تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٤

الأول.

ولما جعل الخبر عن (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، (أَعْمالُهُمْ) آل الكلام إلى أن مثل أعمال الذين كفروا كرماد.

شبهت أعمالهم المتجمعة العديدة برماد مكدّس فإذا اشتدت الرياح بالرماد انتثر وتفرق تفرقا لا يرجى معه اجتماعه. ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من اضمحلال شيء كثير بعد تجمعه ، والهيئة المشبهة معقولة.

ووصف اليوم بالعاصف مجاز عقلي ، أي عاصف ريحه ، كما يقال : يوم ماطر ، أي سحابه.

والرماد : ما يبقى من احتراق الحطب والفحم. والعاصف تقدم في قوله : (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) في سورة يونس [٢٢].

ومن لطائف هذا التمثيل أن اختير له التشبيه بهيئة الرماد المتجمع ، لأن الرماد أثر لأفضل أعمال الذين كفروا وأشيعها بينهم وهو قرى الضيف حتى صارت كثرة الرماد كناية في لسانهم عن الكرم.

وقرأ نافع وأبو جعفر اشتدت به الرياح. وقرأه البقية (اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ) بالإفراد ، وهما سواء لأن التعريف تعريف الجنس.

وجملة (لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ) بيان لجملة التشبيه ، أي ذهبت أعمالهم سدى فلا يقدرون أن ينتفعوا بشيء منها.

وجملة (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) تذييل جامع لخلاصة حالهم ، وهي أنها ضلال بعيد.

والمراد بالبعيد البالغ نهاية ما تنتهي إليه ماهيته ، أي بعيد في مسافات الضلال ، فهو كقولك : أقصى الضلال أو جدّ ضلال ، وقد تقدم في قوله تعالى : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) في سورة النساء [١١٦].

[١٩ ، ٢٠] (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠))

٢٤١

استئناف بياني ناشئ عن جملة (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) فإن هلاك فئة كاملة شديدة القوة والمرة أمر عجيب يثير في النفوس السؤال : كيف تهلك فئة مثل هؤلاء؟؟ فيجاب بأن الله الذي قدر على خلق السماوات والأرض في عظمتها قادر على إهلاك ما هو دونها ، فمبدأ الاستئناف هو قوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ).

وموقع جملة (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) موقع التعليل لجملة الاستئناف ، قدم عليها كما تجعل النتيجة مقدمة في الخطابة والجدال على دليلها. وقد بيناه في كتاب «أصول الخطابة».

ومناسبة موقع هذا الاستئناف ما سبقه من تفرق الرماد في يوم عاصف.

والخطاب في (أَلَمْ تَرَ) لكل من يصلح للخطاب غير معيّن ، وكل من يظن به التساؤل عن إمكان إهلاك المشركين.

والرؤية : مستعملة في العلم الناشئ عن النظر والتأمل ، لأن السماوات والأرض مشاهدة لكل ناظر ، وأما كونها مخلوقة لله فمحتاج إلى أقل تأمل لسهولة الانتقال من المشاهدة إلى العلم ، وأما كون ذلك ملتبسا بالحق فمحتاج إلى تأمل عميق. فلمّا كان أصل ذلك كله رؤية المخلوقات المذكورة علق الاستدلال على الرؤية ، كقوله تعالى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة إبراهيم : ١٠١].

والحق هنا : الحكمة ، أي ضد العبث ، بدليل مقابلته به في قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ* ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [سورة الدخان : ٣٨ ، ٣٩].

وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) بصيغة اسم الفاعل مضاف إلى (السَّماواتِ) وبخفض (وَالْأَرْضَ).

والخطاب في (يُذْهِبْكُمْ) لجماعة من جملتهم المخاطب ب (أَلَمْ تَرَ). والمقصود: التعريض بالمشركين خاصة ، تأكيدا لوعيدهم الذي اقتضاه قوله : (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) ، أي إن شاء أعدم الناس كلهم وخلق ناسا آخرين.

وقد جيء في الاستدلال على عظيم القدرة بالحكم الأعم إدماجا للتعليم بالوعيد وإظهارا لعظيم القدرة. وفيه إيماء إلى أنه يذهب الجبابرة المعاندين ويأتي في مكانهم في سيادة الأرض بالمؤمنين ليمكنهم من الأرض.

٢٤٢

وجملة (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) عطف على جملة (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) مؤكد لمضمونها ، وإنما سلك بهذا التأكيد ملك العطف لما فيه من المغايرة للمؤكد في الجملة بأنه يفيد أن هذا المشيء سهل عليه هين ، كقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [سورة الروم : ٢٧].

والعزيز على أحد : المتعاصي عليه الممتنع بقوته وأنصاره.

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١))

عطف على جملة (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) [إبراهيم : ٢٠] باعتبار جواب الشرط وهو الإذهاب ، وفي الكلام محذوف ، إذ التقدير : فأذهبهم وبرزوا لله جميعا ، أي يوم القيامة.

وكان مقتضى الظاهر أن يقول : ويبرزون لله ، فعدل عن المضارع إلى الماضي للتنبيه على تحقيق وقوعه حتى كأنه قد وقع ، مثل قوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [سورة النحل : ١].

والبروز : الخروج من مكان حاجب من بيت أو قرية. والمعنى : حشروا من القبور.

و (جَمِيعاً) تأكيد ليشمل جميعهم من سادة ولفيف.

وقد جيء في هذه الآية بوصف حال الفرق يوم القيامة ، ومجادلة أهل الضلالة مع قادتهم ، ومجادلة الجميع للشيطان ، وكون المؤمنين في شغل عن ذلك بنزل الكرامة. والغرض من ذلك تنبيه الناس إلى تدارك شأنهم قبل الفوات. فالمقصود : التحذير مما يفضي إلى سوء المصير.

واللام الجارة لاسم الجلالة معدية فعل (بَرَزُوا) إلى المجرور. يقال : برز لفلان ، إذا ظهر له ، أي حضر بين يديه ، كما يقال : ظهر له.

والضعفاء : عوامّ الناس والأتباع. والذين استكبروا : السادة ، لأنهم يتكبرون على العموم وكان التكبر شعار السادة. والسين والتاء للمبالغة في الكبر. والتبع : اسم جمع التابع مثل الخدم والخول ، والفاء لتفريع الاستكبار على التبعية لأنها سبب يقتضي الشفاعة لهم.

٢٤٣

وموجب تقديم المسند إليه على المسند في (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا) أن المستفهم عنه كون المستكبرين يغنون عنهم لا أصل الغناء عنهم ، لأنهم آيسون منه لما رأوا آثار الغضب الإلهي عليهم وعلى سادتهم. كما تدلّ عليه حكاية قول المستكبرين (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) ، فعلموا أنهم قد غروهم في الدنيا ، فتعيّن أن الاستفهام مستعمل في التورّك والتوبيخ والتبكيت ، أي فأظهروا مكانتكم عند الله التي كنتم تدعونها وتغروننا بها في الدنيا. فإيلاء المسند إليه حرف الاستفهام قرينة على أنه استفهام غير حقيقي ، وبينه ما في نظيره من سورة غافر [٤٧ ، ٤٨](وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ).

و (مِنْ) في قوله : (مِنْ عَذابِ اللهِ) بدلية ، أي غناء بدلا عن عذاب الله ..

و (مِنْ) في قوله : (مِنْ شَيْءٍ) مزيدة لوقوع مدخولها في سياق الاستفهام بحرف هل. و (شَيْءٍ) في معنى المصدر ، وحقه النصب على أنه مفعول مطلق فوقع جرّه بحرف الجر الزائد. والمعنى : هل تغنون عنا شيئا.

وجواب المستكبرين اعتذار عن تغريرهم بأنهم ما قصدوا به توريط أتباعهم كيف وقد ورطوا أنفسهم أيضا ، أي لو كنا نافعين لنفعنا أنفسنا. وهذا الجواب جار على معنى الاستفهام التوبيخي العتابي إذ لم يجيبوهم بأنا لا نملك لكم غناء ولكن ابتدءوا بالاعتذار عما صدر منهم نحوهم في الدنيا علما بأن الضعفاء عالمون بأنهم لا يملكون لهم غناء من العذاب.

وجملة (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) من كلام الذين استكبروا. وهي مستأنفة تبيين عن سؤال من الضعفاء يستفتون المستكبرين أيصبرون أم يجزعون تطلبا للخلاص من العذاب ، فأرادوا تأييسهم من ذلك يقولون : لا يفيدنا جزع ولا صبر ، فلا نجاة من العذاب. فضمير المتكلم المشارك شامل للمتكلمين والمجابين ، جمعوا أنفسهم إتماما للاعتذار عن توريطهم.

والجزع : حزن مشوب باضطراب ، والصبر تقدم.

وجملة (ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) واقعة موقع التعليل لمعنى الاستواء ، أي حيث لا محيص ولا نجاة فسواء الجزع والصبر.

٢٤٤

والمحيص : مصدر ميمي كالمغيب والمشيب وهو النجاة. يقال : حاص عنه ، أي نجا منه. ويجوز أن يكون اسم مكان من حاص أيضا ، أي ما لنا ملجأ ومكان ننجو فيه.

(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢))

أفضت مجادلة الضعفاء وسادتهم في تغريرهم بالضلالة إلى نطق مصدر الضلالة وهو الشيطان ؛ إما لأنهم بعد أن اعتذر إليهم كبراؤهم بالحرمان من الهدى علموا أن سبب إضلالهم هو الشيطان لأن نفي الاهتداء يرادفه الضلال ، وإما لأن المستكبرين انتقلوا من الاعتذار للضعفاء إلى ملامة الشيطان الموسوس لهم ما أوجب ضلالهم ، وكل ذلك بعلم يقع في نفوسهم كالوجدان. على أن قوله : (فَلا تَلُومُونِي) يظهر منه أنه توجه إليه ملام صريح ، ويحتمل أنه توقّعه فدفعه قبل وقوعه وأنه يتوجه إليه بطريقة التعريض ، فجملة (وَقالَ الشَّيْطانُ) عطف على جملة (فَقالَ الضُّعَفاءُ).

والمقصود من وصف هذا الموقف إثارة بغض الشيطان في نفوس أهل الكفر ليأخذوا حذرهم بدفاع وسواسه لأن هذا الخطاب الذي يخاطبهم به الشيطان مليء بإضمار الشر لا لهم فيما وعدهم في الدنيا مما شأنه أن يستفز غضبهم من كيده لهم وسخريته بهم ، فيورثهم ذلك كراهية له وسوء ظنهم بما يتوقعون إتيانه إليهم من قبله. وذلك أصل عظيم في الموعظة والتربية.

ومعنى (قُضِيَ الْأَمْرُ) تمّم الشأن ، أي إذن الله وحكمه. ومعنى إتمامه : ظهوره ، وهو أمره تعالى بتمييز أهل الضلالة وأهل الهداية ، قال تعالى : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) [سورة يس : ٥٩] ، وذلك بتوجيه كل فريق إلى مقره الذي استحقه بعمله ، فيتصدى الشيطان للتخفيف عن الملام عن نفسه بتشريك الذين أضلهم معه في تبعة ضلالهم ، وقد أنطقه الله بذلك لإعلان الحق ، وشهادة عليهم بأن لهم كسبا في اختيار الانصياع إلى دعوة الضلال دون دعوة الحق. فهذا شبيه شهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون وقولها لهم : (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) إظهارا للحقيقة وتسجيلا على أهل الضلالة وقمعا لسفسطتهم.

٢٤٥

وأخبر الله بها الناس استقصاء في الإبلاغ ليحيط الناس علما بكل ما سيحل بهم ، وإيقاظا لهم ليتأملوا الحقائق الخفية فتصبح بينة واضحة. فقول الشيطان (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) إبطال لإفراده باللوم أو لابتداء توجيه الملام إليه في حين أنهم أجدر باللوم أو بابتداء توجيهه.

وأما وقع كلام الشيطان من نفوس الذين خاطبهم فهو موقع الحسرة من نفوسهم زيادة في عذاب النفس.

وإضافة (وَعْدَ) إلى (الْحَقِ) من إضافة الموصوف إلى الصفة مبالغة في الاتصاف ، أي الوعد الحق الذي لا نقض له.

والحق : هنا بمعنى الصدق والوفاء بالموعود به. وضده : الإخلاف ، ولذلك قال : (وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) [سورة إبراهيم : ٢٢] ، أي كذبت موعدي. وشمل وعد الحق جميع ما وعدهم الله بالقرآن على لسان رسوله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ. وشمل الخلف جميع ما كان يعدهم الشيطان على لسان أوليائه وما يعدهم إلا غرورا.

والسلطان : اسم مصدر تسلط عليه ، أي غلبه وقهره ، أي لم أكن مجبرا لكم على اتباعي فيما أمرتكم.

والاستثناء في (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) استثناء منقطع لأن ما بعد حرف الاستثناء ليس من جنس ما قبله. فالمعنى : لكني دعوتكم فاستجبتم لي.

وتفرع على ذلك (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ). والمقصود : لوموا أنفسكم ، أي إذ قبلتم إشارتي ودعوتي. وقد تقدم بيانه صدر الكلام على الآية.

ومجموع الجملتين يفيد معنى القصر ، كأنه قال : فلا تلوموا إلّا أنفسكم ، وهو في معنى قصر قلب بالنسبة إلى إفراده باللوم وحقهم التشريك فقلب اعتقادهم إفراده دون اعتبار الشركة ، وهذا من نادر معاني القصر الإضافي ، وهو مبني على اعتبار أجدر الطرفين بالرد ، وهو طرف اعتقاد العكس بحيث صار التشريك كالملغى لأن الحظ الأوفر لأحد الشريكين.

وجملة (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ) ، بيان لجملة النهي عن لومه لأن لومه فيه تعريض بأنهم يتطلبون منه حيلة لنجاتهم ، فنفي ذلك عن نفسه بعد أن نهاهم عن أن يلوموه.

٢٤٦

والإصراخ : الإغاثة ، اشتق من الصراخ لأن المستغيث يصرخ بأعلى صوته ، فقيل : أصرخه ، إذا أجاب صراخه ، كما قالوا : أعتبه ، إذا قبل استعتابه. وأما عطف (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ) فالمقصود منه استقصاء عدم غناء أحدهما عن الآخر.

وقرأ الجمهور (بِمُصْرِخِيَ) بفتح التحتية مشددة. وأصله بمصرخيي بياءين أولاهما ياء جمع المذكر المجرور ، وثانيتهما ياء المتكلم ، وحقها السكون فلما التقت الياءان ساكنتين وقع التخلص من التقاء الساكنين بالفتحة لخفة الفتحة.

وقرأ حمزة وخلف «بمصرخيّ» ـ بكسر الياء ـ تخلصا من التقاء الساكنين بالكسرة لأن الكسر هو أصل التخلص من التقاء الساكنين. قال الفراء : تحريك الياء بالكسر لأنه الأصل في التخلص من التقاء الساكنين ، إلا أن كسر ياء المتكلم في مثله نادر. وأنشد في تنظير هذا التخلص بالكسر قول الأغلب العجلي :

قال لها هل لك يا تافيّ

قالت له : ما أنت بالمرضيّ

أراد هل لك فيّ يا هذه. وقال أبو علي الفارسي : زعم قطرب أنها لغة بني يربوع. وعن أبي عمرو بن العلاء أنه أجاز الكسر. واتفق الجميع على أن التخلص بالفتحة في مثله أشهر من التخلص بالكسرة وإن كان التخلص بالكسرة هو القياس ، وقد أثبته سند قراءة حمزة. وقد تحامل عليه الزجاج وتبعه الزمخشري وسبقهما في ذلك أبو عبيد والأخفش بن سعيد وابن النحاس ولم يطلع الزجاج والزمخشري على نسبة ذلك البيت للأغلب العجلي.

والذي يظهر لي أن هذه القراءة قرأ بها بنو يربوع من تميم ، وبنو عجل بن لجيم من بكر بن وائل ، فقرءوا بلهجتهم أخذا بالرخصة للقبائل أن يقرءوا القرآن بلهجاتهم وهي الرخصة التي أشار إليها قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه» كما تقدم في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير ، ثم نسخت تلك الرخصة بقراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأعوام الأخيرة من حياته المباركة ولم يثبت مما ينسخها في هذه الآية. واستقر الأمر على قبول كل قراءة صح سندها ووافقت وجها في العربية ولم تخالف رسم المصحف الإمام. وهذه الشروط متوفرة في قراءة حمزة هذه كما علمت آنفا فقصارى أمرها أنها تتنزل منزلة ما ينطق به أحد فصحاء العرب على لغة بعض قبائلها بحيث لو قرئ بها في الصلاة لصحت عند مالك وأصحابه.

وجملة (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) استئناف تنصّل آخر من تبعات عبادتهم إياه قصد منه دفع زيادة العذاب عنه بإظهار الخضوع لله تعالى. وأراد بقوله : (كَفَرْتُ)

٢٤٧

شدة التبري من إشراكهم إياه في العبادة فإن أراد من مضي (كَفَرْتُ) مضي الأزمنة كلها ، أي كنت غير راض بإشراككم إياي فهو كذب منه أظهر به التذلل ؛ وإن كان مراده من المضي إنشاء عدم الرضى بإشراكهم إياه فهو ندامة بمنزلة التوبة حيث لا يقبل متاب. و (مِنْ قَبْلُ) على التقديرين متعلق ب (أَشْرَكْتُمُونِ).

والإشراك الذي كفر به إشراكهم إياه في العبادة بأن عبدوه مع الله لأن من المشركين من يعبدون الشياطين والجن ، فهؤلاء يعبدون جنس الشيطان مباشرة ، ومنهم من يعبدون الأصنام فهم يعبدون الشياطين بواسطة عبادة آلهته.

وجملة (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) من الكلام المحكي عن الشيطان. وهي في موقع التعليل لما تقدم من قوله : (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) ، أي لأنه لا يدفع عنكم العذاب دافع فهو واقع بكم.

(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣))

عطف على جملة (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) ، وهو انتقال لوصف حال المؤمنين يومئذ بمناسبة ذكر حال المشركين لأن حال المؤمنين يومئذ من جملة الأحوال المقصودة بالوصف إظهارا لتفاوت الأحوال ، فلم يدخل المؤمنون يومئذ في المنازعة والمجادلة تنزيها لهم عن الخوض في تلك الغمرة ، مع التنبيه على أنهم حينئذ في سلامة ودعة.

ويجوز جعل الواو للحال ، أي برزوا وقال الضعفاء وقال الكبراء وقال الشيطان إلخ وقد أدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات ، فيكون إشارة إلى أنهم فازوا بنزل الكرامة من أول وهلة.

وقوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) إشارة إلى العناية والاهتمام ، فهو إذن أخص من أمر القضاء العام.

وقوله : (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) تقدم نظيره في أول سورة يونس.

[٢٤ ـ ٢٦] (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ

٢٤٨

قَرارٍ (٢٦))

استئناف ابتدائي اقتضته مناسبة ما حكي عن أحوال أهل الضلالة وأحوال أهل الهداية ابتداء من قوله تعالى : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) ـ إلى قوله ـ (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) ، فضرب الله مثلا لكلمة الإيمان وكلمة الشرك. فقوله : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) إيقاظ للذهن ليترقب ما يرد بعد هذا الكلام ، وذلك مثل قولهم : ألم تعلم. ولم يكن هذا المثل مما سبق ضربه قبل نزول الآية بل الآية هي التي جاءت به ، فالكلام تشويق إلى علم هذا المثل. وصوغ التشويق إليه في صيغة الزمن الماضي الدال عليها حرف (لَمْ) التي هي لنفي الفعل في الزمن الماضي والدالّ عليها فعل (ضَرَبَ) بصيغة الماضي لقصد الزيادة في التشويق لمعرفة هذا المثل وما مثل به.

والاستفهام في (أَلَمْ تَرَ) إنكاري ، نزل المخاطب منزلة من لم يعلم فأنكر عليه عدم العلم ، أو هو مستعمل في التعجيب من عدم العلم بذلك مع أنه مما تتوفر الدواعي على علمه ، أو هو للتقرير ، ومثله في التقرير كثير ، وهو كناية عن التحريض على العلم بذلك.

والخطاب لكل من يصلح للخطاب. والرؤية علمية معلّق فعلها عن العمل بما وليها من الاستفهام ب (كَيْفَ). وإيثار (كَيْفَ) هنا للدلالة على أن حالة ضرب هذا المثل ذات كيفية عجيبة من بلاغته وانطباقه.

وتقدم المثل في قوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) في سورة البقرة [١٧].

وضرب المثل : نظم تركيبه الدال على تشبيه الحالة. وتقدم عند قوله : (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) في سورة البقرة [٢٦].

وإسناد (ضَرَبَ) إلى اسم الجلالة لأن الله أوحى به إلى رسوله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ.

والمثل لما كان معنى متضمنا عدة أشياء صح الاقتصار في تعليق فعل (ضَرَبَ) به على وجه إجمال يفسره قوله : (كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ) إلى آخره ، فانتصب (كَلِمَةً) على البدلية من (مَثَلاً) بدل مفصّل من مجمل ، لأن المثل يتعلق بها لما تدل عليه الإضافة في نظيره في قوله : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ).

والكلمة الطيبة قيل : هي كلمة الإسلام ، وهي : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والكلمة الخبيثة : كلمة الشرك.

٢٤٩

والطيبة : النافعة. استعير الطيب للنفع لحسن وقعه في النفوس كوقع الروائح الذكية. وتقدم عند قوله تعالى : (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) في سورة يونس [٢٢].

والفرع : ما امتد من الشيء وعلا ، مشتق من الافتراع وهو الاعتلاء. وفرع الشجرة غصنها ، وأصل الشجرة : جذرها.

والسماء مستعمل في الارتفاع ، وذلك مما يزيد الشجرة بهجة وحسن منظر.

والأكل ـ بضم الهمزة ـ المأكول ، وإضافته إلى ضمير الشجرة على معنى اللام. وتقدم عند قوله : (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) في سورة الرعد [٤].

فالمشبّه هو الهيئة الحاصلة من البهجة في الحس والفرح في النفس ، وازدياد أصول النفع باكتساب المنافع المتتالية بهيئة رسوخ الأصل ، وجمال المنظر ، ونماء أغصان الأشجار. ووفرة الثمار ، ومتعة أكلها. وكل جزء من أجزاء إحدى الهيئتين يقابله الجزء الآخر من الهيئة الأخرى ، وذلك أكمل أحوال التمثيل أن يكون قابلا لجمع التشبيه وتفريقه.

وكذلك القول في تمثيل حال الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة على الضد بجميع الصفات الماضية من اضطراب الاعتقاد ، وضيق الصدر ، وكدر التفكير ، والضر المتعاقب. وقد اختصر فيها التمثيل اختصارا اكتفاء بالمضاد ، فانتفت عنها سائر المنافع للكلمة الطيبة.

وفي «جامع الترمذي» عن أنس بن مالك ـ رضي‌الله‌عنه ـ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مثل كلمة طيّبة كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها» قال : هي النخلة ، (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) قال : هي الحنظل.

وجملة (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) صفة لشجرة خبيثة لأن الناس لا يتركونها تلتف على الأشجار فتقتلها. والاجتثاث : قطع الشيء كلّه ، مشتق من الجثة وهي الذات. و (مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) تصوير ل (اجْتُثَّتْ). وهذا مقابل قوله في صفة الشجرة الطيبة (أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ).

وجملة (ما لَها مِنْ قَرارٍ) تأكيد لمعنى الاجتثاث لأن الاجتثاث من انعدام القرار.

٢٥٠

والأظهر أن المراد بالكلمة الطيّبة القرآن وإرشاده ، وبالكلمة الخبيثة تعالى أهل الشرك وعقائدهم ، ف (الكلمة) في الموضعين مطلقة على القول والكلام ، كما دل عليه قوله : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ). والمقصود مع التمثيل إظهار المقابلة بين الحالين إلا أن الغرض في هذا المقام بتمثيل كل حالة على حدة بخلاف ما يأتي عند قوله تعالى في سورة النحل (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً) ـ إلى قوله ـ (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) ، فانظر بيانه هنالك.

وجملة (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) معترضة بين الجملتين المتعاطفتين. والواو واو الاعتراض. ومعنى (لعل) رجاء تذكرهم ، أي تهيئة التذكر لهم ، وقد مضت نظائرها.

(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧))

جملة مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عما أثاره تمثيل الكلمة الطيبة بالشجرة الثابتة الأصل بأن يسأل عن الثبات المشبه به : ما هو أثره في الحالة المشبهة فيجاب بأن ذلك الثبات ظهر في قلوب أصحاب الحالة المشبهة وهم الذين آمنوا إذا ثبتوا على الدين ولم يتزعزعوا فيه لأنهم استثمروا من شجرة أصلها ثابت.

والقول : الكلام. والثابت الصادق الذي لا شك فيه. والمراد به أقوال القرآن لأنها صادقة المعاني واضحة الدليل ، فالتعريف في القول لاستغراق الأقوال الثابتة. والباء في (بِالْقَوْلِ) للسببية.

ومعنى تثبيت الذين آمنوا بها أن الله يسر لهم فيهم الأقوال الإلهية على وجهها وإدراك دلائلها حتى اطمأنت إليها قلوبهم ولم يخامرهم فيها شك فأصبحوا ثابتين في إيمانهم غير مزعزعين وعاملين بها غير مترددين.

وذلك في الحياة الدنيا ظاهر ، وأما في الآخرة فبإلفائهم الأحوال على نحو مما علموه في الدنيا ، فلم تعترهم ندامة ولا لهف. ويكون ذلك بمظاهر كثيرة يظهر فيها ثباتهم بالحق قولا وانسياقا ، وتظهر فيها فتنة غير المؤمنين في الأحوال كلها.

وتفسير ذلك بمقابلته بقوله : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) ، أي المشركين ، أي يجعلهم في حيرة وعماية في الدنيا وفي الآخرة. والضلال : اضطراب وارتباك ، فهو الأثر المناسب

٢٥١

لسببه ، أعني الكلمة التي اجتثت من فوق الأرض كما دلت عليه المقابلة.

والظالمون : المشركون ، قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[سورة لقمان : ١٣].

ومن مظاهر هذا التثبيت فيهما ما ورد من وصف فتنة سؤال القبر. روى البخاري والترمذي عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» فذلك قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ).

وجملة (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) كالتذليل لما قبلها. وتحت إبهام (ما يَشاءُ) وعمومه مطاو كثيرة من ارتباط ذلك بمراتب النفوس ، وصفاء النيات في تطلب الإرشاد ، وتربية ذلك في النفوس بنمائه في الخير والشر حتى تبلغ بذور تينك الشجرتين منتهى أمدهما من ارتفاع في السماء واجتثاث من فوق الأرض المعبر عنها بالتثبيت والإضلال. وفي كل تلك الأحوال مراتب ودرجات لا تبلغ عقول البشر تفصيلها.

وإظهار اسم الجلالة في (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) لقصد أن تكون كل جملة من الجمل الثلاث مستقلة بدلالتها حتى تسير مسير المثل.

[٢٨ ، ٢٩] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩))

أعقب تمثيل الدينين ببيان آثارهما في أصحابهما. وابتدئ بذكر أحوال المشركين لأنها أعجب والعبرة بها أولى والحذر منها مقدّم على التحلي بضدها ، ثم أعقب بذكر أحوال المؤمنين بقوله : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ.

والاستفهام مستعمل في التشويق إلى رؤية ذلك.

والرؤية هنا بصرية لأن متعلقها مما يرى ، ولأن تعدية فعلها ب (إِلَى) يرجح ذلك ، كما في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) [سورة البقرة : ٢٥٨].

وقد نزل المخاطب منزلة من لم ير. والخطاب لمن يصح منه النظر إلى حال هؤلاء الذين بدلوا نعمة الله مع وضوح حالهم.

والكفر : كفران النعمة ، وهو ضد الشكر ، والإشراك بالله من كفران نعمته.

٢٥٢

وفي قوله : (بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) محسن الاحتباك. وتقدير الكلام : بدلوا نعمة الله وشكرها كفرا بها ونقمة منه ، كما دل عليه قوله : (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) إلخ.

واستعير التبديل لوضع الشيء في الموضع الذي يستحقه شيء آخر ، لأنه يشبه تبديل الذات بالذات.

والذين بدلوا هذا التبديل فريق معرفون ، بقرينة قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ) ، وهم الذين تلقوا الكلمة الخبيثة من الشيطان ، أي كلمة الشرك ، وهم الذين استكبروا من مشركي أهل مكة فكابروا دعوة الإسلام وكذّبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشرّدوا من استطاعوا ، وتسببوا في إحلال قومهم دار البوار ، فإسناد فعل (أَحَلُّوا) إليهم على طريقة المجاز العقلي.

ونعمة الله التي بدلوها هي نعمة أن بوّأهم حرمه ، وأمنهم في سفرهم وإقامتهم ، وجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ، وسلمهم مما أصاب غيرهم من الحروب والغارات والعدوان ، فكفروا بمن وهبهم هذه النعم وعبدوا الحجارة. ثم أنعم الله عليهم بأن بعث فيهم أفضل أنبيائه ـ صلّى الله عليهم جميعا ـ وهداهم إلى الحق ، وهيّأ لهم أسباب السيادة والنجاة في الدنيا والآخرة ، فبدّلوا شكر ذلك بالكفر به ، فنعمة الله الكبرى هي رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودعوة إبراهيم وبنيّته ـ عليهم‌السلام ـ.

وقومهم : هم الذين اتبعوهم في ملازمة الكفر حتى ماتوا كفارا ، فهم أحق بأن يضافوا إليهم.

والبوار : الهلاك والخسران. وداره : محله الذي وقع فيه.

والإحلال بها الإنزال فيها ، والمراد بالإحلال التسبب فيه ، أي كانوا سببا لحلول قومهم بدار البوار ، وهي جهنم في الآخرة ، ومواقع القتل والخزي في الدنيا مثل : موقع بدر ، فيجوز أن يكون (دارَ الْبَوارِ) جهنم ، وبه فسر علي وابن عبّاس وكثير من العلماء ، ويجوز أن تكون أرض بدر وهو رواية عن علي وعن ابن عباس.

واستعمال صيغة المضي في (أَحَلُّوا) لقصد التحقيق لأن الإحلال متأخر زمنه فإن السورة مكية.

والمراد ب (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) صناديد المشركين من قريش ، فعلى تفسير (دارَ الْبَوارِ) بدار البوار في الآخرة يكون قوله (جَهَنَّمَ) بدلا من (دارَ الْبَوارِ) وجملة (يَصْلَوْنَها) حالا من (جَهَنَّمَ) ، فتخص (دارَ الْبَوارِ) بأعظم أفرادها وهو النار ، ويجعل ذلك من ذكر بعض الأفراد لأهميته.

٢٥٣

وعلى تفسير (دارَ الْبَوارِ) بأرض بدر يكون قوله : (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها) جملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا. وانتصاب جهنم على أنه مفعول لفعل محذوف يدل عليه فعل (يَصْلَوْنَها) على طريقة الاشتغال.

وما يروون عن عمر بن الخطاب ـ رضي‌الله‌عنه ـ وعن عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ أن (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) هم الأفجران من قريش : بنو أمية وبنو المغيرة بن مخزوم ، قال : فأما بنو أمية فمتّعوا إلى حين وأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر. فلا أحسبه إلا من وضع بعض المغرضين المضادين لبني أمية. وفي روايات عن عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ أنه قال : هم كفار قريش ، ولا يريد عمر ولا علي ـ رضي‌الله‌عنهما ـ من أسلموا من بني أمية فإن ذلك لا يقوله مسلم فاحذروا الأفهام الخطأة. وكذا ما روي عن ابن عباس : أنهم جبلة بن الأيهم ومن اتبعه من العرب الذين تنصروا في زمن عمر وحلّوا ببلاد الروم ، فإذا صح عنه فكلامه على معنى التنظير والتمثيل وإلا فكيف يكون هو المراد من الآية وإنما حدث ذلك في خلافة عمر بن الخطاب ـ رضي‌الله‌عنه ـ.

وجملة (وَبِئْسَ الْقَرارُ) عطف على جملة (يَصْلَوْنَها) ، أو حال من (جَهَنَّمَ). والتقدير : وبئس القرار هي.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠))

عطف على (بَدَّلُوا) و (أَحَلُّوا) ، فالضمير راجع إلى (الَّذِينَ) وهم أئمة الشرك. والجعل يصدق باختراع ذلك ما فعل عمرو بن لحي وهو من خزاعة. ويصدق بتقرير ذلك ونشره والاحتجاج له ، مثل وضع أهل مكة الأصنام في الكعبة ووضع هبل على سطحها.

والأنداد : جمع ندّ بكسر النون ، وهو المماثل في مجد ورفعة ، وتقدم عند قوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) في سورة البقرة [٢٢].

وقرأ الجمهور (لِيُضِلُّوا) ـ بضم الياء التحتية ـ من أضل غيره إذا جعله ضالا ، فجعل الإضلال علة لجعلهم لله أندادا ، وإن كانوا لم يقصدوا تضليل الناس وإنما قصدوا مقاصد هي مساوية للتضليل لأنها أوقعت الناس في الضلال ، فعبر على مساوي التضليل بالتضليل لأنه آيل إليه وإن لم يقصدوه ، فكأنه قيل : للضلال عن سبيله ، تشنيعا عليهم بغاية فعلهم وهم ما أضلوا إلا وقد ضلّوا ، فعلم أنهم ضلوا وأضلوا ، وذلك إيجاز.

٢٥٤

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ورويس عن يعقوب ليضلو ـ بفتح الياء ـ والمعنى : ليستمر ضلالهم فإنهم حين جعلوا الأنداد كان ضلالهم حاصلا في زمن الحال. ومعنى لام التعليل أن تكون مستقبلة لأنها بتقدير أن المصدرية بعد لام التعليل.

ويعلم أنهم أضلوا الناس من قوله : (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ).

وسبيل الله : كل عمل يجري على ما يرضي الله. شبه العمل بالطريق الموصلة إلى المحلة ، وقد تقدم غير مرة.

وجملة (قُلْ تَمَتَّعُوا) مستأنفة استئنافا بيانيا لأن المخاطب ب (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا) إذا علم هذه الأحوال يتساءل عن الجزاء المناسب لجرمهم وكيف تركهم الله يرفلون في النعيم ، فأجيب بأنهم يصيرون إلى النار ، أي يموتون فيصيرون إلى العذاب.

وأمر بأن يبلغهم ذلك لأنهم كانوا يزدهون بأنهم في تنعم وسيادة ، وهذا كقوله : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) في سورة آل عمران [١٩٦ ، ١٩٧].

(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١))

استئناف نشأ عن ذكر حال الفريق الذي حقت عليه الكلمة الخبيثة بذكر حال مقابله ، وهو الفريق الذي حقت عليه الكلمة الطيبة. فلما ابتدئ بالفريق الأول لقصد الموعظة والتخلي ثنّي بالفريق الثاني على طريقة الاعتراض بين أغراض الكلام كما سيأتي في الآية عقبها.

ونظيره قوله تعالى في سورة الإسراء : (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُوا حِجارَةً) ـ إلى أن قال ـ (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة الإسراء : ٥٠ ، ٥٢].

ولما كانوا متحلين بالكمال صيغ الحديث عنهم بعنوان الوصف بالإيمان ، وبصيغة الأمر بما هم فيه من صلاة وإنفاق لقصد الدوام على ذلك ، فحصلت بذلك مناسبة وقع هذه الآية بعد التي قبلها لمناسبة تضاد الحالين.

ولما كان المؤمنون يقيمون الصلاة من قبل وينفقون من قبل تعين أن المراد الاستزادة

٢٥٥

من ذلك ، ولذلك اختير المضارع مع تقدير لام الأمر دون صيغة فعل الأمر لأن المضارع دال على التجدد ، فهو مع لام الأمر يلاقي حال المتلبس بالفعل الذي يؤمر به بخلاف صيغة (افعل) فإن أصلها طلب إيجاد الفعل المأمور به من لم يكن ملتبسا به ، فأصل (يُقِيمُوا الصَّلاةَ) ليقيموا ، فحذفت لام الأمر تخفيفا.

وهذه هي نكتة ورود مثل هذا التركيب في مواضع وروده ، كما في هذه الآية وفي قوله (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) في سورة الإسراء [٥٢] ، أي قل لهم ليقيموا وليقولوا ، فحكي بالمعنى.

وعندي : أن منه قوله تعالى : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) في سورة الحجر [٣] ، أي ذرهم ليأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل. فهو أمر مستعمل في الإملاء والتهديد ، ولذلك نوقن بأن الأفعال هذه معمولة للام أمر محذوفة. وهذا قول الكسائي إذا وقع الفعل المجزوم بلام الأمر محذوفة بعد تقدم فعل (قُلْ) ، كما في «مغني اللبيب» ووافقه ابن مالك في «شرح الكافية». وقال بعضهم : جزم الفعل المضارع في جواب الأمر ب (قُلْ) على تقدير فعل محذوف هو المقول دل عليه ما بعده. والتقدير : قل لعبادي أقيموا يقيموا وأنفقوا ينفقوا. وقال الكسائي وابن مالك إن ذلك خاص بما يقع بعد الأمر بالقول كما في هذه الآية ، وفاتهم نحو آية (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا).

وزيادة (مِمَّا رَزَقْناهُمْ) للتذكير بالنعمة تحريضا على الإنفاق ليكون شكرا للنعمة.

و (سِرًّا وَعَلانِيَةً) حالان من ضمير (يُنْفِقُوا) ، وهما مصدران. وقد تقدم عند قوله تعالى : (سِرًّا وَعَلانِيَةً) في سورة البقرة [٢٧٤]. والمقصود تعميم الأحوال في طلب الإنفاق لكيلا يظنوا أن الإعلان يجر إلى الرياء كما كان حال الجاهلية ، أو أن الإنفاق سرا يفضي إلى إخفاء الغني نعمة الله فيجر إلى كفران النعمة ، فربما توخى المرء أحد الحالين فأفضى إلى ترك الإنفاق في الحال الآخر فتعطل نفع كثير وثواب جزيل ، فبين الله للناس أن الإنفاق برّ لا يكدره ما يحف به من الأحوال ، «وإنما الأعمال بالنبات». وقد تقدم شيء من هذا عند قوله : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) [سورة التوبة : ٧٩] الآية.

وقيل المقصود من السر الإنفاق المتطوع به ، ومن العلانية الإنفاق الواجب.

وتقديم السر على العلانية تنبيه على أنه أولى الحالين لبعده عن خواطر الرياء ، ولأن

٢٥٦

فيه استبقاء لبعض حياء المتصدق عليه.

وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) إلخ متعلق بفعل (يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا) ، أي ليفعلوا ذينك الأمرين قبل حلول اليوم الذي تتعذر فيه المعاوضات والإنفاق. وهذا كناية عن عظيم منافع إقامة الصلاة والإنفاق قبل يوم الجزاء عنهما حين يتمنون أن يكونوا ازدادوا من ذينك لما يسرهم من ثوابهما فلا يجدون سبيلا للاستزادة منهما ، إذ لا بيع يومئذ فيشترى الثواب ولا خلال من شأنها الإرفاد والإسعاف بالثواب. فالمراد بالبيع المعاوضة وبالخلال الكناية عن التبرع.

ونظيره قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) في سورة البقرة [٢٥٤].

وبهذا تبين أن المراد من الخلال هنا آثارها ، بقرينة المقام ، وليس المراد نفي الخلة ، أي الصحبة والمودّة لأن المودّة ثابتة بين المتقين ، قال تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [سورة الزخرف : ٦٧]. وقد كني بنفي البيع والخلال التي هي وسائل النوال والإرفاد عن انتفاء الاستزادة.

وإدخال حرف الجر على اسم الزمان وهو (قَبْلِ) لتأكيد القبلية ليفهم معنى المبادرة.

وقرأ الجمهور (لا بَيْعٌ) بالرفع. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب بالبناء على الفتح. وهما وجهان في نفي النكرة بحرف (لا).

[٣٢ ـ ٣٤] (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤))

استئناف واقع موقع الاستدلال على ما تضمنته جملة (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) الآية. وقد فصل بينه وبين المستدل عليه بجملة (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) الآية. وأدمج في الاستدلال تعدادهم لنعم تستحق الشكر عليها ليظهر حال الذين كفروها ، وبالضد حال الذين شكروا عليها ، وليزداد الشاكرون شكرا. فالمقصود الأول هو

٢٥٧

الاستدلال على أهل الجاهلية ، كما يدل عليه تعقيبه بقوله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [سورة إبراهيم : ٣٥]. فجيء في هذه الآية بنعم عامة مشهودة محسوسة لا يستطاع إنكارها إلا أنها محتاجة للتذكير بأن المنعم بها وموجدها هو الله تعالى.

وافتتح الكلام باسم الموجد لأن تعيينه هو الغرض الأهم. وأخبر عنه بالموصول لأن الصلة معلومة الانتساب إليه والثبوت له ، إذ لا ينازع المشركون في أن الله هو صاحب الخلق ولا يدعون أن الأصنام تخلق شيئا ، كما قال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [سورة لقمان : ٢٥] ، فخلق السماوات والأرض دليل على إلهية خالقهما وتمهيد للنعم المودعة فيهما ؛ فإنزال الماء من السماء إلى الأرض ، وإخراج الثمرات من الأرض ، والبحار والأنهار من الأرض. والشمس والقمر من السماء ، والليل والنهار من السماء ومن الأرض ، وقد مضى بيان هذه النعم في آيات مضت.

والرزق القوت. والتسخير : حقيقته التذليل والتطويع ، وهو مجاز في جعل الشيء قابلا لتصرف غيره فيه ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) في سورة الأعراف [٥٤]. وقوله : (لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ) هو علة تسخير صنعها.

ومعنى تسخير الفلك : تسخير ذاتها بإلهام البشر لصنعها وشكلها بكيفية تجري في البحر بدون مانع.

وقوله : (بِأَمْرِهِ) متعلق ب (لِتَجْرِيَ).

والأمر هنا الإذن ، أي تيسير جريها في البحر ، وذلك بكف العواصف عنها وبإعانتها بالريح الرخاء ، وهذا كقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) [سورة الحج : ٦٥]. وعبر عن هذا الأمر بالنعمة في قوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) [سورة لقمان : ٣١] ، وقد بينته آية (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ) الرياح (فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) الآية [سورة الشورى : ٣٢ ـ ٣٣].

وتسخير الأنهار : خلقها على كيفية تقتضي انتقال الماء من مكان إلى مكان وقراره في بعض المنخفضات فيستقى منه من تمر عليه وينزل على ضفافه حيث تستقر مياهه ، وخلق بعضها مستمرة القرار كالدجلة والفرات والنيل للشرب ولسير السفن فيها.

٢٥٨

وتسخير الشمس والقمر خلقهما بأحوال ناسبت انتفاع البشر بضيائهما ، وضبط أوقاتهم بسيرهما.

ومعنى (دائِبَيْنِ) دائبين على حالات لا تختلف إذ لو اختلفت لم يستطع البشر ضبطها فوقعوا في حيرة وشك.

والفلك : جمع لفظه كلفظ مفرده. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) في سورة البقرة [١٦٤].

ومعنى (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) أعطاكم بعضا من جميع مرغوباتكم الخارجة عن اكتسابكم بحيث شأنكم فيها أن تسألوا الله إياها ، وذلك مثل توالد الأنعام ، وإخراج الثمار والحب ، ودفع العوادي عن جميع ذلك : كدفع الأمراض عن الأنعام ، ودفع الجوائح عن الثمار والحب.

فجملة (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) تعميم بعد خصوص ، فهي بمنزلة التذييل لما قبلها لحكم يعلمها الله ولا يعلمونها (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [سورة الشورى : ٢٧] ، وأن الإنعام والامتنان يكون بمقدار البذل لا بمقدار الحرمان. وبهذا يتبين تفسير الآية.

وجملة (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) تأكيد للتذييل وزيادة في التعميم ، تنبيها على أن ما آتاهم الله كثير منه معلوم وكثير منه لا يحيطون بعلمه أو لا يتذكرونه عند إرادة تعداد النعم.

فمعنى (إِنْ تَعُدُّوا) إن تحاولوا العد وتأخذوا فيه. وذلك مثل النعم المعتاد بها التي ينسى الناس أنها من النعم ، كنعمة التنفس ، ونعمة الحواس ، ونعمة هضم الطعام والشراب ، ونعمة الدورة الدموية ، ونعمة الصحة. وللفخر هنا تقرير نفيس فانظره.

والإحصاء : ضبط العدد ، وهو مشتق من الحصا اسما للعدد ، وهو منقول من الحصى ، وهو صغار الحجارة لأنهم كانوا يعدون الأعداد الكثيرة بالحصى تجنبا للغلط.

وجملة (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) تأكيد لمعنى الاستفهام الإنكاري المستعمل في تحقيق تبديل النعمة كفرا ، فلذلك فصلت عنها.

والمراد ب (الْإِنْسانَ) صنف منه ، وهو المتصف بمضمون الجملة المؤكدة وتأكيدها ،

٢٥٩

فالإنسان هو المشرك ، مثل الذي في قوله تعالى : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) [سورة مريم : ٦٦] ، وهو استعمال كثير في القرآن.

وصيغتا المبالغة في (لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) اقتضاهما كثرة النعم المفاد من قوله : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) ، إذ بمقدار كثرة النعم يكثر كفر الكافرين بها إذ أعرضوا عن عبادة المنعم وعبدوا ما لا يغني عنهم شيئا ، فأما المؤمنون فلا يجحدون نعم الله ولا يعبدون غيره.

[٣٥ ، ٣٦] (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦))

عطف على جملة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) [إبراهيم : ٢٨] فإنهم كما بدّلوا نعمة الله كفرا أهملوا الشكر على ما بوأهم الله من النعم بإجابة دعوة أبيهم إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، وبدلوا اقتداءهم بسلفهم الصالح اقتداء بأسلافهم من أهل الضلالة ، وبدلوا دعاء سلفهم الصالح لهم بالإنعام عليهم كفرا بمفيض تلك النّعم.

ويجوز أن تكون معطوفة على جملة (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) بأن انتقل من ذكر النعم العامة للناس التي يدخل تحت منتها أهل مكة بحكم العموم إلى ذكر النعم التي خص الله بها أهل مكة. وغير الأسلوب في الامتنان بها إلى أسلوب الحكاية عن إبراهيم لإدماج التنويه بإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ والتعريض بذريته من المشركين.

(وإذا) اسم زمان ماض منصوب على المفعولية لفعل محذوف شائع الحذف في أمثاله ، تقديره : واذكر إذ قال إبراهيم ، زيادة في التعجيب من شأن المشركين الذي مر في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) ، فموقع العبرة من الحالين واحد.

و (رَبِ) منادى محذوف منه حرف النداء. وأصله (ربي) ، حذفت ياء المتكلم تخفيفا ، وهو كثير في المنادى المضاف إلى الياء.

والبلد : المكان المعين من الأرض ، ويطلق على القرية. والتعريف في (الْبَلَدَ) تعريف العهد لأنه معهود الحضور. و (الْبَلَدُ) بدل من اسم الإشارة.

وحكاية دعائه بدون بيان البلد إبهام يرد بعده البيان بقوله : (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)

٢٦٠