تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٤

تتضمن آيات عظيمة يجلوها النظر الصحيح والتفكير المجرد عن الأوهام. ولذلك أجرى صفة التفكير على لفظ قوم إشارة إلى أن التفكير المتكرر المتجدد هو صفة راسخة فيهم بحيث جعلت من مقومات قوميتهم ، أي جبلتهم كما بيناه في دلالة لفظ قوم على ذلك عند قوله تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤].

وفي هذا إيماء إلى أن الذين نسبوا أنفسهم إلى التفكير من الطبائعيين فعللوا صدور الموجودات عن المادة ونفوا الفاعل المختار ما فكروا إلا تفكيرا قاصرا مخلوطا بالأوهام ليس ما تقتضيه جبلة العقل إذ اشتبهت عليهم العلل والمواليد ، بأصل الخلق والإيجاد.

وجيء في التفكير بالصيغة الدالة على التكلف وبصيغة المضارع للإشارة إلى تفكير شديد ومكرر.

والتفكير تقدم عند قوله تعالى : (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) في سورة الأنعام [٥٠].

(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤))

لله بلاغة القرآن في تغيير الأسلوب عند الانتقال إلى ذكر النعم الدالة على قدرة الله تعالى فيما ألهم الناس من العمل في الأرض بفلحها وزرعها وغرسها والقيام عليها ، فجاء ذلك معطوفا على الأشياء التي أسند جعلها إلى الله تعالى ، ولكنه لم يسند إلى الله حتى بلغ إلى قوله : (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) ، لأن ذلك بأسرار أودعها الله تعالى فيها هي موجب تفاضلها. وأمثال هذه العبر ، ولفت النظر مما انفرد به القرآن من بين سائر الكتب.

وأعيد اسم (الْأَرْضِ) الظاهر دون ضميرها الذي هو المقتضى ليستقل الكلام ويتجدد الأسلوب ، وأصل انتظام الكلام أن يقال : جعل فيها زوجين اثنين ، وفيها قطع متجاورات ، فعدل إلى هذا توضيحا وإيجازا.

والقطع : جمع قطعة بكسر القاف ، وهي الجزء من الشيء تشبيها لها بما يقتطع. وليس وصف القطع بمتجاورات مقصودا بالذات في هذا المقام إذ ليس هو محل العبرة بالآيات ، بل المقصود وصف محذوف دل عليه السياق تقديره ؛ مختلفات الألوان

١٤١

والمنابت ، كما دل عليه قوله : (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ).

وإنما وصفت بمتجاورات لأن اختلاف الألوان والمنابت مع التجاور أشد دلالة على القدرة العظيمة ، وهذا كقوله تعالى : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) [فاطر : ٢٧].

فمعنى (قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) بقاع مختلفة مع كونها متجاورة متلاصقة.

والاقتصار على ذكر الأرض وقطعها يشير إلى اختلاف حاصل فيها عن غير صنع الناس وذلك اختلاف المراعي والكلأ. ومجرد ذكر القطع كاف في ذلك فأحالهم على المشاهدة المعروفة من اختلاف منابت قطع الأرض من الأبّ والكلإ وهي مراعي أنعامهم ودوابّهم ، ولذلك لم يقع التعرض هنا لاختلاف أكله إذ لا مذاق للآدمي فيه ولكنه يختلف شرعه بعض الحيوان على بعضه دون بعض.

وتقدم الكلام على (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ) عند قوله تعالى : (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) [الأنعام : ٩٩].

والزرع تقدم في قوله : (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) [الأنعام : ١٤١].

والنخيل : اسم جمع نخلة مثل النخل ، وتقدم في تلك الآية ، وكلاهما في سورة الأنعام.

والزرع يكون في الجنات يزرع بين أشجارها.

وقرأ الجمهور (وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ) بالجر عطفا على (أَعْنابٍ) ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص ، ويعقوب بالرفع عطفا على (جَنَّاتٌ). والمعنى واحد لأن الزرع الذي في الجنات مساو للذي في غيرها فاكتفي به قضاء لحق الإيجاز. وكذلك على قراءة الرفع هو يغني عن ذكر الزرع الذي في الجنات ، والنخل لا يكون إلّا في جنات.

وصنوان : جمع صنو بكسر الصاد في الأفصح فيهما وهي لغة الحجاز ، وبضمها فيهما أيضا وهي لغة تميم وقيس. والصنو : النخلة المجتمعة مع نخلة أخرى نابتتين في أصل واحد أو نخلات. الواحد صنو والمثنى صنوان بدون تنوين ، والجمع صنوان بالتنوين جمع تكسير. وهذه الزنة نادرة في صيغ أو الجموع في العربية لم يحفظ منها إلا خمسة جموع : صنو وصنوان ، وقنو وقنوان ، وزيد بمعنى مثل وزيدان ، وشقذ (بذال

١٤٢

معجمة اسم الحرباء) وشقذان ، وحشّ (بمعنى بستان) وحشان.

وخصّ النخل بذكر صفة صنوان لأن العبرة بها أقوى. ووجه زيادة (وَغَيْرُ صِنْوانٍ) تجديد العبرة باختلاف الأحوال.

وقرأ الجمهور (صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) بجر (صِنْوانٌ) وجر (وَغَيْرُ) عطفا على (زَرْعٌ). وقرأهما ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص ، ويعقوب ـ بالرفع ـ عطفا على (وَجَنَّاتٌ).

والسقي : إعطاء المشروب. والمراد بالماء هنا ماء المطر وماء الأنهار وهو واحد بالنسبة للمسقى ببعضه.

والتفضيل : منة بالأفضل وعبرة به وبضده وكناية عن الاختلاف.

وقرأ الجمهور تسقى بفوقية اعتبارا بجمع (جَنَّاتٌ) ، وقرأه ابن عامر ، وعاصم ، ويعقوب (يُسْقى) بتحتية على تأويل المذكور.

وقرأ الجمهور (وَنُفَضِّلُ) بنون العظمة ، وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف ويفضل بتحتية. والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ). وتأنيث (بَعْضَها) عند من قرأ (يُسْقى) بتحتية دون أن يقول بعضه لأنه أريد يفضل بعض الجنات على بعض في الثمرة.

والأكل : بضم الهمزة وسكون الكاف هو المأكول. ويجوز في اللغة ضم الكاف.

وظرفية التفضيل في (الْأُكُلِ) ظرفية في معنى الملابسة لأن التفاضل يظهر بالمأكول ، أي نفضل بعض الجنات على بعض أو بعض الأعناب والزرع والنخيل على بعض من جنسه بما يثمره. والمعنى أن اختلاف طعومه وتفاضلها مع كون الأصل واحدا والغذاء بالماء واحدا ما هو إلا لقوى خفيّة أودعها الله فيها فجاءت آثارها مختلفة.

ومن ثم جاءت جملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) مجيء التذييل.

وأشار قوله : (ذلِكَ) إلى جميع المذكور من قوله : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) [سورة الرعد : ٣]. وقد جعل جميع المذكور بمنزلة الظرف للآيات. وجعلت دلالته على انفراده تعالى بالإلهية دلالات كثيرة إذ في كل شيء منها آية تدل على ذلك.

ووصفت الآيات بأنها من اختصاص الذين يعقلون تعريضا بأن من لم تقنعهم تلك

١٤٣

الآيات منزّلون منزلة من لا يعقل وزيد في الدلالة على أن العقل سجية للذين انتفعوا بتلك الآيات بإجراء وصف العقل على كلمة (لِقَوْمٍ) إيماء إلى أن العقل من مقومات قوميتهم كما بيناه في الآية قبلها.

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥))

عطف على جملة (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ) [الرعد : ٢] فلما قضي حق الاستدلال على الوحدانية نقل الكلام إلى الردّ على منكري البعث وهو غرض مستقل مقصود من هذه السورة. وقد أدمج ابتداء خلال الاستدلال على الوحدانية بقوله : (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) [الرعد : ٢] تمهيدا لما هنا ، ثم نقل الكلام إليه باستقلاله بمناسبة التدليل على عظيم القدرة مستخرجا من الأدلة السابقة عليه أيضا كقوله : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) [ق : ١٥] ـ وقوله ـ : (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) [سورة الطارق : ٨] فصيغ بصيغة التعجيب من إنكار منكري البعث لأن الأدلة السالفة لم تبق عذرا لهم في ذلك فصار في إنكارهم محل عجب المتعجب.

فليس المقصود من الشرط في مثل هذا تعليق حصول مضمون جواب الشرط على حصول فعل الشرط كما هو شأن الشروط لأن كون قولهم : (أَإِذا كُنَّا تُراباً) عجبا أمر ثابت سواء عجب منه المتعجب أم لم يعجب ، ولكن المقصود أنه إن كان اتصاف بتعجب فقولهم ذلك هو أسبق من كل عجب لكل متعجب ، ولذلك فالخطاب يجوز أن يكون موجها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو المناسب بما وقع بعده من قوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) [الرعد : ٦] وما بعده من الخطاب الذي لا يصلح لغير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويجوز أن يكون الخطاب هنا لغير معين مثل (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) [السجدة : ١٢].

والفعل الواقع في سياق الشرط لا يقصد تعلقه بمعمول معين فلا يقدر : إن تعجب من قول أو إن تعجب من إنكار ، بل ينزل الفعل منزلة اللازم ولا يقدر له مفعول. والتقدير : إن يكن منك تعجب فاعجب من قولهم إلخ ....

على أن وقوع الفعل في سياق الشرط يشبه وقوعه في سياق النفي فيكون لعموم

١٤٤

المفاعيل في المقام الخطابي ، أي إن تعجب من شيء فعجب قولهم. ويجوز أن تكون جملة (وَإِنْ تَعْجَبْ) إلخ عطفا على جملة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)[سورة الرعد : ١]. فالتقدير : إن تعجب من عدم إيمانهم بأن القرآن منزل من الله ، فعجب إنكارهم البعث.

وفائدة هذا هو التشويق لمعرفة المتعجب منه تهويلا له أو نحوه ، ولذلك فالتنكير في قوله : (فَعَجَبٌ) للتنويع لأن المقصود أن قولهم ذلك صالح للتعجيب منه ، ثم هو يفيد معنى التعظيم في بابه تبعا لما أفاده التعليق بالشرط من التشويق.

والاستفهام في (أَإِذا كُنَّا تُراباً) إنكاري ، لأنهم موقنون بأنهم لا يكونون في خلق جديد بعد أن يكونوا ترابا. والقول المحكي عنهم فهو في معنى الاستفهام عن مجموع أمرين وهما كونهم : ترابا ، وتجديد خلقهم ثانية. والمقصود من ذلك العجب والإحالة.

وقرأ الجمهور : (أَإِذا كُنَّا) بهمزة استفهام في أوله قبل همزة (إِذا). وقرأه ابن عامر بحذف همزة الاستفهام.

وقرأ الجمهور : (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) بهمزة استفهام قبل همزة (إِنَّا). وقرأه نافع وابن عامر وأبو جعفر بحذف همزة الاستفهام.

والإشارة بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) للتنبيه على أنهم أحرياء بما سيرد بعد اسم الإشارة من الخبر لأجل ما سبق اسم الإشارة من قولهم : (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) بعد أن رأوا دلائل الخلق الأول فحق عليهم بقولهم ذلك حكمان : أحدهما أنهم كفروا بربهم لأن قولهم : (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) لا يقوله إلا كافر بالله. أي بصفات إلهيته إذ جعلوه غير قادر على إعادة خلقه ؛ وثانيهما استحقاقهم العذاب.

وعطف على هذه الجملة جملة (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) مفتتحة باسم الإشارة لمثل الغرض الذي افتتحت به الجملة قبلها فإن مضمون الجملتين اللتين قبلها يحقق أنهم أحرياء بوضع الأغلال في أعناقهم وذلك جزاء الإهانة. وكذلك عطف جملة (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

وقوله : (الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) وعيد بسوقهم إلى الحساب سوق المذلة والقهر ، وكانوا يضعون الأغلال للأسرى المثقلين ، قال النابغة :

أو حرّة كمهاة الرمل قد كبلت

فوق المعاصم منها والعراقيب

١٤٥

تدعو قعينا وقد عض الحديد بها

عض الثقاف على صمّ الأنابيب

والأغلال : مع غل بضم الغين ، وهو القيد الذي يوضع في العنق ، وهو أشد التقييد. قال تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ) [غافر : ٧١].

وإعادة اسم الإشارة ثلاثا للتهويل.

وجملة (هُمْ فِيها خالِدُونَ) بيان لجملة أصحاب النار.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦))

جملة (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) عطف على جملة (وَإِنْ تَعْجَبْ) [الرعد : ٥] ، لأن كلتا الجملتين حكاية لغريب أحوالهم في المكابرة والعناد والاستخفاف بالوعيد. فابتدأ بذكر تكذيبهم بوعيد الآخرة لإنكارهم البعث ، ثم عطف عليه تكذيبهم بوعيد الدنيا لتكذيبهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي الاستخفاف بوعيد نزول العذاب وعدّهم إياه مستحيلا في حال أنهم شاهدوا آثار العذاب النازل بالأمم قبلهم ، وما ذلك إلا لذهولهم عن قدرة الله تعالى التي سيق الكلام للاستدلال عليها والتفريع عنها ، فهم يستعجلون بنزوله بهم استخفافا واستهزاء كقولهم : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] ، وقولهم : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) [الإسراء : ٩٣].

والباء في (بِالسَّيِّئَةِ) لتعدية الفعل إلى ما لم يكن يتعدى إليه. وتقدم عند قوله تعالى : (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) في سورة الأنعام [٥٧].

والسيئة : الحالة السيئة. وهي هنا المصيبة التي تسوء من تحل به. والحسنة ضدها ، أي أنهم سألوا من الآيات ما فيه عذاب بسوء ، كقولهم : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢] دون أن يسألوا آية من الحسنات.

فهذه الآية نزلت حكاية لبعض أحوال سؤالهم الظّانين أنه تعجيز ، والدالين به على التهكم بالعذاب.

وقبليّة السيئة قبلية اعتبارية ، أي مختارين السيئة دون الحسنة. وسيأتي تحقيقه عند قوله تعالى : (قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) في سورة النمل [٤٦] فانظره.

١٤٦

وجملة (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) في موضع الحال. وهو محل زيادة التعجيب لأن ذلك قد يعذرون فيه لو كانوا لم يروا آثار الأمم المعذبة مثل عاد وثمود.

والمثلات ـ بفتح الميم وضم المثلثة ـ : جمع مثلة ـ بفتح الميم وضم الثاء ـ كسمرة ، ـ وبضم الميم وسكون الثاء ـ كعرفة : وهي العقوبة الشديدة التي تكون مثالا تمثل به العقوبات.

وجملة (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) عطف على جملة (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ). وهذا كشف لغرورهم بتأخير العذاب عنهم لأنهم لمّا استهزءوا بالنبيءصلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعرضوا لسؤال حلول العذاب بهم ورأوا أنه لم يعجل لهم حلوله اعترتهم ضراوة بالتكذيب وحسبوا تأخير العذاب عجزا من المتوعد وكذبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يجهلون أن الله حليم يمهل عباده لعلهم يرجعون ، فالمغفرة هنا مستعملة في المغفرة الموقتة ، وهي التجاوز عن ضراوة تكذيبهم وتأخير العذاب إلى أجل ، كما قال تعالى : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [سورة النحل : ٣٤].

وقرينة ذلك أن الكلام جار على عذاب الدنيا وهو الذي يقبل التأخير كما قال تعالى : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) [الدخان : ١٥] ، أي عذاب الدنيا ، وهو الجوع الذي أصيب به قريش بعد أن كان يطعمهم من جوع.

و (عَلى) في قوله : (عَلى ظُلْمِهِمْ) بمعنى مع.

وسياق الآية يدل على أن المراد بالمغفرة هنا التجاوز عن المشركين في الدنيا بتأخير العقاب لهم إلى أجل أراده الله أو إلى يوم الحساب ، وأن المراد بالعقاب في قوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) ضد تلك المغفرة وهو العقاب المؤجل في الدنيا أو عقاب يوم الحساب ، فمحمل الظلم على ما هو المشهور في اصطلاح القرآن من إطلاقه على الشرك.

ويجوز أن يحمل الظلم على ارتكاب الذنوب بقرينة السياق كإطلاقه في قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [سورة النساء : ١٦٠] فلا تعارض أصلا بين هذا المحمل وبين قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] كما هو ظاهر.

وفائدة هذه العلاوة إظهار شدة رحمة الله بعباده في الدنيا كما قال : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ

١٤٧

النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى)[فاطر : ٤٥].

وجملة (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) احتراس لئلا يحسبوا أن المغفرة المذكورة مغفرة دائمة تعريضا بأن العقاب حال بهم من بعد.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧))

عطف على جملة (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ) الآية. وهذه حالة من أعجوباتهم وهي عدم اعتدادهم بالآيات التي تأيّد بها محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعظمها آيات القرآن ، فلا يزالون يسألون آية كما يقترحونها ، فله اتصال بجملة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) [هود : ١٧].

ومرادهم بالآية في هذا خارق عادة على حساب ما يقترحون ، فهي مخالفة لما تقدم في قوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) لأن تلك في تعجيل ما توعدهم به ، وما هنا في مجيء آية تؤيده كقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) [الأنعام : ٨].

ولكون اقتراحهم آية يشفّ عن إحالتهم حصولها لجهلهم بعظيم قدرة الله تعالى سيق هذا في عداد نتائج عظيم القدرة ، كما دل عليه قوله تعالى في سورة الأنعام : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [الأنعام: ٣٦] فبذلك انتظم تفرع الجمل بعضها على بعض وتفرع جميعها على الغرض الأصلي.

والذين كفروا هم عين أصحاب ضمير (يَسْتَعْجِلُونَكَ) ، وإنما عدل عن ضميرهم إلى اسم الموصول لزيادة تسجيل الكفر عليهم ، ولما يومئ إليه الموصول من تعليل صدور قولهم ذلك.

وصيغة المضارع تدل على تجدد ذلك وتكرره.

و (لَوْ لا) حرف تحضيض. يموهون بالتحضيض أنهم حريصون وراغبون في نزول آية غير القرآن ليؤمنوا ، وهم كاذبون في ذلك إذ لو أوتوا آية كما يقترحون لكفروا بها ، كما قال تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) [الإسراء : ٥٩].

وقد رد الله اقتراحهم من أصله بقوله : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) ، فقصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على

١٤٨

صفة الإنذار وهو قصر إضافي ، أي أنت منذر لا موجد خوارق عاد. وبهذا يظهر وجه قصره على الإنذار دون البشارة لأنه قصر إضافي بالنسبة لأحواله نحو المشركين.

وجملة (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) تذييل بالأعم ، أي إنما أنت منذر لهؤلاء لهدايتهم ، ولكل قوم هاد أرسله الله ينذرهم لعلهم يهتدون ، فما كنت بدعا من الرسل وما كان للرسل من قبلك آيات على مقترح أقوامهم بل كانت آياتهم بحسب ما أراد الله أن يظهر على أيديهم. على أن معجزات الرسل تأتي على حسب ما يلائم حال المرسل إليهم.

ولما كان الذين ظهرت بينهم دعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عربا أهل فصاحة وبلاغة جعل الله معجزته العظمى القرآن بلسان عربي مبين. وإلى هذا المعنى يشير قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح ؛ «ما من الأنبياء نبيء إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».

وبهذا العموم الحاصل بالتذييل والشامل للرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ صار المعنى إنما أنت منذر لقومك هاد إياهم إلى الحق ، فإن الإنذار والهدي متلازمان فما من إنذار إلّا وهو هداية وما من هداية إلا وفيها إنذار ، والهداية أعمّ من الإنذار ففي هذا احتباك بديع.

وقرأ الجمهور (هادٍ) بدون ياء في آخره في حالتي الوصل والوقف. أما في الوصل فلالتقاء الساكنين سكون الياء وسكون التنوين الذي يجب النطق به في حالة الوصل ، وأما في حالة الوقف فتبعا لحالة الوصل ، وهو لغة فصيحة وفيه متابعة رسم المصحف.

وقرأه ابن كثير في الوصل مثل الجمهور. وقرأه بإثبات الياء في الوقف لزوال موجب حذف الياء وهو لغة صحيحة.

[٨ ، ٩] (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩))

انتقال إلى الاستدلال على تفرد الله تعالى بالإلهية ، فهو متصل بجملة (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) [الرعد : ٢] إلخ.

وهذه الجملة استئناف ابتدائي. فلما قامت البراهين العديدة بالآيات السابقة على وحدانية الله تعالى بالخلق والتدبير وعلى عظيم قدرته التي أودع بها في المخلوقات دقائق

١٤٩

الخلقة انتقل الكلام إلى إثبات العلم له تعالى علما عاما بدقائق الأشياء وعظائمها ، ولذلك جاء افتتاحه على الأسلوب الذي افتتح به الغرض السابق بأن ابتدئ باسم الجلالة كما ابتدئ به هنالك في قوله : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [الرعد : ٢].

وجعلت هذه الجملة في هذا الموقع لأن لها مناسبة بقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ، فإن ما ذكر فيها من علم الله وعظيم صنعه صالح لأن يكون دليلا على أنه لا يعجزه الإتيان بما اقترحوا من الآيات ؛ ولكن بعثة الرسول ليس المقصد منها المنازعات بل هي دعوة للنظر في الأدلة.

وإذ قد كان خلق الله العوالم وغيرها معلوما لدى المشركين ولكنّ الإقبال على عبادة الأصنام يذهلهم عن تذكره كانوا غير محتاجين لأكثر من التذكير بذلك وبالتنبيه إلى ما قد يخفى من دقائق التكوين كقوله آنفا (بِغَيْرِ عَمَدٍ) [الرعد : ٢] ـ وقوله : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) [الرعد : ٤] إلخ ؛ صيغ الإخبار عن الخلق في آية : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) [الرعد : ٢] إلخ بطريقة الموصول للعلم بثبوت مضمون الصلة للمخبر عنه.

وجيء في تلك الصلة بفعل المضي فقال : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) كما أشرنا إليه آنفا. فأما هنا فصيغ الخبر بصيغة المضارع المفيد للتجدد والتكرير لإفادة أن ذلك العلم متكرر متجدد التعلق بمقتضى أحوال المعلومات المتنوعة والمتكاثرة على نحو ما قرر في قوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ) [الرعد : ٢].

وذكر من معلومات الله ما لا نزاع في أنه لا يعلمه أحد من الخلق يومئذ ولا تستشار فيه آلهتهم على وجه المثال بإثبات الجزئي لإثبات الكلّي ، فما تحمل كل أنثى هي أجنة الإنسان والحيوان. ولذلك جيء بفعل الحمل دون الحبل لاختصاص الحبل بحمل المرأة.

و (ما) موصولة ، وعمومها يقتضي علم الله بحال الحل الموجود من ذكورة وأنوثة ، وتمام ونقص ، وحسن وقبح ، وطول وقصر ، ولون.

وتغيض : تنقص ، والظاهر أنه كناية عن العلوق لأن غيض الرحم انحباس دم الحيض عنها ، وازديادها : فيضان الحيض منها. ويجوز أن يكون الغيض مستعارا لعدم التعدد.

والازدياد : التعدد أي ما يكون في الأرحام من جنين واحد أو عدة أجنة وذلك في الإنسان والحيوان.

١٥٠

وجملة (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) معطوفة على جملة (يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى). فالمراد بالشيء الشيء من المعلومات. و (عِنْدَهُ) يجوز أن يكون خبرا عن (وَكُلُّ شَيْءٍ) و (بِمِقْدارٍ) في موضع الحال من (وَكُلُّ شَيْءٍ). ويجوز أن يكون (بِمِقْدارٍ) في موضع الحال من مقدار ويكون (بِمِقْدارٍ) خبرا عن (كُلُّ شَيْءٍ).

والمقدار : مصدر ميمي بقرينة الباء ، أي بتقدير ، ومعناه : التحديد والضبط. والمعنى أنه يعلم كلّ شيء علما مفصّلا لا شيوع فيه ولا إبهام. وفي هذا ردّ على الفلاسفة غير المسلمين القائلين أنّ واجب الوجود يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات فرارا من تعلّق العلم بالحوادث. وقد أبطل مذهبهم علماء الكلام بما ليس فوقه مرام. وهذه قضية كلية أثبتت عموم علمه تعالى بعد أن وقع إثبات العموم بطريقة التمثيل بعلمه بالجزئيات الخفية في قوله : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ).

وجملة (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) تذييل وفذلكة لتعميم العلم بالخفيات والظواهر وهما قسما الموجودات. وقد تقدم ذكر (الْغَيْبِ) في صدر سورة البقرة [٤].

وأما (الشَّهادَةِ) فهي هنا مصدر بمعنى المفعول ، أي الأشياء المشهودة ، وهي الظاهرة المحسوسة ، المرئيات وغيرها من المحسوسات ، فالمقصود من (الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) تعميم الموجودات كقوله : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ)[الحاقة : ٣٨ ـ ٣٩].

والكبير : مجاز في العظمة ، إذ قد شاع استعمال أسماء الكثرة وألفاظ الكبر في العظمة تشبيها للمعقول بالمحسوس وشاع ذلك حتى صار كالحقيقة. والمتعالي : المترفع. وصيغت الصفة بصيغة التفاعل للدلالة على أن العلو صفة ذاتية له لا من غيره ، أي الرفيع رفعة واجبة له عقلا. والمراد بالرفعة هنا المجاز عن العزة التامة بحيث لا يستطيع موجود أن يغلبه أو يكرهه ، أو المنزه عن النقائص كقوله عزوجل (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [النحل : ٣].

وحذف الياء من (الْمُتَعالِ) لمرعاة الفواصل الساكنة لأن الأفصح في المنقوص غير المنوّن إثبات الياء في الوقف إلّا إذا وقعت في القافية أو في الفواصل كما في هذه الآية لمراعاة (مِنْ والٍ) [الرعد : ١١] ، و (الْآصالِ) [الرعد : ١٥].

وقد ذكر سيبويه أن ما يختار إثباته من الياءات والواوات يحذف في الفواصل والقوافي ، والإثبات أقيس والحذف عربي كثير.

١٥١

(سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠))

موقع هذه الجملة استئناف بياني لأنّ مضمونها بمنزلة النّتيجة لعموم علم الله تعالى بالخفيات والظواهر. وعدل عن الغيبة المتبعة في الضمائر فيما تقدم إلى الخطاب هنا في قوله : (سَواءٌ مِنْكُمْ) لأنه تعليم يصلح للمؤمنين والكافرين.

وفيها تعريض بالتهديد للمشركين المتآمرين على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

و (سَواءٌ) اسم بمعنى مستو. وإنما يقع معناه بين شيئين فصاعدا. واستعمل سواء في الكلام ملازما حالة واحدة فيقال : هما سواء وهم سواء ، قال تعالى : (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ). وموقع سواء هنا موقع المبتدأ. و (مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ) فاعل سدّ مسدّ الخبر ، ويجوز جعل (سَواءٌ) خبرا مقدّما و (مَنْ أَسَرَّ) مبتدأ مؤخّرا و (مِنْكُمْ) حال (مَنْ أَسَرَّ).

والاستخفاء : هنا الخفاء ، فالسين والتاء للمبالغة في الفعل مثل استجاب.

والسارب : اسم فاعل من سرب إذا ذهب في السّرب ـ بفتح السين وسكون الراء ـ وهو الطريق. وهذا من الأفعال المشتقة من الأسماء الجامدة. وذكر الاستخفاء مع الليل لكونه أشد خفاء ، وذكر السروب مع النهار لكونه أشد ظهورا. والمعنى : أن هذين الصنفين سواء لدى علم الله تعالى.

والواو التي عطفت أسماء الموصول على الموصول الأول للتقسيم فهي بمعنى أو.

(لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١))

(لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ)

جملة (لَهُ مُعَقِّباتٌ) إلى آخرها ، يجوز أن تكون متصلة ب (مِنْ) الموصولة من قوله : (مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) [الرعد : ١٠]. على أن الجملة خبر ثان عن (مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ) وما عطف عليه.

والضمير في (لَهُ) والضمير المنصوب في (يَحْفَظُونَهُ) ، وضميرا (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ

١٥٢

خَلْفِهِ) جاءت مفردة لأن كلا منها عائد إلى أحد أصحاب تلك الصلات حيث إن ذكرهم ذكر أقسام من الذين جعلوا سواء في علم الله تعالى ، أي لكل من أسرّ القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنّهار معقبات يحفظونه من غوائل تلك الأوقات.

ويجوز أن تتصل الجملة ب (مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) [الرعد : ١٠] ، وإفراد الضمير لمراعاة عطف صلة على صلة دون إعادة الموصول. والمعنى كالوجه الأول.

و (المعقبات) جمع معقّبة ـ بفتح العين وتشديد القاف مكسورة ـ اسم فاعل عقّبه إذا تبعه. وصيغة التفعيل فيه للمبالغة في العقب. يقال : عقبه إذا اتبعه واشتقاقه من العقب ـ يقال فكسر ـ وهو اسم لمؤخّر الرجل فهو فعل مشتق من الاسم الجامد لأنّ الّذي يتبع غيره كأنّه يطأ على عقبه ، والمراد : ملائكة معقّبات. والواحد معقب.

وإنما جمع جمع مؤنث بتأويل الجماعات.

والحفظ : المراقبة ، ومنه سمي الرقيب حفيظا. والمعنى : يراقبون كلّ أحد في أحواله من إسرار وإعلان ، وسكون وحركة ، أي في أحوال ذلك ، قال تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) [الانفطار : ١٠].

و (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) مستعمل في معنى الإحاطة من الجهات كلها.

وقوله : (مِنْ أَمْرِ اللهِ) صفة (مُعَقِّباتٌ) ، أي جماعات من جند الله وأمره ، كقوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥] وقوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢] يعني القرآن.

ويجوز أن يكون الحفظ على الوجه الثاني مرادا به الوقاية والصيانة ، أي يحفظون من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ، أي يقونه أضرار الليل من اللصوص وذوات السموم ، وأضرار النّهار نحو الزحام والقتال ، فيكون (مِنْ أَمْرِ اللهِ) جارا ومجرورا لغوا متعلقا ب (يَحْفَظُونَهُ) ، أي يقونه من مخلوقات الله. وهذا منّة على العباد بلطف الله بهم وإلا لكان أدنى شيء يضر بهم. قال تعالى : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) [سورة الشورى : ١٩].

(إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) جملة معترضة بين الجمل المتقدمة المسوقة للاستدلال على عظيم قدرة الله تعالى وعلمه بمصنوعاته وبين التذكير بقوة قدرته وبين جملة (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً

١٥٣

وَطَمَعاً) [سورة الرعد : ١٢]. والمقصود تحذيرهم من الإصرار على الشّرك بتحذيرهم من حلول العقاب في الدنيا في مقابلة استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة ، ذلك أنهم كانوا في نعمة من العيش فبطروا النعمة وقابلوا دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالهزء وعاملوا المؤمنين بالتّحقير وقالوا لو نزل (هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] ـ (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) [المزمل : ١١].

فذكرهم الله بنعمته عليهم ونبههم إلى أنّ زوالها لا يكون إلّا بسبب أعمالهم السيّئة بعد ما أنذرهم ودعاهم.

والتغيير : التبديل بالمغاير ، فلا جرم أنه تهديد لأولي النعمة من المشركين بأنهم قد تعرضوا لتغييرها. فما صدق (ما) الموصولة حالة ، والباء للملابسة ، أي حالة ملابسة لقوم ، أي حالة نعمة لأنها محل التحذير من التغيير ، وأما غيرها فتغييره مطلوب. وأطلق التغيير في قوله : (حَتَّى يُغَيِّرُوا) على التسبب فيه على طريقة المجاز العقلي.

وجملة (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) تصريح بمفهوم الغاية المستفاد من (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) تأكيدا للتحذير. لأن المقام لكونه مقام خوف ووجل يقتضي التصريح دون التعريض ولا ما يقرب منه ، أي إذا أراد الله أن يغيّر ما بقوم حين يغيرون ما بأنفسهم لا يردّ إرادته شيء. وذلك تحذير من الغرور أن يقولوا : سنسترسل على ما نحن فيه فإذا رأينا العذاب آمنا. وهذا كقوله : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) [سورة يونس : ٩٨] الآية.

وجملة (وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) زيادة في التحذير من الغرور لئلا يحسبوا أن أصنامهم شفعاؤهم عند الله.

والوالي : الذي يلي أمر أحد ، أي يشتغل بأمره اشتغال تدبير ونفع ، مشتق من ولي إذا قرب ، وهو قرب ملابسة ومعالجة.

وقرأ الجمهور (مِنْ والٍ) بتنوين (والٍ) دون ياء في الوصل والوقف. وقرأه ابن كثير ـ بياء بعد اللام ـ وقفا فقط دون الوصل كما علمته في قوله تعالى (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) في هذه السورة الرعد [٣٣].

[١٢ ، ١٣] (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢)

(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ

١٥٤

وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣))

استئناف ابتدائي على أسلوب تعداد الحجج الواحدة تلوى الأخرى ، فلأجل أسلوب التعداد إذ كان كالتكرير لم يعطف على جملة (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ)[الرعد : ١٠].

وقد أعرب هذا عن مظهر من مظاهر قدرة الله وعجيب صنعه. وفيه من المناسبة للإنذار بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) [سورة الرعد : ١١] إلخ أنه مثال لتصرف الله بالإنعام والانتقام في تصرف واحد مع تذكيرهم بالنعمة التي هم فيها. وكل ذلك مناسب لمقاصد الآيات الماضية في قوله : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) [سورة الرعد : ٨] وقوله: (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) [سورة الرعد : ٨] ، فكانت هذه الجملة جديرة بالاستقلال وأن يجاء بها مستأنفة لتكون مستقلة في عداد الجمل المستقلة الواردة في غرض السورة.

وجاء هنا بطريق الخطاب على أسلوب قوله : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ) [سورة الرعد : ١٠] لأن الخوف والطمع يصدران من المؤمنين ويهدد بهما الكفرة.

وافتتحت الجملة بضمير الجلالة دون اسم الجلالة المفتتح به في الجمل السابقة ، فجاءت على أسلوب مختلف. وأحسب أن ذلك مراعاة لكون هاته الجملة مفرعة عن أغراض الجمل السابقة فإن جمل فواتح الأغراض افتتحت بالاسم العلم كقوله : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ) [سورة الرعد : ٢] وقوله : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) [سورة الرعد : ٨] وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) [سورة الرعد : ١١] ، وجمل التفاريع افتتحت بالضمائر كقوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) [سورة الرعد : ٤] وقوله : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) [سورة الرعد : ٣] وقوله : (جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ).

و (خَوْفاً وَطَمَعاً) مصدران بمعنى التخويف والإطماع ، فهما في محل المفعول لأجله لظهور المراد.

وجعل البرق آية نذارة وبشارة معا لأنهم كانوا يسمون البرق فيتوسمون الغيث وكانوا يخشون صواعقه.

وإنشاء السحاب : تكوينه من عدم بإثارة الأبخرة التي تتجمع سحابا.

والسحاب : اسم جمع لسحابة. والثقال : جمع ثقيلة. والثقل كون الجسم أكثر كمية

١٥٥

أجزاء من أمثاله ، فالثقل أمر نسبي يختلف باختلاف أنواع الأجسام ، فرب شيء يعد ثقيلا في نوعه وهو خفيف بالنسبة لنوع آخر. والسحاب يكون ثقيلا بمقدار ما في خلاله من البخار. وعلامة ثقله قربه من الأرض وبطء تنقله بالرياح. والخفيف منه يسمى جهاما.

وعطف الرعد على ذكر البرق والسحاب لأنه مقارنهما في كثير من الأحوال.

ولما كان الرعد صوتا عظيما جعل ذكره عبرة للسامعين لدلالة الرعد بلوازم عقلية على أن الله منزه عما يقوله المشركون من ادعاء الشركاء ، وكان شأن تلك الدلالة أن تبعث الناظر فيها على تنزيه الله عن الشريك جعل صوت الرعد دليلا على تنزيه الله تعالى ، فإسناد التسبيح إلى الرعد مجاز عقلي. ولك أن تجعله استعارة مكنية بأن شبه الرعد بآدمي يسبح الله تعالى ، وأثبت شيء من علائق المشبّه به وهو التسبيح ، أي قول سبحان الله.

والباء في (بِحَمْدِهِ) للملابسة ، أي ينزه الله تنزيها ملابسا لحمده من حيث إنه دال على اقتراب نزول الغيث وهو نعمة تستوجب الحمد. فالقول في ملابسة الرعد للحمد مساو للقول في إسناد التسبيح إلى الرعد. فالملابسة مجازية عقلية أو استعارة مكنية.

و (الْمَلائِكَةُ) عطف على الرعد ، أي وتسبح الملائكة من خيفته ، أي من خوف الله.

و (مِنْ) للتعليل ، أي ينزهون الله لأجل الخوف منه ، أي الخوف مما لا يرضى به وهو التقصير في تنزيهه.

وهذا اعتراض بين تعداد المواعظ لمناسبة التعريض بالمشركين ، أي أن التنزيه الذي دلت عليه آيات الجو يقوم به الملائكة ، فالله غني عن تنزيهكم إياه ، كقوله : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) [سورة الزمر : ٧] ، وقوله : (وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) [سورة إبراهيم : ٨].

واقتصر في العبرة بالصواعق على الإنذار بها لأنها لا نعمة فيها لأن النعمة حاصلة بالسحاب وأما الرعد فآلة من آلات التخويف والإنذار. كما قال في آية سورة البقرة (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) [سورة البقرة : ١٩]. وكان العرب يخافون الصواعق. ولقبوا خويلد بن نفيل الصعق لأنه أصابته صاعقة أحرقته.

ومن هذا القبيل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوّف الله بهما عباده» ، أي بكسوفهما فاقتصر في آيتهما على الإنذار إذ لا يترقب الناس من كسوفهما نفعا.

١٥٦

وجملة (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) في موضع الحال لأنه من متممات التعجب الذي في قوله : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) [الرعد : ٥] إلخ. فضمائر الغيبة كلها عائدة إلى الكفار الذين تقدم ذكرهم في صدر السورة بقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) [الرعد : ١] وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) [الرعد : ٥] وقوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [الرعد : ٧]. وقد أعيد الأسلوب هنا إلى ضمائر الغيبة لانقضاء الكلام على ما يصلح لموعظة المؤمنين والكافرين فتمحض تخويف الكافرين.

والمجادلة : المخاصمة والمراجعة بالقول. وتقدم في قوله تعالى : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) في سورة النساء [١٠٧].

وقد فهم أن مفعول (يُجادِلُونَ) هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون. فالتقدير : يجادلونك أو يجادلونكم ، كقوله : (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) في سورة الأنفال [٦].

والمجادلة إنما تكون في الشئون والأحوال ، فتعليق اسم الجلالة المجرور بفعل (يُجادِلُونَ) يتعين أن يكون على تقدير مضاف تدل عليه القرينة ، أي في توحيد الله أو في قدرته على البعث.

ومن جدلهم ما حكاه قوله : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ* وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ). في سورة يس [٧٧ ، ٧٨].

والمحال : بكسر الميم يحتمل هنا معنيين ، لأنه إن كانت الميم فيه أصلية فهو فعال بمعنى الكيد وفعله محل ، ومنه قولهم تمحل إذا تحيل. جعل جدالهم في الله جدال كيد لأنهم يبرزونه في صورة الاستفهام في نحو قولهم : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) فقوبل ب (شَدِيدُ الْمِحالِ) على طريقة المشاكلة ، أي وهو شديد المحال لا يغلبونه ، ونظيره (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [سورة آل عمران : ٥٤].

وقال نفطويه : هو من ماحل عن أمره ، أي جادل. والمعنى : وهو شديد المجادلة ، أي قوي الحجة.

وإن كانت الميم زائدة فهو مفعل من الحول بمعنى القوة ، وعلى هذا فإبدال الواو ألفا على غير قياس لأنه لا موجب للقلب لأن ما قبل الواو ساكن سكونا حيا. فلعلهم

١٥٧

قلبوها ألفا للتفرقة بينه وبين محول بمعنى صبي ذي حول ، أي سنة.

وذكر الواحدي والطبري أخبارا عن أنس وابن عباس ـ رضي‌الله‌عنهما ـ أن هذه الآية نزلت في قضية عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة حين وردا المدينة يشترطان لدخولهما في الإسلام شروطا لم يقبلها منهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فهمّ أربد بقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصرفه الله ، فخرج هو وعامر بن الطفيل قاصدين قومهما وتواعدا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يجلبا عليه خيل بني عامر. فأهلك الله أربد بصاعقة أصابته وأهلك عامرا بغدة نبتت في جسمه فمات منها وهو في بيت امرأة من بني سلول في طريقه إلى أرض قومه ، فنزلت في أربد (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ) وفي عامر (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ)

. وذكر الطبري عن صحار العبدي : أنها نزلت في جبار آخر. وعن مجاهد : أنها نزلت في يهودي جادل في الله فأصابته صاعقة.

ولما كان عامر بن الطفيل إنما جاء المدينة بعد الهجرة وكان جدال اليهود لا يكون إلا بعد الهجرة أقدم أصحاب هذه الأخبار على القول بأن السورة مدنية أو أن هذه الآيات منها مدنية ، وهي أخبار ترجع إلى قول بعض الناس بالرأي في أسباب النزول. ولم يثبت في ذلك خبر صحيح صريح فلا اعتداد بما قالوه فيها ولا يخرج السورة عن عداد السور المكية. وفي هذه القصة أرسل عامر بن الطفيل قوله : «أغدّة كغدة البعير وموت في بيت سلولية» مثلا. ورثى لبيد بن ربيعة أخاه أربد بأبيات منها :

أخشى على أربد الحتوف ولا

أرهب نوء السماك والأسد (١)

فجّعني الرعد والصواعق بالف

ارس يوم الكريهة النّجد

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤))

استئناف ابتدائي بمنزلة النتيجة ونهوض المدلل عليه بالآيات السالفة التي هي براهين الانفراد بالخلق الأول ، ثم الخلق الثاني ، وبالقدرة التامة التي لا تدانيها قدرة قدير ، وبالعلم العام ، فلا جرم أن يكون صاحب تلك الصفات هو المعبود بالحق وأن عبادة غيره ضلال.

__________________

(١) السماك ـ بكسر السين ـ اسم لنجوم.

١٥٨

والدعوة : طلب الإقبال ، وكثر إطلاقها على طلب الإقبال للنجدة أو للبذل. وذلك متعين فيها إذا أطلقت في جانب الله لاستحالة الإقبال الحقيقي فالمراد طلب الإغاثة أو النعمة.

وإضافة الدعوة إلى الحق إمّا من إضافة الموصوف إلى الصفة إن كان الحق بمعنى مصادفة الواقع ، أي الدعوة التي تصادف الواقع ، أي استحقاقه إياها ؛ وإما من إضافة الشيء إلى منشئه كقولهم : برود اليمن ، أي الدعوة الصادرة عن حق وهو ضد الباطل ، فإن دعاء الله يصدر عن اعتقاد الوحدانية وهو الحق ، وعبادة الأصنام تصدر عن اعتقاد الشرك وهو الباطل.

واللام للملك المجازي وهو الاستحقاق. وتقديم الجار والمجرور على المبتدا لإفادة التخصيص ، أي دعوة الحق ملكه لا ملك غيره ، وهو قصر إضافي.

وقد صرح بمفهوم جملة القصر بجملة (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) [سورة الرعد : ١٤] ، فكانت بيانا لها. وكان مقتضى الظاهر أن تفصل ولا تعطف وإنما عطفت لما فيها من التفصيل والتمثيل ، فكانت زائدة على مقدار البيان. والمقصود بيان عدم استحقاق الأصنام أن يدعوها الداعون. واسم الموصول صادق على الأصنام. وضمير يدعون للمشركين. ورابط الصلة ضمير نصب محذوف. والتقدير : والذين يدعونهم من دونه لا يستجيبون لهم.

وأجري على الأصنام ضمير العقلاء في قوله : (لا يَسْتَجِيبُونَ) مجازاة للاستعمال الشائع في كلام العرب لأنهم يعاملون الأصنام معاملة عاقلين.

والاستجابة : إجابة نداء المنادي ودعوة الداعي ، فالسين والتاء لقوة الفعل.

والباء في بشيء لتعدية (يَسْتَجِيبُونَ) لأن فعل الإجابة يتعدى إلى الشيء المجاب به بالباء ، وإذا أريد من الاستجابة تحقيق المأمول اقتصر على الفعل. كقوله : (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) [سورة يوسف : ٣٤].

فلما أريد هنا نفي إجداء دعائهم الأصنام جعل نفي الإجابة متعديا بالباء إلى انتفاء أقل ما يجيب به المسئول وهو الوعد بالعطاء أو الاعتذار عنه ، فهم عاجزون عن ذلك وهم أعجز عما فوقه.

وتنكير «شيء» للتحقير. والمراد أقل ما يجاب به من الكلام.

١٥٩

والاستثناء في (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ) من عموم أحوال الداعين والمستجيبين والدعوة والاستجابة ، لأنه تشبيه هيئة فهو يسري إلى جميع أجزائها فلك أن تقدر الكلام إلا كداع باسط أو إلّا كحال باسط. والمعنى : لا يستجيبونهم في حال من أحوال الدعاء والاستجابة إلا في حال لداع ومستجيب كحال باسط كفيه إلى الماء. وهذا الاستثناء من تأكيد الشيء بما يشبه ضده فيؤول إلى نفي الاستجابة في سائر الأحوال بطريق التمليح والكناية.

والمراد ب (باسط كفيه) من يغترف ماء بكفين مبسوطتين غير مقبوضتين إذ الماء لا يستقر فيهما. وهذا كما يقال : هو كالقابض على الماء ، في تمثيل إضاعة المطلوب. وأنشد أبو عبيدة :

فأصبحت فيما كان بيني وبينها

من الودّ مثل القابض الماء باليد

و (إِلَى) للانتهاء لدلالة (كَباسِطِ) على أنه مدّ إلى الماء كفيه مبسوطتين.

واللام في (لِيَبْلُغَ) للعلة. وضمير (لِيَبْلُغَ) عائد إلى الماء. وكذلك ضمير (هُوَ) والضمير المضاف إليه في (بالغه) للفم.

والكلام تمثيلية. شبّه حال المشركين في دعائهم الأصنام وجلب نفعهم وعدم استجابة الأصنام لهم بشيء بحال الظمآن يبسط كفيه يبتغي أن يرتفع الماء في كفيه المبسوطتين إلى فمه ليرويه وما هو ببالغ إلى فمه بذلك الطلب فيذهب سعيه وتعبه باطلا مع ما فيه من كناية وتمليح كما ذكرناه.

وجملة (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) عطف على جملة (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) لاستيعاب حال المدعو وحال الداعي. فبينت الجملة السابقة حال عجز المدعو عن الإجابة وأعقبت بالتمثيل المشتمل على كناية وتمليح. واشتمل ذلك أيضا بالكناية على خيبة الداعي.

وبينت هذه الجملة الثانية حال خيبة الداعي بالتصريح عقب تبيينه بالكناية. فباختلاف الغرض والأسلوب حسن العطف ، وبالمآل حصل توكيد الجملة الأولى وتقريرها وكانت الثانية كالفذلكة لتفصيل الجملة الأولى.

والضلال : التلف والضياع. و (فِي) للظرفية المجازية للدلالة على التمكن في الوصف ، أي إلا ضائع ضياعا شديدا.

١٦٠