تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٤

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥))

عطف على جملة (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) [سورة الرعد : ١٤] أي له دعوة الحق وله يسجد من في السماوات والأرض وذلك شعار الإلهية ، فأما الدعوة فقد اختص بالحقة منها دون الباطلة ، وأما السجود وهو الهويّ إلى الأرض بقصد الخضوع فقد اختص الله به على الإطلاق ، لأن الموجودات العليا والمؤمنين بالله يسجدون له ، والمشركين لا يسجدون للأصنام ولا لله تعالى ، ولعلهم يسجدون لله في بعض الأحوال.

وعدل عن ضمير الجلالة إلى اسمه تعالى العلم تبعا للأسلوب السابق في افتتاح الأغراض الأصلية.

والعموم المستفاد من (مَنْ) الموصولة عموم عرفي يراد به الكثرة الكاثرة.

والمقصود من (طَوْعاً وَكَرْهاً) تقسيم أحوال الساجدين. والمراد بالطوع الانسياق من النفس تقرّبا وزلفى لمحض التعظيم ومحبة الله. وبالكره الاضطرار عند الشدة والحاجة كما في قوله تعالى : (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) [سورة النحل : ٥٣]. ومنه قولهم : مكره أخوك لا بطل ، أي مضطر إلى المقاتلة وليس المراد من الكره الضغط والإلجاء كما فسر به بعضهم فهو بعيد عن الغرض كما سيأتي.

والظلال : جمع ظل ، وهو صورة الجسم المنعكس إليه نور.

والضمير راجع إلى (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مخصوص بالصالح له من الأجسام الكثيفة ذات الظل تخصيصا بالعقل والعادة ، وهو عطف على (مَنْ) ، أي يسجد من في السموات وتسجد ظلالهم.

والغدوّ : الزمان الذي يغدو فيه الناس ، أي يخرجون إلى حوائجهم : إما مصدرا على تقدير مضاف ، أي وقت الغدو ؛ وإما جمع غدوة ، فقد حكي جمعها على غدوّ ، وتقدم في آخر سورة الأعراف.

والآصال : جمع أصيل ، وهو وقت اصفرار الشمس في آخر المساء ، والمقصود من ذكرهما استيعاب أجزاء أزمنة الظل.

ومعنى سجود الظلال أن الله خلقها من أعراض الأجسام الأرضية ، فهي مرتبطة بنظام انعكاس أشعة الشمس عليها وانتهاء الأشعة إلى صلابة وجه الأرض حتى تكون

١٦١

الظلال واقعة على الأرض وقوع الساجد ، فإذا كان من الناس من يأبى السجود لله أو يتركه اشتغالا عنه بالسجود للأصنام فقد جعل الله مثاله شاهدا على استحقاق الله السجود إليه شهادة رمزية. ولو جعل الله الشمس شمسين متقابلتين على السواء لانعدمت الظلال ، ولو جعل وجه الأرض شفافا أو لامعا كالماء لم يظهر الظل عليه بيّنا. فهذا من رموز الصنعة التي أوجدها الله وأدقّها دقة بديعة. وجعل نظام الموجودات الأرضية مهيئة لها في الخلقة لحكم مجتمعة ، منها : أن تكون رموزا دالّة على انفراده تعالى بالإلهية ، وعلى حاجة المخلوقات إليه ، وجعل أكثرها في نوع الإنسان لأن نوعه مختص بالكفران دون الحيوان.

والغرض من هذا الاستدلال الرمزي التنبيه لدقائق الصنع الإلهي كيف جاء على نظام مطّرد دال بعضه على بعض ، كما قيل :

وفي كل شيء له آية تدلّ

على أنه الواحد

والاستدلال مع ذلك على أن الأشياء تسجد لله لأن ظلالها واقعة على الأرض في كل مكان وما هي مساجد للأصنام وأن الأصنام لها أمكنة معينة هي حماها وحريمها وأكثر الأصنام ، في البيوت مثل : العزى وذي الخلصة وذي الكعبات حيث تنعدم الظلال في البيوت.

وهذه الآية موضع سجود من سجود القرآن ، وهي السجدة الثانية في ترتيب المصحف باتفاق الفقهاء. ومن حكمة السجود عند قراءتها أن يضع المسلم نفسه في عداد ما يسجد لله طوعا بإيقاعه السجود. وهذا اعتراف فعلي بالعبودية لله تعالى.

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا)

لما نهضت الأدلة الصريحة بمظاهر الموجودات المتنوعة على انفراده بالإلهية من قوله : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [سورة الرعد : ٢] وقوله : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) [سورة الرعد : ٣] وقوله : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) [سورة الرعد : ٨] وقوله : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) [سورة الرعد : ١٢] الآيات ، وبما فيها من دلالة رمزية دقيقة من قوله : (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) [سورة الرعد : ١٤] وقوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ) [سورة الرعد : ١٥] إلى آخرها لا جرم تهيّأ المقام لتقرير المشركين تقريرا لا يجدون معه عن الإقرار مندوحة ، ثم لتقريعهم على الإشراك تقريعا لا يسعهم إلّا تجرّع مرارته ، لذلك استؤنف الكلام وافتتح بالأمر بالقول تنويها بوضوح الحجّة.

١٦٢

ولكون الاستفهام غير حقيقي جاء جوابه من قبل المستفهم. وهذا كثير في القرآن وهو من بديع أساليبه ، كقوله : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ* عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) [سورة النبأ : ١ ـ ٢]. وتقدم عند قوله تعالى : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) في سورة الأنعام [١٢].

وإعادة فعل الأمر بالقول في (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) الذي هو تفريع على الإقرار بأن الله ربّ السماوات والأرض لقصد الاهتمام بذلك التفريع لما فيه من الحجة الواضحة.

فالاستفهام تقرير وتوبيخ وتسفيه لرأيهم بناء على الإقرار المسلّم. وفيه استدلال آخر على عدم أهلية أصنامهم للإلهية فإن اتخاذهم أولياء من دونه معلوم لا يحتاج إلى الاستفهام عنه.

وجملة (لا يَمْلِكُونَ) صفة ل (أَوْلِياءَ) ، والمقصود منها تنبيه السامعين للنظر في تلك الصفة فإنهم إن تدبروا علموها وعلموا أن من كانت تلك صفته فليس بأهل لأن يعبد.

ومعنى الملك هنا القدرة كما في قوله تعالى : (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) في سورة العقود [٧٦]. وفي الحديث : «أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة».

وعطف الضر على النفع استقصاء في عجزهم لأن شأن الضرّ أنه أقرب للاستطاعة وأسهل.

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ)

إعادة الأمر بالقول للاهتمام الخاصّ بهذا الكلام لأن ما قبله إبطال لاستحقاق آلهتهم العبادة. وهذا إظهار لمزية المؤمنين بالله على أهل الشرك ، ذلك أن قوله : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ) تضمّن أن الرسول ـ عليه‌السلام ـ دعا إلى إفراد الله بالربوبية وأن المخاطبين أثبتوا الربوبية للأصنام فكان حالهم وحاله كحال الأعمى والبصير وحال الظلمات والنور.

ونفي التسوية بين الحالين يتضمن تشبيها بالحالين وهذا من صيغ التشبيه البليغ.

و (أَمْ) للإضراب الانتقالي في التشبيه. فهي لتشبيه آخر بمنزلة أو في قول لبيد :

١٦٣

أو رجع واشمة أسف نئورها

وقوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ).

وأظهر حرف (هَلْ) بعد (أَمْ) لأن فيه إفادة تحقيق الاستفهام. وذلك ليس مما تغني فيه دلالة (أَمْ) على أصل الاستفهام ولذلك لا تظهر الهمزة بعد (أَمْ) اكتفاء بدلالة (أَمْ) على تقدير استفهام.

وجمع الظلمات وإفراد النور تقدم عند قوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) في أول سورة الأنعام [١].

واختير التشبيه في المتقابلات العمى والبصر ، والظلمة والنور ، لتمام المناسبة لأن حال المشركين أصحاب العمى كحال الظلمة في انعدام إدراك المبصرات ، وحال المؤمنين كحال البصر في العلم وكحال النور في الإفاضة والإرشاد.

وقرأ الجمهور تستوى الظلمات بفوقية في أوله مراعاة لتأنيث الظلمات. وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف ـ بتحتية في أوله وذلك وجه في الجمع غير المذكر السالم.

(أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ

(أَمْ) للإضراب الانتقال في الاستفهام مقابل قوله : (أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) ، فالكلام بعد (أم) استفهام حذفت أداته لدلالة (أم) عليها. والتقدير ؛ (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ). والتفت عن الخطاب إلى الغيبة إعراضا عنهم لما مضى من ذكر ضلالهم.

والاستفهام مستعمل في التهكم والتغليط. فالمعنى : لو جعلوا لله شركاء يخلقون كما يخلق الله لكانت لهم شبهة في الاغترار واتخاذهم آلهة ، أي فلا عذر لهم في عبادتهم ، فجملة (خَلَقُوا) صفة ل (شُرَكاءَ).

وشبه جملة (كَخَلْقِهِ) في معنى المفعول المطلق ، أي خلقوا خلقا مثل ما خلق الله. والخلق في الموضعين مصدر.

وجملة (فَتَشابَهَ) عطف على جملة (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) فهي صفة ثانية ل (شُرَكاءَ) ،

١٦٤

والرابط اللام في قوله : (الْخَلْقُ) لأنها عوض عن الضمير المضاف إليه. والتقدير : فتشابه خلقهم عليهم. والوصفان هما مصب التهكم والتغليط.

وجملة (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فذلكة لما تقدم ونتيجة له ، فإنه لما جاء الاستفهام التوبيخي في (أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) [سورة الرعد : ١٦] وفي (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) كان بحيث ينتج أن أولئك الذين اتخذوهم شركاء لله والذين تبين قصورهم عن أن يملكوا لأنفسهم نفعا أو ضرا ، وأنهم لا يخلقون كخلق الله إن هم إلا مخلوقات لله تعالى ، وأن الله خالق كل شيء ، وما أولئك الأصنام إلا أشياء داخلة في عموم (كُلِّ شَيْءٍ) ؛ وأن الله هو المتوحد بالخلق ، القهّار لكل شيء دونه. ولتعين موضوع الوحدة ومتعلق القهر حذف متعلقهما. والتقدير : الواحد بالخلق القهّار للموجودات.

والقهر : الغلبة ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) في سورة الأنعام [١٨].

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧))

جملة (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) استئناف ابتدائي أفاد تسجيل حرمان المشركين من الانتفاع بدلائل الاهتداء التي من شأنها أن تهدي من لم يطبع الله على قلبه فاهتدى بها المؤمنون.

وجيء في هذا التسجيل بطريقة ضرب المثل بحالي فريقين في تلقي شيء واحد انتفع فريق بما فيه من منافع وتعلق فريق بما فيه من مضار. وجيء في ذلك التمثيل بحالة فيها دلالة على بديع تصرف الله تعالى ليحصل التخلص من ذكر دلائل القدرة إلى ذكر عبر الموعظة ، فالمركب مستعمل في التشبيه التمثيلي بقرينة قوله : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَ) إلخ.

شبه إنزال القرآن الذي به الهدى من السماء بإنزال الماء الذي به النفع والحياة من السماء. وشبه ورود القرآن على أسماع الناس بالسيل يمر على مختلف الجهات فهو يمرّ على التّلال والجبال فلا يستقر فيها ولكنه يمضي إلى الأودية والوهاد فيأخذ منه كلّ بقدر سعته. وتلك السيول في حال نزولها تحمل في أعاليها زبدا ، وهو رغوة الماء التي تربو

١٦٥

وتطفو على سطح الماء ، فيذهب الزبد غير منتفع به ويبقى الماء الخالص الصافي ينتفع به الناس للشراب والسقي.

ثم شبهت هيئة نزول الآيات وما تحتوي عليه من إيقاظ النظر فيها فينتفع به من دخل الإيمان قلوبهم على مقادير قوة إيمانهم وعملهم ، ويمر على قلوب قوم لا يشعرون به وهم المنكرون المعرضون ، ويخالط قلوب قوم فيتأملونه فيأخذون منه ما يثير لهم شبهات وإلحادا. كقولهم : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ). ومنه الأخذ بالمتشابه قال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) [سورة آل عمران : ٧].

شبه ذلك كله بهيئة نزول الماء فانحداره على الجبال والتلال وسيلانه في الأودية على اختلاف مقاديرها ، ثم ما يدفع من نفسه زبدا لا ينتفع به ثم لم يلبث الزبد أن ذهب وفني والماء بقي في الأرض للنفع.

ولما كان المقصود التشبيه بالهيئة كلها جيء في حكاية ما ترتب على إنزال الماء بالعطف بفاء التفريع في قوله : (فَسالَتْ) وقوله : (فَاحْتَمَلَ) فهذا تمثيل صالح لتجزئة التشبيهات التي تركب منها وهو أبلغ التمثيل.

وعلى نحو هذا التمثيل وتفسيره جاء ما يبينه من التمثيل الذي في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقيّة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به». والأودية : جمع الوادي ، وهو الحفير المتسع الممتد من الأرض الذي يجري فيه السيل. وتقدم في سورة براءة عند قوله تعالى : (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) [سورة التوبة : ١٢١].

والقدر ـ بفتحتين ـ : التقدير ، فقوله : (بِقَدَرِها) في موضع الحال من (أَوْدِيَةٌ) ، وذكره لأنه من مواضع العبرة ، وهو أن كانت أخاديد الأودية على قدر ما تحتمله من السيول بحيث لا تفيض عليها وهو غالب أحوال الأودية. وهذا الحال مقصود في التمثيل

١٦٦

لأنه حال انصراف الماء لنفع لا ضرّ معه ، لأنّ من السيول جواحف تجرف الزرع والبيوت والأنعام.

وأيضا هو دال على تفاوت الأودية في مقادير المياه. ولذلك حظ من التشبيه وهو اختلاف الناس في قابلية الانتفاع بما نزل من عند الله كاختلاف الأودية في قبول الماء على حسب ما يسيل إليها من مصاب السيول ، وقد تم التمثيل هنا.

وجملة ومما توقدون (عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) معترضة بين جملة (فَاحْتَمَلَ) إلخ وجملة (فَأَمَّا الزَّبَدُ) إلخ.

وهذا تمثيل آخر ورد استطرادا عقب ذكر نظيره يفيد تقريب التمثيل لقوم لم يشاهدوا سيول الأودية من سكان القرى مثل أهل مكّة وهم المقصود ، فقد كان لهم في مكة صواغون كما دل عليه حديث الإذخر ، فقرب إليهم تمثيل عدم انتفاعهم بما انتفع به غيرهم بمثل ما يصهر من الذهب والفضة في البواتق فإنه يقذف زبدا ينتفي عنه وهو الخبث وهو غير صالح لشيء في حين صلاح معدنه لاتخاذه حلية أو متاعا. وفي الحديث «كما ينفي الكير خبث الحديد». فالكلام من قبيل تعدّد التشبيه القريب ، كقوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) ثم قوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) [سورة البقرة : ١٩].

وأقرب إلى ما هنا قول لبيد :

فتنازعا سبطا يطير ظلاله

كدخان مشعلة يشبّ ضرامها

مشمولة غلثت بنابت عرفج

كدخان نار ساطع إسنامها

وأفاد ذلك في هذه الآية قوله : (زَبَدٌ مِثْلُهُ).

وتقديم المسند على المسند إليه في هذه الجملة للاهتمام بالمسند لأنّه موضع اعتبار أيضا ببديع صنع الله تعالى إذ جعل الزبد يطفو على أرقّ الأجسام وهو الماء وعلى أغلظها وهو المعدن فهو ناموس من نواميس الخلقة ، فبالتقديم يقع تشويق السامع إلى ترقب المسند إليه.

وهذا الاهتمام بالتشبيه يشبه الاهتمام بالاستفهام في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وصف جهنم «فإذا فيها كلاليب مثل حسك السعدان هل رأيتم حسك السعدان».

وعدل عن تسمية الذهب والفضة إلى الموصولية بقوله تعالى : ومما توقدون عليه

١٦٧

(فِي النَّارِ) لأنها أخصر وأجمع ، ولأن الغرض في ذكر الجملة المجعولة صلة ، فلو ذكرت بكيفية غير صلة كالوصفية مثلا لكانت بمنزلة الفضلة في الكلام ولطال الكلام بذكر اسم المعدنين مع ذكر الصلة إذ لا محيد عن ذكر الوقود لأنه سبب الزبد ، فكان الإتيان بالموصول قضاء لحق ذكر الجملة مع الاختصار البديع.

ولأنّ في العدول عن ذكر اسم الذهب والفضة إعراضا يؤذن بقلة الاكتراث بهما ترفعا عن ولع النّاس بهما فإن اسميهما قد اقترنا بالتعظيم في عرف النّاس.

ومن في قوله : ومما توقدون ابتدائية.

و (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ) مفعول لأجله متعلق ب توقدون. ذكر لإيضاح المراد من الصلة ولإدماج ما فيه من منة تسخير ذلك للناس. لشدة رغبتهم فيهما.

والحلية : ما يتحلى به ، أي يتزين وهو المصوغ.

والمتاع : ما يتمتع به وينتفع ، وذلك المسكوك الذي يتعامل به الناس من الذهب والفضة.

وقرأ الجمهور (تُوقِدُونَ) ـ بفوقية في أوله ـ على الخطاب ، وقرأه حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وخلف ـ بتحتية ـ على الغيبة.

وجملة (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) معترضة ، هي فذلكة التمثيل ببيان الغرض منه ، أي مثل هذه الحالة يكون ضرب مثل للحق والباطل. فمعنى (يَضْرِبُ) يبيّن ويمثل. وقد تقدم معنى يضرب عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) في سورة البقرة [٢٦].

فحذف مضاف في قوله : (يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَ) ، والتقدير : يضرب الله مثل الحق والباطل ، دلالة فعل (يَضْرِبُ) على تقدير هذا المضاف.

وحذف الجار من (الْحَقَ) لتنزيل المضاف إليه منزلة المضاف المحذوف.

وقد علم أن الزبد مثل للباطل وأن الماء مثل للحق ، فارتقى عند ذلك إلى ما في المثلين من صفتي البقاء والزوال ليتوصل بذلك إلى البشارة والنذارة لأهل الحق وأهل الباطل بأن الفريق الأول هو الباقي الدائم ، وأن الفريق الثاني زائل بائد ، كقوله : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ* إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ

١٦٨

عابِدِينَ) [الأنبياء : ١٠٥ ، ١٠٦] ، فصار التشبيه تعريضا وكناية عن البشارة والنذارة ، كما دل عليه قوله عقب ذلك (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) [الرعد : ١٨] إلخ كما سيأتي قريبا.

فجملة (فَأَمَّا الزَّبَدُ) معطوفة على جملة (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) مفرّعة على التمثيل. وافتتحت ب (فَأَمَّا) للتوكيد وصرف ذهن السامع إلى الكلام لما فيه من خفي البشارة والنذارة ، ولأنه تمام التمثيل. والتقدير : فذهب الزبد جفاء ومكث ما ينفع الناس في الأرض.

والجفاء : الطريح المرميّ ، وهذا وعيد للمشركين بأنهم سيبيدون بالقتل ويبقى المؤمنون.

وعبر عن الماء بما ينفع الناس للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو البقاء في الأرض تعريضا للمشركين بأن يعرضوا أحوالهم على مضمون هذه الصلة ليعلموا أنهم ليسوا ما ينفع الناس ، وهذه الصلة موازنة للوصف في قوله تعالى : (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [سورة الأنبياء : ١٠٥].

واكتفي بذكر وجه شبه النافع بالماء وغير النافع بالزبد عن ذكر وجه شبه النافع بالذهب أو الفضة وغير النافع بزبدهما استغناء عنه.

وجملة (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) مستأنفة تذييلية لما في لفظ (الْأَمْثالَ) من العموم. فهو أعم من جملة (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) لدلالتها على صنف من المثل دون جميع أصنافه فلما أعقب بمثل آخر وهو (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) جيء بالتنبيه إلى الفائدة العامة من ضرب الأمثال. وحصل أيضا توكيد جملة (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) لأن العام يندرج فيه الخاص.

فإشارة (كَذلِكَ) إلى التمثيل السابق في جملة (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي مثل ذلك الضرب البديع يضرب الله الأمثال ، وهو المقصود بهذا التذييل.

والإشارة للتنويه بذلك المثل وتنبيه الأفهام إلى حكمته وحكمة التمثيل ، وما فيه من المواعظ والعبر ، وما جمعه من التمثيل والكناية التعريضية ، وإلى بلاغة القرآن وإعجازه ، وذلك تبهيج للمؤمنين وتحدّ للمشركين ، وليعلم أن جملة (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) لم يؤت بها لمجرد تشخيص دقائق القدرة الإلهية والصنع البديع بل ولضرب المثل ، فيعلم لممثّل له بطريق التعريض بالمشركين والمؤمنين ، فيكون الكلام قد تم عند قوله : (كَذلِكَ

١٦٩

يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) كما في شأن التذييل.

(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨))

استئناف بياني لجملة (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) ، أي فائدة هذه الأمثال أن للذين استجابوا لربهم حين يضربها لهم الحسنى إلى آخره.

فمناسبته لما تقدم من التمثيلين أنهما عائدان إلى أحوال المسلمين والمشركين. ففي ذكر هذه الجملة زيادة تنبيه للتمثيل وللغرض منه مع ما في ذلك من جزاء الفريقين لأن المؤمنين استجابوا لله بما عقلوا الأمثال فجوزوا بالحسنى ، وأما المشركون فأعرضوا ولم يعقلوا الأمثال ، قال تعالى : (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [سورة العنكبوت : ٤٣] ، فكان جزاؤهم عذابا عظيما وهو سوء الحساب الذي عاقبته المصير إلى جهنم. فمعنى (اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ) استجابوا لدعوته بما تضمنه المثل السابق وغيره.

وقوله : (الْحُسْنى) مبتدأ و (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا) خبره. وفي العدول إلى الموصولين وصلتيهما في قوله : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا) ـ (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا) إيماء إلى أن الصلتين سببان لما حصل للفريقين.

وتقديم المسند في قوله : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) لأنه الأهم لأن الغرض التنويه بشأن الذين استجابوا مع جعل الحسنى في مرتبة المسند إليه ، وفي ذلك تنويه بها أيضا.

وأما الخبر عن وعيد الذين لم يستجيبوا فقد أجري على أصل نظم الكلام في التقديم والتأخير لقلة الاكتراث بهم. وتقدم نظير قوله : (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) في سورة العقود [٣٦].

وأتي باسم الإشارة في (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) للتنبيه على أنهم أحرياء بما بعد اسم الإشارة من الخبر بسبب ما قبل اسم الإشارة من الصلة.

و (سُوءُ الْحِسابِ) ما يحف بالحساب من إغلاظ وإهانة للمحساب. وأما أصل الحساب فهو حسن لأنه عدل.

١٧٠

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩))

تفريع على جملة (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) الآية [سورة الرعد : ١٣]. فالكلام لنفي استواء المؤمن والكافر في صورة الاستفهام تنبيها على غفلة الضالّين عن عدم الاستواء ، كقوله : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) [سورة السجدة : ١٨].

واستعير لمن لا يعلم أنّ القرآن حق اسم الأعمى لأنه انتفى علمه بشيء ظاهر بيّن فأشبه الأعمى ، فالكاف للتشابه مستعمل في التماثل. والاستواء المراد به التماثل في الفضل بقرينة ذكر العمى. ولهذه الجملة في المعنى اتصال بقوله في أول السورة (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) ـ إلى ـ (يُؤْمِنُونَ) [سورة الرعد : ١]. (١) وجملة (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) تعليل للإنكار الذي هو بمعنى الانتفاء بأن سبب عدم علمهم بالحق أنهم ليسوا أهلا للتذكر لأن التذكر من شعار أولي الألباب ، أي العقول.

والقصر ب (أَنَّما) إضافي ، أي لا غير أولي الألباب ، فهو تعريض بالمشركين بأنهم لا عقول لهم إذ انتفت عنهم فائدة عقولهم.

والألباب : العقول. وتقدم في آخر سورة آل عمران.

[٢٠ ، ٢٢] (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢))

يجوز أن تكون (الَّذِينَ يُوفُونَ) ابتداء كلام فهو استئناف ابتدائي جاء لمناسبة ما أفادت الجملة التي قبلها من إنكار الاستواء بين فريقين. ولذلك ذكر في هذه الجمل حال فريقين في المحامد والمساوي ليظهر أن نفي التسوية بينهما في الجملة السابقة ذلك النفي المراد به تفضيل أحد الفريقين على الآخر هو نفي مؤيد بالحجة ، وبذلك يصير موقع هذه الجملة مفيدا تعليلا لنفي التسوية المقصود منه تفضيل المؤمنين على المشركين ، فيكون قوله : (الَّذِينَ يُوفُونَ) مسندا إليه وكذلك ما عطف عليه. وجملة (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) مسندا.

__________________

(١) في المطبوعة : الذين يؤمنون

١٧١

واجتلاب اسم الإشارة (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) للتنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما بعد اسم الإشارة من أجل الأوصاف التي قبل اسم الإشارة ، كقوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) في أول سورة البقرة [٥].

ونظير هذه الجملة قوله تعالى : (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً) [سورة الفرقان : ٣٤] من قوله : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) [سورة الفرقان : ٣٣].

وقد ظهر بهذه الجملة كلها وبموقعها تفضيل الذين يعلمون أن ما أنزل حق بما لهم من صفات الكمال الموجبة للفضل في الدنيا وحسن المصير في الآخرة وبما لأضدادهم من ضد ذلك في قوله : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) ـ إلى قوله : ـ (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [سورة الرعد : ٢٥].

والوفاء بالعهد : أن يحقّق المرء ما عاهد على أن يعمله. ومعنى العهد : الوعد الموثّق بإظهار العزم على تحقيقه من يمين أو تأكيد.

ويجوز أن يكون (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) نعتا لقوله : (أُولُوا الْأَلْبابِ) وتكون جملة (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) نعتا ثانيا. والإتيان باسم الإشارة للغرض المذكور آنفا.

وعهد الله مصدر مضاف لمفعوله ، أي ما عاهدوا الله على فعله ، أو من إضافة المصدر إلى فاعله ، أي ما عهد الله به إليهم. وعلى كلا الوجهين فالمراد به الإيمان الذي أخذه الله على الخلق المشار إليه بقوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) ذرياتهم (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) ، وتقدم في سورة الأعراف [١٧٢] ، فذلك عهدهم ربهم. وأيضا بقوله : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِي) [سورة يس : ٦٠ ـ ٦١] ، وذلك عهد الله لهم بأن يعبدوه ولا يعبدوا غيره ، فحصل العهد باعتبار إضافته إلى مفعوله وإلى فاعله.

وذلك أمر أودعه الله في فطرة البشر فنشأ عليه أصلهم وتقلّده ذريته ، واستمر اعترافهم لله بأنه خالقهم. وذلك من آثار عهد الله. وطرأ عليهم بعد ذلك تحريف عهدهم فأخذوا يتناسون وتشتبه الأمور على بعضهم فطرأ عليهم الإشراك لتفريطهم النظر في دلائل التوحيد ، ولأنه بذلك العهد قد أودع الله في فطرة العقول السليمة دلائل الوحدانية لمن تأمل وأسلم للدليل ، ولكن المشركين أعرضوا وكابروا ذلك العهد القائم في الفطرة ، فلا جرم أن كان الإشراك إبطالا للعهد ونقضا له ، ولذلك عطفت جملة (وَلا يَنْقُضُونَ

١٧٢

الْمِيثاقَ) على جملة (يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ).

والتعريف في (الْمِيثاقَ) يحمل على تعريف الجنس فيستغرق جميع المواثيق وبذلك يكون أعم من عهد الله فيشمل المواثيق الحاصلة بين الناس من عهود وأيمان.

وباعتبار هذا العموم حصلت مغايرة ما بينه وبين عهد الله. وتلك هي مسوغة عطف (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) على (يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) مع حصول التأكيد لمعنى الأولى بنفي ضدها ، وتعريضا بالمشركين لاتصافهم بضد ذلك الكمال ، فعطف التأكيد باعتبار المغايرة بالعموم والخصوص.

والميثاق والعهد مترادفان. والإيفاء ونفي النقض متحدا المعنى. وابتدئ من الصفات بهذه الخصلة لأنها تنبئ عن الإيمان والإيمان أصل الخيرات وطريقها ، ولذلك عطف على (يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) قوله : (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) تحذيرا من كل ما فيه نقضه.

وهذه الصلات صفات لأولي الألباب فعطفها من باب عطف الصفات للموصوف الواحد ، وليس من عطف الأصناف. وذلك مثل العطف في قول الشاعر الذي أنشده الفراء في معاني القرآن :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

فالمعنى : الذين يتصفون بمضمون كل صلة من هذه الصلات كلما عرض مقتض لاتّصافهم بها بحيث إذا وجد المقتضي ولم يتصفوا بمقتضاه كانوا غير متصفين بتلك الفضائل ، فمنها ما يستلزم الاتصاف بالضد ، ومنها ما لا يستلزم إلا التفريط في الفضل.

وأعيد اسم الموصول هذا وما عطف عليه من الأسماء الموصولة ، للدلالة على أنها صلاتها خصال عظيمة تقتضي الاهتمام بذكر من اتصف بها ، ولدفع توهم أن عقبى الدار لا تتحقق لهم إلا إذا جمعوا كل هذه الصفات.

فالمراد ب (الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) ما يصدق على الفريق الذين يوفون بعهد الله.

ومناسبة عطفه أنّ وصل ما أمر الله به أن يوصل أثر من آثار الوفاء بعهد الله وهو عهد الطاعة الداخل في قوله : (وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) في سورة يس [٦١].

١٧٣

والوصل : ضم شيء لشيء. وضده القطع. ويطلق مجازا على القرب وضده الهجر. واشتهر مجازا أيضا في الإحسان والإكرام ومنه قولهم ، صلة الرحم ، أي الإحسان لأجل الرحم ، أي لأجل القرابة الآتية من الأرحام مباشرة أو بواسط ، وذلك النسب الجائي من الأمهات. وأطلقت على قرابة النسب من جانب الآباء أيضا لأنها لا تخلو غالبا من اشتراك في الأمهات ولو بعدن.

و (ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) عام في جميع الأواصر والعلائق التي أمر الله بالمودة والإحسان لأصحابها. فمنها آصرة الإيمان ، ومنها آصرة القرابة وهي صلة الرحم. وقد اتفق المفسرون على أنها مراد الله هنا ، وقد تقدم مثله عند قوله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) في سورة البقرة [٢٦ ، ٢٧].

وإنما أطنب في التعبير عنها بطريقة اسم الموصول (ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) لما في الصلة من التعريض بأن واصلها آت بما يرضي الله لينتقل من ذلك إلى التعريض بالمشركين الذين قطعوا أواصر القرابة بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من المؤمنين وأساءوا إليهم في كل حال وكتبوا صحيفة القطيعة مع بني هاشم.

وفيها الثناء على المؤمنين بأنهم يصلون الأرحام ولم يقطعوا أرحام قومهم المشركين إلا عند ما حاربوهم وناووهم.

وقوله : (أَنْ يُوصَلَ) بدل من ضمير (بِهِ) ، أي ما أمر الله بوصله. وجيء بهذا النظم لزيادة تقرير المقصود وهو الأرحام بعد تقريره بالموصولية.

والخشية : خوف بتعظيم المخوف منه وتقدمت في قوله تعالى : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) في سورة البقرة [٤٥]. وتطلق على مطلق الخوف.

والخوف : ظن وقوع المضرة من شيء. وتقدم في قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) في سورة البقرة [٢٢٩].

و (سُوءَ الْحِسابِ) ما يحفّ به مما يسوء المحاسب ، وقد تقدم آنفا ، أي يخافون وقوعه عليهم فيتركون العمل السيّئ.

وجاءت الصلات (الَّذِينَ يُوفُونَ) و (الَّذِينَ يَصِلُونَ) وما عطف عليهما بصيغة المضارع في تلك الأفعال الخمسة لإفادة التجدد كناية عن الاستمرار.

١٧٤

وجاءت صلة (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) وما عطف عليها وهو (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا) بصيغة المضيّ لإفادة تحقق هذه الأفعال الثلاثة لهم وتمكنها من أنفسهم تنويها بها لأنها أصول لفضائل الأعمال.

فأما الصبر فلأنه ملاك استقامة الأعمال ومصدرها فإذا تخلق به المؤمن صدرت عنها لحسنات والفضائل بسهولة ، ولذلك قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) [سورة العصر : ٢ ـ ٣].

وأما الصلاة فلأنها عماد الدين وفيها ما في الصبر من الخاصية لقوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) وقوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [سورة البقرة : ٤٥].

وأما الإنفاق فأصله الزكاة ، وهي مقارنة للصلاة كلما ذكرت ، ولها الحظ الأوفى من اعتناء الدين بها ، ومنها النفقات والعطايا كلها ، وهي أهم الأعمال ، لأن بذل المال يشق على النفوس فكان له من الأهمية ما جعله ثانيا للصلاة.

ثم أعيد أسلوب التعبير بالمضارع في المعطوف على الصلة وهو قوله : (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) لاقتضاء المقام إفادة التجدد إيماء إلى أن تجدد هذا الدرء ما يحرص عليه لأن الناس عرضة للسيئات على تفاوت ، فوصف لهم دواء ذلك بأن يدعوا السيّئات بالحسنات.

والقول في عطف (وَالَّذِينَ صَبَرُوا) وفي إعادة اسم الموصول كالقول في (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ).

والصبر : من المحامد. وتقدم في قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) في سورة البقرة [٤٥]. والمراد الصبر على مشاق أفعال الخير ونصر الدين.

و (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) مفعول لأجله ل (صَبَرُوا). والابتغاء : الطلب. ومعنى ابتغاء وجه الله ابتغاء رضاه كأنه فعل فعلا يطلب به إقباله عند لقائه ، وتقدم في قوله تعالى : (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) في آخر سورة البقرة [٢٧٢].

والمعنى أنهم صبروا لأجل أن الصبر مأمور به من الله لا لغرض آخر كالرياء ليقال ما أصبره على الشدائد ولاتّقاء شماتة الأعداء.

١٧٥

والسر والعلانية تقدم وجه ذكرهما في قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) أواخر سورة البقرة [٢٧٤].

والدرء : الدفع والطرد. وهو هنا مستعار لإزالة أثر الشيء فيكون بعد حصول المدفوع وقبل حصوله بأن يعدّ ما يمنع حصوله ، فيصدق ذلك بأن يتبع السّيّئة إذا صدرت منه بفعل الحسنات فإن ذلك كطرد السيئة. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا معاذ اتّق الله حيث كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها». وخاصة فيما بينه وبين ربه.

ويصدق بأن لا يقابل من فعل معه سيّئة بمثله بل يقابل ذلك بالإحسان ، قال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [سورة فصلت : ٣٤] بأن يصل من قطعه ويعطي من حرمه ويعفو عمن ظلمه وذلك فيما بين الأفراد وكذلك بين الجماعات إذ لم يفض إلى استمرار الضر. قال تعالى في ذلك : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [سورة الأنفال : ٣].

ويصدق بالعدول عن فعل السيئة بعد العزم فإن ذلك العدول حسنة درأت السيّئة المعزوم عليه. قال النبي ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : «من همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له حسنة».

فقد جمع (يَدْرَؤُنَ) جميع هذه المعاني ولهذا لم يعقب بما يقتضي أن المراد معاملة المسيء بالإحسان كما أتبع في قوله : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) في سورة فصلت [٣٤]. وكما في قوله (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) في سورة المؤمنون [٩٦].

وجملة (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) خبر عن (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ). ودل اسم الإشارة على أن المشار إليهم جديرون بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة لأجل ما وصف به المشار إليهم من الأوصاف ، كما في قوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) في أول سورة البقرة [٥].

و (لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) جملة خبرا عن اسم الإشارة. وقدم المجرور على المبتدأ للدلالة على القصر ، أي لهم عقبى الدار لا للمتصفين بأضداد صفاتهم ، فهو قصر إضافي.

والعقبى : العاقبة ، وهي الشيء الذي يعقب ، أي يقع عقب شيء آخر. وقد اشتهر

استعمالها في آخرة الخير ، قال تعالى : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [سورة القصص : ٨٣]. ولذلك

١٧٦

وقعت هنا في مقابلة ضدها في قوله : (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [سورة غافر : ٥٢].

وأما قوله : (وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) [سورة الرعد : ٣٥] فهو مشاكلة كما سيأتي في آخر السورة عند قوله : وسيعلم الكافر (لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ)[سورة الرعد : ٤٢]. وانظر ما ذكرته في تفسير قوله تعالى : (وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) في سورة القصص [٣٧] فقد زدته بيانا.

وإضافتها إلى (الدَّارِ) من إضافة الصفة إلى الموصوف. والمعنى : لهم الدار العاقبة ، أي الحسنة.

[٢٣ ، ٢٤] (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤))

(جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من (عُقْبَى الدَّارِ). والعدن : الاستقرار. وتقدم في قوله : (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) في سورة براءة [٧٢].

وذكر (يَدْخُلُونَها) لاستحضار الحالة البهيجة. والجملة حال من (جَنَّاتُ) أو من ضمير (لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) ، والواو في (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ) واو المعية وذلك زيادة الإكرام بأن جعل أصولهم وفروعهم وأزواجهم المتأهلين لدخول الجنة لصلاحهم في الدرجة التي هم فيها ؛ فمن كانت مرتبته دون مراتبهم لحق بهم ، ومن كانت مرتبته فوق مراتبهم لحقوا هم به ، فلهم الفضل في الحالين. وهذا كعكسه في قوله تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) [سورة الصافات : ٢٢] الآية لأن مشاهدة عذاب الأقارب عذاب مضاعف.

وفي هذه الآية بشرى لمن كان له سلف صالح أو خلف صالح أو زوج صالح ممن تحققت فيهم هذه الصلاة أنه إذا صار إلى الجنة لحق بصالح أصوله أو فروعه أو زوجه ، وما ذكر الله هذا إلا لهذه البشرى كما قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [سورة الطور : ٢١].

والآباء يشمل الأمهات على طريقة التغليب كما قالوا : الأبوين.

وجملة (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) عطف على (يَدْخُلُونَها) فهي في موقع الحال. وهذا من كرامتهم والتنويه بهم ، فإن تردد رسل الله عليهم مظهر من مظاهر إكرامه.

١٧٧

وذكر (مِنْ كُلِّ بابٍ) كناية عن كثرة غشيان الملائكة إياهم بحيث لا يخلو باب من أبواب بيوتهم لا تدخل منه ملائكة. ذلك أن هذا الدخول لما كان مجلبة مسرة كان كثيرا في الأمكنة. ويفهم منه أن ذلك كثير في الأزمنة فهو متكرر لأنهم ما دخلوا من كل باب إلا لأن كل باب مشغول بطائفة منهم ، فكأنه قيل من كل باب في كل آن.

وجملة (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) مقول قول محذوف لأن هذا لا يكون إلا كلاما من الداخلين. وهذا تحية يقصد منها تأنيس أهل الجنة.

والباء في (بِما صَبَرْتُمْ) للسببية ، وهي متعلقة بالكون المستفاد من المجرور وهو (عَلَيْكُمْ). والتقدير : نالكم هذا التكريم بالسلام بسبب صبركم. ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف مستفاد من المقام ، أي هذا النعيم المشاهد بما صبرتم.

والمراد : الصبر على مشاق التكاليف وعلى ما جاهدوا بأموالهم وأنفسهم.

وفرع على ذلك (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) تفريع ثناء على حسن عاقبتهم. والمخصوص بالمدح محذوف لدلالة مقام الخطاب عليه. والتقدير : فنعم عقبى الدار دار عقباكم. وتقدم معنى (عُقْبَى الدَّارِ) آنفا.

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥))

هذا شرح حال أضداد الذين يوفون بعهد الله ، وهو ينظر إلى شرح مجمل قوله : (كَمَنْ هُوَ أَعْمى) [سورة الرعد : ١٩]. والجملة معطوفة على جملة (الَّذِينَ يُوفُونَ) [الرعد : ٢٠].

ونقض العهد : إبطاله وعدم الوفاء به.

وزيادة (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) زيادة في تشنيع النقض ، أي من بعد توثيق العهد وتأكيده.

وتقدم نظير هذه الآية قوله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) في أوائل سورة البقرة : ٢٦ ـ ٢٧].

وجملة (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) خبر عن (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ) وهي مقابل جملة (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ).

١٧٨

والبعد عن الرحمة والخزي وإضافة سوء الدار كإضافة عقبى الدار. والسوء ضد العقبى كما تقدم.

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦))

هذه الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا عما يهجس في نفوس السامعين من المؤمنين والكافرين من سماع قوله : (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) المفيد أنهم مغضوب عليهم ، فأما المؤمنون فيقولون : كيف بسط الله الرزق لهم في الدنيا فازدادوا به طغيانا وكفرا وهلا عذبهم في الدنيا بالخصاصة كما قدر تعذيبهم في الآخرة ، وذلك مثل قول موسى ـ عليه‌السلام ـ (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) [سورة يونس : ٨٨] ، وأما الكافرون فيسخرون من الوعيد مزدهين بما لهم من نعمة. فأجيب الفريقان بأن الله يشاء بسط الرزق لبعض عباده ونقصه لبعض آخر لحكمة متصلة بأسباب العيش في الدنيا ، ولذلك اتّصال بحال الكرامة عنده في الآخرة. ولذلك جاء التعميم في قوله: (لِمَنْ يَشاءُ) ، ومشيئته تعالى وأسبابها لا يطلع عليها أحد.

وأفاد تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله : (اللهُ يَبْسُطُ) تقوية للحكم وتأكيدا ، لأن المقصود أن يعلمه الناس ولفت العقول إليه على رأي السكاكي في أمثاله. وليس المقام مقام إفادة الحصر كما درج عليه «الكشاف» إذ ليس ثمة من يزعم الشركة لله في ذلك ، أو من يزعم أن الله لا يفعل ذلك فيقصد الرد عليه بطريق القصر.

والبسط : مستعار للكثرة وللدوام. والقدر : كناية عن القلة.

ولما كان المقصود الأول من هذا الكلام تعليم المسلمين كان الكلام موجها إليهم.

وجيء في جانب الكافرين بضمير الغيبة إشارة إلى أنهم أقل من أن يفهموا هذه الدقائق لعنجهية نفوسهم فهم فرحوا بما لهم في الحياة الدنيا وغفلوا عن الآخرة ، فالفرح المذكور فرح بطر وطغيان كما في قوله تعالى في شأن قارون : (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [سورة القصص : ٧٦] ، فالمعنى فرحوا بالحياة الدنيا دون اهتمام بالآخرة. وهذا المعنى أفاده الاقتصار على ذكر الدنيا في حين ذكر الآخرة أيضا بقوله : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ).

١٧٩

والمراد بالحياة الدنيا وبالآخرة نعيمهما بقرينة السياق ، فالكلام من إضافة الحكم إلى الذات والمراد أحوالها.

و (فِي) ظرف مستقر حال من (الْحَياةُ الدُّنْيا). ومعنى (فِي) الظرفية المجازية بمعنى المقايسة ، أي إذا نسبت أحوال الحياة الدنيا بأحوال الآخرة ظهر أن أحوال الدنيا متاع قليل ، وتقدم عند قوله : (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) في سورة براءة [٣٨].

والمتاع : ما يتمتع به وينقضي. وتنكيره للتقليل كقوله : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ* مَتاعٌ قَلِيلٌ) [سورة آل عمران : ١٩٦ ـ ١٩٧].

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧))

عطف غرض على غرض وقصة على قصة. والمناسبة ذكر فرحهم بحياتهم الدنيا وقد اغتروا بما هم عليه من الرزق فسألوا تعجيل الضرّ في قولهم : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [سورة الأنفال : ٣٢]. وهذه الجملة تكرير لنظيرتها السابقة (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) [سورة الرعد : ٧]. فأعيدت تلك الجملة إعادة الخطيب كلمة من خطبته ليأتي بما بقي عليه في ذلك الغرض بعد أن يفصل بما اقتضى المقام الفصل به ثم يتفرغ إلى ما تركه من قبل ، فإنه بعد أن بينت الآيات السابقة أنّ الله قادر على أن يعجل لهم العذاب ولكن حكمته اقتضت عدم التنازل ليتحدى عبيده فتبين ذلك كله كمال التبيين. وكل ذلك لا حق بقوله : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [سورة الرعد : ٥] ، وعود إلى المهم من غرض التنويه بآية القرآن ودلالته على صدق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذا أطيل الكلام على هدي القرآن عقب هذه الجملة.

ولذلك تعين أن موقع جملة (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) موقع الخبر المستعمل في تعجيب الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ من شدة ضلالهم بحيث يوقن من شاهد حالهم أن الضلال والاهتداء بيد الله وأنهم لو لا أنهم جبلوا من خلقة عقولهم على اتباع الضلال لكانوا مهتدين لأن أسباب الهداية واضحة.

وتحت هذا التعجيب معان أخرى :

١٨٠