تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٤

العظمى في الآخرة ، فذكر ثلاث نعم : اثنتان دنيويتان وهما : نعمة الولاية على الأرض ونعمة العلم ، والثالثة : أخروية وهي نعمة الدين الحق المعبر عنه بالإسلام ـ وجعل الذي أوتيه بعضا من الملك ومن التأويل لأن ما أوتيه بعض من جنس الملك وبعض من التأويل إشعارا بأن ذلك في جانب ملك الله وفي جانب علمه شيء قليل. وعلى هذا يكون المراد بالملك التصرف العظيم الشبيه بتصرف الملك إذ كان يوسف ـ عليه‌السلام ـ هو الذي يسير الملك برأيه. ويجوز أن يراد بالملك حقيقته ويكون التبعيض حقيقيا ، أي آتيتني بعض الملك لأن الملك مجموع تصرفات في أمر الرعية ، وكان ليوسف ـ عليه‌السلام ـ من ذلك الحظّ الأوفر ، وكذلك تأويل الأحاديث.

وتقدم معنى تأويل الأحاديث عند قوله تعالى : (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) [يوسف : ٦] في هذه السورة.

و (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) نداء محذوف حرف ندائه. والفاطر : الخالق. وتقدم عند قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في سورة الأنعام [١٤].

والولي : الناصر ، وتقدم عند قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) في سورة الأنعام.

وجملة (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) من قبيل الخبر في إنشاء الدعاء وإن أمكن حمله على الإخبار بالنسبة لولاية الدنيا ، قيل لإثباته ذلك الشيء لولاية الآخرة. فالمعنى : كن وليي في الدنيا والآخرة.

وأشار بقوله : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) إلى النعمة العظمى وهي نعمة الدين الحق ، فإن طلب توفّيه على الدين الحق يقتضي أنه متصف بالدين الحق المعبر عنه بالإسلام من الآن ، فهو يسأل الدوام عليه إلى الوفاة.

والمسلم : الذي اتصف بالإسلام ، وهو الدين الكامل ، وهو ما تعبّد الله به الأنبياء والرسل ـ عليهم‌السلام ـ. وقد تقدم عند قوله تعالى : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) في سورة آل عمران [١٠٢].

والإلحاق : حقيقته جعل الشيء لا حقا ، أي مدركا من سبقه في السّير. وأطلق هنا مجازا على المزيد في عداد قوم.

١٢١

والصالحون : المتصفون بالصلاح ، وهو التزام الطاعة. وأراد بهم الأنبياء. فإن كان يوسف ـ عليه‌السلام ـ يومئذ نبيئا فدعاؤه لطلب الدوام على ذلك ، وإن كان نبّئ فيما بعد فهو دعاء لحصوله ، وقد صار نبيئا بعد ورسولا.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢))

تذييل للقصة عند انتهائها. والإشارة إلى ما ذكر من الحادث أي ذلك المذكور.

واسم الإشارة لتمييز الأنباء أكمل تمييز لتتمكن من عقول السامعين لما فيها من المواعظ.

و (الْغَيْبِ) ما غاب عن علم الناس ، وأصله مصدر غاب فسمي به الشيء الذي لا يشاهد. وتذكير ضمير (نُوحِيهِ) لأجل مراعاة اسم الإشارة.

وضمائر (لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) عائدة إلى كل من صدر منه ذلك في هذه القصة من الرجال والنساء على طريقة التغليب ، يشمل إخوة يوسف ـ عليه‌السلام ـ والسيارة ، وامرأة العزيز ، ونسوتها.

و (أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) تفسيره مثل قوله : (وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي) غيابات الجب [يوسف : ١٥].

والمكر تقدم ، وهذه الجملة استخلاص لمواضع العبرة من القصة. وفيها منّة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتعريض للمشركين بتنبيههم لإعجاز القرآن من الجانب العلمي ، فإن صدور ذلك من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأميّ آية كبرى على أنه وحي من الله تعالى. ولذلك عقب بقوله : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).

وكان في قوله : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) توركا على المشركين. وجملة (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) في موضع الحال إذ هي تمام التعجيب.

وجملة (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) حال من ضمير (أَجْمَعُوا) ، وأتي (يَمْكُرُونَ) بصيغة المضارع لاستحضار الحالة العجيبة.

[١٠٣ ، ١٠٤] (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ

١٢٢

مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤))

انتقال من سوق هذه القصة إلى العبرة بتصميم المشركين على التكذيب بعد هذه الدلائل البينة ، فالواو للعطف على جملة (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) [يوسف : ١٠٢] باعتبار إفادتها أن هذا القرآن وحي من الله وأنه حقيق بأن يكون داعيا سامعيه إلى الإيمان بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولما كان ذلك من شأنه أن يكون مطمعا في إيمانهم عقب بإعلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن أكثرهم لا يؤمنون.

و (النَّاسِ) يجوز حمله على جميع جنس الناس ، ويجوز أن يراد به ناس معيّنون وهم القوم الذين دعاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكّة وما حولها ، فيكون عموما عرفيا.

وجملة (وَلَوْ حَرَصْتَ) في موضع الحال معترضة بين اسم (ما) وخبرها.

(وَلَوْ) هذه وصلية ، وهي التي تفيد أن شرطها هو أقصى الأسباب لجوابها. وقد تقدم بيانها عند قوله تعالى : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) في سورة آل عمران [٩١].

وجواب (لَوْ) هو (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ) مقدّم عليها أو دليل الجواب.

والحرص : شدة الطلب لتحصيل شيء ومعاودته. وتقدم في قوله تعالى : (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) في آخر سورة براءة [١٢٨].

وجملة (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) معطوفة على جملة (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ) إلى آخرها باعتبار ما أفادته من التأييس من إيمان أكثرهم. أي لا يسوؤك عدم إيمانهم فلست تبتغي أن يكون إيمانهم جزاء على التبليغ بل إيمانهم لفائدتهم ، كقوله : (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) [سورة الحجرات : ١٧].

وضمير الجمع في قوله : (وَما تَسْئَلُهُمْ) عائد إلى الناس ، أي الذين أرسل إليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وجملة (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) بمنزلة التعليل لجملة (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ). والقصر إضافي ، أي ما هو إلا ذكر للعالمين لا لتحصيل أجر مبلّغه.

وضمير (عَلَيْهِ) عائد إلى القرآن المعلوم من قوله : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) [يوسف : ١٠٢].

١٢٣

[١٠٥ ، ١٠٦] (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦))

عطف على جملة (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : ١٠٣] ، أي ليس إعراضهم عن آية حصول العلم للأمّي بما في الكتب السالفة فحسب بل هم معرضون عن آيات كثيرة في السماوات والأرض.

و (كَأَيِّنْ) اسم يدل على كثرة العدد المبهم يبينه تمييز مجرور ب (مِنْ). وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ) نبيء (قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) في سورة آل عمران [١٤٦].

والآية : العلامة ، والمراد هنا الدالة على وحدانية الله تعالى بقرينة ذكر الإشراك بعدها.

ومعنى (يَمُرُّونَ عَلَيْها) يرونها ، والمرور مجاز مكنّى به عن التحقق والمشاهدة إذ لا يصح حمل المرور على المعنى الحقيقي بالنسبة لآيات السماوات ، فالمرور هنا كالذي في قوله تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٧٢].

وضمير (يَمُرُّونَ) عائد إلى الناس من قوله تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).

وجملة (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ) في موضع الحال من ضمير (يَمُرُّونَ) أي وما يؤمن أكثر الناس إلا وهم مشركون ، والمراد ب (أَكْثَرُ النَّاسِ) أهل الشرك من العرب. وهذا إبطال لما يزعمونه من الاعتراف بأن الله خالقهم كما في قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) ، وبأن إيمانهم بالله كالعدم لأنهم لا يؤمنون بوجود الله إلا في تشريكهم معه غيره في الإلهية.

والاستثناء من عموم الأحوال ، فجملة (وَهُمْ مُشْرِكُونَ) حال من (أَكْثَرُهُمْ). والمقصود من هذا تشنيع حالهم. والأظهر أن يكون هذا من قبيل تأكيد الشيء بما يشبه ضده على وجه التهكم. وإسناد هذا الحكم إلى (أَكْثَرُهُمْ) باعتبار أكثر أحوالهم وأقوالهم لأنهم قد تصدر عنهم أقوال خلية عن ذكر الشريك. وليس المراد أن بعضا منهم يؤمن بالله غير مشرك معه إلها آخر.

(أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا

١٢٤

يَشْعُرُونَ (١٠٧))

اعتراض بالتفريع على ما دلت عليه الجملتان قبله من تفظيع حالهم وجرأتهم على خالقهم والاستمرار على ذلك دون إقلاع ، فكأنهم في إعراضهم عن توقع حصول غضب الله بهم آمنون أن تأتيهم غاشية من عذابه في الدنيا أو تأتيهم الساعة بغتة فتحول بينهم وبين التوبة ويصيرون إلى العذاب الخالد.

والاستفهام مستعمل في التوبيخ.

والغشي والغشيان : الإحاطة من كل جانب (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) [سورة لقمان : ٣٢]. وتقدم في قوله تعالى (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) في [سورة الأعراف : ٥٤].

والغاشية الحادثة التي تحيط بالناس. والعرب يؤنثون هذه الحوادث مثل الطّامة والصاخة والداهية والمصيبة والكارثة والحادثة والواقعة والحاقة. والبغتة : الفجأة.

وتقدمت عند قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) في آخر سورة الأنعام[٣١].

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨))

استئناف ابتدائي للانتقال من الاعتبار بدلالة نزول هذه القصة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الأمّيّ على صدق نبوءته وصدقه فيما جاء به من التوحيد إلى الاعتبار بجميع ما جاء به من هذه الشريعة عن الله تعالى ، وهو المعبّر عنه بالسبيل على وجه الاستعارة لإبلاغها إلى المطلوب وهو الفوز الخالد كإبلاغ الطريق إلى المكان المقصود للسائر ، وهي استعارة متكررة في القرآن وفي كلام العرب.

والسبيل يؤنث كما في هذه الآية ، ويذكّر أيضا كما تقدم عند قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) في سورة الأعراف [١٤٦].

والجملة استئناف ابتدائي معترضة بين الجمل المتعاطفة.

والإشارة إلى الشريعة بتنزيل المعقول منزلة المحسوس لبلوغه من الوضوح للعقول حدا لا يخفى فيه إلا عمّن لا يعدّ مدركا.

وما في جملة (هذِهِ سَبِيلِي) من الإبهام قد فسرته جملة (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى

١٢٥

بَصِيرَةٍ).

و (عَلى) فيه للاستعلاء المجازي المراد به التمكن ، مثل «على هدى من ربهم». والبصيرة : فعيلة بمعنى فاعلة ، وهي الحجة الواضحة ، والمعنى : أدعو إلى الله ببصيرة متمكنا منها ، ووصف الحجة ببصيرة مجاز عقلي ، والبصير : صاحب الحجة لأنه بها صار بصيرا بالحقيقة. ومثله وصف الآية بمبصرة في قوله : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً) [سورة النمل: ١٣]. وبعكسه يوصف الخفاء بالعمى كقوله : (وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) [سورة هود : ٢٨].

وضمير (أَنَا) تأكيد للضمير المستتر في (أَدْعُوا) ، أتي به لتحسين العطف بقوله : (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) ، وهو تحسين واجب في اللغة.

وفي الآية دلالة على أن أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين الذين آمنوا به مأمورون بأن يدعوا إلى الإيمان بما يستطيعون. وقد قاموا بذلك بوسائل بث القرآن وأركان الإسلام والجهاد في سبيل الله. وقد كانت الدعوة إلى الإسلام في صدر زمان البعثة المحمدية واجبا على الأعيان لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بلّغوا عنّي ولو آية» أي بقدر الاستطاعة. ثم لمّا ظهر الإسلام وبلغت دعوته الأسماع صارت الدعوة إليه واجبا على الكفاية كما دل عليه قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) الآية في سورة آل عمران [١٠٤].

وعطفت جملة (وَسُبْحانَ اللهِ) على جملة (أَدْعُوا إِلَى اللهِ) ، أي أدعو إلى الله وأنزهه.

وسبحان : مصدر التسبيح جاء بدلا عن الفعل للمبالغة. والتقدير : وأسبح الله سبحانا ، أي أدعو الناس إلى توحيده وطاعته وأنزّهه عن النقائص التي يشرك بها المشركون من دعاء الشركاء ، والولد ، والصاحبة.

وجملة (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بمنزلة التذييل لما قبلها لأنها تعمّ ما تضمنته.

[١٠٩ ، ١١٠] (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠))

١٢٦

عطف على جملة (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ) [سورة يوسف : ١٠٣] إلخ. هاتان الآيتان متّصل معناهما بما تضمنه قوله تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) [سورة يوسف : ١٠٢] إلى قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) [سورة يوسف : ١٠٤] وقوله: (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) الآية [سورة يوسف : ١٠٨] ، فإن تلك الآي تضمنت الحجة على صدق الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ فيما جاءهم به ، وتضمنت أن الذين أشركوا غير مصدقينه عنادا وإعراضا عن آيات الصدق. فالمعنى أن إرسال الرسل ـ عليهم‌السلام ـ سنّة إلهية قديمة فلما ذا يجعل المشركون نبوءتك أمرا مستحيلا فلا يصدّقون بها مع ما قارنها من آيات الصدق فيقولون : (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً). وهل كان الرسل ـ عليهم‌السلام ـ السابقون إلا رجالا من أهل القرى أوحى الله إليهم فبما ذا امتازوا عليك ، فسلم المشركون ببعثتهم وتحدّثوا بقصصهم وأنكروا نبوءتك.

وراء هذا معنى آخر من التذكير باستواء أحوال الرسل ـ عليهم‌السلام ـ وما لقوه من أقوامهم فهو وعيد باستواء العاقبة للفريقين.

و (مِنْ قَبْلِكَ) يتعلق ب (أَرْسَلْنا) ف (مِنْ) لابتداء الأزمنة فصار ما صدق القبل الأزمنة السابقة ، أي من أول أزمنة الإرسال. ولو لا وجود (مِنْ) لكان (قَبْلِكَ) في معنى الصفة للمرسلين المدلول عليهم بفعل الإرسال.

والرجال : اسم جنس جامد لا مفهوم له. وأطلق هنا مرادا به أناسا كقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه» ، أي إنسان أو شخص ، فليس المراد الاحتراز عن المرأة. واختير هنا دون غيره لمطابقته الواقع فإن الله لم يرسل رسلا من النساء لحكمة قبول قيادتهم في نفوس الأقوام إذ المرأة مستضعفة عند الرجال دون العكس ؛ ألا ترى إلى قول قيس بن عاصم حين تنبأت سجاح :

أضحت نبيئتنا أنثى نطيف بها

وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا

وليس تخصيص الرجال وأنهم من أهل القرى لقصد الاحتراز عن النساء ومن أهل البادية ولكنه لبيان المماثلة بين من سلّموا برسالتهم وبين محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حين قالوا : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥] و (قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) [القصص : ٤٨] ، أي فما كان محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بدعا من الرسل حتى تبادروا بإنكار رسالته وتعرضوا عن النظر في آياته.

فالقصر إضافي ، أي لم يكن الرسل ـ عليهم‌السلام ـ قبلك ملائكة أو ملوكا من

١٢٧

ملوك المدن الكبيرة فلا دلالة في الآية على نفي إرسال رسول من أهل البادية مثل خالد بن سنان العبسي ، ويعقوب ـ عليه‌السلام ـ حين كان ساكنا في البدو كما تقدم.

وقرأ الجمهور ، يوحى ـ بتحتية وبفتح الحاء ـ مبنيا للنائب ، وقرأه حفص بنون على أنه مبني للفاعل والنون نون العظمة.

وتفريع قوله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) على ما دلت عليه جملة (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) من الأسوة ، أي فكذّبهم أقوامهم من قبل قومك مثل ما كذّبك قومك وكانت عاقبتهم العقاب. أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الأقوام السابقين ، أي فينظروا آثار آخر أحوالهم من الهلاك والعذاب فيعلم قومك أن عاقبتهم على قياس عاقبة الذين كذّبوا الرسل قبلهم ، فضمير (يَسِيرُوا) عائد على معلوم من المقام الدال عليه (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [سورة يوسف : ١٠٨].

والاستفهام إنكاري. فإن مجموع المتحدّث عنهم ساروا في الأرض فرأوا عاقبة المكذبين مثل عاد وثمود.

وهذا التفريع اعتراض بالوعيد والتهديد.

و (كَيْفَ) استفهام معلّق لفعل النظر عن مفعوله.

وجملة (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) خبر. معطوفة على الاعتراض فلها حكمه ، وهو اعتراض بالتبشير وحسن العاقبة للرسل ـ عليهم‌السلام ـ ومن آمن بهم وهم الذين اتقوا. وهو تعريض بسلامة عاقبة المتقين في الدنيا. وتعريض أيضا بأن دار الآخرة أشد أيضا على الذين من قبلهم من العاقبة التي كانت في الدنيا فحصل إيجاز بحذف جملتين.

وإضافة (لَدارُ) إلى (الْآخِرَةِ) من إضافة الموصوف إلى الصفة مثل «يا نساء المسلمات» في الحديث.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوب : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) بتاء الخطاب على الالتفات ، لأن المعاندين لما جرى ذكرهم وتكرر صاروا كالحاضرين فالتفت إليهم بالخطاب. وقرأه الباقون بياء الغيبة على نسق ما قبله.

و (حَتَّى) من قوله : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) ابتدائية ، وهي عاطفة جملة (إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) على جملة (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) باعتبار أنها

١٢٨

حجة على المكذبين ، فتقدير المعنى : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يوحى إليهم فكذبهم المرسل إليهم واستمروا على التكذيب حتى إذا استيأس الرسل إلى آخره ، فإن (إِذَا) اسم زمان مضمن معنى الشرط فهو يلزم الإضافة إلى جملة تبين الزمان ، وجملة (اسْتَيْأَسَ) مضاف إليها (إِذَا) ، وجملة (جاءَهُمْ نَصْرُنا) جواب (إِذَا) لأن هذا الترتيب في المعنى هو المقصود من جلب (إِذَا) في مثل هذا التركيب. والمراد بالرسل ـ عليهم‌السلام ـ غير المراد ب (رِجالاً) ، فالتعريف في الرسل ـ عليهم‌السلام ـ تعريف العهد الذكريّ وهو من الإظهار في مقام الإضمار لإعطاء الكلام استقلالا بالدلالة اهتماما بالجملة.

وآذن حرف الغاية بمعنى محذوف دل عليه جملة (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) بما قصد بها من معنى قصد الإسوة بسلفه من الرسل ـ عليهم‌السلام ـ. والمعنى : فدام تكذيبهم وإعراضهم وتأخر تحقيق ما أنذروهم به من العذاب حتى اطمأنوا بالسلامة وسخروا بالرسل وأيس الرسل ـ عليهم‌السلام ـ من إيمان قومهم.

و (اسْتَيْأَسَ) مبالغة في يئس ، كما تقدم آنفا في قوله : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) [سورة يوسف : ٨٧].

وتقدم أيضا قراءة البزي بخلاف عنه بتقديم الهمزة على الياء. فهذه أربع كلمات في هذه السورة خالف فيها البزي رواية عنه.

وفي «صحيح البخاري» عن عروة أنه سأل عائشة ـ رضي‌الله‌عنها ـ : «أكذبوا أم كذّبوا ـ أي بالخفيف أم بالشدّ ـ ؛ قالت : كذّبوا ـ أي بالشد ـ قال : فقد استيقنوا أن قومهم كذّبوهم فما هو بالظن فهي (قَدْ كُذِبُوا) ـ أي بالتخفيف ـ ، قالت : معاذ الله لم يكن الرسل ـ عليهم‌السلام ـ تظن ذلك بربها وإنما هم أتباع الذين آمنوا وصدقوا فطال عليهم البلاء واستأخر النصر حتى إذا استيأس الرسل ـ عليهم‌السلام ـ من إيمان من كذبهم من قومهم ، وظنت الرسل ـ عليهم‌السلام ـ أن أتباعهم مكذّبوهم» اه. وهذا الكلام من عائشة ـ رضي‌الله‌عنها ـ رأي لها في التفسير وإنكارها أن تكون (كُذِبُوا) مخففة إنكار يستند بما يبدو من عود الضمائر إلى أقرب مذكور وهو الرسل ، وذلك ليس بمتعيّن ، ولم تكن عائشة قد بلغتها رواية (كُذِبُوا) بالتخفيف.

وتفريع فننجي من نشاء على (جاءَهُمْ نَصْرُنا) لأن نصر الرسل ـ عليهم‌السلام ـ هو تأييدهم بعقاب الذين كذبوهم بنزول العذاب وهو البأس ، فينجي الله الذين آمنوا ولا يردّ البأس عن القوم المجرمين.

١٢٩

والبأس : هو عذاب المجرمين الذي هو نصر للرسل ـ عليهم‌السلام ـ ..

والقوم المجرمون : الذين كذبوا الرسل.

وقرأ الجمهور فننجي بنونين وتخفيف الجيم وسكون الياء مضارع أنجى. و (مَنْ نَشاءُ) مفعول ننجي. وقرأه ابن عامر وعاصم فنجي ـ بنون واحدة مضمومة وتشديد الجيم مكسورة وفتح التحتية ـ على أنه ماضي نجى المضاعف بني للنائب ، وعليه ف (مَنْ نَشاءُ) هو نائب الفاعل ، والجمع بين الماضي في (نجّي) والمضارع في (نَشاءُ) احتباك تقديره فنجي من شئنا ممن نجا في القرون السالفة وننجي من نشاء في المستقبل من المكذبين.

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١))

هذا من رد العجز على الصدر فهي مرتبطة بجملة (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) [سورة يوسف : ١٠٢] وهي تتنزّل منها منزلة البيان لما تضمنه معنى الإشارة في قوله : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) من التعجيب ، وما تضمنه معنى (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) من الاستدلال على أنه وحي من الله مع دلالة الأمية.

وهي أيضا تتنزل منزلة التذييل للجمل المستطرد بها لقصد الاعتبار بالقصة ابتداء من قوله : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : ١٠٣].

فلها مواقع ثلاثة عجيبة من النظم المعجز.

وتأكيد الجملة ب (قد) واللام للتحقيق.

وأولو الألباب : أصحاب العقول. وتقدم في قوله : (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) في أواسط سورة البقرة [١٩٧].

والعبرة : اسم مصدر للاعتبار ، وهو التوصل بمعرفة المشاهد المعلوم إلى معرفة الغائب وتطلق العبرة على ما يحصل به الاعتبار المذكور من إطلاق المصدر على المفعول كما هنا. ومعنى كون العبرة في قصصهم أنها مظروفة فيه ظرفية مجازية ، وهي ظرفية المدلول في الدليل فهي قارة في قصصهم سواء اعتبر بها من وفّق للاعتبار أم لم يعتبر لها

١٣٠

بعض الناس.

وجملة (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) إلى آخرها تعليل لجملة (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَة) أي لأن ذلك القصص خبر صدق مطابق للواقع وما هو بقصة مخترعة. ووجه التعليل أن الاعتبار بالقصة لا يحصل إلا إذا كانت خبرا عن أمر وقع ، لأن ترتب الآثار على الواقعات رتّب طبيعي فمن شأنها أن تترتب أمثالها على أمثالها كلما حصلت في الواقع ، ولأن حصولها ممكن إذ الخارج لا يقع فيه المحال ولا النادر وذلك بخلاف القصص الموضوعة بالخيال والتكاذيب فإنها لا يحصل بها اعتبار لاستبعاد السامع وقوعها لأن أمثالها لا يعهد ، مثل مبالغات الخرافات وأحاديث الجن والغول عند العرب وقصة رستم وإسفنديار عند العجم ، فالسامع يتلقاها تلقي الفكاهات والخيالات اللذيذة ولا يتهيأ للاعتبار بها إلّا على سبيل الفرص والاحتمال وذلك لا تحتفظ به النفوس.

وهذه الآية ناظرة إلى قوله تعالى في أول السورة (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف : ٣] فكما سماه الله أحسن القصص في أول السورة نفى عنه الافتراء في هذه الآية تعريضا بالنضر بن الحارث وأضرابه.

والافتراء تقدم في قوله : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في سورة العقود [١٠٣].

و (الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) : الكتب الإلهية السابقة. وضمير بين (يَدَيْهِ) عائد إلى القرآن الذي من جملته هذه القصص.

والتفصيل : التبيين. والمراد ب (كُلِّ شَيْءٍ) الأشياء الكثيرة مما يرجع إلى الاعتبار بالقصص.

وإطلاق الكل على الكثرة مضى عند قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) في سورة الأنعام [٣١].

والهدى الذي في القصص : العبر الباعثة على الإيمان والتقوى بمشاهدة ما جاء من الأدلة في أثناء القصص على أن المتصرف هو الله تعالى ، وعلى أن التقوى هي أساس الخير في الدنيا والآخرة ، وكذلك الرحمة فإن في قصص أهل الفضل دلالة على رحمة الله لهم وعنايته بهم ، وذلك رحمة للمؤمنين لأنهم باعتبارهم بها يأتون ويذرون ، فتصلح

١٣١

أحوالهم ويكونون في اطمئنان بال ، وذلك رحمة من الله بهم في حياتهم وسبب لرحمته إياهم في الآخرة كما قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل : ٩٧].

١٣٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

١٣ ـ سورة الرعد

هكذا سميت من عهد السلف. وذلك يدل على أنها مسماة بذلك من عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ لم يختلفوا في اسمها.

وإنما سميت بإضافتها إلى الرعد لورود ذكر الرعد فيها بقوله تعالى : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ) [الرعد : ١٣]. فسمّيت بالرعد لأن الرعد لم يذكر في سورة مثل هذه السورة ، فإن هذه السورة مكية كلّها أو معظمها. وإنما ذكر الرعد في سورة البقرة وهي نزلت بالمدينة وإذا كانت آيات (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) إلى قوله : (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) [الرعد : ١٢] مما نزل بالمدينة ، كما سيأتي تعيّن أن ذلك نزل قبل نزول سورة البقرة.

وهذه السورة مكية في قول مجاهد وروايته عن ابن عباس ورواية علي بن أبي طلحة وسعيد بن جبير عنه وهو قول قتادة. وعن أبي بشر قال : سألت سعيد بن جبير عن قوله تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) ـ أي في آخر سورة الرعد [٤٣] ـ أهو عبد الله بن سلام؟ فقال : كيف وهذه سورة مكية ، وعن ابن جريج وقتادة في رواية عنه وعن ابن عباس أيضا : أنها مدنية ، وهو عن عكرمة والحسن البصري ، وعن عطاء عن ابن عباس. وجمع السيوطي وغيره بين الرّوايات بأنها مكية إلّا آيات منها نزلت بالمدينة يعني قوله : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) ـ إلى قوله ـ : (شَدِيدُ الْمِحالِ) وقوله : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) [الرعد : ٤٣]. قال ابن عطية : والظاهر أن المدني فيها كثير ، وكل ما نزل في شأن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة فهو مدني.

وأقول أشبه آياتها بأن يكون مدنيا قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) [الرعد : ٤١] كما ستعلمه. وقوله تعالى : (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ) ـ إلى ـ

١٣٣

(وَإِلَيْهِ مَتابِ) [سورة الرعد : ٣٠] ، فقد قال مقاتل وابن جريج نزلت في صلح الحديبية كما سيأتي عند تفسيرها.

ومعانيها جارية على أسلوب معاني القرآن المكيّ من الاستدلال على الوحدانية وتقريع المشركين وتهديدهم. والأسباب التي أثارت القول بأنها مدنية أخبار واهية ، وسنذكرها في مواضعها من هذا التفسير ولا مانع من أن تكون مكيّة. ومن آياتها آيات نزلت بالمدينة وألحقت بها. فإن ذلك وقع في بعض سور القرآن ، فالذين قالوا : هي مكية لم يذكروا موقعها من ترتيب المكيات سوى أنهم ذكروها بعد سورة يوسف وذكروا بعدها سورة إبراهيم.

والذين جعلوها مدنية عدّوها في النزول بعد سورة القتال وقبل سورة الرحمن وعدّوها سابعة وتسعين في عداد النزول. وإذ قد كانت سورة القتال نزلت عام الحديبية أو عام الفتح تكون سورة الرعد بعدها.

وعدّت آياتها ثلاثا وأربعين من الكوفيين وأربعا وأربعين في عدد المدنيين وخمسا وأربعين عند الشام.

مقاصدها

أقيمت هذه السورة على أساس إثبات صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أوحي إليه من إفراد الله بالإلهية والبعث وإبطال أقوال المكذّبين فلذلك تكررت حكاية أقوالهم خمس مرات موزعة على السورة بدءا ونهاية.

ومهّد لذلك بالتنويه بالقرآن وأنه منزل من الله ، والاستدلال على تفرده تعالى بالإلهية بدلائل خلق العالمين ونظامهما الدال على انفراده بتمام العلم والقدرة وإدماج الامتنان لما في ذلك من النعم على الناس.

ثم انتقل إلى تفنيد أقوال أهل الشرك ومزاعمهم في إنكار البعث.

وتهديدهم أن يحلّ بهم ما حلّ بأمثالهم.

والتذكير بنعم الله على الناس.

وإثبات أن الله هو المستحق للعبادة دون آلهتهم.

وأنّ الله العالم بالخفايا وأنّ الأصنام لا تعلم شيئا ولا تنعم بنعمة.

١٣٤

والتهديد بالحوادث الجوية أن يكون منها عذاب للمكذبين كما حلّ بالأمم قبلهم.

والتخويف من يوم الجزاء.

والتذكير بأن الدنيا ليست دار قرار.

وبيان مكابرة المشركين في اقتراحهم مجيء الآيات على نحو مقترحاتهم.

ومقابلة ذلك بيقين المؤمنين. وما أعد الله لهم من الخير.

وأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لقي من قومه إلا كما لقي الرسل ـ عليهم‌السلام ـ من قبله.

والثناء على فريق من أهل الكتب يؤمنون بأن القرآن منزل من عند الله.

والإشارة إلى حقيقة القدر ومظاهر المحو والإثبات.

وما تخلل ذلك من المواعظ والعبر والأمثال.

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١))

(المر)

تقدم الكلام على نظائر (المر) مما وقع في أوائل بعض السور من الحروف المقطعة.

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) القول في (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) كالقول في نظيره من طالعة سورة يونس.

والمشار إليه ب (تِلْكَ) هو ما سبق نزوله من القرآن قبل هذه الآية أخبر عنها بأنها آيات ، أي دلائل إعجاز ، ولذلك أشير إليه باسم إشارة المؤنث مراعاة لتأنيث الخبر.

وقوله : (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) يجوز أن يكون عطفا على جملة (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) فيكون قوله : (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ) إظهار في مقام الإضمار. ولم يكتف بعطف خبر على خبر اسم الإشارة بل جيء بجملة كاملة مبتدئة بالموصول للتعريف بأن آيات الكتاب منزلة من عند الله لأنها لما تقرر أنها آيات استلزم ذلك أنها منزلة من عند الله ولو لا أنها كذلك لما كانت آيات.

١٣٥

وأخبر عن الذي أنزل بأنه الحق بصيغة القصر ، أي هو الحق لا غيره من الكتب ، فالقصر إضافي بالنسبة إلى كتب معلومة عندهم مثل قصة رستم وإسفنديار اللتين عرفهما النضر بن الحارث. فالمقصود الردّ على المشركين الذين زعموه كأساطير الأولين ؛ أو القصر حقيقي ادعائي مبالغة لعدم الاعتداد بغيره من الكتب السابقة ، أي هو الحق الكامل ، لأن غيره من الكتب لم يستكمل منتهى مراد الله من الناس إذ كانت درجات موصلة إلى الدرجة العليا ، فلذلك ما جاء منها كتاب إلا ونسخ العمل به أو عيّن لأمة خاصة «إنّ الدين عند الله الإسلام».

ويجوز أن يكون عطف مفرد على قوله : (الْكِتابِ) مفرد ، من باب عطف الصفة على الاسم ، مثل ما أنشد الفراء :

إلى الملك القرم وابن الهم

أم وليث الكتيبة بالمزدحم

والإتيان ب (رَبِّكَ) دون اسم الجلالة للتلطف. والاستدراك بقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) راجع إلى ما أفاده القصر من إبطال مساواة غيره له في الحقية إبطالا يقتضي ارتفاع النزاع في أحقيته ، أي ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بما دلت الأدلة على الإيمان به ، فمن أجل هذا الخلق الذميم فيهم يستمر النزاع منهم في كونه حقا.

وابتداء السورة بهذا تنويه بما في القرآن الذي هذه السورة جزء منه مقصود به تهيئة السامع للتأمل مما سيرد عليه من الكلام.

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢))

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) استئناف ابتدائي هو ابتداء المقصود من السورة وما قبله بمنزلة الديباجة من الخطبة ، ولذا تجد الكلام في هذا الغرض قد طال واطّرد.

ومناسبة هذا الاستئناف لقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) لأن أصل كفرهم بالقرآن ناشئ عن تمسكهم بالكفر وعن تطبعهم بالاستكبار والإعراض عن دعوة الحق.

والافتتاح باسم الجلالة دون الضمير الذي يعود إلى (رَبِّكَ) [الرعد : ١] لأنه معيّن به لا يشتبه غيره من آلهتهم ليكون الخبر المقصود جاريا على معيّن لا يحتمل غيره إبلاغا في قطع شائبة الإشراك.

١٣٦

و (الَّذِي رَفَعَ) هو الخبر. وجعل اسم موصول لكون الصلة معلومة الدلالة على أن من تثبت له هو المتوحد بالربوبية إذ لا يستطيع مثل تلك الصلة غير المتوحد ولأنه مسلم له ذلك (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥].

والسماوات تقدمت مرارا ، وهي الكواكب السيارة وطبقات الجو التي تسبح فيها.

ورفعها : خلقها مرتفعة ، كما يقال : وسّع طوق الجبة وضيّق كمها ، لا تريد وسعه بعد أن كان ضيقا ولا ضيقه بعد أن كان واسعا وإنما يراد اجعله واسعا واجعله ضيقا ، فليس المراد أنه رفعها بعد أن كانت منخفضة.

والعمد : جمع عماد مثل إهاب وأهب ، والعماد : ما تقام عليه القبة والبيت. وجملة (تَرَوْنَها) في موضع الحال من (السَّماواتِ) ، أي لا شبهة في كونها بغير عمد.

والقول في معنى (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) تقدم في سورة الأعراف وفي سورة يونس.

وكذلك الكلام على (سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) في قوله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) في سورة الأعراف [٥٤].

والجري : السير السريع. وسير الشمس والقمر والنجوم في مسافات شاسعة ، فهو أسرع التنقلات في بابها وذلك سيرها في مداراتها.

واللام للعلة. والأجل : هو المدة التي قدرها الله لدوام سيرها ، وهي مدة بقاء النظام الشمسي الذي إذا اختل انتثرت العوالم وقامت القيامة.

والمسمّى : أصله المعروف باسمه ، وهو هنا كناية عن المعيّن المحدّد إذ التسمية تستلزم التعيين والتمييز عن الاختلاط.

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)

جملة (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) في موضع الحال من اسم الجلالة. وجملة (يُفَصِّلُ الْآياتِ) حال ثانية ترك عطفها على التي قبلها لتكون على أسلوب التعداد والتوقيف وذلك اهتمام باستقلالها. وتقدم القول على (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) عند قوله : (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) في سورة يونس [٣].

وتفصيل الآيات تقدم عند قوله : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) في طالعة سورة هود [١].

١٣٧

ووجه الجمع بينهما هنا أن تدبير الأمر يشمل تقدير الخلق الأول والثاني فهو إشارة إلى التصرف بالتكوين للعقول والعوالم ، وتفصيل الآيات مشير إلى التصرف بإقامة الأدلة والبراهين ، وشأن مجموع الأمرين أن يفيد اهتداء الناس إلى اليقين بأن بعد هذه الحياة حياة أخرى ، لأن النظر بالعقل في المصنوعات وتدبيرها يهدي إلى ذلك ، وتفصيل الآيات والأدلة ينبه العقول ويعينها على ذلك الاهتداء ويقرّبه. وهذا قريب من قوله في سورة يونس : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [يونس : ٣]. وهذا من إدماج غرض في أثناء غرض آخر لأن الكلام جار على إثبات الوحدانية. وفي أدلة الوحدانية دلالة على البعث أيضا.

وصيغ (يُدَبِّرُ) و (يُفَصِّلُ) بالمضارع عكس قوله : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) لأن التدبير والتفصيل متجدّد متكرر بتجدد تعلق القدرة بالمقدورات. وأما رفع السماوات وتسخير الشمس والقمر فقد تم واستقرّ دفعة واحدة.

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣))

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)

عطف على جملة (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) فبين الجملتين شبه التضاد. اشتملت الأولى على ذكر العوالم العلوية وأحوالها ، واشتملت الثانية على ذكر العوالم السفلية. والمعنى : أنه خالق جميع العوالم وأعراضها.

والمد : البسط والسعة ، ومنه : ظل مديد ، ومنه مد البحر وجزره ، ومد يده إذا بسطها. والمعنى : خلق الأرض ممدودة متسعة للسير والزرع لأنه لو خلقها أسنمة من حجر أو جبالا شاهقة متلاصقة لما تيسّر للأحياء التي عليها الانتفاع بها والسير من مكان إلى آخر في طلب الرزق وغيره. وليس المراد أنها كانت غير ممدودة فمدّها بل هو كقوله : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) ، فهذه خلقة دالة على القدرة وعلى اللطف بعباده فهي آية ومنة.

والرواسي : جمع راس ، وهو الثابت المستقر. أي جبالا رواسي. وقد حذف موصوفه لظهوره فهو كقوله : (وَلَهُ الْجَوارِ) ، أي السفن الجارية. وسيأتي في قوله : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) في سورة النحل [١٥] بأبسط مما هنا.

١٣٨

وجيء في جمع راس بوزن فواعل لأن الموصوف به غير عاقل ، ووزن فواعل يطرد فيما مفرده صفة لغير عاقل مثل : صاهل وبازل.

والاستدلال بخلق الجبال على عظيم القدرة لما في خلقها من العظمة المشاهدة بخلاف خلقة المعادن والتراب فهي خفية ، كما قال تعالى : (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) [الغاشية : ١٩].

والأنهار : جمع نهر ، وهو الوادي العظيم. وتقدم في سورة البقرة : (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) [٢٤٩].

وقوله : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) عطف على (أَنْهاراً) فهو معمول ل (جَعَلَ فِيها رَواسِيَ). ودخول (مِنْ) على (كُلِ) جرى على الاستعمال العربي في ذكر أجناس غير العاقل كقوله : (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ). و (مِنَ) هذه تحمل على التبعيض لأن حقائق الأجناس لا تنحصر والموجود منها ما هو إلا بعض جزئيات الماهية لأن منها جزئيات انقضت ومنها جزئيات ستوجد.

والمراد ب (الثَّمَراتِ) هي وأشجارها. وإنما ذكرت (الثَّمَراتِ) لأنها موقع منة مع العبرة كقوله : (فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) [سورة الأعراف : ٥٧]. فينبغي الوقف على (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) ، وبذلك انتهى تعداد المخلوقات المتصلة بالأرض. وهذا أحسن تفسيرا. ويعضده نظيره في قوله تعالى : (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في سورة النحل [١١].

وقيل إن قوله : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) ابتداء كلام.

وتتعلق (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) ب (جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ، وبهذا فسر أكثر المفسرين. ويبعده أنه لا نكتة في تقديم الجار والمجرور على عامله على ذلك التقدير ، لأن جميع المذكور محل اهتمام فلا خصوصية للثمرات هنا ، ولأن الثمرات لا يتحقق فيها وجود أزواج ولا كون الزوجين اثنين. وأيضا فيه فوات المنة بخلق الحيوان وتناسله مع أن منه معظم نفعهم ومعاشهم. ومما يقرب ذلك قوله تعالى في نحو هذا المعنى (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً* وَالْجِبالَ أَوْتاداً* وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) [النبأ : ٦ ـ ٨]. والمعروف أن الزوجين هما الذكر والأنثى قال تعالى : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [سورة القيامة : ٣٩].

والظاهر أن جملة (جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ) مستأنفة للاهتمام بهذا الجنس من

١٣٩

المخلوقات وهو جنس الحيوان المخلوق صنفين ذكرا وأنثى أحدهما زوج مع الآخر. وشاع إطلاق الزوج على الذكر والأنثى من الحيوان كما تقدم في قوله تعالى : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) في سورة البقرة [٣٥] ، وقوله : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) في أول سورة النساء [١] ، وقوله : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ). وأما قوله تعالى : (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [ق : ٧] فذلك إطلاق الزوج على الصنف بناء على شيوع إطلاقه على صنف الذكر وصنف الأنثى فأطلق مجازا على مطلق صنف من غير ما يتصف بالذكورة والأنوثة بعلاقة الإطلاق ، والقرينة قوله : (أَنْبَتْنا) مع عدم التثنية ، كذلك قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) في سورة طه [٥٣].

وتنكير (زَوْجَيْنِ) للتنويع ، أي جعل زوجين من كل نوع. ومعنى التثنية في زوجين أن كل فرد من الزوج يطلق عليه زوج كما تقدم في قوله تعالى : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) الآية في سورة الأنعام [١٤٣].

والوصف بقوله : (اثْنَيْنِ) للتأكيد تحقيقا للامتنان.

(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) جملة (يُغْشِي) حال من ضمير (جَعَلَ). وجيء فيه بالمضارع لما يدل عليه من التجدد لأن جعل الأشياء المتقدم ذكرها جعل ثابت مستمر ، وأما إغشاء الليل والنهار فهو أمر متجدّد كل يوم وليلة. وهذا استدلال بأعراض أحوال الأرض. وذكره مع آيات العالم السفلي في غاية الدقة العلمية لأن الليل والنهار من أعراض الكرة الأرضية بحسب اتجاهها إلى الشمس وليسا من أحوال السماوات إذ الشمس والكواكب لا يتغير حالها بضياء وظلمة.

وتقدم الكلام على نظير قوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) في أوائل سورة الأعراف [٥٤].

وقرأه الجمهور ـ بسكون الغين ـ وتخفيف الشين ـ مضارع أغشى. وقرأه حمزة والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، ويعقوب ، وخلف ـ بتشديد الشين ـ مضارع غشّى.

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) الإشارة إلى ما تقدم من قوله : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) [الرعد : ٢] إلى هنا بتأويل المذكور.

وجعل الأشياء المذكورات ظروفا لآيات لأن كل واحدة من الأمور المذكورة

١٤٠