تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٤

الْكِتابِ (٣٩))

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ).

هذا عود إلى الردّ على المشركين في إنكارهم آية القرآن وتصميمهم على المطالبة بآية من مقترحاتهم تماثل ما يؤثر من آيات موسى وآيات عيسى ـ عليهما‌السلام ـ ببيان أن الرسول لا يأتي بآيات إلّا بإذن الله ، وأن ذلك لا يكون على مقترحات الأقوام ، وذلك قوله : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ، فالجملة عطف على جملة (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) [الرعد : ٣٧].

وأدمج في هذا الرد إزالة شبهة قد تعرض أو قد عرضت لبعض المشركين فيطعنون أو طعنوا في نبوءة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه يتزوج النساء وأن شأن النبي أن لا يهتم بالنساء. قال البغوي : روي أن اليهود وقيل إن المشركين قالوا : إن هذا الرجل ليست له همة إلا في النساء اه. فتعين إن صحت الرواية في سبب النزول أن القائلين هم المشركون إذ هذه السورة مكية ولم يكن لليهود حديث مع أهل مكة ولا كان منهم في مكة أحد. وليس يلزم أن يكون هذا نازلا على سبب. وقد تزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خديجة ثم سودة ـ رضي‌الله‌عنهما ـ في مكة فاحتمل أن المشركين قالوا قالة إنكار تعلقا بأوهن أسباب الطعن في النبوءة. وهذه شبهة تعرض للسذج أو لأصحاب التمويه ، وقد يموّه بها المبشرون من النصارى على ضعفاء الإيمان فيفضلون عيسى ـ عليه‌السلام ـ على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن عيسى لم يتزوج النساء. وهذا لا يروج على العقلاء لأن تلك بعض الحظوظ المباحة لا تقتضي تفضيلا. وإنما التفاضل في كل عمل بمقادير الكمالات الداخلة في ذلك العمل. ولا يدري أحد الحكمة التي لأجلها لم يتزوج عيسى ـ عليه‌السلام ـ امرأة. وقد كان يحيى ـ عليه‌السلام ـ حصورا فلعل عيسى ـ عليه‌السلام ـ قد كان مثله لأن الله لا يكلفه بما يشق عليه وبما لم يكلف به غيره من الأنبياء والرسل. وأما وصف الله يحيى ـ عليه‌السلام ـ بقوله : (وَحَصُوراً) فليس مقصودا منه أنه فضيلة ولكنه أعلم أباه زكرياء ـ عليه‌السلام ـ بأنه لا يكون له نسل ليعلم أن الله أجاب دعوته فوهب له يحيى ـ عليه‌السلام ـ كرامة له ، ثم قدّر أنه لا يكون له نسل إنفاذا لتقديره فجعل امرأته عاقرا. وقد تقدم بيان ذلك في تفسير سورة آل عمران. وقد كان لأكثر الرسل أزواج ولأكثرهم ذرية مثل نوح وإبراهيم ولوط وموسى وداود وسليمان وغير هؤلاء ـ عليهم‌السلام ـ.

٢٠١

والأزواج : جمع زوج ، وهو من مقابلة الجمع بالجمع ، فقد يكون لبعض الرسل زوجة واحدة مثل : نوح ولوط ـ عليهما‌السلام ـ ، وقد يكون للبعض عدة زوجات مثل : إبراهيم وموسى وداود وسليمان ـ عليهم‌السلام ـ.

ولما كان المقصود من الردّ هو عدم منافاة اتخاذ الزوجة لصفة الرسالة لم يكن داع إلى تعداد بعضهم زوجات كثيرة.

وتقدم الكلام على الزوج عند قوله تعالى : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) في سورة البقرة [٣٥].

والذرية : النسل. وتقدم عند قوله تعالى : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) في سورة البقرة [١٢٤].

وجملة (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) هي المقصود وهي معطوفة على جملة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ). وتركيب (ما كانَ) يدل على المبالغة في النفي ، كما تقدم عند قوله : (قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) في سورة العقود [١١٦]. والمعنى : أن شأنك شأن من سبق من الرسل لا يأتون من الآيات إلّا بما آتاهم الله.

وإذن الله : هو إذن التكوين للآيات وإعلام الرسول بأن ستكون آية ، فاستعير الإتيان للإظهار ، واستعير الإذن للخلق والتكوين.

(لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٣٩).

تذييل لأنه أفاد عموم الآجال فشمل أجل الإتيان بآية من قوله : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ). وذلك إبطال لتوهم المشركين أن تأخر الوعيد يدل على عدم صدقه. وهذا ينظر إلى قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) [سورة العنكبوت : ٥٣] فقد قالوا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) الآية [سورة الأنفال : ٣٢].

وإذ قد كان ما سألوه من جملة الآيات وكان ما وعدوه آية على صدق الرسالة ناسب أن يذكر هنا أن تأخير ذلك لا يدل على عدم حصوله ، فإن لذلك آجالا أرادها الله واقتضتها حكمته وهو أعلم بخلقه وشئونهم ولكن الجهلة يقيسون تصرفات الله بمثل ما

٢٠٢

تجري به تصرفات الخلائق.

والأجل : الوقت الموقت به عمل معزوم أو موعود.

والكتاب : المكتوب ، وهو كناية عن التحديد والضبط ، لأن شأن الأشياء التي يراد تحققها أن تكتب لئلا يخالف عليها. وفي هذا الرد تعريض بالوعيد. والمعنى : لكل واقع أجل يقع عنده ، ولكل أجل كتاب ، أي تعيين وتحديد لا يتقدمه ولا يتأخر عنه.

وجملة (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) مستأنفة استئنافا بيانيا لأن جملة (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) تقتضي أن الوعيد كائن وليس تأخيره مزيلا له. ولما كان في ذلك تأييس للناس عقب بالإعلام بأن التوبة مقبولة وبإحلال الرجاء محلّ اليأس ، فجاءت جملة (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) احتراسا.

وحقيقة المحو : إزالة شيء ، وكثر في إزالة الخط أو الصورة ، ومرجع ذلك إلى عدم المشاهدة ، قال تعالى : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) [سورة الإسراء : ١٢]. ويطلق مجازا على تغيير الأحوال وتبديل المعاني كالأخبار والتكاليف والوعد والوعيد فإن لها نسبا ومفاهيم إذا صادفت ما في الواقع كانت مطابقتها إثباتا لها وإذا لم تطابقه كان عدم مطابقتها محوا لأنه إزالة لمدلولاتها.

والتثبت : حقيقته جعل الشيء ثابتا قارا في مكان ، قال تعالى : (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) [سورة الأنفال : ٤٥]. ويطلق مجازا على أضداد معاني المحو المذكورة. فيندرج في ما تحتمله الآية عدة معان : منها أنه يعدم ما يشاء من الموجودات ويبقي ما يشاء منها ، ويعفو عما يشاء من الوعيد ويقرر ، وينسخ ما يشاء من التكاليف ويبقي ما يشاء.

وكل ذلك مظاهر لتصرف حكمته وعلمه وقدرته. وإذ قد كانت تعلقات القدرة الإلهية جارية على وفق علم الله تعالى كان ما في علمه لا يتغير فإنه إذا أوجد شيئا كان عالما أنه سيوجده ، وإذا أزال شيئا كان عالما أنه سيزيله وعالما بوقت ذلك.

وأبهم الممحو والمثبت بقوله : (ما يَشاءُ) لتتوجه الأفهام إلى تعرّف ذلك والتدبر فيه لأن تحت ذا الموصول صورا لا تحصى ، وأسباب المشيئة لا تحصى.

ومن مشيئة الله تعالى محو الوعيد أن يلهم المذنبين التوبة والإقلاع ويخلق في قلوبهم داعية الامتثال. ومن مشيئة التثبيت أن يصرف قلوب قوم عن النظر في تدارك أمورهم ، وكذلك القول في العكس من تثبيت الخير ومحوه.

٢٠٣

ومن آثار المحو تغير إجراء الأحكام على الأشخاص ، فبينما ترى المحارب مبحوثا عنه مطلوبا للأخذ فإذا جاء تائبا قبل القدرة عليه قبل رجوعه ورفع عنه ذلك الطلب ، وكذلك إجراء الأحكام على أهل الحرب إذا آمنوا ودخلوا تحت أحكام الإسلام.

وكذلك الشأن في ظهور آثار رضي الله أو غضبه على العبد فبينما ترى أحدا مغضوبا عليه مضروبا عليه المذلة لانغماسه في المعاصي إذا بك تراه قد أقلع وتاب فأعزه الله ونصره.

ومن آثار ذلك أيضا تقليب القلوب بأن يجعل الله البغضاء محبة ، كما قالت هند بنت عتبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن أسلمت : «ما كان أهل خباء أحبّ إليّ أن يذلوا من أهل خبائك واليوم أصبحت وما أهل خباء أحب إليّ أن يعزوا من أهل خبائك».

وقد محا الله وعيد من بقي من أهل مكة فرفع عنهم السيف يوم فتح مكة قبل أن يأتوا مسلمين ، ولو شاء لأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باستئصالهم حين دخوله مكة فاتحا.

وبهذا يتحصل أن لفظ (ما يَشاءُ) عام يشمل كل ما يشاؤه الله تعالى ولكنه مجمل في مشيئة الله بالمحو والإثبات ، وذلك لا تصل الأدلة العقلية إلى بيانه ، ولم يرد في الأخبار المأثورة ما يبينه إلا القليل على تفاوت في صحة أسانيده. ومن الصحيح فيما ورد من ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها».

والذي يلوح في معنى الآية أن ما في أم الكتاب لا يقبل محوا ، فهو ثابت وهو قسيم لما يشاء الله محوه.

ويجوز أن يكون ما في أم الكتاب هو عين ما يشاء الله محوه أو إثباته سواء كان تعيينا بالأشخاص أو بالذوات أو بالأنواع وسواء كانت الأنواع من الذوات أو من الأفعال ، وأن جملة (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) أفادت أن ذلك لا يطلع عليه أحد.

ويجوز أن يكون قوله : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) مرادا به الكتاب الذي كتبت به الآجال وهو قوله : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) ، وأن المحو في غير الآجال.

ويجوز أن يكون أم الكتاب مرادا به علم الله تعالى ، أي يمحو ويثبت وهو عالم بأن الشيء سيمحى أو يثبت. وفي تفسير القرطبي عن ابن عمر قال سمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

٢٠٤

«يمحو الله ما يشاء ويثبت إلّا السعادة والشقاوة والموت». وروى مثله عن مجاهد. وروى عن ابن عباس (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) إلا أشياء الخلق ـ بفتح الخاء وسكون اللام ـ والخلق ـ بضم الخاء واللام ـ والأجل والرزق والسعادة والشقاوة ، (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) الذي لا يتغيّر منه شيء. قلت : وقد تفرع على هذا قول الأشعري : إن السعادة والشقاوة لا يتبدلان خلافا للماتريدي.

وعن عمر وابن مسعود ما يقتضي أن السعادة والشقاوة يقبلان المحو والإثبات.

فإذا حمل المحو على ما يجمع معاني الإزالة ، وحمل الإثبات على ما يجمع معاني الإبقاء ، وإذا حمل معنى (أُمُّ الْكِتابِ) على معنى ما لا يقبل إزالة ما قرر أنه حاصل أو أنه موعود به ولا يقبل إثبات ما قرر انتفاؤه ، سواء في ذلك الأخبار والأحكام ، كان ما في أم الكتاب قسيما لما يمحى ويثبت.

وإذا حمل على أن ما يقبل المحو والإثبات معلوم لا يتغيّر علم الله به كان ما في أم الكتاب تنبيها على أن التغييرات التي تطرأ على الأحكام أو على الأخبار ما هي إلا تغييرات مقررة من قبل وإنما كان الإخبار عن إيجادها أو عن إعدامها مظهرا لما اقتضته الحكمة الإلهية في وقت ما.

و (أُمُّ الْكِتابِ) لا محالة شيء مضاف إلى الكتاب الذي ذكر في قوله : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ). فإن طريقة إعادة النكرة بحرف التعريف أن تكون المعادة عين الأولى بأن يجعل التعريف تعريف العهد ، أي وعنده أم ذلك الكتاب ، وهو كتاب الأجل.

فكلمة (أُمُ) مستعملة مجازا فيما يشبه الأم في كونها أصلا لما تضاف إليه (أُمُ) لأن الأمّ يتولد منها المولود فكثر إطلاق أمّ الشيء على أصله ، فالأمّ هنا مراد به ما هو أصل للمحو والإثبات اللذين هما من مظاهر قوله : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) ، أي لما محو وإثبات المشيئات مظاهر له وصادرة عنه ، فأمّ الكتاب هو علم الله تعالى بما سيريد محوه وما سيريد إثباته كما تقدم.

والعندية عندية الاستئثار بالعلم وما يتصرف عنه ، أي وفي ملكه وعلمه أمّ الكتاب لا يطلع عليها أحد. ولكن الناس يرون مظاهرها دون اطلاع على مدى ثبات تلك المظاهر وزوالها ، أي أن الله المتصرف بتعيين الآجال والمواقيت فجعل لكل أجل حدا معينا ، فيكون أصل الكتاب على هذا التفسير بمعنى كله وقاعدته.

٢٠٥

ويحتمل أن يكون التعريف في (الْكِتابِ) الذي أضيف إليه (أُمُ) أصل ما يكتب ، أي يقدر في علم الله من الحوادث فهو الذي لا يغيّر ، أي يمحو ما يشاء ويثبت في الأخبار من وعد ووعيد ، وفي الآثار من ثواب وعقاب ، وعنده ثابت التقادير كلها غير متغيرة.

والعندية على هذا عندية الاختصاص ، أي العلم ، فالمعنى : أنه يمحو ما يشاء ويثبت فيما يبلغ إلى الناس وهو يعلم ما ستكون عليه الأشياء وما تستقر عليه ، فالله يأمر الناس بالإيمان وهو يعلم من سيؤمن منهم ومن لا يؤمن فلا يفجؤه حادث. ويشمل ذلك نسخ الأحكام التكليفية فهو يشرعها لمصالح ثم ينسخها لزوال أسباب شرعها وهو في حال شرعها يعلم أنها آئلة إلى أن تنسخ.

وقرأ الجمهور (وَيُثْبِتُ) ـ بتشديد الموحدة ـ من ثبّت المضاعف. وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، ويعقوب (وَيُثْبِتُ) ـ بسكون المثلثة وتخفيف الموحدة ـ.

(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠))

عطف على جملة (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) [الرعد : ٣٩] باعتبار ما تفيده من إبهام مراد الله في آجال الوعيد ومواقيت إنزال الآيات ، فبينت هذه الجملة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس مأمورا بالاشتغال بذلك ولا بترقبه وإنما هو مبلّغ عن الله لعباده والله يعلم ما يحاسب به عباده سواء شهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك أم لم يشهده.

وجعل التوفي كناية عن عدم رؤية حلول الوعيد بقرينة مقابلته بقوله : (نُرِيَنَّكَ). والمعنى : ما عليك إلا البلاغ سواء رأيت عذابهم أم لم تره.

وفي الإتيان بكلمة (بَعْضَ) إيماء إلى أنه يرى البعض. وفي هذا إنذار لهم بأن الوعيد نازل بهم ولو تأخر ؛ وأن هذا الدين يستمر بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه إذا كان الوعيد الذي أمر بإبلاغه واقعا ولو بعد وفاته فبالأولى أن يكون شرعه الذي لأجله جاء وعيد الكافرين به شرعا مستمرا بعده ، ضرورة أن الوسيلة لا تكون من الأهمية بأشدّ من المقصد المقصودة لأجله.

وتأكيد الشرط بنون التوكيد و (ما) المزيدة بعد (إِنْ) الشرطية مراد منه تأكيد الربط

٢٠٦

بين هذا الشرط وجوابه وهو (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ). على أن نون التوكيد لا يقترن بها فعل الشرط إلّا إذا زيدت (ما) ؛ بعد (إِنْ) الشرطية فتكون إرادة التأكيد مقتضية لاجتلاب مؤكدين ، فلا يكون ذلك إلا لغرض تأكيد قويّ.

وقد أرى الله نبيئه بعض ما توعد به المشركين من الهلاك بالسيف يوم بدر ويوم الفتح ويوم حنين وغيرها من أيام الإسلام في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يره بعضه مثل عذاب أهل الردة فإن معظمهم كان من المكذبين المبطنين الكفر مثل : مسيلمة الكذاب.

وفي الآية إيماء إلى أن العذاب الذي يحل بالمكذبين لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عذاب قاصر على المكذبين لا يصيب غير المكذب لأنه استئصال بالسيف قابل للتجزئة واختلاف الأزمان رحمة من الله بأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعلى في قوله : (عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) مستعملة في الإيجاب والإلزام ، وهو في الأول حقيقة وفي الثاني مجاز في الوجوب لله بالتزامه به.

وإنما للحصر ، والمحصور فيه هو البلاغ لأنه المتأخر في الذكر من الجملة المدخولة لحرف الحصر ، والتقدير : عليك البلاغ لا غيره من إنزال الآيات أو من تعجيل العذاب ، ولهذا قدم الخبر على المبتدأ لتعيين المحصور فيه.

وجملة (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) عطف على جملة (عَلَيْكَ الْبَلاغُ) فهي مدخولة في المعنى لحرف الحصر. والتقدير : وإنما علينا الحساب ، أي محاسبتهم على التكذيب لا غير الحساب من إجابة مقترحاتهم.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١))

عطف على جملة (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) [الرعد : ٤٠] المتعلقة بجملة (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ). عقبت بهذه الجملة لإنذار المكذبين بأن ملامح نصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد لاحت وتباشير ظفره قد طلعت ليتدبروا في أمرهم ، فكان تعقيب المعطوف عليها بهذه الجملة للاحتراس من أن يتوهموا أن العقاب بطيء وغير واقع بهم. وهي أيضا بشارة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله مظهر نصره في حياته وقد جاءت أشراطه ، فهي أيضا احتراس من أن ييأس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من رؤية نصره مع علمه بأن الله متم نوره بهذا الدّين.

والاستفهام في (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا) إنكاري ، والضمير عائد إلى المكذبين العائد إليهم

٢٠٧

ضمير (نَعِدُهُمْ). والكلام تهديد لهم بإيقاظهم إلى ما دب إليهم من أشباح الاضمحلال بإنقاص الأرض ، أي سكانها.

والرؤية يجوز أن تكون بصرية. والمراد : رؤية آثار ذلك النقص ؛ ويجوز أن تكون علمية ، أي ألم يعملوا ما حل بأرضي الأمم السابقة من نقص.

وتعريف (الْأَرْضَ) تعريف الجنس ، أي نأتي أية أرض من أرضي الأمم. وأطلقت الأرض هنا على أهلها مجازا ، كما في قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)[سورة يوسف : ٨٢] بقرينة تعلق النقص بها ، لأن النقص لا يكون في ذات الأرض ولا يرى نقص فيها ولكنه يقع فيمن عليها. وهذا من باب قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) [سورة محمد : ١٠].

وذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد ب (الْأَرْضَ) أرض الكافرين من قريش فيكون التعريف للعهد ، وتكون الرؤية بصرية ، ويكون ذلك إيقاظا لهم لما غلب عليه المسلمون من أرض العدوّ فخرجت من سلطانه فتنقص الأرض التي كانت في تصرفهم وتزيد الأرض الخاضعة لأهل الإسلام. وبنوا على ذلك أن هذه الآية نزلت بالمدينة وهو الذي حمل فريقا على القول بأن سورة الرعد مدنية فإذا اعتبرت مدنية صح أن تفسر الأطراف بطرفين وهما مكة والمدينة فإنهما طرفا بلاد العرب ، فمكة طرفها من جهة اليمن ، والمدينة طرف البلاد من جهة الشام ، ولم يزل عدد الكفار في البلدين في انتقاص بإسلام كفارها إلى أن تمحضت المدينة للإسلام ثم تمحضت مكة له بعد يوم الفتح.

وأيّا ما كان تفسير الآية وسبب نزولها ومكانه فهي للإنذار بأنهم صائرون إلى زوال وأنهم مغلوبون زائلون ، كقوله في الآية الأخرى في سورة الأنبياء : (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) [سورة الأنبياء : ٥١] ، أي ما هم الغالبون.

وهذا إمهال لهم وإعذار لعلهم يتداركون أمرهم.

وجملة (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) [سورة الرعد : ٤١] عطف على جملة (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا) مؤكدة للمقصود منها ، وهو الاستدلال على أن تأخير الوعيد لا يدل على بطلانه ، فاستدل على ذلك بجملة (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) ثم بجملة (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) ثم بجملة (وَاللهُ يَحْكُمُ) ، لأن المعنى : أن ما حكم الله به من العقاب لا يبطله أحد وأنه واقع ولو تأخر.

٢٠٨

ولذلك فجملة (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) في موضع الحال ، وهي المقيدة للفعل المراد إذ هي مصب الكلام إذ ليس الغرض الإعلام بأن الله يحكم إذ لا يكاد يخفى ، وإنما الغرض التنبيه إلى أنه لا معقب لحكمه. وأفاد نفي جنس المعقب انتفاء كل ما من شأنه أن يكون معقبا من شريك أو شفيع أو داع أو راغب أو مستعصم أو مفتد.

والمعقب : الذي يعقب عملا فيبطله ، مشتق من العقب ، وهو استعارة غلبت حتى صارت حقيقة. وتقدم عند قوله تعالى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ) [سورة الرعد : ١١] في هذه السورة ، كأنه يجيء عقب الذي كان عمل العمل.

وإظهار اسم الجلالة بعد الإضمار الذي في قوله : (أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) لتربية المهابة ، وللتذكير بما يحتوي عليه الاسم العظيم من معنى الإلهية والوحدانية المقتضية عدم المنازع ، وأيضا لتكون الجملة مستقلة بنفسها لأنها بمنزلة الحكمة والمثل.

وجملة (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) يجوز أن تكون عطفا على جملة (وَاللهُ يَحْكُمُ) فتكون دليلا رابعا على أن وعده واقع وأن تأخره وإن طال فما هو إلا سريع باعتبار تحقق وقوعه ؛ ويجوز أن يكون عطفا على جملة الحال. والمعنى : يحكم غير منقوص حكمه وسريعا حسابه. ومآل التقديرين واحد.

والحساب : كناية عن الجزاء والسرعة : العجلة ، وهي في كل شيء بحسبه.

(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢))

لما كان قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) [سورة الرعد : ٤١] تهديدا وإنذارا مثل قوله : (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) [محمد : ١٨] وهو إنذار بوعيد على تظاهرهم بطلب الآيات وهم يضمرون التصميم على التكذيب والاستمرار عليه. شبه عملهم بالمكر وشبه بعمل المكذبين السابقين كقوله : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) [سورة الأنبياء : ٦]. وفي هذا التشبيه رمز إلى أن عاقبتهم كعاقبة الأمم التي عرفوها. فنقص أرض هؤلاء من أطرافها من مكر الله بهم جزاء مكرهم ، فلذلك أعقب بقوله: (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي كما مكر هؤلاء. فجملة (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) حال أو معترضة.

٢٠٩

وجملة (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) تفريع على جملة (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) [الرعد : ٤١] وجملة (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) [الرعد : ٤١].

والمعنى : مكر هؤلاء ومكر الذين من قبلهم وحل العذاب بالذين من قبلهم فمكر الله بهم وهو يمكر بهؤلاء مكرا عظيما كما مكر بمن قبلهم.

وتقديم المجرور في قوله : (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) للاختصاص ، أي له لا لغيره ، لأن مكره لا يدفعه دافع فمكر غيره كلا مكر بقرينة أنه أثبت لهم مكرا بقوله : (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). وهذا بمعنى قوله تعالى : (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ).

وأكد مدلول الاختصاص بقوله : (جَمِيعاً) وهو حال من المكر. وتقدم في قوله تعالى : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) في [سورة يونس : ٤].

وإنما جعل جميع المكر لله بتنزيل مكر غيره منزلة العدم ، فالقصر في قوله : (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ) ادعائي ، والعموم في قوله : (جَمِيعاً) تنزيليّ.

وجملة (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) بمنزلة العلة لجملة (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) ، لأنه لما كان يعلم ما تكسب كل نفس من ظاهر الكسب وباطنه كان مكره أشد من مكر كل نفس لأنه لا يفوته شيء مما تضمره النفوس من المكر فيبقى بعض مكرهم دون مقابلة بأشد منه فإن القوي الشديد الذي لا يعلم الغيوب قد يكون عقابه أشد ولكنه قد يفوقه الضعيف بحيلته.

وجملة (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) عطف على جملة (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً). والمراد بالكافر الجنس ، أي الكفار ، و (عُقْبَى الدَّارِ) تقدم آنفا ، أي سيعلم عقبى الدار للمؤمنين لا للكافرين ، فالكلام تعريض بالوعيد.

وقرأ الجمهور : وسيعلم الكافر بإفراد الكافر. وقرأه ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة والكسائي ، وخلف (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ) بصيغة الجمع. والمفرد والجمع سواء في المعرف بلام الجنس.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣))

عطف على ما تضمنته جملة (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الرعد : ٤٢] من التعريض بأن قولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [سورة الأنعام : ٣٧] ضرب من المكر بإظهارهم

٢١٠

أنهم يتطلبون الآيات الدالة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مظهرين أنهم في شك من صدقه وهم يبطنون التصميم على التكذيب. فذكرت هذه الآية أنهم قد أفصحوا تارات بما أبطنوه فنطقوا بصريح التكذيب وخرجوا من طور المكر إلى طور المجاهرة بالكفر فقالوا : (لَسْتَ مُرْسَلاً).

وقد حكي قولهم بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم ولاستحضار حالهم العجيبة من الاستمرار على التكذيب بعد أن رأوا دلائل الصدق ، كما عبر بالمضارع في قوله تعالى : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) [سورة هود : ٣٨] وقوله : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [سورة هود : ١١].

ولما كانت مقالتهم المحكية هنا صريحة لا مواربة فيها أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجواب لا جدال فيه وهو تحكيم الله بينه وبينهم.

وقد أمر الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ بأن يجيبهم جواب الواثق بصدقه المستشهد على ذلك بشهادة الصدق من إشهاد الله تعالى وإشهاد العالمين بالكتب والشرائع.

ولما كانت الشهادة للرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ بالصدق شهادة على الذين كفروا بأنهم كاذبون جعلت الشهادة بينه وبينهم.

وإشهاد الله في معنى الحلف على الصدق كقول هود ـ عليه‌السلام ـ (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ) [هود : ٥٤].

والباء الداخلة على اسم الجلالة الذي هو فاعل (كَفى) في المعنى للتأكيد وأصل التركيب : كفى الله. و (شَهِيداً) حال لازمة أو تمييز ، أي كفى الله من جهة الشاهد.

(وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) معطوف على اسم الجلالة.

والموصول في (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) يجوز أن يراد به جنس من يتصف بالصلة.

والمعنى : وكل من عندهم علم الكتاب. وإفراد الضمير المضاف إليه عند لمراعاة لفظ (مَنْ). وتعريف (الْكِتابِ) تعريف للعهد ، وهو التوراة ، أي وشهادة علماء الكتاب.

وذلك أن اليهود كانوا قبل هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة يستظهرون على المشركين بمجيء النبي المصدق للتوراة.

ويحتمل أن يكون المراد بمن عنده علم الكتاب معيّنا ، فهو ورقة بن نوفل إذ علم أهل مكة أنه شهد بأن ما أوحي به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الناموس الذي أنزل على موسى ـ

٢١١

عليه‌السلام ـ كما في حديث بدء الوحي في الصحيح. وكان ورقة منفردا بمعرفة التوراة والإنجيل. وقد كان خبر قوله للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قاله معروفا عند قريش.

فالتعريف في (الْكِتابِ) تعريف الجنس المنحصر في التوراة والإنجيل.

وقيل : أريد به عبد الله بن سلام الذي آمن بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أول مقدمه المدينة. ويبعده أن السورة مكية كما تقدم.

ووجه شهادة علماء الكتاب برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجدانهم البشارة بنبي خاتم للرسلصلى‌الله‌عليه‌وسلم، ووجدانهم ما جاء في القرآن موافقا لسنن الشرائع الإلهية ومفسرا للرموز الواردة في التوراة والإنجيل في صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المصدق الموعود به. ولهذا المعنى كان التعبير في هذه الآية ب (مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) دون أهل الكتاب لأن تطبيق ذلك لا يدركه إلا علماؤهم. قال تعالى : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) [سورة الشعراء : ٩٧].

٢١٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

١٤ ـ سورة إبراهيم

أضيفت هذه السورة إلى اسم إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ فكان ذلك اسما لها لا يعرف لها غيره. ولم أقف على إطلاق هذا الاسم عليها في كلام النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا في كلام أصحابه في خبر مقبول.

ووجه تسميتها بهذا وإن كان ذكر إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ جرى في كثير من السور أنها من السور ذوات (الر). وقد ميّز بعضها عن بعض بالإضافة إلى أسماء الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ التي جاءت قصصهم فيها ، أو إلى مكان بعثة بعضهم وهي سورة الحجر ، ولذلك لم تضف سورة الرعد إلى مثل ذلك لأنها متميزة بفاتحها بزيادة حرف ميم على ألف ولام وراء.

وهي مكية كلها عند الجمهور. وعن قتادة إلا آيتي (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) ـ إلى قوله ـ (وَبِئْسَ الْقَرارُ) [سورة إبراهيم : ٢٨] ، وقيل : إلى قوله : (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) [سورة إبراهيم : ٣٠]. نزل ذلك في المشركين في قضية بدر ، وليس ذلك إلا توهّما كما ستعرفه.

نزلت هذه السور بعد سورة الشورى وقبل سورة الأنبياء. وقد عدّت السبعين في ترتيب السور في النزول.

وعدت آياتها أربعا وخمسين عند المدنيين ، وخمسا وخمسين عند أهل الشام ، وإحدى وخمسين عند أهل البصرة ، واثنتين وخمسين عند أهل الكوفة ..

واشتملت من الأغراض على أنها ابتدئت بالتنبيه إلى إعجاز القرآن ، وبالتنويه بشأنه ، وأنه أنزل لإخراج الناس من الضلالة. والامتنان بأن جعله بلسان العرب. وتمجيد الله

٢١٣

تعالى الذي أنزله ووعيد الذين كفروا به وبمن أنزل عليه.

وإيقاظ المعاندين بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان بدعا من الرسل. وأن كونه بشرا أمر غير مناف لرسالته من عند الله كغيره من الرسل.

وضرب له مثلا برسالة موسى ـ عليه‌السلام ـ إلى فرعون لإصلاح حال بني إسرائيل وتذكيره قومه بنعم الله ووجوب شكرها وموعظته إياهم بما حلّ بقوم نوح وعاد ومن بعدهم وما لاقته رسلهم من التكذيب.

وكيف كانت عاقبة المكذبين.

وإقامة الحجة على تفرد الله تعالى بالإلهية بدلائل مصنوعاته وذكر البعث وتحذير الكفار من تغرير قادتهم وكبرائهم بهم من كيد الشيطان وكيف يتبرءون منهم يوم الحشر ووصف حالهم وحال المؤمنين يومئذ وفضل كلمة الإسلام وخبث كلمة الكفر ثم التعجيب من حال قوم كفروا نعمة الله وأوقعوا من تبعهم في دار البوار بالإشراك والإيماء إلى مقابلته بحال المؤمنين.

وعدّ بعض نعمه على الناس تفضيلا ثم جمعها إجمالا.

ثم ذكر الفريقين بحال إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ليعلم الفريقان من هو سالك سبيل إبراهيمعليه‌السلام ومن هو ناكب عنه من ساكني البلد الحرام وتحذيرهم من كفران النعمة.

وإنذارهم أن يحل بهم ما حل بالذين ظلموا من قبل.

وتثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوعد النصر وما تخلل ذلك من الأمثال.

وختمت بكلمات جامعة من قوله : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) [سورة إبراهيم : ٥٢] إلى آخرها.

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١))

(الر).

٢١٤

تقدم الكلام عى الحروف المقطعة في فاتحة سورة البقرة وعلى نظير هذه الحروف في سورة يونس.

(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)

الكلام على تركيب (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) كالكلام على قوله تعالى : (المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [سورة الأعراف : ١ ـ ٢] عدا أن هذه الآية ذكر فيها فاعل الإنزال وهو معلوم من مادة الإنزال المشعرة بأنه وارد من قبل العالم العلوي ، فللعلم بمنزله حذف الفاعل في آية سورة الأعراف ، وهو مقتضى الظاهر والإيجاز ؛ ولكنه ذكر هنا لأن المقام مقام الامتنان على الناس المستفاد من التعليل بقوله : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ، ومن ذكر صفة الربوبية بقوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) ، بخلاف آية سورة الأعراف فإنها في مقام الطمأنة والتصبير للنبي ـ عليه الصلاة والسّلام ـ المنزل إليه الكتاب ، فكان التعرض لذكر المنزل إليه والاقتصار عليه أهم في ذلك المقام مع ما فيه من قضاء حق الإيجاز.

أما التعرض للمنزل إليه هنا فللتنويه بشأنه ، وليجعل له حظ في هذه المنة وهو حظ الوساطة ، كما دل عليه قوله : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ، ولما فيه من غم المعاندين والمبغضين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولأجل هذا المقصد وقع إظهار صفات فاعل الإنزال ثلاث مرات في قوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) بعد أن كان المقام للإضمار تبعا لقوله : (أَنْزَلْناهُ).

وإسناد الإخراج إلى النبي ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لأنه يبلغ هذا الكتاب المشتمل على تبيين طرق الهداية إلى الإيمان وإظهار فساد الشرك والكفر ، وهو مع التبليغ يبين للناس ويقرب إليهم معاني الكتاب بتفسيره وتبيينه ، ثم بما يبنيه عليه من المواعظ والنذر والبشارة. وإذ قد أسند الإخراج إليه في سياق تعليل إنزال الكتاب إليه علم أن إخراجه إياهم من الظلمات بسبب هذا الكتاب المنزل ، أي بما يشتمل عليه من معاني الهداية.

وتعليل الإنزال بالإخراج من الظلمات دل على أن الهداية هي مراد الله تعالى من الناس ، وأنه لم يتركهم في ضلالهم ، فمن اهتدى فبإرشاد الله ومن ضلّ فبإيثار الضال هوى نفسه على دلائل الإرشاد ، وأمر الله لا يكون إلا لحكم ومصالح بعضها أكبر من بعض.

٢١٥

والإخراج : مستعار للنقل من حال إلى حال. شبه الانتقال بالخروج فشبه النقل بالإخراج.

و (الظُّلُماتِ) و (النُّورِ) استعارة للكفر والإيمان ، لأن الكفر يجعل صاحبه في حيرة فهو كالظلمة في ذلك ، والإيمان يرشد إلى الحق فهو كالنور في إيضاح السبيل. وقد يستخلص السامع من ذلك تمثيل حال المنغمس في الكفر بالمتحير في ظلمة ، وحال انتقاله إلى الإيمان بحال الخارج من ظلمة إلى مكان نيّر.

وجمع (الظُّلُماتِ) وإفراد (النُّورِ) تقدم في أول سورة الأنعام [١].

والباء في (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) للسببية ، والإذن : الأمر بفعل يتوقف على رضى الآمر به ، وهو أمر الله إياه بإرساله إليهم لأنه هو الإذن الذي يتعلق بجميع الناس ، كقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ). ولما كان الإرسال لمصلحتهم أضيف الإذن إلى وصف الربّ المضاف إلى ضمير الناس ، أي بإذن الذي يدبر مصالحهم.

وقوله : (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [سورة إبراهيم : ١] بدل من (النُّورِ) بإعادة الجار للمبدل منه لزيادة بيان المبدل منه اهتماما به ، وتأكيد للعامل كقوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) في سورة الأعراف [٨٨].

ومناسبة الصراط المستعار للدين الحق ، لاستعارة الإخراج والظلمات والنور ولما يتضمنه من التمثيل ، ظاهرة.

واختيار وصف (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) من بين الصفات العلى لمزيد مناسبتها للمقام ، لأن العزيز الذي لا يغلب. وإنزال الكتاب برهان على أحقية ما أراده الله من الناس فهو به غالب للمخالفين مقيم الحجة عليهم.

والحميد : بمعنى المحمود ، لأن في إنزال هذا الكتاب نعمة عظيمة ترشد إلى حمده عليه ، وبذلك استوعب الوصفان الإشارة إلى الفريقين من كل منساق إلى الاهتداء من أول وهلة ومن مجادل صائر إلى الاهتداء بعد قيام الحجة ونفاد الحيلة.

[٢ ، ٣] (اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ

٢١٦

وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣))

(اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

قرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر ـ برفع اسم الجلالة ـ على أنه خبر عن مبتدإ محذوف. والتقدير : هو (أي العزيز الحميد) الله الموصوف بالذي له ما في السماوات الأرض. وهذا الحذف جار على حذف المسند إليه المسمى عند علماء المعاني تبعا للسكاكي بالحذف لمتابعة الاستعمال ، أي استعمال العرب عند ما يجري ذكر موصوف بصفات أن ينتقلوا من ذلك إلى الإخبار عنه بما هو أعظم مما تقدم ذكره ليكسب ذلك الانتقال تقريرا للغرض ، كقول إبراهيم الصولي :

سأشكر عمرا إن تراخت منيتي

أيادي لم تمنن وإن هي جلّت

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه

ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت

أي هو فتى من صفته كيت وكيت.

وقرأه الباقون إلّا رويسا عن يعقوب ـ بالجرّ ـ على البدلية من (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ، وهي طريقة عربية. ومآل القراءتين واحد وكلتا الطريقتين تفيد أن المنتقل إليه أجدر بالذكر عقب ما تقدمه ، فإن اسم الجلالة أعظم من بقية الصفات لأنه علم الذات الذي لا يشاركه موجود في إطلاقه ولا في معناه الأصلي المنقول منه إلى العلمية إلا أن الرفع أقوى وأفخم.

وقرأه رويس عن يعقوب ـ بالرفع ـ إذا وقف على قوله : (الْحَمِيدِ) وابتدئ باسم (اللهِ) ، فإذا وصل (الْحَمِيدِ) باسم (اللهِ) جر اسم الجلالة على البدلية.

وإجراء الوصف بالموصول على اسم الجلالة لزيادة التفخيم لا للتعريف ، لأن ملك سائر الموجودات صفة عظيمة والله معروف بها عند المخاطبين. وفيه تعريض بأن صراط غير الله من طرق آلهتهم ليس بواصل إلى المقصود لنقصان ذويه. وفي ذكر هذه الصلة إدماج تعريض بالمشركين الذين عبدوا ما ليس له السماوات والأرض.

(وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (٣)

٢١٧

لمّا أفاد قوله : (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تعريضا بالمشركين الذين اتبعوا صراط غير الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض عطف الكلام إلى تهديدهم وإنذارهم بقوله : (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) ، أي للمشركين به آلهة أخرى.

وجملة (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ) إنشاء دعاء عليهم في مقام الغضب والذم ، مثل قولهم : ويحك ، فعطفه من عطف الإنشاء على الخبر.

(وَوَيْلٌ) مصدر لا يعرف له فعل ، ومعناه الهلاك وما يقرب منه من سوء الحالة ، ولأنه لا يعرف له فعل كان اسم مصدر وعومل معاملة المصادر ، ينصب على المفعولية المطلقة ويرفع لإفادة الثبات ، كما تقدم في رفع (الْحَمْدُ لِلَّهِ) في سورة الفاتحة. ويقال : ويل لك وويلك ، بالإضافة. ويقال : يا ويلك ، بالنداء. وقد يذكر بعد هذا التركيب سببه فيؤتى به مجرورا بحرف (مِنْ) الابتدائية كما في قوله هنا (مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) ، أي هلاكا ينجر لهم من العذاب الشديد الذي يلاقونه وهو عذاب النار. وتقدم الويل عند قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) في سورة البقرة [٧٩].

والكافرون هم المعهودون وهم الذين لم يخرجوا من الظلمات إلى النور ، ولا اتبعوا صراط العزيز الحميد ، ولا انتفعوا بالكتاب الذي أنزل لإخراجهم من الظلمات إلى النور.

و (يَسْتَحِبُّونَ) بمعنى يحبون ، فالسين والتاء للتأكيد مثل استقدم واستأخر. وضمن (يَسْتَحِبُّونَ) معنى يؤثرون ، لأن المحبة تعدّت إلى الحياة الدنيا عقب ذكر العذاب الشديد لهم ، فأنبأ ذلك أنهم يحبون خير الدنيا دون خير الآخرة إذ كان في الآخرة في شقاء ، فنشأ من هذا معنى الإيثار ، فضمّنه فعدّي إلى مفعول آخر بواسطة حرف (عَلَى) في قوله : (عَلَى الْآخِرَةِ) أي يؤثرونها عليها.

وقوله : (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) تقدم نظيره في قوله : (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) في سورة الأعراف [٤٥] ، وعند قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) في سورة آل عمران [٩٩] ، فانظره هنالك.

والصدّ عن سبيل الله : منع الداخلين في الإسلام من الدخول فيه. شبه ذلك بمن

٢١٨

يمنع المارّ من سلوك الطريق. وجعل الطريق طريق الله لأنه موصل إلى مرضاته فكأنه موصل إليه ، أو يصدّون أنفسهم عن سبيل الله لأنهم عطلوا مواهبهم ومداركهم من تدبر آيات القرآن ، فكأنهم صدّوها عن السير في سبيل الله ويبغون السبيل العوجاء ، فعلم أن سبيل الله مستقيم ، قال تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) [سورة الأنعام : ١٥٣].

والإشارة في قوله : (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) [سورة إبراهيم : ٣] للتنبيه على أنهم أحرياء بما وصفوا به من الضلال بسبب صدّهم عن سبيل الحق وابتغائهم سبيل الباطل ، ف (أُولئِكَ) في محل مبتدأ و (فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) خبر عنه. ودلّ حرف الظرفية على أن الضلال محيط بهم فهم متمكنون منه.

ووصف الضلال بالبعيد يجوز أن يكون على وجه المجاز العقلي ، وإنما البعيد هم الضالّون ، أي ضلالا بعدوا به عن الحق فأسند البعد إلى سببه.

ويجوز أن يراد وصفه بالبعد على تشبيهه بالطريق الشاسعة التي يتعذر رجوع سالكها ، أي ضلال قوي يعسر إقلاع صاحبه عنه. ففيه استبعاد لاهتداء أمثالهم كقوله : (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) [سورة الشورى : ١٨] وقوله : (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) [سورة سبأ : ٨]. وتقدم في قوله : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) في سورة النساء [١١٦].

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤))

إذا كانت صيغة القصر مستعملة في ظاهرها ومسلّطة على متعلّقي الفعل المقصور كان قصرا إضافيا لقلب اعتقاد المخاطبين ، فيتعين أن يكون ردّا على فريق من المشركين قالوا : هلا أنزل القرآن بلغة العجم. وقد ذكر في «الكشاف» في سورة فصلت عند قوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) [سورة فصلت : ٤٤] فقال : كانوا لتعنتهم يقولون : هلا نزل القرآن بلغة العجم ، وهو مروي في «تفسير الطبري» هنالك عن سعيد بن جبير أن العرب قالوا ذلك.

ثم يجوز أن يكون المراد بلغة العجم لغة غير العرب مثل العبرانية أو السريانية من

٢١٩

اللغات التي أنزلت بها التوراة والإنجيل ، فكان من جملة ما موّت لهم أوهامهم أن حسبوا أن للكتب بالإلهية لغة خاصة تنزل بها ثم تفسر للّذين لا يعرفون تلك اللّغة. وهذا اعتقاد فاش بين أهل العقول الضعيفة ، فهؤلاء الّذين يعالجون سرّ الحرف والطلسمات يموّهون بأنها لا تكتب إلا باللغة السريانية ويزعمون أنها لغة الملائكة ولغة الأرواح. وقد زعم السراج البلقيني : أن سؤال القبر يكون باللغة السريانية وتلقاه عنه جلال الدّين السيوطي واستغربه فقال :

ومن عجيب ما ترى العينان

أن سؤال القبر بالسرياني

أفتى بهذا شيخنا البلقيني

ولم أره لغيره بعيني

وقد كان المتنصرون من العرب والمتهودون منهم مثل عرب اليمن تترجم لهم بعض التوراة والإنجيل بالعربية كما ورد في حديث ورقة بن نوفل في كتاب بدء الوحي من «صحيح البخاري» ، فاستقرّ في نفوس المشركين من جملة مطاعنهم أن القرآن لو كان من عند الله لكان باللغة التي جاءت بها الكتب السالفة. فصارت عربيته عندهم من وجوه الطعن في أنه منزل من الله ، فالقصر هنا لرد كلامهم ، أي ما أرسلنا من رسول بلسان إلا لسان قومه المرسل إليهم لا بلسان قوم آخرين.

فموقع هذه الآية عقب آية (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) بيّن المناسبة.

وتقدير النظم : كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ، وأنزلناه بلغة قومك لتبيّن لهم الذي أوحينا إليك وما أرسلنا من رسول إلّا بلسان قومه ليبين لهم فيخرجهم من الظلمات إلى النور.

وإذا كانت صيغة القصر جارية على خلاف مقتضى الظاهر ولم يكن ردّا لمقالة بعض المشركين يكن تنزيلا للمشركين منزلة من ليسوا بعرب لعدم تأثرهم بآيات القرآن ، ولقولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) وكان مناط القصر هو ما بعد لام العلّة. والمعنى : ما أرسلناك إلّا لتبيين لهم وما أرسلنا من رسول إلا ليبين لقومه ، وكان قوله : (إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) إدماجا في الاستثناء المتسلط عليه القصر ؛ أو يكون متعلقا بفعل (لِيُبَيِّنَ) مقدما عليه. والتقدير : ما أرسلناك إلا لتبين لهم بلسانهم ، وما أرسلنا من رسول إلا ليبين لقومه بلسانهم ، فما لقومك لم يهتدوا بهذا القرآن وهو بلسانهم ، وبذلك يتضح موقع التفريع في قوله : (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ).

٢٢٠