تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٤

والتعظيم ، وهو الله تعالى فلا يحتاج إلى التخصيص.

وقرأ الجمهور (دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) بإضافة (دَرَجاتٍ) إلى (مَنْ نَشاءُ). وقرأه حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف بتنوين (دَرَجاتٍ) على أنه تمييز لتعلق فعل (نَرْفَعُ) بمفعوله وهو (مَنْ نَشاءُ).

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧))

لما بهتوا بوجود الصّواع في رحل أخيهم اعتراهم ما يعتري المبهوت فاعتذروا عن دعواهم تنزههم عن السرقة ، إذ قالوا : (وَما كُنَّا سارِقِينَ) [سورة يوسف : ٧٣] ، عذرا بأن أخاهم قد تسرّبت إليه خصلة السرقة من غير جانب أبيهم فزعموا أن أخاه الذي أشيع فقده كان سرق من قبل ، وقد علم فتيان يوسف ـ عليه‌السلام ـ أن المتهم أخ من أمّ أخرى ، فهذا اعتذار بتعريض بجانب أمّ أخويهم وهي زوجة أبيهم وهي (راحيل) ابنة (لابان) خال يعقوب ـ عليه‌السلام ـ.

وكان ليعقوب ـ عليه‌السلام ـ أربع زوجات : (راحيل) هذه أم يوسف ـ عليه‌السلام ـ وبنيامين ؛ و (ليئة) بنت لابان أخت راحيل وهي أم روبين ، وشمعون ، ولاوي ، ويهوذا ، ويساكر ، وزبولون ؛ و (بلهة) جارية راحيل وهي أم دانا ، ونفتالي ؛ و (زلفة) جارية راحيل أيضا وهي أم جاد ، وأشير.

وإنما قالوا : (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) بهتانا ونفيا للمعرة عن أنفسهم. وليس ليوسف ـ عليه‌السلام ـ سرقة من قبل ، ولم يكن إخوة يوسف ـ عليه‌السلام – يومئذ أنبياء. وشتان بين السرقة وبين الكذب إذا لم تترتب عليه مضرة.

وكان هذا الكلام بمسمع من يوسف ـ عليه‌السلام ـ في مجلس حكمه.

وقوله : (فَأَسَرَّها يُوسُفُ) يجوز أن يعود الضمير البارز إلى جملة (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) على تأويل ذلك القول بمعنى المقالة على نحو قوله تعالى : (إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) بعد قوله : (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) [سورة المؤمنون : ٩٩]. ويكون معنى أسرها في نفسه أنه تحملها ولم يظهر غضبا منها ، وأعرض عن زجرهم وعقابهم مع أنها طعن فيه وكذب عليه. وإلى هذا التفسير ينحو أبو

١٠١

علي الفارسي وأبو حيان. ويكون قوله : (قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) كلاما مستأنفا حكاية لما أجابهم به يوسف ـ عليه‌السلام ـ صراحة على طريقة حكاية المحاورة ، وهو كلام موجه لا يقتضي تقرير ما نسبوه إلى أخي أخيهم ، أي أنتم أشدّ شرّا في حالتكم هذه لأنّ سرقتكم مشاهدة وأما سرقة أخي أخيكم فمجرد دعوى ، وفعل (قالَ) يرجح هذا الوجه.

ويجوز أن يكون ضمير الغيبة في (فَأَسَرَّها) عائد إلى ما بعده وهو قوله : (قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً). وبهذا فسر الزجاج والزمخشري ، أي قال في نفسه ، وهو يشبه ضمير الشأن والقصة ، لكن تأنيثه بتأويل المقولة أو الكلمة ، وتكون جملة (قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) تفسيرا للضمير في (فَأَسَرَّها).

والإسرار ، على هذا الوجه ، مستعمل في حقيقته ، وهو إخفاء الكلام عن أن يسمعه سامع.

وجملة (وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) قيل هي توكيد لجملة (فَأَسَرَّها يُوسُفُ). وشأن التوكيد أن لا يعطف. ووجه عطفها ما فيها من المغايرة للتي قبلها بزيادة قيد لهم المشعر بأنه أبدى لأخيه أنهم كاذبون. ويجوز أن يكون المراد لم يبد لهم غضبا ولا عقابا كما تقدم مبالغة في كظم غيظه ، فيكون في الكلام تقدير مضاف مناسب ، أي لم يبد أثرها.

و (شَرٌّ) اسم تفضيل ، وأصله أشرّ ، و (مَكاناً) تمييز لنسبة الأشرّ.

وأطلق المكان على الحالة على وجه الاستعارة ، والحالة هي السرقة ، وإطلاق المكان والمكانة على الحالة شائع. وقد تقدم عند قوله تعالى : (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) في آخر سورة الأنعام [١٣٥] ، وهو تشبيه الاتّصاف بوصف ما بالحلول في مكان. والمعنى أنهم لما علّلوا سرقة أخيهم بأن أخاه من قبل قد سرق فإذا كانت سرقة سابقة من أخ أعدّت أخاه الآخر للسرقة ، فهم وقد سبقهم أخوان بالسرقة أجدر بأن يكونوا سارقين من الذي سبقه أخ واحد. والكلام قابل للحمل على معنى أنتم شر حالة من أخيكم هذا والذي قبله لأنهما بريئان مما رميتموهما به وأنتم مجرمون عليهما إذ قذفتم أولهما في الجب ، وأيدتم تهمة ثانيهما بالسرقة.

ثم ذيله بجملة (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) ، وهو كلام جامع أي الله أعلم بصدقكم فيما وصفتم أو بكذبكم. والمراد : أنه يعلم كذبهم ، فالمراد : أعلم لحال ما تصفون.

١٠٢

[٧٨ ، ٧٩] (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩))

نادوا بوصف العزيز إمّا لأنّ كلّ رئيس ولاية مهمة يدعى بما يرادف العزيز فيكون يوسف ـ عليه‌السلام ـ عزيزا ، كما أن رئيس الشرطة يدعى العزيز كما تقدم في قوله تعالى : (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ) [سورة يوسف : ٣٠] ؛ وإما لأن يوسف ضمت إليه ولاية العزيز الذي اشتراه فجمع التصرفات وراجعوه في أخذ أخيهم.

ووصفوا أباهم بثلاث صفات تقتضي الترقيق عليه ، وهي : حنان الأبوة ، وصفة الشيخوخة ، واستحقاقه جبر خاطره لأنه كبير قومه أو لأنه انتهى في الكبر إلى أقصاه ؛ فالأوصاف مسوقة للحث على سراح الابن لا لأصل الفائدة لأنهم قد كانوا أخبروا يوسف ـ عليه‌السلام ـ بخبر أبيهم.

والمراد بالكبير : إما كبير عشيرته فإساءته تسوؤهم جميعا ومن عادة الولاة استجلاب القبائل ، وإما أن يكون (كَبِيراً) تأكيدا ل (شَيْخاً) أي بلغ الغاية في الكبر من السن ، ولذلك فرّعوا على ذلك (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) ، إذ كان هو أصغر الإخوة ، والأصغر أقرب إلى رقة الأب عليه.

وجملة (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) تعليل لإجابة المطلوب لا للطلب. والتقدير : فلا تردّ سؤالنا لأنّا نراك من المحسنين فمثلك لا يصدر منه ما يسوء أبا شيخا كبيرا.

والمكان : أصله محل الكون أي ما يستقر فيه الجسم ، وهو هنا مجاز في العوض لأن العوض يضعه آخذه في مكان الشيء المعوّض عنه كما في الحديث «هذه مكان حجتك». و (مَعاذَ) مصدر ميمي اسم للعوذ ، وهو اللجأ إلى مكان للتحصن. وتقدم قريبا عند قوله : (قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) [سورة يوسف : ٢٣].

وانتصب هذا المصدر على المفعولية المطلقة نائبا عن فعله المحذوف. والتقدير : أعوذ بالله معاذا ، فلما حذف الفعل جعل الاسم المجرور بباء التعدية متصلا بالمصدر بطريق الإضافة فقيل : معاذ الله ، كما قالوا : سبحان الله ، عوضا عن أسبح الله. والمستعاذ

١٠٣

منه هو المصدر المنسبك من (أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ). والمعنى : الامتناع من ذلك ، أي نلجأ إلى الله أن يعصمنا من أخذ من لا حق لنا في أخذه ، أي أن يعصمنا من الظلم لأن أخذ من وجد المتاع عنده صار حقا عليه بحكمه على نفسه ، لأن التحكيم له قوة الشريعة. وأما أخذ غيره فلا يسوغ إذ ليس لأحد أن يسترقّ نفسه بغير حكم ، ولذلك علل الامتناع من ذلك بأنه لو فعله لكان ذلك ظلما.

ودليل التعليل شيئان : وقوع إن في صدر الجملة ، والإتيان بحرف الجزاء وهو (إِذاً).

وضمائر (نَأْخُذَ) و (وَجَدْنا) و (مَتاعَنا) و (إِنَّا) و (لَظالِمُونَ) مراد بها المتكلم وحده دون مشارك ، فيجوز أن يكون من استعمال ضمير الجمع في التعظيم حكاية لعبارته في اللغة التي تكلم بها فإنه كان عظيم المدينة. ويجوز أن يكون استعمل ضمير المتكلم المشارك تواضعا منه تشبيها لنفسه بمن له مشارك في الفعل وهو استعمال موجود في الكلام. ومنه قوله تعالى حكاية عن الخضر ـ عليه‌السلام ـ (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما) الآية من سورة الكهف [٨٠].

وإنما لم يكاشفهم يوسف ـ عليه‌السلام ـ بحاله ويأمرهم بجلب أبيهم يومئذ : إمّا لأنه خشي إن هو تركهم إلى اختيارهم أن يكيدوا لبنيامين فيزعموا أنهم يرجعون جميعا إلى أبيهم فإذا انفردوا ببنيامين أهلكوه في الطريق ، وإما لأنه قد كان بين القبط وبين الكنعانيين في تلك المدة عداوة فخاف إن هو جلب عشيرته إلى مصر أن تتطرق إليه وإليهم ظنون السوء من ملك مصر فتريّث إلى أن يجد فرصة لذلك ، وكان الملك قد أحسن إليه فلم يكن من الوفاء له أن يفعل ما يكرهه أو يسيء ظنه ، فترقب وفاة الملك أو السعي في إرضائه بذلك ، أو أراد أن يستعلم من أخيه في مدة الانفراد به أحوال أبيه وأهلهم لينظر كيف يأتي بهم أو ببعضهم ، وسنذكره عند قوله : (قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ) [سورة يوسف : ٨٩].

[٨٠ ـ ٨٢] (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا

١٠٤

فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢))

(اسْتَيْأَسُوا) بمعنى يئسوا فالسين والتاء للتأكيد ، ومثلها (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) [سورة يوسف : ٣٤] و (فَاسْتَعْصَمَ).

واليأس منه : اليأس من إطلاقه أخاهم ، فهو من تعليق الحكم بالذات. والمراد بعض أحوالها بقرينة المقام للمبالغة.

وقرأ الجمهور (اسْتَيْأَسُوا) بتحتية بعد الفوقية وهمزة بعد التحتية على أصل التصريف. وقرأه البزي عن ابن كثير بخلف عنه بألف بعد الفوقية ثم تحتية على اعتبار القلب في المكان ثم إبدال الهمزة.

و (خَلَصُوا) بمعنى اعتزلوا وانفردوا. وأصله من الخلوص وهو الصفاء من الأخلاط. ومنه قول عبد الرحمن بن عوف لعمر بن الخطاب ـ رضي‌الله‌عنهما ـ في آخر حجة حجّها حيث عزم عمر ـ رضي‌الله‌عنه ـ على أن يخطب في الناس فيحذرهم من قوم يريدون المزاحمة في الخلافة بغير حق ، قال عبد الرحمن بن عوف ـ رضي‌الله‌عنه ـ : «يا أمير المؤمنين إن الموسم يجمع رعاع الناس فأمهل حتى تقدم المدينة فتخلص بأهل الفقه ...» إلخ.

والنجيّ : اسم من المناجاة ، وانتصابه على الحال. ولما كان الوصف بالمصدر يلازم الإفراد والتذكير كقوله تعالى : (وَإِذْ هُمْ نَجْوى). والمعنى : انفردوا تناجيا. والتناجي : المحادثة سرا ، أي متناجين.

وجملة (قالَ كَبِيرُهُمْ) بدل من جملة (خَلَصُوا نَجِيًّا) وهو بدل اشتمال ، لأن المناجاة تشتمل على أقوال كثيرة منها قول كبيرهم هذا ، وكبيرهم هو أكبرهم سنا وهو روبين بكر يعقوب ـ عليه‌السلام ـ.

والاستفهام في (أَلَمْ تَعْلَمُوا) تقريري مستعمل في التذكير بعدم اطمئنان أبيهم بحفظهم لابنه.

وجملة (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ) جملة معترضة. و (ما) مصدرية ، أي تفريطكم في يوسف ـ عليه‌السلام ـ كان من قبل الموثق ، أي فهو غير مصدقكم فيما تخبرون به من أخذ بنيامين في سرقة الصّواع. وفرع عليه كبيرهم أنه يبقى في مصر ليكون بقاؤه علامة عند يعقوب ـ عليه‌السلام ـ يعرف بها صدقهم في سبب تخلف بنيامين ، إذ لا يرضى لنفسه أن

١٠٥

يبقى غريبا لو لا خوفه من أبيه ، ولا يرضى بقية أشقائه أن يكيدوا له كما يكيدون لغير الشقيق.

وقوله : (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) ترديد بين ما رسمه هو لنفسه وبين ما عسى أن يكون الله قد قدره له مما لا قبل له بدفعه ، فحذف متعلّق (يَحْكُمَ) المجرور بالباء لتنزيل فعل (يَحْكُمَ) منزلة ما لا يطلب متعلقا.

واللام للأجل ، أي يحكم الله بما فيه نفعي. والمراد بالحكم التقدير.

وجملة (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) تذييل. و (خَيْرُ الْحاكِمِينَ) إن كان على التعميم فهو الذي حكمه لا جور فيه أو الذي حكمه لا يستطيع أحد نقضه ، وإن كان على إرادة وهو خير الحاكمين لي فالخبر مستعمل في الثناء للتعريض بالسؤال أن يقدر له ما فيه رأفة في رد غربته.

وعدم التعرّض لقول صدر من بنيامين يدافع به عن نفسه يدل على أنه لازم السكوت لأنه كان مطلعا على مراد يوسف ـ عليه‌السلام ـ من استبقائه عنده ، كما تقدم في قوله : (آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) [يوسف : ٦٩].

ثم لقّنهم كبيرهم ما يقولون لأبيهم. ومعنى (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) احتراس من تحقق كونه سرق ، وهو إما لقصد التلطف مع أبيهم في نسبة ابنه إلى السرقة وإما لأنهم علموا من أمانة أخيهم ما خالجهم به الشك في وقوع السرقة منه.

والغيب : الأحوال الغائبة عن المرء. والحفظ : بمعنى العلم.

وسؤال القرية مجاز عن سؤال أهلها. والمراد بها مدينة مصر. والمدينة والقرية مترادفتان. وقد خصت المدينة في العرف بالقرية الكبيرة.

والمراد بالعير التي كانوا فيها رفاقهم في عيرهم القادمين إلى مصر من أرض كنعان ، فأما سؤال العير فسهل وأما سؤال القرية فيكون بالإرسال أو المراسلة أو الذهاب بنفسه إن أراد الاستثبات.

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣))

جعلت جملة (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ) في صورة الجواب عن الكلام الذي لقّنه أخوهم

١٠٦

على طريقة الإيجاز. والتقدير : فرجعوا إلى أبيهم فقالوا ذلك الكلام الذي لقّنه إيّاهم (روبين) قال أبوهم : (بَلْ سَوَّلَتْ ...) إلخ.

وقوله هنا كقوله لهم حين زعموا أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ أكله الذئب ، فهو تهمة لهم بالتغرير بأخيهم. قال ابن عطية : ظنّ بهم سوءا فصدق ظنّه في زعمهم في يوسف ـ عليه‌السلام ـ ولم يتحقق ما ظنّه في أمر بنيامين ، أي أخطأ في ظنه بهم في قضية (بنيامين) ، ومستنده في هذا الظن علمه أن ابنه لا يسرق ، فعلم أن في دعوى السرقة مكيدة. فظنه صادق على الجملة لا على التفصيل. وأما تهمته أبناءه بأن يكونوا تمالئوا على أخيهم بنيامين فهو ظن مستند إلى القياس على ما سبق من أمرهم في قضية يوسف ـ عليه‌السلام ـ فإنه كان قال لهم : (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) سورة يوسف [٦٤]. ويجوز على النبي الخطأ في الظنّ في أمور العادات كما جاء في حديث ترك إبّار النخل.

ولعله اتّهم روبين أن يكون قد اختفى لترويج دعوى إخوته. وضمير (بِهِمْ) ليوسف ـ عليه‌السلام ـ وبنيامين وروبين. وهذا كشف منه إذ لم ييأس من حياة يوسف ـ عليه‌السلام ـ.

وجملة (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) تعليل لرجائه من الله بأن الله عليم فلا تخفى عليه مواقعهم المتفرقة. حكيم فهو قادر على إيجاد أسباب جمعهم بعد التفرق.

[٨٥ ـ ٨٦] (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧))

انتقال إلى حكاية حال يعقوب ـ عليه‌السلام ـ في انفراده عن أبنائه ومناجاته نفسه ، فالتولي حاصل عقب المحاورة. و (تَوَلَّى) : انصرف ، وهو انصراف غضب.

ولمّا كان التولّي يقتضي الاختلاء بنفسه ذكر من أحواله تجدد أسفه على يوسف ـ عليه‌السلام ـ فقال : (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) والأسف ؛ أشد الحزن ، أسف كحزن.

١٠٧

ونداء الأسف مجاز. نزّل الأسف منزلة من يعقل فيقول له : احضر فهذا أوان حضورك ، وأضاف الأسف إلى ضمير نفسه لأن هذا الأسف جزئي مختص به من بين جزئيات جنس الأسف.

والألف عوض عن ياء المتكلم فإنها في النداء تبدل ألفا.

وإنما ذكر القرآن تحسّره على يوسف ـ عليه‌السلام ـ ولم يذكر تحسره على ابنيه الآخرين لأن ذلك التحسّر هو الذي يتعلق بهذه القصة فلا يقتضي ذكره أن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ لم يتحسّر قط إلّا على يوسف ، مع أن الواو لا تفيد ترتيب الجمل المعطوفة بها.

وكذلك عطف جملة (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) إذ لم يكن ابيضاض عينيه إلا في مدة طويلة. فكل من التولّي والتحسر وابيضاض العينين من أحواله إلّا أنها مختلفة الأزمان.

وابيضاض العينين : ضعف البصر. وظاهره أنه تبدّل لون سوادهما من الهزال. ولذلك عبّر ب (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ) دون عميت عيناه.

و (مِنَ) في قوله : (مِنَ الْحُزْنِ) سببية. والحزن سبب البكاء الكثير الذي هو سبب ابيضاض العينين. وعندي أن ابيضاض العينين كناية عن عدم الإبصار كما قال الحارث بن حلزة :

قبل ما اليوم بيّضت بعيون الن

اس فيها تغيض وإباء

وأن الحزن هو السبب لعدم الإبصار كما هو الظاهر. فإن توالي إحساس الحزن على الدماغ قد أفضى إلى تعطيل عمل عصب الإبصار ؛ على أن البكاء من الحزن أمر جبليّ فلا يستغرب صدوره من نبيء ، أو أن التصبّر عند المصائب لم يكن من سنة الشريعة الإسرائيلية بل كان من سننهم إظهار الحزن والجزع عند المصائب. وقد حكت التوراة بكاء بني إسرائيل على موسى ـ عليه‌السلام ـ أربعين يوما ، وحكت تمزيق بعض الأنبياء ثيابهم من الجزع. وإنما التصبر في المصيبة كمال بلغت إليه الشريعة الإسلامية.

والكظيم : مبالغة للكاظم. والكظم : الإمساك النفساني ، أي كاظم للحزن لا يظهره بين الناس ، ويبكي في خلوته ، أو هو فعيل بمعنى مفعول ، أي محزون كقوله : (وَهُوَ مَكْظُومٌ).

١٠٨

وجملة (قالُوا تَاللهِ) محاورة بنيه إياه عند ما سمعوا قوله : (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) وقد قالها في خلوته فسمعوها.

والتاء حرف قسم ، وهي عوض عن واو القسم. قال في «الكشاف» في سورة الأنبياء : «التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب». وسلمه في «مغني اللبيب» ، وفسره الطيبي بأن المقسم عليه بالتاء يكون نادر الوقوع لأن الشيء المتعجب منه لا يكثر وقوعه ومن ثم قل استعمال التاء إلا مع اسم الجلالة لأن القسم باسم الجلالة أقوى القسم.

وجواب القسم هو (تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) باعتبار ما بعده من الغاية ، لأن المقصود من هذا اليمين الإشفاق عليه بأنه صائر إلى الهلاك بسبب عدم تناسيه مصيبة يوسف ـ عليه‌السلام ـ وليس المقصود تحقيق أنه لا ينقطع عن تذكر يوسف. وجواب القسم هنا فيه حرف النفي مقدر بقرينة عدم قرنه بنون التوكيد لأنه لو كان مثبتا لوجب قرنه بنون التوكيد فحذف حرف النفي هنا.

ومعنى (تَفْتَؤُا) تفتر. يقال : فتئ من باب علم ، إذا فتر عن الشيء. والمعنى : لا تفتر في حال كونك تذكر يوسف. ولملازمة النفي لهذا الفعل ولزوم حال يعقب فاعله صار شبيها بالأفعال الناقصة.

و (حَرَضاً) مصدر هو شدة المرض المشفي على الهلاك ، وهو وصف بالمصدر ، أي حتى تكون حرضا ، أي باليا لا شعور لك. ومقصودهم الإنكار عليه صدا له عن مداومة ذكر يوسف ـ عليه‌السلام ـ على لسانه لأن ذكره باللسان يفضي إلى دوام حضوره في ذهنه.

وفي جعلهم الغاية الحرض أو الهلاك تعريض بأنه يذكر أمرا لا طمع في تداركه ، فأجابهم بأن ذكره يوسف ـ عليه‌السلام ـ موجه إلى الله دعاء بأن يردّه عليه. فقوله : (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) تعريض بدعاء الله أن يزيل أسفه بردّ يوسف ـ عليه‌السلام ـ إليه لأنه كان يعلم أن يوسف لم يهلك ولكنه بأرض غربة مجهولة ، وعلم ذلك بوحي أو بفراسة صادقة وهي المسماة بالإلهام عند الصوفية.

فجملة (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) مفيدة قصر شكواه على التعلّق باسم الله ، أي يشكو إلى الله لا إلى نفسه ليجدد الحزن ، فصارت الشكوى بهذا القصد ضراعة وهي عبادة لأن الدعاء عبادة ، وصار ابيضاض عينيه الناشئ عن التذكر الناشئ عن الشكوى

١٠٩

أثرا جسديا ناشئا عن عبادة مثل تفطّر أقدام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قيام الليل.

والبثّ : الهمّ الشديد ، وهو التفكير في الشيء المسيء. والحزن : الأسف على فائت. فبين الهمّ والحزن العموم والخصوص الوجهي ، وقد اجتمعا ليعقوب ـ عليه‌السلام ـ لأنه كان مهتما بالتفكير في مصير يوسف ـ عليه‌السلام ـ وما يعترضه من الكرب في غربته وكان آسفا على فراقه.

وقد أعقب كلامه بقوله : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) لينبّههم إلى قصور عقولهم عن إدراك المقاصد العالية ليعلموا أنهم دون مرتبة أن يعلّموه أو يلوموه ، أي أنا أعلم علما من عند الله علّمنيه لا تعلمونه وهو علم النبوءة. وقد تقدم نظير هذه الجملة في قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ من سورة الأعراف فهي من كلام النبوءة الأولى. وحكي مثلها عن شعيب ـ عليه‌السلام ـ في سورة الشعراء.

وفي هذا تعريض برد تعرضهم بأنه يطمع في المحال بأن ما يحسبونه محالا سيقع.

ثم صرح لهم بشيء ممّا يعلمه وكاشفهم بما يحقق كذبهم ادعاء ائتكال الذئب يوسف ـ عليه‌السلام ـ حين أذنه الله بذلك عند تقدير انتهاء البلوى فقال : (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ).

فجملة (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا) مستأنفة استئنافا بيانيا ، لأن في قوله : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) ما يثير في أنفسهم ترقب مكاشفته على كذبهم فإن صاحب الكيد كثير الظنون (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) [المنافقون : ٤].

والتحسّس ـ بالحاء المهملة ـ : شدة التطلّب والتعرّف ، وهو أعم من التجسس ـ بالجيم ـ فهو التطلّب مع اختفاء وتستر.

والرّوح ـ بفتح الراء : النفس ـ بفتح الفاء ـ استعير لكشف الكرب لأن الكرب والهمّ يطلق عليهما الغمّ وضيق النفس وضيق الصدر ، كذلك يطلق التنفس والتروح على ضد ذلك ، ومنه استعارة قولهم : تنفس الصبح إذا زالت ظلمة الليل.

وفي خطابهم بوصف البنوّة منه ترقيق لهم وتلطف ليكون أبعث على الامتثال.

وجملة (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) تعليل للنهي عن اليأس ، فموقع (إِنَ) التعليل. والمعنى : لا تيأسوا من الظفر بيوسف ـ عليه‌السلام ـ معتلين بطول

١١٠

مدة البعد التي يبعد معها اللقاء عادة. فإن الله إذا شاء تفريج كربة هيّأ لها أسبابها ، ومن كان يؤمن بأن الله واسع القدرة لا يحيل مثل ذلك فحقّه أن يأخذ في سببه ويعتمد على الله في تيسيره ، وأما القوم الكافرون بالله فهم يقتصرون على الأمور الغالبة في العادة وينكرون غيرها.

وقرأ البزي بخلف عنه ولا تأيسوا ـ وإنه لا يأيس بتقديم الهمزة على الياء الثانية ، وتقدم في قوله : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) [سورة يوسف : ٨٠].

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨))

الفاء عاطفة على كلام مقدّر دل عليه المقام ، أي فارتحلوا إلى مصر بقصد استطلاق بنيامين من عزيز مصر ثم بالتعرض إلى التحسّس من يوسف ـ عليه‌السلام ـ ، فوصلوا مصر ، فدخلوا على يوسف ، (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) إلخ ... وقد تقدم آنفا وجه دعائهم يوسف عليه‌السلام بوصف العزيز.

وأرادوا بمسّ الضر إصابته. وقد تقدم إطلاق مسّ الضرّ على الإصابة عند قوله تعالى: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) في سورة الأنعام [١٧].

والبضاعة تقدمت آنفا. والمزجاة : القليلة التي لا يرغب فيها فكأنّ صاحبها يزجيها ، أي يدفعها بكفة ليقبلها المدفوعة إليه. والمراد بها مال قليل للامتيار ، ولذلك فرع عليه (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ). وطلبوا التصدّق منه تعريضا بإطلاق أخيهم لأن ذلك فضل منه إذ صار مملوكا له كما تقدم.

وجملة (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) تعليل لاستدعائهم التصدّق عليهم.

[٨٩ ـ ٩٣] (قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣))

١١١

الاستفهام مستعمل في التوبيخ.

و (هَلْ) مفيدة للتحقيق لأنها بمعنى (قَدْ) في الاستفهام. فهو توبيخ على ما يعلمونه محققا من أفعالهم مع يوسف عليه‌السلام وأخيه ، أي أفعالهم الذميمة بقرينة التوبيخ ، وهي بالنسبة ليوسف عليه‌السلام واضحة ، وأما بالنسبة إلى بنيامين فهي ما كانوا يعاملونه به مع أخيه يوسف عليه‌السلام من الإهانة التي تنافيها الأخوة ، ولذلك جعل ذلك الزمن زمن جهالتهم بقوله: (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ).

وفيه تعريض بأنهم قد صلح حالهم من بعد. وذلك إما بوحي من الله إن كان صار نبيئا أو بالفراسة لأنه لما رآهم حريصين على رغبات أبيهم في طلب فداء (بنيامين) حين أخذ في حكم تهمة السرقة وفي طلب سراحه في هذا الموقف مع الإلحاح في ذلك وكان يعرف منهم معاكسة أبيهم في شأن بنيامين علم أنهم ثابوا إلى صلاح.

وإنما كاشفهم بحاله الآن لأن الاطلاع على حاله يقتضي استجلاب أبيه وأهله إلى السكنى بأرض ولايته ، وذلك كان متوقفا على أشياء لعلها لم تتهيأ إلا حينئذ. وقد أشرنا إلى ذلك عند قوله تعالى : (قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) [يوسف : ٧٩] فقد صار يوسف عليه‌السلام جدّ مكين عند فرعون.

وفي الإصحاح (٤٥) من سفر التكوين أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ قال لإخوته حينئذ «وهو ـ أي الله ـ قد جعلني أبا لفرعون وسيدا لكل بيته ومتسلطا على كل أرض مصر».

فالظاهر أن الملك الذي أطلق يوسف ـ عليه‌السلام ـ من السجن وجعله عزيز مصر قد توفّي وخلفه ابن له فجبه يوسف ـ عليه‌السلام ـ وصار للملك الشاب بمنزلة الأب ، وصار متصرّفا بما يريد ، فرأى الحال مساعدا لجلب عشيرته إلى أرض مصر.

ولا تعرف أسماء ملوك مصر في هذا الزمن الذي كان فيه يوسف عليه‌السلام لأن المملكة أيامئذ كانت منقسمة إلى مملكتين : إحداهما ملوكها من القبط وهم الملوك الذين يقسمهم المؤرخون الإفرنج إلى العائلات الخامسة عشرة ، والسادسة عشرة ، والسابعة عشرة ، وبعض الثامنة عشرة.

والمملكة الثانية ملوكها من الهكسوس ، ويقال لهم : العمالقة أو الرعاة وهم عرب.

ودام هذا الانقسام خمسمائة سنة وإحدى عشرة سنة من سنة (٢٢١٤) قبل المسيح إلى سنة (١٧٠٣) قبل المسيح.

١١٢

وقولهم : (إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) يدل على أنهم استشعروا من كلامه ثم من ملامحه ثم من تفهم قول أبيهم لهم : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) إذ قد اتضح لهم المعنى التعريضي من كلامه فعرفوا أنه يتكلم مريدا نفسه.

وتأكيد الجملة بإن ولام الابتداء وضمير الفصل لشدة تحققهم أنه يوسف ـ عليه‌السلام ـ.

وأدخل الاستفهام التقريري على الجملة المؤكّدة لأنهم تطلبوا تأييده لعلمهم به.

وقرأ ابن كثير (إِنَّكَ) بغير استفهام على الخبرية ، والمراد لازم فائدة الخبر ، أي عرفناك ، ألا ترى أن جوابه ب (أَنَا يُوسُفُ) مجرد عن التأكيد لأنهم كانوا متحققين ذلك فلم يبق إلا تأييده لذلك.

وقوله : (وَهذا أَخِي) خبر مستعمل في التعجيب من جمع الله بينهما بعد طول الفرقة ، فجملة (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بيان للمقصود من جملة (وَهذا أَخِي).

وجملة (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) تعليل لجملة (مَنَّ اللهُ عَلَيْنا). فيوسف عليه‌السلام اتّقى الله وصبر وبنيامين صبر ولم يعص الله فكان تقيا. أراد يوسف عليه‌السلام تعليمهم وسائل التعرض إلى نعم الله تعالى ، وحثهم على التقوى والتخلق بالصبر تعريضا بأنهم لم يتقوا الله فيه وفي أخيه ولم يصبروا على إيثار أبيهم إياهما عليهم.

وهذا من أفانين الخطابة أن يغتنم الواعظ الفرصة لإلقاء الموعظة ، وهي فرصة تأثر السامع وانفعاله وظهور شواهد صدق الواعظ في موعظته.

وذكر المحسنين وضع للظاهر موضع المضمر إذ مقتضى الظاهر أن يقال : فإن الله لا يضيع أجرهم. فعدل عنه إلى المحسنين للدلالة على أن ذلك من الإحسان ، وللتعميم في الحكم ليكون كالتذييل ، ويدخل في عمومه هو وأخوه.

ثم إن هذا في مقام التحدث بالنعمة وإظهار الموعظة سائغ للأنبياء لأنه من التبليغ كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّي لأتقاكم لله وأعلمكم به».

والإيثار : التفضيل بالعطاء. وصيغة اليمين مستعملة في لازم الفائدة ، وهي علمهم ويقينهم بأن ما ناله هو تفضيل من الله وأنهم عرفوا مرتبته ، وليس المقصود إفادة تحصيل ذلك لأن يوسف عليه‌السلام يعلمه. والمراد : الإيثار في الدنيا بما أعطاه الله من النعم.

١١٣

واعترفوا بذنبهم إذ قالوا : (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ). والخاطئ : فاعل الخطيئة ، أي الجريمة ، فنفعت فيهم الموعظة.

ولذلك أعلمهم بأن الذنب قد غفر فرفع عنهم الذم فقال : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ).

والتثريب : التوبيخ والتقريع. والظاهر أن منتهى الجملة هو قوله : (عَلَيْكُمُ) ، لأن مثل هذا القول ممّا يجري مجرى المثل فيبنى على الاختصار فيكتفي ب (لا تَثْرِيبَ) مثل قولهم : لا بأس ، وقوله تعالى : (لا وَزَرَ) [القيامة : ١١].

وزيادة (عَلَيْكُمُ) للتأكيد مثل زيادة لك بعد (سقيا ورعيا) ، فلا يكون قوله : (الْيَوْمَ) من تمام الجملة ولكنه متعلق بفعل (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ).

وأعقب ذلك بأن أعلمهم بأن الله يغفر لهم في تلك الساعة لأنها ساعة توبة ، فالذنب مغفور لإخبار الله في شرائعه السالفة دون احتياج إلى وحي سوى أن الوحي لمعرفة إخلاص توبتهم.

وأطلق (الْيَوْمَ) على الزمن ، وقد مضى عند قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) في أول سورة العقود [٣].

وقوله : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا) يدل على أنه أعطاهم قميصا ، فلعلّه جعل قميصه علامة لأبيه على حياته ، ولعلّ ذلك كان مصطلحا عليه بينهما. وكان للعائلات في النظام القديم علامات يصطلحون عليها ويحتفظون بها لتكون وسائل للتعارف بينهم عند الفتن والاغتراب ، إذ كانت تعتريهم حوادث الفقد والفراق بالغزو والغارات وقطع الطريق ، وتلك العلامات من لباس ومن كلمات يتعارفون بها وهي الشعار ، ومن علامات في البدن وشامات.

وفائدة إرساله إلى أبيه القميص أن يثق أبوه بحياته ووجوده في مصر ، فلا يظن الدعوة إلى قدومه مكيدة من ملك مصر ، ولقصد تعجيل المسرة له.

والأظهر أنه جعل إرسال قميصه علامة على صدق إخوته فيما يبلغونه إلى أبيهم من أمر يوسف عليه‌السلام بجلبه فإنّ قمصان الملوك والكبراء تنسج إليهم خصيصا ولا توجد أمثالها عند الناس وكان الملوك يخلعونها على خاصتهم ، فجعل يوسف عليه‌السلام إرسال قميصه علامة لأبيه على صدق إخوته أنهم جاءوا من عند يوسف عليه‌السلام بخبر صدق.

١١٤

ومن البعيد ما قيل : إن القميص كان قميص إبراهيم عليه‌السلام مع أن قميص يوسف قد جاء به إخوته إلى أبيهم حين جاءوا عليه بدم كذب.

وأما إلقاء القميص على وجه أبيه فلقصد المفاجأة بالبشرى لأنه كان لا يبصر من بعيد فلا يتبين رفعة القميص إلا من قرب.

وأما كونه يصير بصيرا فحصل ليوسف عليه‌السلام بالوحي فبشرهم به من ذلك الحين. ولعل يوسف عليه‌السلام نبيء ساعتئذ.

وأدمج الأمر بالإتيان بأبيه في ضمن تبشيره بوجوده إدماجا بليغا إذ قال : (يَأْتِ بَصِيراً) ثم قال : (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) لقصد صلة أرحام عشيرته. قال المفسرون : وكانت عشيرة يعقوب ـ عليه‌السلام ـ ستا وسبعين نفسا بين رجال ونساء.

[٩٤ ـ ٩٨] (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨))

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) التقدير : فخرجوا وارتحلوا في عير.

ومعنى (فَصَلَتِ) ابتعدت عن المكان ، كما تقدم في قوله تعالى : (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ) في سورة البقرة [٢٤٩].

والعير تقدم آنفا ، وهي العير التي أقبلوا فيها من فلسطين.

ووجدان يعقوب ريح يوسف عليهما‌السلام إلهام خارق للعادة جعله الله بشارة له إذ ذكره بشمه الريح الذي ضمّخ به يوسف عليه‌السلام حين خروجه مع إخوته وهذا من صنف الوحي بدون كلام ملك مرسل. وهو داخل في قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) [سورة الشورى : ٥١].

والريح : الرائحة ، وهي ما يعبق من طيب تدركه حاسة الشم.

١١٥

وأكد هذا الخبر بإن واللام لأنه مظنة الإنكار ولذلك أعقبه ب (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ).

وجواب (لَوْ لا) محذوف دلّ عليه التأكيد ، أي لو لا أن تفندوني لتحققتم ذلك.

والتفنيد : النسبة للفند بفتحتين ، وهو اختلال العقل من الخرف.

وحذفت ياء المتكلم تخفيفا بعد نون الوقاية وبقيت الكسرة.

والذين قالوا : (تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) هم الحاضرون من أهله ولم يسبق ذكرهم لظهور المراد منهم وليسوا أبناءه لأنهم كانوا سائرين في طريقهم إليه.

والضلال : البعد عن الطريق الموصّلة. والظرفية مجاز في قوة الاتّصاف والتلبّس وأنه كتلبس المظروف بالظرف. والمعنى : أنك مستمر على التلبس بتطلب شيء من غير طريقه. أرادوا طمعه في لقاء يوسف ـ عليه‌السلام ـ. ووصفوا ذلك بالقديم لطول مدّته ، وكانت مدة غيبة يوسف عن أبيه ـ عليهما‌السلام ـ اثنتين وعشرين سنة. وكان خطابهم إياه بهذا مشتملا على شيء من الخشونة إذ لم يكن أدب عشيرته منافيا لذلك في عرفهم.

و (أَنْ) في قوله : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) مزيدة للتأكيد. ووقوع (أَنْ) بعد (فَلَمَّا) التوقيتية كثير في الكلام كما في «مغني اللّبيب».

وفائدة التأكيد في هذه الآية تحقيق هذه الكرامة الحاصلة ليعقوب عليه‌السلام لأنها خارق عادة ، ولذلك لم يؤت ب (أَنْ) في نظائر هذه الآية مما لم يكن فيه داع للتأكيد.

والبشير : فعيل بمعنى مفعل ، أي المبشر ، مثل السميع في قول عمرو بن معديكرب :

أمن ريحانة الداعي السميع

والتبشير : المبادرة بإبلاغ الخبر المسرّ بقصد إدخال السرور. وتقدم عند قوله تعالى : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ) في سورة براءة [٢١]. وهذا البشير هو يهوذا بن يعقوبعليه‌السلام تقدم بين يدي العير ليكون أول من يخبر أباه بخبر يوسف عليه‌السلام.

وارتد : رجع ، وهو افتعال مطاوع ردّه ، أي رد الله إليه قوة بصره كرامة له وليوسفعليهما‌السلام وخارق للعادة. وقد أشرت إلى ذلك عند قوله تعالى : (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) [سورة يوسف : ٨٤].

١١٦

(قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)

جواب للبشارة لأنها تضمنت القول ، ولذلك جاء فعل (قالَ) مفصولا غير معطوف لأنه على طريقة المحاورات ، وكان بقية أبنائه قد دخلوا فخاطبهم بقوله : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فبيّن لهم مجمل كلامه الذي أجابهم به حين قالوا : (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) [يوسف : ٨٥] إلخ.

وقولهم : (اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) توبة واعتراف بالذنب ، فسألوا أباهم أن يطلب لهم المغفرة من الله. وإنما وعدهم بالاستغفار في المستقبل إذ قال : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) للدلالة على أنه يلازم الاستغفار لهم في أزمنة المستقبل. ويعلم منه أنه استغفر لهم في الحال بدلالة الفحوى ؛ ولكنه أراد أن ينبههم إلى عظم الذنب وعظمة الله تعالى وأنه سيكرر الاستغفار لهم في أزمنة مستقبلة. وقيل : أخّر الاستغفار لهم إلى ساعة هي مظنة الإجابة. وعن ابن عباس مرفوعا أنه أخر إلى ليلة الجمعة ، رواه الطبري. وقال ابن كثير : في رفعه نظر.

وجملة (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) في موضع التعليل لجملة (أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي).

وأكد بضمير الفصل لتقوية الخبر.

[٩٩ ، ١٠٠] (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠))

طوى ذكر سفرهم من بلادهم إلى دخولهم على يوسف ـ عليه‌السلام ـ إذ ليس فيه من العبر شيء.

وأبواه أحدهما يعقوب عليه‌السلام وأما الآخر فالصحيح أن أم يوسف ـ عليه‌السلام ـ وهي (راحيل) توفيت قبل ذلك حين ولدت بنيامين ، ولذلك قال جمهور المفسّرين : أطلق الأبوان على الأب زوج الأب وهي (ليئة) خالة يوسف ـ عليه‌السلام ـ وهي التي تولت تربيته على طريقة التغليب والتنزيل.

١١٧

وإعادة اسم يوسف ـ عليه‌السلام ـ لأجل بعد المعاد.

وقوله : (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) جملة دعائية بقرينة قوله : (إِنْ شاءَ اللهُ) لكونهم قد دخلوا مصر حينئذ. فالأمر في (ادْخُلُوا) للدعاء كالذي في قوله تعالى : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ) [الأعراف : ٤٩].

والمقصود : تقييد الدخول ب (آمِنِينَ) وهو مناط الدعاء.

والأمن : حالة اطمئنان النفس وراحة البال وانتفاء الخوف من كل ما يخاف منه ، وهو يجمع جميع الأحوال الصالحة للإنسان من الصحة والرزق ونحو ذلك. ولذلك قالوا في دعوة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) إنه جمع في هذه الجملة جميع ما يطلب لخير البلد.

وجملة (إِنْ شاءَ اللهُ) تأدب مع الله كالاحتراس في الدعاء الوارد بصيغة الأمر وهو لمجرد التيمّن ، فوقوعه في الوعد والعزم والدعاء بمنزلة وقوع التسمية في أول الكلام وليس هو من الاستثناء الوارد النهي عنه في الحديث : أن لا يقول اغفر لي إن شئت ، فإنه لا مكره له لأن ذلك في الدعاء المخاطب به الله صراحة. وجملة (إِنْ شاءَ اللهُ) معترضة بين جملة (ادْخُلُوا) والحال من ضميرها.

والعرش : سرير للقعود فيكون مرتفعا على سوق ، وفيه سعة تمكن الجالس من الاتّكاء. والسجود : وضع الجبهة على الأرض تعظيما للذات أو لصورتها أو لذكرها ، قال الأعشى :

فلما أتانا بعيد الكرى

سجدنا له ورفعنا العمار (١)

وفعله قاصر فيعدى إلى مفعوله باللام كما في الآية.

والخرور : الهوي والسقوط من علو إلى الأرض.

والذين خروا سجدا هم أبواه وإخوته كما يدل له قوله : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ) وهم أحد عشر وهم : رأوبين ، وشمعون ، ولاوي ، ويهوذا ، ويساكر ، وزبولون ، وجاد ، وأشير ،

__________________

(١) العمار ـ بفتح العين المهملة وتخفيف الميم ـ هو الريحان أو الآس كانوا يحملونه عند تحية الملوك قال النابغة : يحيون بالريحان يوم السباسب

١١٨

ودان ، ونفتالي ، وبنيامين. و (الشَّمْسَ) ، و (الْقَمَرَ) ، تعبيرهما أبواه يعقوب ـ عليه‌السلام ـ وراحيل.

وكان السجود تحية الملوك وأضرابهم ، ولم يكن يومئذ ممنوعا في الشرائع وإنما منعه الإسلام لغير الله تحقيقا لمعنى مساواة الناس في العبودية والمخلوقية. ولذلك فلا يعدّ قبوله السجود من أبيه عقوقا لأنه لا غضاضة عليهما منه إذ هو عادتهم.

والأحسن أن تكون جملة (وَخَرُّوا) حالية لأن التحية كانت قبل أن يرفع أبويه على العرش ، على أن الواو لا تفيد ترتيبا.

و (سُجَّداً) حال مبيّنة لأن الخرور يقع بكيفيات كثيرة.

والإشارة في قوله : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ) إشارة إلى سجود أبويه وإخوته له هو مصداق رؤياه الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا سجدا له.

وتأويل الرؤيا تقدم عند قوله : (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) [سورة يوسف : ٣٦].

ومعنى (قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) أنها كانت من الأخبار الرمزية التي يكاشف بها العقل الحوادث المغيبة عن الحس ، أي ولم يجعلها باطلا من أضغاث الأحلام الناشئة عن غلبة الأخلاط الغذائية أو الانحرافات الدماغية.

ومعنى (أَحْسَنَ بِي) أحسن إليّ. يقال : أحسن به وأحسن إليه ، من غير تضمين معنى فعل آخر. وقيل : هو بتضمين أحسن معنى لطف. وباء (بِي) للملابسة أي جعل إحسانه ملابسا لي ، وخصّ من إحسان الله إليه دون مطلق الحضور للامتيار أو الزيادة إحسانين هما يوم أخرجه من السجن ومجيء عشيرته من البادية.

فإن (إِذْ) ظرف زمان لفعل (أَحْسَنَ) فهي بإضافتها إلى ذلك الفعل اقتضت وقوع إحسان غير معدود ، فإن ذلك الوقت كان زمن ثبوت براءته من الإثم الذي رمته به امرأة العزيز وتلك منة ، وزمن خلاصه من السجن فإن السجن عذاب النفس بالانفصال عن الأصدقاء والأحبّة ، وبخلطة من لا يشاكلونه ، وبشغله عن خلوة نفسه بتلقي الآداب الإلهية ، وكان أيضا زمن إقبال الملك عليه. وأما مجيء أهله فزوال ألم نفساني بوحشته في الانفراد عن قرابته وشوقه إلى لقائهم ، فأفصح بذكر خروجه من السجن ، ومجيء أهله من البدو إلى حيث هو مكين قويّ.

١١٩

وأشار إلى مصائبه السابقة من الإبقاء في الجبّ ، ومشاهدة مكر إخوته به بقوله : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) ، فكلمة (بَعْدِ) اقتضت أن ذلك شيء انقضى أثره. وقد ألم به إجمالا اقتصارا على شكر النعمة وإعراضا عن التذكير بتلك الحوادث المكدرة للصلة بينه وبين إخوته فمرّ بها مرّ الكرام وباعدها عنهم بقدر الإمكان إذ ناطها بنزغ الشيطان.

والمجيء في قوله : (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) نعمة ، فأسنده إلى الله تعالى وهو مجيئهم بقصد الاستيطان حيث هو.

والبدو : ضد الحضر ، سمي بدوا لأن سكانه بادون ، أي ظاهرون لكل وارد ، إذ لا تحجبهم جدران ولا تغلق عليهم أبواب. وذكر (مِنَ الْبَدْوِ) إظهار لتمام النعمة ، لأن انتقال أهل البادية إلى المدينة ارتقاء في الحضارة.

والنزغ : مجاز في إدخال الفساد في النفس. شبه بنزغ الراكب الدابّة وهو نخسها. وتقدم عند قوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) في سورة الأعراف [٢٠٠].

وجملة (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) مستأنفة استئنافا ابتدائيا لقصد الاهتمام بها وتعليم مضمونها.

واللطف : تدبير الملائم. وهو يتعدّى باللام على تقدير لطيف لأجل ما يشاء اللطف به ، ويتعدى بالباء قال تعالى : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) [الشورى : ١٩]. وقد تقدم تحقيق معنى اللطف عند قوله تعالى : (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) في سورة الأنعام [١٠٣].

وجملة (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) مستأنفة أيضا أو تعليل لجملة (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ). وحرف التوكيد للاهتمام ، وتوسيط ضمير الفصل للتقوية.

وتفسير (الْعَلِيمُ) تقدم عند قوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) في سورة البقرة [٣٢]. و (الْحَكِيمُ) تقدم عند قوله : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أواسط سورة البقرة [٢٠٩].

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١))

أعقب ذكر نعمة الله عليه بتوجهه إلى مناجاة ربه بالاعتراف بأعظم نعم الدنيا والنعمة

١٢٠