تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٤

أحدها : أن آيات صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واضحة لو لا أن عقولهم لم تدركها لفساد إدراكهم.

الثاني : أن الآيات الواضحة الحسية قد جاءت لأمم أخرى فرأوها ولم يؤمنوا ، كما قال تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها) [سورة الإسراء : ٥٩].

الثالث : أن لعدم إيمانهم أسبابا خفية يعلمها الله قد أبهمت بالتعليق على المشيئة في قوله : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) منها ما يومئ إليه قوله في مقابلة (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ). وذلك أنهم تكبروا وأعرضوا حين سمعوا الدعوة إلى التوحيد فلم يتأملوا ، وقد ألقيت إليهم الأدلة القاطعة فأعرضوا عنها ولو أنابوا وأذعنوا لهداهم الله ولكنهم نفروا. وبهذا يظهر موقع ما أمر الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أن يجيب به عن قولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) بأن يقول : (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) ، وأن ذلك تعريض بأنهم ممن شاء الله أن يكونوا ضالين وبأن حالهم مثار تعجب.

والإنابة : حقيقتها الرجوع. وأطلقت هنا على الاعتراف بالحق عند ظهور دلائله لأن النفس تنفر من الحق ابتداء ثم ترجع إليه ، فالإنابة هنا ضد النفور.

[٢٨ ، ٢٩] (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩))

استئناف اعتراضي مناسبته المضادة لحال الذين أضلهم الله ، والبيان لحال الذين هداهم مع التنبيه على أن مثال الذين ضلوا هو عدم اطمئنان قلوبهم لذكر الله ، وهو القرآن ، لأن قولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) يتضمن أنهم لم يعدوا القرآن آية من الله ، ثم التصريح بجنس عاقبة هؤلاء ، والتعريض بضد ذلك لأولئك ، فذكرها عقب الجملة السابقة يفيد الغرضين ويشير إلى السببين. ولذلك لم يجعل (الَّذِينَ آمَنُوا) بدلا من (مَنْ أَنابَ) [الرعد : ٢٧] لأنه لو كان كذلك لم تعطف على الصلة جملة (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ) ولا عطف (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) على الصلة الثانية. ف (الَّذِينَ آمَنُوا) الأول مبتدأ ، وجملة (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) معترضة و (الَّذِينَ آمَنُوا) الثاني بدل مطابق من (الَّذِينَ آمَنُوا) الأول ، وجملة (طُوبى لَهُمْ) خبر المبدأ.

والاطمئنان : السكون ، واستعير هنا لليقين وعدم الشك ، لأن الشك يستعار له

١٨١

الاضطراب. وتقدم عند قوله تعالى : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) في سورة البقرة [٢٦٠].

و (ذكر الله) يجوز أن يراد به خشية الله ومراقبته بالوقوف عند أمره ونهيه. ويجوز أن يراد به القرآن قال : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [سورة الزخرف : ٤٤] ، وهو المناسب قولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ). وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى في سورة الزمر : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) [سورة الزمر : ٢٢] ، أي للذين كان قد زادهم قسوة قلوب ، وقوله في آخرها : (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) [سورة الزمر : ٢٣].

والذكر من أسماء القرآن ، ويجوز أن يراد ذكر الله باللسان فإن إجراءه على اللسان ينبه القلوب إلى مراقبته.

وهذا وصف لحسن حال المؤمنين ومقايسته بسوء حالة الكافرين الذين غمر الشك قلوبهم ، قال تعالى : (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) [سورة المؤمنون : ٦٣].

واختير المضارع في (تَطْمَئِنُ) مرتين لدلالته على تجدد الاطمئنان واستمراره وأنه لا يتخلله شك ولا تردد.

وافتتحت جملة (أَلا بِذِكْرِ اللهِ) بحرف التنبيه اهتماما بمضمونها وإغراء بوعيه. وهي بمنزلة التذييل لما في تعريف (الْقُلُوبُ) من التعميم. وفيه إثارة الباقين على الكفر على أن يتسموا بسمة المؤمنين من التدبير في القرآن لتطمئن قلوبهم ، كأنه يقول : إذا علمتم راحة بال المؤمنين فما ذا يمنعكم بأن تكونوا مثلهم فإن تلك في متناولكم لأن ذكر الله بمسامعكم.

وطوبى : مصدر من طاب طيبا إذا حسن ، وهي بوزن البشرى والزلفى ، قلبت ياؤها واوا لمناسبة الضمة ، أي لهم الخير الكامل لأنهم اطمأنت قلوبهم بالذكر ، فهم في طيب حال: في الدنيا بالاطمئنان ، وفي الآخرة بالنعيم الدائم وهو حسن المئاب وهو مرجعهم في آخر أمرهم.

وإطلاق المآب عليه باعتبار أنه آخر أمرهم وقرارهم كما أن قرار المرء بيته يرجع إليه بعد الانتشار منه. على أنه يناسب ما تقرر أن الأرواح من أمر الله ، أي من عالم الملكوت وهو عالم الخلد فمصيرها إلى الخلد رجوع إلى عالمها الأول. وهذا مقابل قوله في المشركين (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).

واللام في قوله : (لَهُمُ) للملك.

١٨٢

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠))

هذا الجواب عن قولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) لأن الجواب السابق بقوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) جواب بالإعراض عن جهالتهم والتعجب من ضلالهم وما هنا هو الجواب الرادّ لقولهم. فيجوز جعل هذه الجملة من مقول القول ، ويجوز جعله مقطوعة عن جملة (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ). وأيّا ما كان فهي بمنزلة البيان لجملة القول كلها ، أو البيان لجملة المقول وهو التعجب.

وفي افتتاحها بقوله : (كَذلِكَ) الذي هو اسم إشارة تأكيد للمشار إليه وهو التعجب من ضلالتهم إذ عموا عن صفة الرسالة.

والمشار إليه : الإرسال المأخوذ من فعل (أَرْسَلْناكَ) ، أي مثل الإرسال النبيين أرسلناك ، فالمشبه به عين المشبّه ، إشارة إلى أنه لوضوحه لا يبين ما وضح من نفسه. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣].

ولما كان الإرسال قد علق بقوله : (فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) صارت الإشارة أيضا متحملة لمعنى إرسال الرسل من قبله إلى أمم يقتضي مرسلين ، أي ما كانت رسالتك إلّا مثل رسالة الرسل من قبلك. كقوله : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) [سورة الأحقاف : ٩] وقوله : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) [سورة الفرقان : ٢٠] لإبطال توهم المشركين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما لم يأتهم بما سألوه فهو غير مرسل من الله. وفي هذا الاستدلال تمهيد لقوله : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) [سورة الرعد : ٣١] الآيات. ولذلك أردفت الجملة بقوله : (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ).

والأمّة : هي أمة الدعوة (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ).

وتقدم معنى (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) في سورة آل عمران عند قوله : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) [سورة آل عمران : ١٣٧]. ويتضمن قوله : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) التعريض بالوعيد بمثل مصير الأمم الخالية التي كذبت رسلها.

وتضمن لام التعليل في قوله : (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ) أن الإرسال لأجل الإرشاد والهداية

١٨٣

بما أمر الله لا لأجل الانتصاب لخوارق العادات.

والتلاوة : القراءة. فالمقصود لتقرأ عليهم القرآن ، كقوله : (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) [سورة النمل : ٩٢] الآية.

وفيه إيماء إلى أن القرآن هو معجزته لأنه ذكره في مقابلة إرسال الرسل الأولين ومقابلة قوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [سورة الرعد : ٧]. وقد جاء ذلك صريحا في قوله : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) [سورة العنكبوت : ٥١]. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي».

وجملة (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) عطف على جملة (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ) ، أي أرسلناك بأوضح الهداية وهم مستمرون على الكفر لم تدخل الهداية قلوبهم ، فالضمير عائد إلى المشركين المفهومين من المقام لا إلى (أُمَّةٍ) لأن الأمة منها مؤمنون.

والتعبير بالمضارع في (يَكْفُرُونَ) للدلالة على تجدد ذلك واستمراره. ومعنى كفرهم بالله إشراكهم معه غيره في الإلهية ، فقد أبطلوا حقيقة الإلهية فكفروا به.

واختيار اسم (الرحمن) من بين أسمائه تعالى لأن كفرهم بهذا الاسم أشد لأنهم أنكروا أن يكون الله رحمان. قال تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) في سورة الفرقان [٦٠] ، فأشارت الآية إلى كفرين من كفرهم : جحد الوحدانية ، وجحد اسم الرحمن ؛ ولأن لهذه الصفة مزيد اختصاص بتكذيبهم الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ وتأييده بالقرآن لأن القرآن هدى ورحمة للناس. وقد أرادوا تعويضه بالخوارق التي لا تكسب هديا بذاتها ولكنها دالة على صدق من جاء بها.

قال مقاتل وابن جريج : نزلت هذه الآية في صلح الحديبية حين أرادوا أن يكتبوا كتاب الصلح فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للكاتب «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل بن عمرو : ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة ، يعني مسيلمة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اكتب باسمك اللهم». ويبعده أن السورة مكية كما تقدم.

وعن ابن عباس نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن» فنزلت.

وقد لقن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإبطال كفرهم المحكي إبطالا جامعا بأن يقول : (هُوَ رَبِّي) ،

١٨٤

فضمير (هُوَ) عائد إلى (الرحمن) باعتبار المسمى بهذا الاسم ، أي المسمى هو ربي وأن الرحمن اسمه.

وقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إبطال لإشراكهم معه في الإلهية غيره. وهذا مما أمر الله نبيه أن يقوله ، فهو احتراس لرد قولهم : إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو إلى رب واحد وهو يقول : إن ربه الله وإن ربه الرحمن ، فكان قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) دالا على أن المدعو بالرحمن هو المدعو بالله إذ لا إله إلا إله واحد ، فليس قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إخبارا من جانب الله على طريقة الاعتراض.

وجملة (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ) هي نتيجة لكونه ربا واحدا. ولكنها كالنتيجة لذلك فصلت عن التي قبلها لما بينهما من الاتصال.

وتقديم المجرورين وهما (عَلَيْهِ) و (إِلَيْهِ) لإفادة اختصاص التوكل والمتاب بالكون عليه ، أي لا على غيره ، لأنه لما توحد بالربوبية كان التوكل عليه ، ولما اتّصف بالرحمانية كان المتاب إليه ، لأن رحمانيته مظنة لقبوله توبة عبده.

والمتاب : مصدر ميمي على وزن مفعل ، أي التوبة ، يفيد المبالغة لأن الأصل في المصادر الميمية أنها أسماء زمان جعلت كناية عن المصدر ، ثم شاع استعمالها حتى صارت كالصريح.

ولما كان المتاب متضمنا معنى الرجوع إلى ما يأمر الله به عدّي المتاب بحرف إلى.

وأصل (مَتابِ) متابي ـ بإضافة إلى ياء المتكلم ـ فحذفت الياء تخفيفا وأبقيت الكسرة دليلا على المحذوف كما حذف في النادي المضاف إلى الياء.

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١))

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً).

١٨٥

يجوز أن تكون عطفا على جملة (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ) لأن المقصود من الجملة المعطوف عليها أن رسالته لم تكن إلا مثل رسالة غيره من الرسل ـ عليهم‌السلام ـ كما أشار إليه صفة (أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) ، فتكون جملة (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً) تتمة للجواب عن قولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ).

ويجوز أن تكون معترضة بين جملة (قُلْ هُوَ رَبِّي) وبين جملة (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ) [سورة الرعد : ٣٣] كما سيأتي هنالك. ويجوز أن تكون محكية بالقول عطفا على جملة (هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

والمعنى : لو أن كتابا من الكتب السالفة اشتمل على أكثر من الهداية فكانت مصادر لإيجاد العجائب لكان هذا القرآن كذلك ولكن لم يكن قرآن كذلك ، فهذا القرآن لا يتطلب منه الاشتمال على ذلك إذ ليس ذلك من سنن الكتب الإلهية.

وجواب (لَوْ) محذوف لدلالة المقام عليه. وحذف جواب (لَوْ) كثير في القرآن كقوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) [سورة الأنعام : ٢٧] وقوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) [سورة السجدة : ١٢].

ويفيد ذلك معنى تعريضيا بالنداء عليهم بنهاية ضلالتهم ، إذ لم يهتدوا بهدي القرآن ودلائله والحال لو أن قرآنا أمر الجبال أن تسير والأرض أن تتقطع والموتى أن تتكلم لكان هذا القرآن بالغا ذلك ولكن ذلك ليس من شأن الكتب ، فيكون على حدّ قول أبيّ بن سلمى من الحماسة :

ولو طار ذو حافر قبلها

لطارت ولكنه لم يطر

ووجه تخصيص هذه الأشياء الثلاثة من بين الخوارق المفروضة ما رواه الواحدي والطبري عن ابن عباس : أن كفار قريش ، أبا جهل وابن أبي أميّة وغيرهما جلسوا خلف الكعبة ثم أرسلوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : لو وسّعت لنا جبال مكّة فسيرتها حتى تتسع أرضنا فنحترثهما فإنها ضيقة ، أو قرّب إلينا الشام فإنا نتجر إليها ، أو أخرج قصيا نكلمه.

وقد يؤيد هذه الرواية أنه تكرر فرض تكليم الموتى بقوله في سورة الأنعام (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) [سورة الأنعام : ١١١] ، فكان في ذكر هذه الأشياء إشارة إلى تهكمهم. وعلى هذا يكون (قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) قطعت مسافات الأسفار كقوله تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [سورة الأنعام : ٩٤].

١٨٦

وجملة (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) عطف على (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً) بحرف الإضراب ، أي ليس ذلك من شأن الكتب بل لله أمر كل محدث فهو الذي أنزل الكتاب وهو الذي يخلق العجائب إن شاء ، وليس ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا عند سؤالكم ، فأمر الله نبيئه بأن يقول هذا الكلام إجراء لكلامهم على خلاف مرادهم على طريقة الأسلوب الحكيم ، لأنهم ما أرادوا بما قالوه إلا التهكم ، فحمل كلامهم على خلاف مرادهم تنبيها على أن الأولى بهم أن ينظروا هل كان في الكتب السابقة قرآن يتأتى به مثل ما سألوه.

ومثل ذلك قول الحجاج للقبعثري : لأحملنّك على الأدهم (يريد القيد). فأجابه القبعثري بأن قال : مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب ، فصرفه إلى لون فرس.

والأمر هنا : التصرف التكويني ، أي ليس القرآن ولا غيره بمكوّن شيئا مما سألتم بل الله الذي يكوّن الأشياء.

وقد أفادت الجملتان المعطوفة والمعطوف عليها معنى القصر لأن العطف ب (بَلْ) من طرق القصر ، فاللام في قوله : (الْأَمْرُ) للاستغراق ، و (جَمِيعاً) تأكيد له. وتقديم المجرور على المبتدأ لمجرد الاهتمام لأن القصر أفيد ب (بَلْ) العاطفة.

وفرع على الجملتين (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) استفهاما إنكاريا إنكارا لانتفاء يأسي الذين آمنوا ، أي فهم حقيقون بزوال يأسهم وأن يعلموا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا.

وفي هذا الكلام زيادة تقرير لمضمون جملة (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) [سورة الرعد : ٢٧].

و (يَيْأَسِ) بمعنى يوقن ويعلم ، ولا يستعمل هذا الفعل إلا مع (أَنَ) المصدرية ، وأصله مشتق من اليأس الّذي هو تيقّن عدم حصول المطلوب بعد البحث ، فاستعمل في مطلق اليقين على طريقة المجاز المرسل بعلاقة اللزوم لتضمن معنى اليأس معنى العلم وشاع ذلك حتى صار حقيقة ، ومنه قول سحيم بن وثيل الرياحي :

أقول لهم بالشّعب إذ ييسرونني

ألم تأيسوا أني ابن فارس زهدم

وشواهد أخرى.

وقد قيل : إن استعمال يئس بمعنى علم لغة هوازن أو لغة بني وهبيل (فخذ من النخع سمي باسم جد). وليس هنالك ما يلجئ إلى هذا. هذا إذا جعل (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ)

١٨٧

مفعولا ل (يَيْأَسِ). ويجوز أن يكون متعلق (يَيْأَسِ) محذوفا دل عليه المقام. تقديره : من إيمان هؤلاء ، ويكون (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ) مجرورا بلام تعليل محذوفة. والتقدير : لأنه لو يشاء الله لهدى الناس ، فيكون تعليلا لإنكار عدم يأسهم على تقدير حصوله.

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ).

معطوفة على جملة (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) على بعض الوجوه في تلك الجملة. وهي تهديد بالوعيد على تعنتهم وإصرارهم على عدم الاعتراف بمعجزة القرآن ، وتهكمهم باستعجال العذاب الذي توعدوا به ، فهددوا بما سيحلّ بهم من الخوف بحلول الكتائب والسرايا بهم تنال الذين حلّت فيهم وتخفيف من حولهم حتى يأتي وعد الله بيوم بدر أو فتح مكّة.

واستعمال (لا يَزالُ) في أصلها تدل على الإخبار باستمرار شيء واقع ، فإذا كانت هذه الآية مكية تعين أن تكون نزلت عند وقوع بعض الحوادث المؤلمة بقريش من جوع أو مرض ، فتكون هذه الآية تنبيها لهم بأن ذلك عقاب من الله تعالى ووعيد بأن ذلك دائم فيهم حتى يأتي وعد لله. ولعلها نزلت في مدة إصابتهم بالسنين السبع المشار إليها بقوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ) [سورة البقرة : ١٥٥].

ومن جعلوا هذه السورة مدنية فتأويل الآية عندهم أن القارعة السرية من سرايا المسلمين التي تخرج لتهديد قريش ومن حولهم. وهو لا ملجئ إليه.

والقارعة : في الأصل وصف من القرع ، وهو ضرب جسم بجسم آخر. يقال : قرع الباب إذا ضربه بيده بحلقة. ولما كان القرع يحدث صوتا مباغتا يكون مزعجا لأجل تلك البغتة صار القرع مجازا للمباغتة والمفاجأة ، ومثله الطّرق. وصاغوا من هذا الوصف صيغة تأنيث إشارة إلى موصوف ملتزم الحذف اختصارا لكثرة الاستعمال ، وهو ما يؤوّل بالحادثة أو الكائنة أو النازلة ، كما قالوا : داهية وكارثة ، أي نازلة موصوفة بالإزعاج فإن بغت المصائب أشد وقعا على النفس. ومنه تسمية ساعة البعث بالقارعة.

والمراد هنا الحادثة المفجعة بقرينة إسناد الإصابة إليها. وهي مثل الغارة والكارثة تحلّ فيهم فيصيبهم عذابها ، أو تقع بالقرب منهم فيصيبهم الخوف من تجاوزها إليهم ،

١٨٨

فليس المراد بالقارعة الغزو والقتال لأنه لم يتعارف إطلاق اسم القارعة على موقعة القتال ، ولذلك لم يكن في الآية ما يدل على أنها مما نزل بالمدينة.

ومعنى (بِما صَنَعُوا) بسبب فعلهم وهو كفرهم وسوء معاملتهم نبيئهم. وأتي في ذلك بالموصول لأنه أشمل لأعمالهم.

وضمير (تَحُلُ) عائد إلى (قارِعَةٌ) فيكون ترديدا لحالهم بين إصابة القوارع إياهم وبين حلول القوارع قريبا من أرضهم فهم في رعب منها وفزع ويجوز أن يكون (تَحُلُ) خطابا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي أو تحل أنت مع الجيش قريبا من دارهم. والحلول : النزول.

وتحلّ : بضم الحاء مضارع حلّ اللازم. وقد التزم فيه الضم. وهذا الفعل مما استدركه بحرق اليمني على ابن مالك في شرح لامية الأفعال ، وهو وجيه.

و (وَعْدُ اللهِ) من إطلاق المصدر على المفعول ، أي موعود الله ، وهو ما توعدهم به من العذاب ، كما في قوله : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) [سورة آل عمران : ١٢] ، فأشارت الآية إلى استئصالهم لأنها ذكرت الغلب ودخول جهنم ، فكان المعنى أنه غلب القتل بسيوف المسلمين وهو البطشة الكبرى. ومن ذلك يوم بدر ويوم حنين ويوم الفتح.

وإتيان الوعد : مجاز في وقوعه وحلوله.

وجملة (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) تذييل لجملة (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) إيذانا بأن إتيان الوعد المغيا به محقق وأن الغاية به غاية بأمر قريب الوقوع. والتأكيد مراعاة لإنكار المشركين.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢))

عطف على جملة (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) [سورة الرعد : ٣١] إلخ ، لأن تلك المثل الثلاثة التي فرضت أريد بها أمور سألها المشركون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استهزاء وتعجيزا لا لترقب حصولها.

وجاءت عقب الجملتين لما فيها من المناسبة لهما من جهة المثل التي في الأولى ومن جهة الغاية التي في الثانية.

١٨٩

وقد استهزأ قوم نوح به ـ عليه‌السلام ـ (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) [سورة هود : ٣٨] ، واستهزأت عاد بهود ـ عليه‌السلام ـ (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [سورة الشعراء : ١٨٧] ، واستهزأت ثمود بصالح ـ عليه‌السلام ـ (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) [سورة الأعراف : ٦٦] ، واستهزءوا بشعيب ـ عليه‌السلام ـ (قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [سورة هود : ٨٧] ، واستهزأ فرعون بموسى ـ عليه‌السلام ـ (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) [سورة الزخرف : ٤٣].

والاستهزاء : مبالغة في الهزء مثل الاستسخار في السخرية.

والإملاء : الإمهال والترك مدة. ومنه (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا). وتقدم في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ) في [سورة الأعراف : ١٨٢].

والاستفهام في «فكيف كان عقاب» للتعجيب.

و «عقاب» أصله عقابي مثل ما تقدم آنفا في قوله : (وَإِلَيْهِ مَتابِ).

والكلام تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، ووعيد للمشركين.

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣))

الفاء الواقعة بعد همزة الاستفهام مؤخرة من تقديم لأن همزة الاستفهام لها الصدارة. فتقدير أصل النظم : فأمن هو قائم. فالفاء لتفريع الاستفهام وليس الاستفهام استفهاما على التفريع ، وذلك هو الوجه في وقوع حروف العطف الثلاثة الواو والفاء وثم بعد الاستفهام وهو رأي المحققين ، خلافا لمن يجعلون الاستفهام واردا على حرف العطف وما عطفه.

فالفاء تفريع على جملة (قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) [الرعد : ٣٠] المجاب به حكاية كفرهم المضمن في جملة (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) [الرعد : ٣٠] ،

١٩٠

فالتفريع في المعنى على مجموع الأمرين : كفرهم بالله ، وإيمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالله.

ويجوز أن تكون تفريعا على جملة (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) [الرعد : ٣١] ، فيكون ترقيا في إنكار سؤالهم إتيان معجزة غير القرآن ، أي إن تعجب من إنكارهم آيات القرآن فإن أعجب منه جعلهم القائم على كل نفس بما كسبت مماثلا لمن جعلوهم لله شركاء.

واعترض أثر ذلك بردّ سؤالهم أن تسيّر الجبال أو تقطّع الأرض أو تكلّم الموتى ، وتذكيرهم بما حل بالمكذبين من قبلهم مع إدماج تسلية الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ، ثم فرع على ذلك الاستفهام الإنكاري.

وللمفسرين في تصوير نظم الآية محامل مختلفة وكثير منها متقاربة ، ومرجع المتجه منها إلى أن في النظم حذفا يدل عليه ما هو مذكور فيه ، أو يدل عليه السياق. والوجه في بيان النظم أن التفريع على مجموع قوله : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي أن كفرهم بالرحمن وإيمانك بأنه ربّك المقصورة عليه الربوبية يتفرع على مجموع ذلك استفهامهم استفهام إنكار عليهم تسويتهم من هو قائم على كلّ نفس بمن ليس مثله من جعلوهم له شركاء ، أي كيف يشركونهم وهم ليسوا سواء مع الله.

وما صدق (فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ) هو الله الإله الحق الخالق المدبّر.

وخبر (فَمَنْ هُوَ قائِمٌ) محذوف دلت عليه جملة (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ). والتقدير: أمن هو قائم على كل نفس ومن جعلوهم به شركاء سواء في استحقاق العبادة. دل على تقديره ما تقتضيه الشركة في العبادة من التسوية في الإلهية واستحقاق العبادة. والاستفهام إنكار لتلك التسوية المفاد من لفظ (شُرَكاءَ). وبهذا المحذوف استغني عن تقدير معادل للهمزة كما نبّه عليه صاحب «مغني اللّبيب» ، لأن هذا المقدّر المدلول عليه بدليل خاص أقوى فائدة من تقدير المعادل الّذي حاصله أن يقدر : أم من ليس كذلك. وسيأتي قريبا بيان موقع (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ).

والعدول عن اسم الجلالة إلى الموصول في قوله : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ) لأن في الصلة دليلا على انتفاء المساواة ، وتخطئة لأهل الشرك في تشريك آلهتهم لله تعالى في الإلهية ، ونداء على غباوتهم إذ هم معترفون بأن الله هو الخالق. والمقدر باعتقادهم ذلك هو أصل إقامة الدليل عليهم بإقرارهم ولما في هذه الصلة من التعريض لما سيأتي قريبا.

والقائم على الشيء : الرقيب ، فيشمل الحفظ والإبقاء والإمداد ، ولتضمنه معنى

١٩١

الرقيب عدي بحرف (عَلى) المفيد للاستعلاء المجازي. وأصله من القيام وهو الملازمة كقوله : (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) [سورة آل عمران : ٧٥]. ويجيء من معنى القائم أنه العليم بحال كل شيء لأن تمام القيومية يتوقف على إحاطة العلم.

فمعنى (قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ) متولّيها ومدبّرها في جميع شئونها في الخلق والأجل والرزق ، والعالم بأحوالها وأعمالها ، فكان إطلاق وصف (قائِمٌ) هنا من إطلاق المشترك على معنييه. والمشركون لا ينازعون في انفراد الله بهذا القيام ولكنهم لا يراعون ذلك في عبادتهم غيره ، فمن أجل ذلك لزمتهم الحجة ولمراعاة هذا المعنى تعلق قائم بقوله : (عَلى كُلِّ نَفْسٍ) ليعم القيام سائر شئونها.

والباء في قوله : (بِما كَسَبَتْ) للملابسة. وهي في موقع الحال من (نَفْسٍ) أو من (قائِمٌ) باعتبار ما يقتضيه القيام من العلم ، أي قياما ملابسا لما عملته كل نفس ، أي قياما وفاقا لأعمالها من عمل خير يقتضي القيام عليها باللطف والرضى فتظهر آثار ذلك في الدنيا والآخرة لقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة النحل : ٩٧] ، وقال : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) [سورة النور : ٥٥] ؛ أو من عمل شر يقتضي قيامه على النفس بالغضب والبلايا. ففي هذه الصلة بعمومها تبشير وتهديد لمن تأمل من الفريقين. فهذا تعريض بالأمرين للفريقين أفادته صلة الموصول.

وجملة (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) في موضع الحال ، والواو للحال ، أي والحال جعلوا له شركاء.

وإظهار اسم الجلالة إظهار في مقام الإتيان بضمير (فَمَنْ هُوَ قائِمٌ). وفائدة هذا الإظهار التعبير عن المسمى باسمه العلم الذي هو الأصل إذ كان قد وقع الإيفاء بحق العدول عنه إلى الموصول في الجملة السابقة فتهيأ المقام للاسم العلم ، وليكون تصريحا بأنه المراد من الموصول السابق زيادة في التصريح بالحجة.

وجملة (قُلْ سَمُّوهُمْ) استئناف أعيد معها الأمر بالقول لاسترعاء الأفهام لوعي ما سيذكر. وهذه كلمة جامعة ، أعني جملة (سَمُّوهُمْ) ، وقد تضمنت ردا عليهم. فالمعنى : سموهم شركاء فليس لهم حظ إلا التسمية ، أي دون مسمى الشريك ، فالأمر مستعمل في معنى الإباحة كناية عن قلة المبالاة بادعائهم أنهم شركاء مثل (قُلْ كُونُوا حِجارَةً) [سورة

١٩٢

الإسراء : ٥٠] ، وكما تقول للذي يخطئ في كلامه : قل ما شئت. والمعنى : إن هي إلا أسماء سميتموها لا مسميات لها بوصف الإلهيّة لأنها حجارة لا صفات لها من صفات التصرف. وهذا كقوله تعالى : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) [سورة يوسف : ٤٠] وقوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها) [سورة النجم : ٢٣]. وهذا إفحام لهم وتسفيه لأحلامهم بأنهم ألّهوا ما لا حقائق لها فلا شبهة لهم في ذلك ، كقوله تعالى : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) [سورة الرعد : ١٦]. وقد تمحل المفسرون في تأويل (قُلْ سَمُّوهُمْ) بما لا محصّل له من المعنى.

ثم أضرب عن ذلك بجملة (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) وهي (أَمْ) المنقطعة. ودلت (أَمْ) على أن ما بعدها في معنى الاستفهام ، وهو إنكاري توبيخي ، أي ما كان لكم أن تفتروا على الله فتضعوا له شركاء لم ينبئكم لوجودهم ، فقوله : (بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) كناية عن غير الموجود لأن ما لا يعلمه الله لا وجود له إذ لو كان موجودا لم يخف على علم العلام بكل شيء. وتقييد ذلك ب (الْأَرْضِ) لزيادة تجهيلهم لأنه لو كان يخفى عن علمه شيء لخفي عنه ما لا يرى ولما خفيت عنه موجودات عظيمة بزعمكم.

وفي سورة يونس [١٨](قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) زيادة في التعميم.

و (أَمْ) الثانية متصلة هي معادلة همزة الاستفهام المقدرة في (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ). وإعادة الباء للتأكيد بعد (أَمْ) العاطفة. والتقدير : بل أتنبئونه بما لا يعلم في الأرض بل أتنبئونه بظاهر من القول.

وليس الظاهر هنا مشتقا من الظهور بمعنى الوضوح بل هو مشتق من الظهور بمعنى الزوال كناية عن البطلان ، أي بمجرد قبول لا ثبات له وليس بحق ، كقول أبي ذؤيب : وتلك شكاة ظاهر عنك عارها وقول سبرة بن عمرو الفقعسي :

أعيّرتنا ألبانها ولحومها

وذلك عاريا يا ابن ريطة ظاهر

وقوله : (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) إضراب عن الاحتجاج عليهم بإبطال إلهية

١٩٣

أصنامهم إلى كشف السبب ، وهو أن أئمة المشركين زيّنوا للذين كفروا مكرهم بهم إذ وضعوا لهم عبادتها.

والمكر : إخفاء وسائل الضر. وتقدم عند قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) في أوائل سورة آل عمران [٥٤] ، وعند قوله : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) في سورة الأعراف [٩٩] ، وعند قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) في سورة الأنفال [٣٠]. والمراد هنا أن أئمة الكفر مثل عمرو بن لحيّ وضعوا للعرب عبادة الأصنام وحسّنوها إليهم مظهرين لهم أنها حق ونفع وما أرادوا بذلك إلا أن يكونوا قادة لهم ليسودوهم ويعبّدوهم.

فلما كان الفعل المبني للمجهول يقتضي فاعلا منويّا كان قوله : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) في قوة قولك : زيّن لهم مزين. والشيء المزيّن (بالفتح) هو الذي الكلام فيه وهو عبادة الأصنام فهي المفعول في المعنى لفعل التزيين المبني للمجهول ، فتعين أن المرفوع بعد ذلك الفعل هو المفعول في المعنى ، فلا جرم أن مكرهم هو المفعول في المعنى ، فتعيّن أن المكر مراد به عبادة الأصنام. وبهذا يتجه أن يكون إضافة (مكر) إلى ضمير الكفار من إضافة المصدر إلى ما هو في قوة المفعول وهو المجرور بباء التعدية ، أي المكر بهم ممن زينوا لهم.

وقد تضمن هذا الاحتجاج أساليب وخصوصيات :

أحدها : توبيخهم على قياسهم أصنامهم على الله في إثبات الإلهية لها قياسا فاسدا لانتفاء الجهة الجامعة فكيف يسوي من هو قائم على كل نفس بمن ليسوا في شيء من ذلك.

ثانيها : تبهيلهم في جعلهم أسماء لا مسميات لها آلهة.

ثالثها : إبطال كون أصنامهم آلهة بأن الله لا يعلمها آلهة ، وهو كناية عن انتفاء إلهيتها.

رابعها : أن ادعاءهم آلهة مجرد كلام لا انطباق له مع الواقع ، وهو قوله : (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ).

خامسها : أن ذلك تمويه باطل روجه فيهم دعاة الكفر ، وهو معنى تسميته مكرا في قوله : (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ).

سادسها : أنهم يصدون الناس عن سبيل الهدى.

١٩٤

وعطف (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) على جملة (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ). وقرأه الجمهور ـ بفتح الصاد ـ فهو باعتبار كون مضمون كلتا الجملتين من أحوال المشركين : فالأولى باعتبار كونهم مفعولين ، والثانية باعتبار كونهم فاعلين للصدّ بعد أن انفعلوا بالكفر. وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ ، وخلف (وَصُدُّوا) ـ بضم الصاد ـ فهو كجملة (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) في كون مضمون كلتيهما جعل الذين كفروا مفعولا للتزيين والصدّ.

وجملة (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) تذييل لما فيه من العموم.

وتقدم الخلاف بين الجمهور وابن كثير في إثبات ياء (هادٍ) في حالة الوصل عند قوله تعالى : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) في هذه السورة [٧].

(لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤))

استئناف بياني نشأ عن قوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) [الرعد : ٣٣] لأن هذا التبديد يومئ إلى وعيد يسال عنه السامع. وفيه تكملة للوعيد المتقدم في قوله : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) مع زيادة الوعيد بما بعد ذلك في الدار الآخرة.

وتنكير (عَذابٌ) للتعظيم ، وهو عذاب القتل والخزي والأسر. وإضافة (عَذابٌ) إلى (الْآخِرَةِ) على معنى (فِي).

و (مِنَ) الداخلة على اسم الجلالة لتعدية (واقٍ). و (مِنَ) الداخلة على (واقٍ) لتأكيد النفي للتنصيص على العموم.

والواقي : الحائل دون الضرّ. والوقاية من الله على حذف مضاف ، أي من عذابه بقرينة ما ذكر قبله.

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥))

استئناف ابتدائي يرتبط بقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ) [سورة الرعد : ٢٩]. ذكر هنا بمناسبة ذكر ضدّه في قوله : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ) [الرعد : ٣٤].

١٩٥

والمثل : هنا الصفة العجيبة ، قيل : هو حقيقة من معاني المثل ، كقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) [النحل : ٦٠] ، وقيل : هو مستعار من المثل الذي هو الشبيه في حالة عجيبة أطلق على الحالة العجيبة غير الشبيهة لأنها جديرة بالتشبيه بها.

وجملة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) خبر عن (مَثَلُ) باعتبار أنها من أحوال المضاف إليه ، فهي من أحوال المضاف لشدة الملابسة بين المتضايفين ، كما يقال : صفة زيد أسمر. وجملة (أُكُلُها دائِمٌ) خبر ثان ، والأكل بالضم : المأكول ، وتقدم.

ودوام الظل كناية عن التفاف الأشجار بحيث لا فراغ بينها تنفذ منه الشمس ، كما قال تعالى : (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) [سورة النبأ : ١٦] ، وذلك من محامد الجنات وملاذّها.

وجملة (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) مستأنفة.

والإشارة إلى الجنة بصفاتها بحيث صارت كالمشاهدة ، والمعنى : تلك هي التي سمعتم أنها عقبى الدار للذين يوفون بعهد الله إلى قوله : (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) ـ إلى قوله ـ (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [سورة الرعد : ٢٤] هي الجنة التي وعد المتّقون. وقد علم أن الذين اتقوا هم المؤمنون الصالحون كما تقدم. وأول مراتب التقوى الإيمان. وجملة (وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) مستأنفة للمناسبة بالمضادة. وهي كالبيان لجملة (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦))

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ).

الواو للاستئناف. وهذا استئناف ابتدائي انتقل به إلى فضل لبعض أهل الكتاب في حسن تلقيهم للقرآن بعد الفراغ من ذكر أحوال المشركين من قوله : (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ) [سورة الرعد : ٣٠] إلخ ، ولذلك جاءت على أسلوبها في التعقيب بجملة (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) [سورة الرعد : ٣٦].

والمناسبة هي أن الذين أرسل إليهم بالقرآن انقسموا في التصديق بالقرآن فرقا ؛ ففريق آمنوا بالله وهم المؤمنون ، وفريق كفروا به وهم مصداق قوله : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) [سورة الرعد : ٣٠] ، كما تقدم أنه عائد إلى المشركين المفهومين من المقام كما هو مصطلح القرآن.

١٩٦

وهذا فريق آخر أيضا أهل الكتاب وهو منقسم أيضا في تلقي القرآن فرقتين : فالفريق الأول صدّقوا بالقرآن وفرحوا به وهم الذين ذكروا في قوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) في سورة العقود [٨٣] ، وكلهم من النصارى مثل ورقة بن نوفل وكذلك غيره ممن بلغهم القرآن أيام مقام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة قبل أن تبلغهم دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن اليهود كانوا قد سرّوا بنزول القرآن مصدّقا للتوراة ، وكانوا يحسبون دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقصورة على العرب فكان اليهود يستظهرون بالقرآن على المشركين ، قال تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [سورة البقرة : ٨٩]. وكان النصارى يستظهرون به على اليهود ؛ وفريق لم يثبت لهم الفرح بالقرآن وهم معظم اليهود والنصارى البعداء عن مكة وما كفر الفريقان به إلا حين علموا أن دعوة الإسلام عامة.

وبهذا التفسير تظهر بلاغة التعبير عنهم ب (يَفْرَحُونَ) دون يؤمنون. وإنما سلكنا هذا الوجه بناء على أن هذه السورة مكية كان نزولها قبل أن يسلم عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وبعض نصارى نجران وبعض نصارى اليمن ، فإن كانت السورة مدينة أو كان هذا من المدني فلا إشكال. فالمراد بالذين آتيناهم الكتاب الذين أوتوه إيتاء كاملا ، وهو المجرد عن العصبية لما كانوا عليه وعن الحسد ، فهو كقوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [سورة البقرة : ١٢١].

فالأظهر أن المراد بالأحزاب أحزاب الذين أوتوا الكتاب ، كما جاء في قوله تعالى : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) في سورة مريم [٣٧] ، أي ومن أحزابهم من ينكر بعض القرآن ، فاللام عوض عن المضاف إليه. ولعل هؤلاء هم خبثاؤهم ودهاتهم الذين توسموا أن القرآن يبطل شرائعهم فأنكروا بعضه ، وهو ما فيه من الإيماء إلى ذلك من إبطال أصول عقائدهم مثل عبودية عيسى ـ عليه‌السلام ـ بالنسبة للنصارى ، ونبوءته بالنسبة لليهود.

وفي التعبير عنهم بالأحزاب إيماء إلى أن هؤلاء هم المتحزبون المتصلبون لقومهم ولما كانوا عليه. وهكذا كانت حالة اضطراب أهل الكتاب عند ما دمغتهم بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخذ أمر الإسلام يفشو.

(قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ)

١٩٧

أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعلن للفريقين بأنه ما أمر إلا بتوحيد الله كما في الآية الأخرى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) [سورة آل عمران : ٦٤] ، فمن فرح بالقرآن فليزدد فرحا ومن أنكر بعضه فليأخذ بما لا ينكره وهو عدم الإشراك. وقد كان النصارى يتبرءون من الشرك ويعدّون اعتقاد بنوة عيسى ـ عليه‌السلام ـ غير شرك.

وهذه الآية من مجاراة الخصم واستنزال طائر نفسه كيلا ينفر من النظر. وبهذا التفسير يظهر موقع جملة (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ) بعد جملة (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ) وأنها جواب للفريقين.

وأفادت (إِنَّما) أنه لم يؤمر إلا بأن يعبد الله ولا يشرك به ، أي لا بغير ذلك مما عليه المشركون ، فهو قصر إضافي دلت عليه القرينة.

ولما كان المأمور به مجموع شيئين : عبادة الله ، وعدم الإشراك به في ذلك آل المعنى : أني ما أمرت إلا بتوحيد الله.

ومن بلاغة الجدل القرآني أنه لم يأت بذلك من أول الكلام بل أتى به متدرّجا فيه فقال : (أَنْ أَعْبُدَ اللهَ) لأنه لا ينازع في ذلك أحد من أهل الكتاب ولا المشركين ، ثم جاء بعده (وَلا أُشْرِكَ) به لإبطال إشراك المشركين وللتعريض بإبطال إلهية عيسى ـ عليه‌السلام ـ لأن ادعاء بنوته من الله تعالى يؤول إلى الإشراك.

وجملة (إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ) بيان لجملة (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) ، أي أن أعبده وأن ادعو الناس إلى ذلك ، لأنه لما أمر بذلك من قبل الله استفيد أنه مرسل من الله فهو مأمور بالدعوة إليه.

وتقديم المجرور في الموضعين للاختصاص ، أي إليه لا إلى غيره أدعو ، أي بهذا القرآن ، وإليه لا إلى غيره مئابي ، فإن المشركين يرجعون في مهمّهم إلى الأصنام يستنصرونها ويستغيثونها ، وليس في قوله هذا ما ينكره أهل الكتاب إذ هو مما كانوا فيه سواء مع الإسلام. على أن قوله : (وَإِلَيْهِ مَآبِ) يعم الرجوع في الآخرة وهو البعث. وهذا من وجوه الوفاق في أصل الدين بين الإسلام واليهودية والنصرانية.

وحذف ياء المتكلم من مآبي كحذفها في قوله : (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ) [الرعد : ٣٠] ، وقد مضى قريبا.

١٩٨

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧))

اعتراض وعطف على جملة (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [الرعد : ٣٦] لما ذكر حال تلقي أهل الكتابين للقرآن عند نزوله عرج على حال العرب في ذلك بطريقة التعريض بسوء تلقي مشركيه له مع أنهم أولى الناس بحسن تلقيه إذ نزل بلسانهم مشتملا على ما فيه صلاحهم وتنوير عقولهم. وقد جعل أهم هذا الغرض التنويه بعلوّ شأن القرآن لفظا معنى. وأدمج في ذلك تعريض بالمشركين من العرب.

والقول في اسم الإشارة في قوله : (وَكَذلِكَ) مثل ما تقدم في قوله : (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ) [سورة الرعد : ٣٠].

وضمير الغائب في (أَنْزَلْناهُ) عائد إلى (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) في قوله : (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ).

والجار والمجرور من اسم الإشارة نائب عن المفعول المطلق. والتقدير ؛ أنزلناه إنزالا كذلك الإنزال.

و (حُكْماً عَرَبِيًّا) حالان من ضمير (أَنْزَلْناهُ). والحكم : هنا بمعنى الحكمة كما في قوله : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [سورة مريم : ١٢]. وجعل نفس الحكم حالا منه مبالغة. والمراد أنه ذو حكم ، أي حكمة. والحكمة تقدمت.

و (عَرَبِيًّا) حال ثانية وليس صفة ل (حُكْماً) إذ الحكمة لا توصف بالنسبة إلى الأمم وإنما المعنى أنه حكمة معبر عنها بالعربية. والمقصود أنه بلغة العرب التي هي أفصح اللغات وأجملها وأسهلها ، وفي ذلك إعجازه. فحصل لهذا الكتاب كمالان : كمال من جهة معانيه ومقاصده وهو كونه حكما ، وكمال من جهة ألفاظه وهو المكنى عنه بكونه عربيا ، وذلك ما لم يبلغ إليه كتاب قبله لأن الحكمة أشرف المعقولات فيناسب شرفها أن يكون إبلاغها بأشرف لغة وأصلحها للتعبير عن الحكمة ، قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [سورة الشعراء : ١٩٢ ـ ١٩٥].

ثم في كونه عربيا امتنان على العرب المخاطبين به ابتداء بأنه بلغتهم وبأن في ذلك

١٩٩

حسن سمعتهم ، ففيه تعريض بأفن رأي الكافرين منهم إذ لم يشكروا هذه النعمة كما قال تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [سورة الأنبياء : ١٠]. قال مالك : فيه بقاء ذكركم.

وجملة (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) معترضة ، واللام موطئة للقسم وضمير الجمع في قوله : (أَهْواءَهُمْ) عائد إلى معلوم من السياق وهم المشركون الذين وجه إليهم الكلام.

واتباع أهوائهم يحتمل السعي لإجابة طلبتهم إنزال آية غير القرآن تحذيرا من أن يسأل الله إجابتهم لما طلبوه كما قال لنوح ـ عليه‌السلام ـ (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ).

ومعنى (ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) ما بلغك وعلّمته ، فيحتمل أن يراد بالموصول القرآن تنويها به ، أي لئن شايعتهم فسألتنا آية ير القرآن بعد أن نزل عليك القرآن ، أو بعد أن أعلمناك أنا غير متنازلين لإجابة مقترحاتهم. ويحتمل اتباع دينهم فإن دينهم أهواء ويكون ما صدق (ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) هو دين الإسلام.

والوليّ : النصير. والواقي : المدافع.

وجعل نفي الولي والنصير جوابا للشرط كناية عن الجواب ، وهو المؤاخذة والعقوبة.

والمقصود من هذا تحذير المسلمين من أن يركنوا إلى تمويهات المشركين ، والتحذير من الرجوع إلى دينهم تهييجا لتصلبهم في دينهم على طريقة قوله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [سورة الزمر : ٦٥] ، وتأييس المشركين من الطمع في مجيء آية توافق مقترحاتهم.

و (مِنَ) الداخلة على اسم الجلالة تتعلق ب (وَلِيٍ) و (واقٍ). و (مِنَ) الداخلة على (وَلِيٍ) لتأكيد النفي تنصيصا على العموم. وتقدم الخلاف بين الجمهور وابن كثير في حذفهم ياء (واقٍ) في حالتي الوصل والوقف وإثبات ابن كثير الياء في حالة الوقف دون الوصل عند قوله تعالى : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) في هذه السورة [الرعد : ٧].

[٣٨ ، ٣٩] (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ

٢٠٠