أو نحوهما يعجن بالماء ويوضع قرب النار حتى ينضج ليؤكل ، ويسمى رغيفا أيضا.

والضمير في (بِتَأْوِيلِهِ) للمذكور ، أو للمرئي باعتبار الجنس.

٦٠