تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٤

واللسان : اللغة وما به التخاطب. أطلق عليها اللسان من إطلاق اسم المحل على الحال به ، مثل : سال الوادي.

والباء للملابسة ، فلغة قومه ملابسة لكلامه والكتاب المنزل إليه لإرشادهم.

والقوم : الأمة والجماعة ، فقوم كل أحد رهطه الذين جماعتهم واحدة ويتكلمون بلغة واحدة ، وقوم كل رسول أمته المبعوث إليهم ، إذ كان الرسل يبعثون إلى أقوامهم ، وقوم محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم هم العرب ، وأما أمته فهم الأقوام المبعوث إليهم وهم الناس كافة.

وإنما كان المخاطب أولا هم العرب الذين هو بين ظهرانيهم ونزل الكتاب بلغتهم لتعذر نزوله بلغات الأمم كلها ، فاختار الله أن يكون رسوله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ من أمة هي أفصح الأمم لسانا ، وأسرعهم أفهاما ، وألمعهم ذكاء ، وأحسنهم استعدادا لقبول الهدى والإرشاد ، ولم يؤمن برسول من الرسل في حياته عدد من الناس مثل الذين آمنوا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته فقد عم الإسلام بلاد العرب وقد حج مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع نحو خمسين ألفا أو أكثر. وقيل مائة ألف وهم الرجال المستطيعون.

واختار أن يكون الكتاب المنزل إليهم بلغة العرب ، لأنها أصلح اللغات جمع معان ، وإيجاز عبارة ، وسهولة جري على الألسن ، وسرعة حفظ ، وجمال وقع في الأسماع ، وجعلت الأمة العربية هي المتلقية للكتاب بادئ ذي بدء ، وعهد إليها نشره بين الأمم.

وفي التعليل بقوله : (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) إيماء إلى هذا المعنى ، لأنه لما كان المقصود من التشريع البيان كانت أقرب اللغات إلى التبيين من بين لغات الأمم المرسل إليهم هي اللغة التي هي أجدر بأن يأتي الكتاب بها ، قال تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [سورة الشعراء : ١٩٥]. فهذا كله من مطاوي هذه الآية.

ولكن لما كان المقصود من سياقها الرد على طعنهم في القرآن بأنه نزل بلغة لم ينزل بها كتاب قبله اقتصر في رد خطئهم على أنه إنما كان كذلك ليبيّن لهم لأن ذلك هو الذي يهمهم.

وتفريع قوله : (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) إلخ على مجموع جملة (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ، ولذلك جاء فعل (فَيُضِلُ) مرفوعا غير منصوب إذ ليس عطفا على فعل (لِيُبَيِّنَ) لأن الإضلال لا يكون معلولا للتبيين ولكنه مفرع على الإرسال المعلل

٢٢١

بالتبيين. والمعنى أن الإرسال بلسان قومه لحكمة التبيين. وقد يحصل أثر التبيين بمعونة الاهتداء وقد لا يحصل أثره بسبب ضلال المبيّن لهم.

والإضلال والهدى من الله بما أعد في نفوس الناس من اختلاف الاستعداد.

وجملة (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تذييل لأن العزيز قويّ لا ينفلت شيء من قدرته ولا يخرج عما خلق له ، والحكيم يضع الأشياء مواضعها ، فموضع الإرسال والتبيين أتي على أكمل وجه من الإرشاد. وموقع الإضلال والهدى هو التكوين الجاري على أنسب حال بأحوال المرسل إليهم ، فالتبيين من مقتضى أمر التشريع والإضلال من مقتضى أمر التكوين.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥))

لما كانت الآيات السابقة مسوقة للرد على من أنكروا أن القرآن منزل من الله أعقب الرد بالتمثيل بالنظير وهو إرسال موسى ـ عليه‌السلام ـ إلى قومه بمثل ما أرسل به محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وبمثل الغاية التي أرسل لها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليخرج قومه من الظلمات إلى النور.

وتأكيد الإخبار عن إرسال موسى ـ عليه‌السلام ـ بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المنكرين رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم منزلة من ينكر رسالة موسى ـ عليه‌السلام ـ لأن حالهم في التكذيب برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقتضي ذلك التنزيل ، لأن ما جاز على المثل يجوز على المماثل ، على أن منهم من قال : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ).

والباء في (بِآياتِنا) للمصاحبة ، أي إرسالا مصاحبا للآيات الدالة على صدقه في رسالته ، كما أرسل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصاحبا لآية القرآن الدال على أنه من عند الله ، فقد تمّ التنظير وانتهض الدليل على المنكرين.

و (أَنْ) تفسيرية ، فسر الإرسال بجملة «أخرج قومك» إلخ ، والإرسال فيه معنى القول فكان حقيقا بموقع (أَنْ) التفسيرية.

و (الظُّلُماتِ) مستعار للشرك والمعاصي ، و (النُّورِ) مستعار للإيمان الحق والتقوى ، وذلك أن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد في مصر بعد وفاة يوسف ـ عليه‌السلام ـ

٢٢٢

سرى إليهم الشرك واتّبعوا دين القبط ، فكانت رسالة موسى ـ عليه‌السلام ـ لإصلاح اعتقادهم مع دعوة فرعون وقومه للإيمان بالله الواحد ، وكانت آئلة إلى إخراج بني إسرائيل من الشرك والفساد وإدخالهم في حظيرة الإيمان والصلاح.

والتذكير : إزالة نسيان شيء. ويستعمل في تعليم مجهول كان شأنه أن يعلم. ولما ضمن التذكير معنى الإنذار والوعظ عدّي بالباء ، أي ذكرهم تذكير عظة بأيام الله.

و (بِأَيَّامِ اللهِ) أيام ظهور بطشه وغلبه من عصوا أمره ، وتأييده المؤمنين على عدوّهم ، فإن ذلك كله مظهر من مظاهر عزّة الله تعالى. وشاع إطلاق اسم اليوم مضافا إلى اسم شخص أو قبيلة على يوم انتصر فيه مسمى المضاف إليه على عدوه ، يقال : أيام تميم ، أي أيام انتصارهم ، فأيام الله أيام ظهور قدرته وإهلاكه الكافرين به ونصره أولياءه والمطيعين له.

فالمراد بأيام الله هنا الأيام التي أنجى الله فيها بني إسرائيل من أعدائهم ونصرهم وسخر لهم أسباب الفوز والنصر وأغدق عليهم النعم في زمن موسى ـ عليه‌السلام ـ ، فإن ذلك كله مما أمر موسى ـ عليه‌السلام ـ بأن يذكرهموه ، وكله يصح أن يكون تفسيرا لمضمون الإرسال ، لأن إرسال موسى ـ عليه‌السلام ـ ممتدّ زمنه ، وكلما أوحى الله إليه بتذكير في مدة حياته فهو من مضمون الإرسال الذي جاء به فهو مشمول لتفسير الإرسال. فقول موسى ـ عليه‌السلام ـ (يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ* يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [سورة المائدة : ٢٠ ، ٢١] هو من التذكير المفسّر به إرسال موسى ـ عليه‌السلام ـ. وهو وإن كان واقعا بعد ابتداء رسالته بأربعين سنة فما هو إلا تذكير صادر في زمن رسالته ، وهو من التذكير بأيام نعم الله العظيمة التي أعطاهم ، وما كانوا يحصلونها لو لا نصر الله إياهم ، وعنايته بهم ليعلموا أنه ربّ ضعيف غلب قويا ونجا بضعفه ما لم ينج مثله القوي في قوته.

واسم الإشارة في قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) عائد إلى ما ذكر من الإخراج والتذكير ، فالإخراج من الظلمات بعد توغلهم فيها وانقضاء الأزمنة الطويلة عليها آية من آيات قدرة الله تعالى.

والتذكير بأيام الله يشتمل على آيات قدرة الله وعزته وتأييد من أطاعه ، وكل ذلك

٢٢٣

آيات كائنة في الإخراج والتذكير على اختلاف أحواله.

وقد أحاط بمعنى هذا الشمول حرف الظرفية من قوله : (فِي ذلِكَ) لأن الظرفية تجمع أشياء مختلفة يحتويها الظرف ، ولذلك كان لحرف الظرفية هنا موقع بليغ.

ولكون الآيات مختلفة ، بعضها آيات موعظة وزجر وبعضها آيات منة وترغيب ، جعلت متعلقة ب (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) إذ الصبر مناسب للزجر لأن التخويف يبعث النفس على تحمل معاكسة هواها خيفة الوقوع في سوء العاقبة ، والإنعام يبعث النفس على الشكر ، فكان ذكر الصفتين توزيعا لما أجمله ذكر أيام الله من أيام بؤس وأيام نعيم.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦))

عطف على جملة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) باعتبار غرض الجملتين ، وهو التنظير بسنن ما جاء به الرسل السابقون من إرشاد الأمم وتذكيرها ، كما أنزل القرآن لذلك.

(وَإِذْ) ظرف للماضي متعلّق بفعل تقديره : اذكر ، دل عليه السياق الذي هو ذكر شواهد التاريخ بأحوال الرسل ـ عليهم‌السلام ـ مع أممهم. والمعنى : واذكر قول موسى لقومه إلخ.

وهذا مما قاله موسى لقومه بعد أن أنجاهم الله من استعباد القبط وإهانتهم ، فهو من تفاصيل ما فسّر به إرسال موسى ـ عليه‌السلام ـ وهو من التذكير بأيام الله الذي أمر الله موسى ـ عليه‌السلام ـ أن يذكّره قومه.

و (إِذْ أَنْجاكُمْ) ظرف للنعمة بمعنى الإنام ، أي الإنعام الحاصل في وقت إنجائه إياكم من آل فرعون. وقد تقدم تفسير نظيرها في قوله تعالى : (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) في سورة البقرة [٤٩] ، وكذا في سورة الأعراف (يُقَتِّلُونَ). سوى أن هذه الآية عطفت فيها جملة (وَيُذَبِّحُونَ) على جملة (يَسُومُونَكُمْ) وفي آية البقرة والأعراف جعلت جملة (يُذَبِّحُونَ) وجملة (يُقَتِّلُونَ) بدون عطف على أنها بدل اشتمال من جملة (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ). فكان مضمون جملة (وَيُذَبِّحُونَ) هنا مقصودا بالعدّ كأنه صنف آخر غير سوء العذاب اهتماما بشأنه ، فعطفه من عطف الخاص على العامّ. وعلى

٢٢٤

كلا النظمين قد حصل الاهتمام بهذا العذاب المخصوص بالذكر ، فالقرآن حكى مراد كلام موسى ـ عليه‌السلام ـ من ذكر العذاب الأعم وذكر الأخص للاهتمام به ، وهو حاصل على كلا النظمين. وإنما حكاه القرآن في كل موضع بطريقة تفنّنا في إعادة القصة بحصول اختلاف في صورة النظم مع الحفاظ على المعنى المحكي ، وهو ذكر سوء العذاب مجملا ، وذكر أفظع أنواعه مبيّنا.

وأما عطف جملة (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) في الآيات الثلاث فلأن مضمونها باستقلاله لا يصلح لبيان سوء العذاب ، لأن استحياء النساء في ذاته نعمة ولكنه يصير من العذاب عند اقترانه بتذبيح الأبناء ، إذ يعلم أن مقصودهم من استحياء النساء استرقاقهن وإهانتهن فصار الاستحياء بذلك القصد تهيئة لتعذيبهن. ولذلك سمي جميع ذلك بلاء.

وأصل البلاء : الاختبار. والبلاء هنا المصيبة بالشرّ ، سمي باسم الاختبار لأنه اختبار لمقدار الصبر ، فالبلاء مستعمل في شدة المكروه من تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه على طريقة المجاز المرسل. وقد شاع إطلاق هذا بصيغة اسم المصدر بحيث يكاد لا يطلق إلّا على المكروه. وما ورد منه مستعملا في الخير فإنما ورد بصيغة الفعل كقوله : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [سورة الأنبياء : ٣٥] ، وقوله : (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ)[سورة محمد : ٣١]. وتقدم في نظيرها من سورة البقرة.

وجعل هذا الضر الذي لحقهم واردا من جانب الله لأن تخلّيه آل فرعون لفعل ذلك وعدم إلطافه ببني إسرائيل يجعله كالوارد من الله وهو جزاء على نبذ بني إسرائيل دينهم الحق الذي أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب ـ عليهم‌السلام ـ واتّباعهم دين القبط وعبادة آلهتهم.

واختيار وصف الربّ هنا للإيماء إلى أنه أراد به صلاح مستقبلهم وتنبيههم لاجتناب عبادة الأوثان وتحريف الدين كقوله : (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) [سورة الإسراء : ٨].

وهذه الآية تضمنت ما في فقرة (١٧) من «الإصحاح» (١٢). وفقرة (٣) من «الإصحاح» (١٣) من «سفر الخروج». وما في فقرة (١٣) من الإصحاح (٢٦) من «سفر اللّاويين».

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧))

٢٢٥

عطف على (إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) فهو من كلام موسى ـ عليه‌السلام ـ والتقدير : واذكروا نعمة الله عليكم إذ تأذّن ربكم لئن شكرتم إلخ ، لأن الجزاء عن شكر النعمة بالزيادة منها نعمة وفضل من الله ، لأن شكر المنعم واجب فلا يستحق جزاء لو لا سعة فضل الله. وأما قوله : (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) فجاءت به المقابلة.

ويجوز أن يعطف (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) على (نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ). فيكون التقدير : واذكروا إذ تأذن ربكم ، على أن (إِذْ) منصوبة على المفعولية وليست ظرفا وذلك من استعمالاتها. وقد تقدم عند قوله تعالى في سورة الأعراف [١٦٧] : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ) وقوله : (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) [سورة الأعراف : ٨٦].

ومعنى (تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) تكلّم كلاما علنا ، أي كلم موسى ـ عليه‌السلام ـ بما تضمنه هذا الذي في الآية بمسمع من جماعة بني إسرائيل. ولعل هذا الكلام هو الذي في الفقرات (٩ ـ ٢٠) من الإصحاح (١٩) من «سفر الخروج» ، والفقرات (١ ـ ١٨ ، ٢٢) من الإصحاح (٢٠) منه ، والفقرات (من ٢٠ إلى ٣٠) من الإصحاح (٢٣) منه.

والتأذن مبالغة في الأذان يقال : أذن وتأذّن كما يقال : توعّد وأوعد ، وتفضّل وأفضل. ففي صيغة تفعّل زيادة معنى على صيغة أفعل.

وجملة (لَئِنْ شَكَرْتُمْ) موطئة للقسم والقسم مستعمل في التأكيد. والشكر مؤذن بالنعمة.

فالمراد : شكر نعمة الإنجاء من آل فرعون وغيرها ، ولذلك حذف مفعول (شَكَرْتُمْ) ومفعول (لَأَزِيدَنَّكُمْ) ليقدر عاما في الفعلين.

والكفر مراد به كفر النعمة وهو مقابلة المنعم بالعصيان. وأعظم الكفر جحد الخالق أو عبادة غيره معه وهو الإشراك ، كما أن الشكر مقابلة النعمة بإظهار العبودية والطاعة.

واستغنى ب (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) عن (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) [النمل : ٢١] لكونه أعم وأوجز ، ولكون إفادة الوعيد بضرب من التعريض أوقع في النفس. والمعنى : إن عذابي لشديد لمن كفر فأنتم إذن منهم.

(وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨))

أعيد فعل القول في عطف بعض كلام موسى ـ عليه‌السلام ـ على بعض لئلا يتوهّم

٢٢٦

أن هذا مما تأذّن به الرب وإنما هو تنبيه على كلام الله. وفي إعادة فعل القول اهتمام بهذه الجملة وتنويه بها حتى تبرز مستقلة وحتى يصغي إليها السامعون للقرآن.

ووجه الاهتمام بها أن أكثر الكفار يحسبون أنهم يحسنون إلى الله بإيمانهم ، وأن أنبياءهم حين يلحّون عليهم بالإيمان إنما يبتغون بذلك تعزيز جانبهم والحرص على مصحلتهم. فلمّا وعدهم على الشكر بالزيادة وأوعدهم على الكفر بالعقوبة خشي أن يحسبوا ذلك لانتقام المثيب بما أثاب عليه ، ولتضرّره مما عاقب عليه ، فنبّههم إلى هذا الخاطر الشيطاني حتى لا يسري إلى نفوسهم فيكسبهم إدلالا بالإيمان والشكر والإقلاع عن الكفر.

و (أَنْتُمْ) فصل بين المعطوف والمعطوف عليه إذ كان هذا المعطوف عليه ضميرا متّصلا.

و (جَمِيعاً) تأكيد لمن في الأرض للتنصيص على العموم. وتقدم نظيره ونصبه غير بعيد.

والغنيّ : الذي لا حاجة له في شيء ، فدخل في عموم غناه أنه غني عن الذين يكفرون به.

والحميد : المحمود. والمعنى : أنه محمود من غيركم مستغن عن حمدكم ؛ على أنهم لو كفروا به لكانوا حامدين بلسان حالهم كرها ، فإنّ كل نعمة تنالهم فيحمدونها فإنما يحمدون الله تعالى ، كقوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [سورة الرعد : ١٥]. وهذه الآية تضمنت ما في الفقرات (٣٠ إلى ٣٣) من الإصحاح (٣٢) من «سفر الخروج».

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩))

هذا الكلام استئناف ابتدائيّ رجع به الخطاب إلى المشركين من العرب على طريقة الالتفات في قوله : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) ، لأن الموجّه إليه الخطاب هنا هم الكافرون المعنيون بقوله : (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) [سورة إبراهيم : ٢] ، وهم معظم المعنيّ من

٢٢٧

الناس في قوله : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [سورة إبراهيم : ١] ، فإنهم بعد أن أجمل لهم الكلام في قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [سورة إبراهيم : ٤] الآية ، ثم فصّل بأن ضرب المثل للإرسال إليهم لغرض الإخراج من الظلمات إلى النور بإرسال موسى ـ عليه‌السلام ـ لإخراج قومه ، وقضي حق ذلك عقبه بكلام جامع لأحوال الأمم ورسلهم ، فكان بمنزلة الحوصلة والتذييل مع تمثيل حالهم بحال الأمم السالفة وتشابه عقلياتهم في حججهم الباطلة وردّ الرسل عليهم بمثل ما ردّ به القرآن على المشركين في مواضع ، ثم ختم بالوعيد.

والاستفهام إنكاري لأنهم قد بلغتهم أخبارهم ، فأما قوم نوح فقد تواتر خبرهم بين الأمم بسبب خبر الطوفان ، وأما عاد وثمود فهم من العرب ومساكنهم في بلادهم وهم يمرون عليها ويخبر بعضهم بعضا بها ، قال تعالى : (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) [سورة إبراهيم : ٤٥] وقال : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [سورة الصافات : ١٣٧].

(وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) يشمل أهل مدين وأصحاب الرس وقوم تبّع وغيرهم من أمم انقرضوا وذهبت أخبارهم فلا يعلمهم إلا الله. وهذا كقوله تعالى : (وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) [سورة الفرقان : ٣٨].

وجملة (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) معترضة بين (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) وبين جملة (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) الواقعة حالا من (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) ، وهو كناية عن الكثرة التي يستلزمها انتفاء علم الناس بهم.

ومعنى (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) جاء كلّ أمة رسولها.

وضمائر (فَرَدُّوا) و (أَيْدِيَهُمْ) و (أَفْواهِهِمْ) عائد جميعها إلى قوم نوح والمعطوفات عليه.

وهذا التركيب لا أعهد سبق مثله في كلام العرب فلعله من مبتكرات القرآن.

ومعنى (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) يحتمل عدة وجوه أنهاها في «الكشاف» إلى سبعة وفي بعضها بعد ، وأولاها بالاستخلاص أن يكون المعنى : أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم إخفاء لشدة الضحك من كلام الرسل كراهية أن تظهر دواخل أفواههم. وذلك تمثيل لحالة الاستهزاء بالرسل.

والردّ : مستعمل في معنى تكرير جعل الأيدي في الأفواه كما أشار إليه «الراغب».

٢٢٨

أي وضعوا أيديهم على الأفواه ثم أزالوها ثم أعادوا وضعها فتلك الإعادة ردّ.

وحرف (فِي) للظرفية المجازية المراد بها التمكين ، فهي بمعنى على كقوله : (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سورة الزمر : ٢٢]. فمعنى (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) جعلوا أيديهم على أفواههم.

وعطفه بفاء التعقيب مشير إلى أنهم بادروا بردّ أيديهم في أفواههم بفور تلقيهم دعوة رسلهم ، فيقتضي أن يكون ردّ الأيدي في الأفواه تمثيلا لحال المتعجب المستهزئ ، فالكلام تمثيل للحالة المعتادة وليس المراد حقيقته ، لأن وقوعه خبرا عن الأمم مع اختلاف عوائدهم وإشاراتهم واختلاف الأفراد في حركاتهم عند التعجب قرينة على أنه ما أريد به إلّا بيان عربي.

ونظير هذا قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) [سورة الزمر : ٧٤] ، فميراث الأرض كناية عن حسن العاقبة جريا على بيان العرب عند تنافس قبائلهم أن حسن العاقبة يكون لمن أخذ أرض عدوّه.

وأكّدوا كفرهم بما جاءت به الرسل بما دلّت عليه إن وفعل المضيّ في قوله : (إِنَّا كَفَرْنا). وسموا ما كفروا به مرسلا به تهكما بالرسل ، كقوله تعالى : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [سورة الحجر : ٦] ، فمعنى ذلك : أنهم كفروا بأن ما جاءوا به مرسل به من الله ، أي كفروا بأن الله أرسلهم. فهذا مما أيقنوا بتكذيبهم فيه.

وأما قولهم : (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ) فذلك شك في صحة ما يدعونهم إليه وسداده ، فهو عندهم معرض للنظر وتمييز صحيحه من سقيمه ، فمورد الشك ما يدعونهم إليه ، ومورد التكذيب نسبة دعوتهم إلى الله. فمرادهم : أنهم وإن كانوا كاذبين في دعوى الرسالة فقد يكون في بعض ما يدعون إليه ما هو صدق وحقّ فإن الكاذب قد يقول حقّا.

وجعلوا الشك قويا فلذلك عبر عنه بأنهم مظروفون فيه ، أي هو محيط بهم ومتمكن كمال التمكن.

و (مُرِيبٍ) تأكيد لمعنى (لَفِي شَكٍ) ، والمريب : المتوقع في الريب ، وهو مرادف الشك ، فوصف الشك بالمريب من تأكيد ماهيته ، كقولهم : ليل أليل ، وشعر شاعر.

وحذفت إحدى النونين من قوله : (إِنَّا) تخفيفا تجنبا للثقل الناشئ من وقوع نونين آخرين بعد في قوله : (تَدْعُونَنا) اللازم ذكرهما ، بخلاف آية سورة هود [٦٢](وَإِنَّنا لَفِي

٢٢٩

شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا) :

إذ لم يكن موجب للتخفيف لأن المخاطب فيها بقوله : (تَدْعُونا) واحد.

(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠))

(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى).

استفهام إنكاري. ومورد الإنكار هو وقوع الشك في وجود الله ، فقدم متعلق الشك للاهتمام به ، ولو قال : أشك في الله ، لم يكن له هذا الوقع ، مثل قول القطامي :

أكفرا بعد رد الموت عني

وبعد عطائك المائة الرتاعا

فكان أبلغ له لو أمكنه أن يقول : أبعد رد الموت عني كفر.

وعلق اسم الجلالة بالشك ، والاسم العلم يدلّ على الذات. والمراد إنكار وقوع الشك في أهم الصفات الإلهية وهي صفة التفرد بالإلهية ، أي صفة الوحدانية.

وأتبع اسم الجلالة بالوصف الدالّ على وجوده وهو وجود السماوات والأرض الدالّ على أن لهما خالقا حكيما لاستحالة صدور تلك المخلوقات العجيبة المنظمة عن غير فاعل مختار ، وذلك معلوم بأدنى تأمل ، وذلك تأييد لإنكار وقوع الشك في انفراده بالإلهية لأن انفراده بالخلق يقتضي انفراده باستحقاقه عبادة مخلوقاته.

وجملة (يَدْعُوكُمْ) حال من اسم الجلالة ، أي يدعوكم أن تنبذوا الكفر ليغفر لكم ما أسلفتم من الشرك ويدفع عنكم عذاب الاستئصال فيؤخّركم في الحياة إلى أجل معتاد.

والدعاء : حقيقته النداء. فأطلق على الأمر والإرشاد مجازا لأن الآمر ينادي المأمور.

ويعدى فعل الدعاء إلى الشيء المدعو إليه بحرف الانتهاء غالبا وهو (إِلى) ، نحو قوله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) [سورة غافر : ٤١].

٢٣٠

وقد يعدّى بلام التعليل داخلة على ما جعل سببا للدعوة فإن العلة تدل على المعلول ، كقوله تعالى : (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ) [سورة نوح : ٧] ، أي دعوتهم إلى سبب المغفرة لتغفر ، أي دعوتهم إلى الإيمان لتغفر لهم ، وهو في هذه الآية كذلك ، أي يدعوكم إلى التوحيد ليغفر لكم من ذنوبكم.

وقد يعدى فعل الدعوة إلى المدعو إليه باللام تنزيلا للشيء الذي يدعى إلى الوصول إليه منزلة الشيء الذي لأجله يدعى ، كقول أعرابي من بني أسد :

دعوت لما نابني مسورا

فلبّى فلبي يدي مسور

(قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ).

أرادوا إفحام الرسل بقطع المجادلة النظرية ، فنفوا اختصاص الرسل بشيء زائد في صورتهم البشرية يعلم به أن الله اصطفاهم دون غيرهم بأن جعلهم رسلا عنه ، وهؤلاء الأقوام يحسبون أن هذا أقطع لحجة الرسل لأن المماثلة بينهم وبين قومهم محسوسة لا تحتاج إلى تطويل في الاحتجاج ، فلذلك طالبوا رسلهم أن يأتوا بحجة محسوسة تثبت أن الله اختارهم للرسالة عنه ، وحسبانهم بذلك التعجيز.

فجملة (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) في موضع الحال ، وهي قيد لما دل عليه الحصر في جملة (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) من جحد كونهم رسلا من الله بالدّين الذي جاءوهم به مخالفا لدينهم القديم ، فبذلك الاعتبار كان موقع التفريع لجملة (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) لأن مجرّد كونهم بشرا لا يقتضي مطالبتهم بالإتيان بسلطان مبين وإنما اقتضاه أنهم جاءوهم بإبطال دين قومهم ، وهو مضمون ما أرسلوا به.

وقد عبّروا عن دينهم بالموصولية لما تؤذن به الصلة من التنويه بدينهم بأنه متقلّد آبائهم الذين يحسبونهم معصومين من اتباع الباطل ، وللأمم تقديس لأسلافها فلذلك عدلوا عن أن يقولوا : تريدون أن تصدّونا عن ديننا.

والسلطان : الحجة. وقد تقدّم في قوله : (أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) في سورة الأعراف [٧١].

المبين الواضح الذي لا احتمال فيه لغير ما دل عليه.

٢٣١

[١١ ، ١٢] (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢))

قول الرسل (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) جواب بطريق القول بالموجب في علم آداب البحث ، وهو تسليم الدليل مع بقاء النزاع ببيان محل الاستدلال غير تام الإنتاج ، وفيه إطماع في الموافقة. ثم كرّ على استدلالهم المقصود بالإبطال بتبيين خطئهم.

ونظيره قوله تعالى : (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) [سورة المنافقون : ٨].

وهذا النوع من القوادح في علم الجدل شديد الوقع على المناظر ، فليس قول الرسل (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) تقريرا للدليل ولكنه تمهيد لبيان غلط المستدل في الاستنتاج من دليله. ومحل البيان هو الاستدراك في قوله : (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [سورة إبراهيم : ١١]. والمعنى : أن المماثلة في البشرية لا تقتضي المماثلة في زائد عليها فالبشر كلهم عباد الله والله يمنّ على من يشاء من عباده بنعم لم يعطها غيرهم.

فالاستدراك رفع لما توهموه من كون المماثلة في البشرية مقتضى الاستواء في كل خصلة.

وأورد الشيخ محمّد بن عرفة في «التفسير» وجها للتفرقة بين هذه الآية إذ زيد فيها كلمة (لَهُمْ) في قوله : (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ) [سورة إبراهيم : ١٠] وبين الآية التي قبلها إذ قال فيها (قالَتْ رُسُلُهُمْ) بوجهين :

أحدهما : أن هذه المقالة خاصة بالمكذّبين من قومهم يقولونها لغيرهم إذ هو جواب عن كلام صدر منهم والمقالة الأولى يقولونها لهم ولغيرهم ، أي للمصدقين والمكذبين.

وثانيهما : أن وجود الله أمر نظري ، فكان كلام الرسل في شأنه خطابا لعموم قومهم ، وأما بعثة الرسل فهي أمر ضروري ظاهر لا يحتاج إلى نظر ، فكأنه قال : ما قالوا هذا إلا

للمكذبين لغباوتهم وجهلهم لا لغيرهم.

وأجاب الأبي أن (أَفِي اللهِ شَكٌ) خطاب لمن عاند في أمر ضروري ، فكأنّ

٢٣٢

المجيب عن ذلك يجيب به من حيث الجملة ولا يقبل بالجواب على المخاطب لمعاندته فيجيب وهو معرض عنه بخلاف قولهم : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) فإنه تقرير لمقالتهم فهم يقبلون عليهم بالجواب لأنهم لم يبطلوا كلامهم بالإطلاق بل يقررونه ويزيدون فيه اه.

والحاصل أن زيادة (لَهُمْ) تؤذن بالدلالة على توجه الرسل إلى قومهم بالجواب لما في الجواب عن كلامهم من الدقة المحتاجة إلى الاهتمام بالجواب بالإقبال عليهم إذ اللام الداخلة بعد فعل القول في نحو : أقول لك ، لام تعليل ، أي أقول قولي لأجلك.

ثم عطفوا على ذلك تبيين أن ما سأله القوم من الإتيان بسلطان مبين ليس ذلك إليهم ولكنه بمشيئة الله وليس الله بمكره على إجابة من يتحداه.

وجملة (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أمر لمن آمن من قومهم بالتوكل على الله ، وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليّا لأنهم أول المؤمنين بقرينة قولهم : (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا) إلى آخره.

ولما كان حصول إذن الله تعالى بتأييد الرسل بالحجة المسئولة غير معلوم الميقات ولا متعيّن الوقوع وكانت مدة ترقب ذلك مظنة لتكذيب الذين كفروا رسلهم تكذيبا قاطعا وتوقع الرسل أذاه قومهم إياهم شأن القاطع بكذب من زعم أنه مرسل من الله ، ولأنهم قد بدءوهم بالأذى كما دل عليه قولهم : (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا). أظهر الرسل لقومهم أنهم غير غافلين عن ذلك وأنهم يتلقون ما عسى أن يواجههم به المكذّبون من أذى بتوكّلهم على الله هم ومن آمن معهم ؛ فابتدءوا بأن أمروا المؤمنين بالتوكل تذكيرا لهم لئلا يتعرّض إيمانهم إلى زعزعة الشك حرصا على ثبات المؤمنين ، كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر ـ رضي‌الله‌عنه ـ : «أفي شك أنت يا ابن الخطّاب». وفي ذلك الأمر إيذان بأنهم لا يعبئون بما يضمره لهم الكافرون من الأذى ، كقول السحرة لفرعون حين آمنوا (لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ)[سورة الشعراء : ٥٠].

وتقديم المجرور في قوله : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) مؤذن بالحصر وأنهم لا يرجون نصرا من غير الله تعالى لضعفهم وقلة ناصرهم. وفيه إيماء إلى أنهم واثقون بنصر الله.

والجملة معطوفة بالواو عطف الإنشاء على الخبر.

والفاء في قوله : (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) رابطة لجملة (ليتوكل المؤمنون) بما أفاده

٢٣٣

تقديم المجرور من معنى الشرط الذي يدل عليه المقام. والتقدير : إن عجبتم من قلة اكتراثنا بتكذيبكم أيها الكافرون ، وإن خشيتم هؤلاء المكذّبين أيها المؤمنون فليتوكل المؤمنون على الله فإنهم لن يضيرهم عدوّهم. وهذا كقوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) كما تقدم في سورة العقود [٢٣].

والتوكّل : الاعتماد وتفويض التدبير إلى الغير ثقة بأنه أعلم بما يصلح ، فالتوكل على الله تحقق أنه أعلم بما ينفع أولياءه من خير الدنيا والآخرة. وقد تقدم الكلام على التوكّل عند قوله تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في سورة آل عمران [٥٩].

وجملة (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) استدلال على صدق رأيهم في تفويض أمرهم إلى الله ، لأنهم رأوا بوارق عنايته بهم إذ هداهم إلى طرائق النجاة والخير ، ومبادئ الأمور تدل على غاياتها.

وأضافوا السبل إلى ضميرهم للاختصار لأن أمور دينهم صارت معروفة لدى الجميع فجمعها قولهم : (سُبُلَنا).

(وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ) استفهام إنكاري لانتفاء توكلهم على الله ، أتوا به في صورة الإنكار بناء على ما هو معروف من استحماق الكفار إيّاهم في توكلهم على الله ، فجاءوا بإنكار نفي التوكل على الله ، ومعنى (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ) ما ثبت لنا من عدم التوكل ، فاللام للاستحقاق.

وزادوا قومهم تأييسا من التأثر بالأذى فأقسموا على أن صبرهم على أذى قومهم سيستمر ، فصيغة الاستقبال المستفادة من المضارع المؤكد بنون التوكيد في (وَلَنَصْبِرَنَ) دلت على أذى مستقبل. ودلّت صيغة المضي المنتزع منها المصدر في قوله : (ما آذَيْتُمُونا) على أذى مضى. فحصل من ذلك معنى نصبر على أذى متوقع كما صبرنا على أذى مضى. وهذا إيجاز بديع.

وجملة (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) يحتمل أن تكون من بقية كلام الرسل فتكون تذييلا وتأكيدا لجملة (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فكانت تذييلا لما فيها من العموم الزائد في قوله : (الْمُتَوَكِّلُونَ) على عموم (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ). وكانت تأكيدا لأن المؤمنين من جملة المتوكلين. والمعنى : من كان متوكلا في أمره على غيره فليتوكل على الله.

٢٣٤

ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى ، فهي تذييل للقصة وتنويه بشأن المتوكلين على الله ، أي لا ينبني التوكل إلا عليه.

[١٣ ، ١٤] (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤))

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ).

تغيير أسلوب الحكاية بطريق الإظهار دون الإضمار يؤذن بأن المراد ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) هنا غير الكافرين الذين تقدمت الحكاية عنهم فإن الحكاية عنهم كانت بطريق الإضمار. فالظاهر عندي أن المراد ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) هنا كفار قريش على طريقة التوجيه. وأن المراد ب (لِرُسُلِهِمْ) الرسول ـ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أجريت على وصفه صيغة الجمع على طريق قوله : (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) في سورة غافر [٧٠]. فإن المراد المشركون من أهل مكة كما هو مقتضى قوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) وقوله : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) إلى قوله : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) [سورة الحديد : ٢٥] ، فإن المراد بالرسل في الموضعين الأخيرين الرسول محمد ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لأنه الرسول الذي أنزل معه الحديد ، أي القتال بالسيف لأهل الدعوة المكذبين ، وقوله : (فَكَذَّبُوا رُسُلِي) في سورة سبأ [٤٥] على أحد تفسيرين في المراد بهم وهو أظهرهما.

وإطلاق صيغة الجمع على الواحد مجاز : إما استعارة إن كان فيه مراعاة تشبيه الواحد بالجمع تعظيما له كما في قوله تعالى : (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) [سورة المؤمنون : ٩٩].

وإما مجاز مرسل إذا روعي فيه قصد التعمية ، فعلاقته الإطلاق والتقييد. والعدول عن الحقيقة إليه لقصد التعمية.

فلا جرم أن يكون المراد ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) هنا كفار مكة ويؤيده قوله بعد ذلك (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) فإنه لا يعرف أن رسولا من رسل الأمم السالفة دخل أرض مكذّبيه بعد هلاكهم وامتلكها إلا النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال في حجة الوداع «منزلنا إن

٢٣٥

شاء الله غدا بالخيف خيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر».

وعلى تقدير أن يكون المراد ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) في هذه الآية نفس المراد من الأقوام السالفين فالإظهار في مقام الإضمار لزيادة تسجيل اتصافهم بالكفر حتى صار الخصلة التي يعرفون بها. وعلى هذا التقدير يكون المراد من الرسل ظاهر الجمع فيكون هذا التوعد سنة الأمم ويكون الإيماء إليهم به سنة الله مع رسله.

وتأكيد توعدهم بالإخراج بلام القسم ونون التوكيد ضراوة في الشر.

و (أو) لأحد الشيئين ، أقسموا على حصول أحد الأمرين لا محالة ، أحدهما من فعل المقسمين ، والآخر من فعل من خوطب بالقسم ، وليست هي (أَوْ) التي بمعنى إلى أو بمعنى إلا.

والعود : الرجوع إلى شيء بعد مفارقته. ولم يكن أحد من الرسل متبعا ملّة الكفر بل كانوا منعزلين عن المشركين دون تغيير عليهم ، فكان المشركون يحسبونهم موافقين لهم ، وكان الرسل يتجنبون مجتمعاتهم بدون أن يشعروا بمجانبتهم ، فلما جاءوهم بالحق ظنّوهم قد انتقلوا من موافقتهم إلى مخالفتهم فطلبوا منهم أن يعودوا إلى ما كانوا يحسبونهم عليه.

والظرفية في قوله : (فِي مِلَّتِنا) مجازية مستعملة في التمكن من التلبس بالشيء المتروك فكأنه عاد إليه.

والملّة : الدين. وقد تقدم عند قوله تعالى : (دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) في آخر سورة الأنعام [١٦١] ، وانظر قوله : (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) في أوائل سورة آل عمران [٩٥].

وتفريع جملة (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) على قول الذين كفروا لرسلهم (لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا) [سورة إبراهيم : ١٣] إلخ تفريع على ما يقتضيه قول الذين كفروا من العزم على إخراج الرسل من الأرض ، أي أوحى الله إلى الرسل ما يثبت به قلوبهم ، وهو الوعد بإهلاك الظالمين.

وجملة (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) بيان لجملة (أوحى ..).

وإسكان الأرض : التمكين منها وتخويلها إياهم ، كقوله : (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ) [سورة الأحزاب : ٢٧].

٢٣٦

والخطاب في (لَنُسْكِنَنَّكُمُ) للرسل والذين آمنوا بهم ، فلا يقتضي أن يسكن الرسول بأرض عدوه بل يكفي أن يكون له السلطان عليها وأن يسكنها المؤمنون ، كما مكن الله لرسوله مكة وأرض الحجاز وأسكنها الذين آمنوا بعد فتحها.

(ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) (١٤).

(ذلِكَ) إشارة إلى المذكور من الإهلاك والإسكان المأخوذين من (لَنُهْلِكَنَ) ، و (لَنُسْكِنَنَّكُمُ). عاد إليهما اسم الإشارة بالإفراد بتأويل المذكور ، كقوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) [سورة الفرقان : ٦٨].

واللام للملك ، أي ذلك عطاء وتمليك لمن خاف مقامي ، كقوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) [سورة البينة : ٨].

والمعنى : ذلك الوعد لمن خاف مقامي ، أي ذلك لكم لأنكم خفتم مقامي ، فعدل عن ضمير الخطاب إلى (لِمَنْ خافَ مَقامِي) لدلالة الموصول على الإيماء إلى أن الصلة علة في حصول تلك العطية.

ومعنى (خافَ مَقامِي) خافني ، فلفظ مقام مقحم للمبالغة في تعلق الفعل بمفعوله ، كقوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [الرحمن : ٤٦] ، لأن المقام أصله مكان القيام ، وأريد فيه بالقيام مطلق الوجود لأن الأشياء تعتبر قائمة ، فإذا قيل (خافَ مَقامِي) كان فيه من المبالغة ما ليس في (خافني) بحيث إن الخوف يتعلق بمكان المخوف منه. كما يقال : قصّر في جانبي. ومنه قوله تعالى : (عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [سورة الزمر : ٥٦]. وكل ذلك كناية عن المضاف إليه كقول زياد الأعجم :

إن السماحة والمروءة والندى

في قبة ضربت على ابن الحشرج

أي في ابن الحشرج من غير نظر إلى وجود قبة. ومنه ما في الحديث «إن الله لما خلق الرحم أخذت بساق العرش وقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة» ، أي هذا العائذ بك القطيعة.

وخوف الله : هو خوف غضبه لأن غضب الله أمر مكروه لدى عبيده.

وعطف جملة (وَخافَ وَعِيدِ) على (خافَ مَقامِي) مع إعادة فعل (خافَ) دون اكتفاء بعطف (وَعِيدِ) على (مَقامِي) لأن هذه الصلة وإن كان صريحها ثناء على

٢٣٧

المخاطبين فالمراد منها التعريض بالكافرين بأنهم لا يخافون وعيد الله ، ولو لا ذلك لكانت جملة (خافَ مَقامِي) تغني عن هذه الجملة ، فإن المشركين لم يعبئوا بوعيد الله وحسبوه عبثا ، قال تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) [سورة الحج : ٤٧] ، ولذلك لم يجمع بينهما في سورة البينة [٨](ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) ، لأنه في سياق ذكر نعيم المؤمنين خاصة.

وهذه الآية في ذكر إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين أرضهم فكان المقام للفريقين ، فجمع في جزاء المؤمنين بإدماج التعريض بوعي الكافرين ، وفي الجمع بينهما دلالة على أن من حق المؤمن أن يخاف غضب ربه وأن يخاف وعيده ، والذين يخافون غضب الله ووعيده هم المتقون الصالحون ، فآل معنى الآية إلى معنى الآية الأخرى (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [سورة الأنبياء : ١٠٥].

وقرأ الجمهور (وَعِيدِ) بدون ياء وصلا ووقفا. وقرأه ورش عن نافع ـ بدون ياء ـ في الوقف وبإثباتها في الوصل. وقرأه يعقوب ـ بإثبات الياء ـ في حالي الوصل والوقف. وكل ذلك جائز في ياء المتكلم الواقعة مضافا إليها في غير النداء. وفيها في النداء لغتان أخريان.

[١٥ ـ ١٧] (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧))

جملة (وَاسْتَفْتَحُوا) يجوز أن تكون معطوفة على جملة (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) ، أو معترضة بين جملة (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) وبين جملة (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ). والمعنى : أنهم استعجلوا النصر. وضمير (اسْتَفْتَحُوا) عائد إلى الرسل ، ويكون جملة (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) عطفا على جملة (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) إلخ ، أي فوعدهم الله النصر وخاب الذين كفروا ، أي لم يتحقق توعدهم الرسل بقولهم : (لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا). ومقتضى الظاهر أن يقال : وخاب الذين كفروا ، فعدل عنه إلى (كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) للتنبيه على أن الذين كفروا كانوا جبابرة عنداء وأن كل جبار عنيد يخيب.

ويجوز أن تكون جملة (اسْتَفْتَحُوا) عطفا على جملة (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ) ويكون ضمير (اسْتَفْتَحُوا) عائدا على الذين (كَفَرُوا) ، أي وطلبوا النصر على رسلهم فخابوا في ذلك. ولكون في قوله : (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) إظهار في مقام الإضمار عدل

٢٣٨

عن أن يقال : وخابوا ، إلى قوله : (كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) لمثل الوجه الذي ذكر آنفا.

والاستفتاح : طلب الفتح وهو النصر ، قال تعالى : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) [سورة الأنفال : ١٩].

والجبار : المتعاظم الشديد التكبر.

والعنيد المعاند للحق. وتقدما في قوله : (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) في سورة هود [٥٩]. والمراد بهم المشركون المتعاظمون ، فوصف (جَبَّارٍ) خلق نفساني ، ووصف (عَنِيدٍ) من أثر وصف (جَبَّارٍ) لأن العنيد المكابر المعارض للحجة.

وبين (خافَ وَعِيدِ) و (خابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) جناس مصحف.

وقوله : (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) صفة ل (جَبَّارٍ عَنِيدٍ) ، أي خاب الجبّار العنيد في الدنيا وليس ذلك حظه من العقاب بل وراءه عقاب الآخرة.

والوراء : مستعمل في معنى ما ينتظره ويحل به من بعد ، فاستعير لذلك بجامع الغفلة عن الحصول كالشيء الذي يكون من وراء المرء لا يشعر به لأنه لا يراه ، كقوله تعالى : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) [سورة الكهف : ٧٩] ، أي وهم غافلون عنه ولو ظفر بهم لا فتك سفينتهم ، وقول هدبة بن خشرم :

عسى الكرب الذي أمسيت فيه

يكون وراءه فرج قريب

وأما إطلاق الوراء على معنى من بعد فاستعمال آخر قريب من هذا وليس عينه.

والمعنى : أن جهنم تنتظره ، أي فهو صائر إليها بعد موته.

والصديد : المهلة ، أي مثل الماء يسيل من الدمل ونحوه ، وجعل الصديد ماء على التشبيه البليغ في الإسقاء ، لأن شأن الماء أن يسقى. والمعنى : ويسقى صديدا عوض الماء إن طلب الإسقاء ، ولذلك جعل (صَدِيدٍ) عطف بيان ل (ماءٍ). وهذا من وجوه التشبيه البليغ.

وعطف جملة (يُسْقى) على جملة (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) لأن السقي من الصديد شيء زائد على نار جهنم.

والتجرع : تكلف الجرع ، والجرع ؛ بلع الماء.

٢٣٩

ومعنى (يُسِيغُهُ) يفعل سوغه في حلقه. والسوغ ؛ انحدار الشراب في الحلق بدون غصة ، وذلك إذا كان الشراب غير كريه الطعم ولا الريح ، يقال ساغ الشراب ، وشراب سائغ. ومعنى (لا يَكادُ يُسِيغُهُ) لا يقارب أن يسيغه فضلا عن أن يسيغه بالفعل ، كما تقدم في قوله تعالى : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) في سورة البقرة [٧١].

وإتيان الموت : حلوله ، أي حلول آلامه وسكراته ، قال قيس بن الخطيم :

متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة

لنفسي إلا قد قضيت قضاءها

بقرينة قوله : (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) ، أي فيستريح.

والكلام على قوله : (وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) مثل الكلام في قوله : (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) ، أي ينتظره عذاب آخر بعد العذاب الذي هو فيه.

والغليظ : حقيقته الخشن الجسم ، وهو مستعمل هنا في القوة والشدة بجامع الوفرة في كل ، أي عذاب ليس بأخف مما هو فيه. وتقدم عند قوله : (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) في سورة هود [٥٨].

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨))

تمثيل لحال ما عمله المشركون من الخيرات حيث لم ينتفعوا بها يوم القيامة. وقد أثار هذا التمثيل ما دلّ عليه الكلام السابق من شدة عذابهم ، فيخطر ببالهم أو ببال من يسمع من المسلمين أن يسأل نفسه أن لهم أعمالا من الصلة والمعروف من إطعام الفقراء ، ومن عتق رقاب ، وقرى ضيوف ، وحمالة ديات ، وفداء أسارى ، واعتمار ، ورفادة الحجيج ، فهل يجدون ثواب ذلك؟ وأن المسلمين لما علموا أن ذلك لا ينفع الكافرين تطلبت نفوسهم وجه الجمع بين وجود عمل صالح وبين عدم الانتفاع به عند الحاجة إليه ، فضرب هذا المثل لبيان ما يكشف جميع احتمالات.

والمثل : الحالة العجيبة ، أي حال الذين كفروا العجيبة أن أعمالهم كرماد إلخ. فالمعنى: حال أعمالهم ، بقرينة الجملة المخبر عنها لأنه مهما أطلق مثل كذا إلا والمراد حال خاصة من أحواله يفسرها الكلام ، فهو من الإيجاز الملتزم في الكلام.

فقوله : (أَعْمالُهُمْ) مبتدأ ثان ، و (كَرَمادٍ) خبر عنه ، والجملة خبر عن المبتدإ

٢٤٠